التنمية كمَهمة نهضوية
هي أسابيع معدودة وتكون خمسون سنة قد مضت على استقلال المغرب، وانتقاله إلى مراحل البناء الذاتي بتثبيت السيادة على أسس مكافحة أشكال التخلُّف وتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي والتقدم التعليمي والتربوي، بما يؤهل مجتمعًا جديدًا يتغلب على مشاكله ويأخذ تدريجيًّا الموقع المناسب في عالم لا يعترف إلا بالتطور والتحديث. معلوم أن العوامل والملابسات السياسية هيمنَت على حقبة الاستقلال الأولى، ووسمتها بطابعها الانتقالي المركب، لكنها لم تعدم خططًا أولى للإصلاح الاقتصادي من منظور يعيد التحكم في الثروة الوطنية، ويضع البلاد على سكة معالجة المشاكل المزمنة، ويحقق الحاجات الأولى للمواطن، ومثله مما هو من المهام المستعجلة لحكومات الاستقلال الوطني الأولى.
وقد عرف المغرب، على غرار بلدان عربية و«عالمثالثية» أخرى، ضروبًا من التشابك والتوتر والجدل — كما نشاء — بين ما هو أيديولوجي-سياسي، وما طينته اقتصادية تقنية في الخطط الموضوعة لتهيئة أوضاع ما بعد الاستقلال، ونجم عن ذلك إما تغليب لمنظور أيديولوجي عنيد، وبإسقاط أطروحات نظرية أو خارجية على بيئات إنتاجية وذات مؤهلات خصوصية، أو تغليب الخطاطات التقنية بحسابات ومعادلات لااجتماعية، هي ذاتها محكومة باشتراطات سياسية تواجه أخرى مناهضة لها، تحمل بدائلها الخاصة. ونظرًا لانعدام الديمقراطية، وغياب مناخ الحرية وحقوق الإنسان، وانتفاء دولة الحق القانون إلا في حدود شكلية؛ فإن العنف — أي التسلط — والهيمنة من أعلى، واستخدام القمع المادي والسياسي، مثَّل الأداة الغالبة في طرح وفرض المشاريع المسماة تنموية وإصلاحية، تلك المنسجمة بداهة مع مصالح طبقة متحكمة وفئات منتفعة، في الداخل والخارج على السواء.
لكن، وسواء تعلق الأمر بالمستغِلين أو المستغَلين، باليمين ومحافظيه وليبرالييه، وباليسار وتقدمييه واشتراكييه فماركسييه، أحسب أن الصراع في الحقب الموالية للاستقلال تنازعه قطبان؛ واحد مادي نهَّازي لاحتكار مصادر الثروة الوطنية بكل الوسائل المتاحة واللامشروعة معًا، والثاني أيديولوجي متحزِّب في حالة تربص للإجهاز، ويبسط في الوقت نفسه أدبياته لتحقيق الإصلاح الاقتصادي. في الموقعين كليهما تغلبت التصورات الاختزالية والخطط التكتيكية ذات البعد الواحد والمقاصد المباشرة الظرفية. بعبارة أخرى عدمنا في الحالتين — ولدى المتحكمين على الخصوص — استراتيجية من قبيل رؤية شمولية لا تنظر في حدِّ أرنبة أنفها وأبعد من المكاسب الظرفية. من اللافت للنظر أن أغلب مشاريع الإصلاح في العالم العربي — والمغرب منه — وأكثرها تكاملًا ونمذجة — لندع المضمون جانبًا الآن — هي تلك التي تبلورت في الفترات السابقة على الاستقلال، وشهدنا معها منذ نهايات القرن ١٩ وحتى منتصف الماضي، اجتهادات وتمثيلات فكرية قوية مقصدها تحقيق النهضة بمعابر مختلفة. وقد رفدت التنظيمات السياسية من هذه الحركات الفكرية واعتمدت في أحيان كثيرة على سناداتها، ووسمت في المحصلة الآفاق التي نعرف في المستوَيين كليهما.
خمسون سنة هي عمر استقلال المغرب، وللجميع أن ينخرط في العدِّ والتقويم والجرد واستخلاص العبر؛ فهي من غير شك مهمة مطلوبة ووطنية، تعني رجال السياسة والأعمال وأهل الفكر إلى حدٍّ بعيد. بَيدَ أن مرور نصف قرن هذا لا يشفي الغليل؛ ففي مرآته تبدو الشقة واسعة بين هذه الأطراف، وخاصة بين مكوني الدولة والمجتمع، في صيغتهما الكلية. ليس بوسعنا تفصيل القول في ما هو بمثابة ظاهرة تفاعلية واختبارية؛ حسبنا التنبيه إلى أن جلَّ، بل كلَّ مشاريع وخطط التنمية التي طرحت في بلادنا في إهابها الرسمي التشريعي هي ذات مصدر وتوجه دولتي. والمشكل يكمن في افتقادها تمثيلية الأطراف الفاعلة في المجتمع بتعدد التزاماتها ومصالحها. وإذا كان من الصعب تَوفر أي مشروع يحظى بالإجماع؛ فإن الحوار والتشاور والإنصات المتبادل — عبر مؤسسات منظمة — من شأنه خلق علاقة حيوية تنزع عقم البعد الواحد، وتسمح بإمكان تبلور الرؤية التي تتعدى تأثيث المشهد السياسي، وامتصاص الحنق الاجتماعي إلى إبداع طموح ورغبة نهضة وطنية شاملة وحفز المؤهَّلين من كل جهة لرسم معالمها واستشراف آفاقها.
لا يتم تصحيح اعوجاج هذ المسار بالنقد وحده، حين يتعالى وينعزل في طرف سلبي، ولا بمواقف التعالم، ما يتخذ منها تحليلات نظرية تبدو كأنها موضوعة لغاية الفكر وحده، ولا بالإحالة إلى الأمثلة الغائبة في التاريخ والثقافات النهضوية ونماذج النمو والتقدم. إن هذه التدخلات تحتاج إلى الاندراج في سياق حركة فكرية عامة، وأن تخوض غمار عملية تنويرية كلية من مهمة المفكرين والمبدعين، أجل المثقفين المتخصصين، ريادتها دائمًا، ومن الخطل تمامًا انتظار أي جهة رسمية أو ذات صبغة مؤسسية لإطلاق هذه العملية وشحنها بطاقة الخلق والتجديد. وعلى الرغم من المتطلبات الملحَّة في مجال مماثل، والدعوات الموجهة للدولة — بما تملكه من إمكانيات — لاعتبار المكوِّن الثقافي عمادًا في التنمية الوطنية، إلا أن المجتمع الثقافي، هيئاتٍ ونخبًا وأفرادًا متوحدين، مدعوٌّ في حاضره، صنيعه في ماضيه، إلى قدح زناد الاقتراح والاجتهاد في صيغة حركة نهضوية تنويرية، قد تلتقي مع مشاريع وأنهُج التنمية المختطة أو تختلف، ولكنها في الأحوال كلها ستعبِّر عن حضور فاعل في لحظة تاريخية معينة، وتعلي من مكانة الفكر والإبداع على صعيد القيم التي يدافع عنها وعي متقدم رائد للنهضة دائمًا، وحارث لحقولها الشاسعة؛ إنه في زعمنا الوعي الأنضج للتنمية، القادر على جعلها اختيار أمة، وطريق مستقبل، وملتقى الإرادات والعزائم المخلصة.