يوم سِرنا خِفافًا … كالملائكة!
وقد حلَّت ذكرى انطلاق المسيرة الخضراء في عامها هذا (٢٠٠٤م) لم أسهُ عنها قط. تركتها تحل وتمضي أمامي عمدًا. هل لأن جذوة الحماس لكل ما هو وطني انطفأت، وباتت تقليعة من سقط متاع التاريخ، أم لأن الفرح والحزن معًا يحتاجان إلى طول المكابدة ليَينع الحبق أو البقول كما ينبغي على حافة أي ذكرى؟ أكاد أقول سيان؛ رغم أن في الجوف نارًا لم تبترد أبدًا، هيهات، وأرواح الألى كما أطياف الأحبة قوس مشدود بين السيف والقلم. لو تسرَّعت لصرت احتفاليًّا أو موظفًا في أرشيف الذكريات، سمانها والعجاف، وأنا أميل إلى أن نترك الحياة تنضج بهدوء، والموت يقدم بأهله وأوصابه، فلا شيء مثل العتاقة. أوه، لكم أمقت الذين يتسابقون إلى تبجيل العلامات، ومقايضة الوفاء بالمسكوكات/المتسابقون إلى المراثي كذباب النفايات/جوارح هم/في سمت بشر/عندما تتفتح شهيتهم/تتهيأ النسور للانقضاض/من علٍ تقضم اللحم والعظم/الأحياء قبل أن يموتوا/والموتى، أيضًا، بعد الرحيل. اليوم مات صديقي/صباحًا لفظ أنفاسه/وأمس قرأت نعيه في جريدة/صورته في مربع/واسم آخر لغيره/ سرقوه، كالعادة، من دفتر الأحزان.
أستطيع أن أحتفي الآن بالكلام، آخذه إليَّ بوداعة مثل يدٍ بكر تتلمس الطريق إلى شفة الحبيب. فلقد مرت القوافل، وصخب الطبل والغيطة، وحتى أقدس شعار يمكن أن يصبح أبخس من حذاء مطاط، فيا لرخص العمر، من بخَّسنا لهذا الحد، قزَّمنا، قمَّأنا، كمَّمنا عمرًا ثم أطلقَنا غبارًا صار عالقًا بالأعتاب، يلعق ندمه ويستسقي ما لن يعود من فوات لأنه ببساطة … مات. أستطيع أن أجلس ونفسي ممتلئة بغبطة الحكمة التي تواتي من لم يخسر أبدًا؛ لأنه لم يسعَ أبدًا سوى إلى ربح نفسه، وعدا ذلك قبضُ ريح. ولقد جرَّبنا واعتدنا أن نلملم بقايا أعضائنا بين نهايات الطريق وشظايا الحريق على لفحِه نُولِم لحم تاريخنا للعابرين والمرتدين وحتى أعداؤنا ندير لهم الخد الأيسر؛ لأننا ببساطة نبدو كأننا خسرنا كل شيء وما همَّ أن لا نبالي. ماذا تكون الذكرى عندئذٍ؟ رُفاتًا تلبسه صورة شعرية؛ لأننا انتهينا إلى أن أبلغ استعارة في البلاغة تفضي حتمًا إلى الزوال الذي نسميه الذكرى، لا بأس إذ نبجلها أويقات، ونأتي بخطباء مأجورين لينفخوا في قربة زمن مثقوب، والجوقة مع الجمهور، سواء في الشاشة أو في السوق، معبأة للتصفيق خلال لحظات، أو لم تتعلم أن تتدجن مذ سنوات، وسنوات؟!
أعترف أنها هواجسي المشحونة تفيض على حروفي؛ لأنني ضد تسليع الشعور الوطني، وإن بدت نبرتي منذِرة فمن أجل الاحتفاظ بنزر من شميم الوردة، عساها تفوح فيتعطر جو لا بدَّ نحن الذين ما زال ينبض فينا ذلك العرق أن نطرد عطانته، أو سنكون قد انقلبنا على تاريخنا وخُنَّا تلك المسيرة. وأعترف أنني لم أصرخ بما يكفي ليفزَع لصوص كثيرون نراهم ونسمعهم يتبجَّحون بأنهم صانعو مسيرتنا/مسيراتنا، ومن استفحال السرقات تركنا عيوننا وآذاننا وضمائرنا، أيضًا، مفتوحة على وسعها يعبث بها اللصوص يعبثون بالوطن. إنما والذكرى تدق لا مناص من أن نسترد وعينا فنقبض على السارق متلبسًا بالجرم المشهود، أو سنمسي شركاء في سرقة وطن لم يكن نضال استرداد الصحراء إلا أحد أسمائه اللاتنتهي.
فأهلًا بذكرى مسيرة ينبغي أن يعادَ لها اعتبارها بأسمائها ورجالها، وبصقل حوافزها، وترسيخ ركائزها؛ فتتضافر فيها المبادئ والمثل مع عمد المواطنة والإنسان والعمران، وينبثق عن هذا إحساس بالوجود في زمنية وطنية متجددة، قوامها روح حاضر وثاب، تغذى ويتغذى بماضٍ ليس هو كسوة البلى ولا سحنة النسيان، فبأي آلاء ربكما تكذبان!
وفيما أسترجع حميَّتي أو أكاد، تسري من جديد قشعريرة الخوف في الأطراف التي ما زلنا نخوض بها حياة المعتاد، ولعمري هي مؤرقة تنبهنا إلى أخطار جسام لم يعُد جيلنا نحن قادرًا على تحمُّلها بحكم فتور الهمم وفناء الأعمار. وإنني لأنظر إلى أمس، أي إلى ثلاثين سنة خلت، والدم الحار لعشرات الآلاف من المغاربة يسري في شراييني، أنا واحد منها، فيها، رءوس عارية وأجسام طاوية وأقدام حافية ونفوس راضية مرضية تحمل جزءًا من المصحف، لا تقسم إلا بالسبع المثاني والقرآن الكريم أن لا تضيع حبة رمل، وأن لا بدَّ من «لعيون» وإن طال السفر أو لعلع في أفق المحتل الشرر. وكنا إذ ذاك شبابًا، والمغرب المكابر — بحزنه وفقره — صار بسيرنا أحلى إهابًا؛ جباله وحقوله محروثة في أجسادنا، نجومه تضيء من عيوننا، والشمس والقمر فقط ما يحدَّانه بين شمال وجنوب، لا ما سعى إليه الغزاة، ولا الأنغال من بعدهم يخسئون. يومها سرنا خفافًا كالملائكة، ورأيت بقلبي الله ينظر إلينا بحدب، وإلى العتاة والمتقاعسين بغضب، والسماء تبارك خَطونا لأنَّا كنا بسطاء ومخلصين، بلا تجبُّر أو ادعاء، وما زال منا فريق على العهد إلى هذا اليوم الذي ننظر فيه إلى زماننا فنرى وجوهنا في مرآته ذكرى شاحبة؛ لأن اللصوص مرُّوا من هنا لأنه ما عاد أحد بحاجة إلينا.
حسنًا، لا بأس من هذا الوبال، إنما الفادح هو أن تنطوي روزنامة البلاد على بعضها بدون حس أو حساب، ما بالك لو تحوَّل الوطن كله إلى مجرد رقم في «حساب»؟! وأن ننظر إلى أولادنا، إلى طلابنا وتلامذتنا، ونخاف إن مددنا أصابعنا إلى رءوسهم أن لا تمسَّ إلا العجين، أو تدور في جَون مثقوب. ذكرى مسيرة هذا العام والآتي القريب ينبغي أن تفطننا إلى أن صمودنا في معركة الوحدة الترابية، وانتصارنا في معركة الديمقراطية، وكسبنا لمعمعة الغد والتنمية، لا مناص لها من الدخول العارم لجيل وطني جديد، وفي مسيرة جديدة سيجدنا فيها دومًا سندًا، فليتفضل!