من وأد الماضي إلى سلب المستقبل
في فترة مراجعة الثقافة العربية وتراث أمتنا، التي عُدَّت ثانية بعد صحوة النهضة الأولى، اتجه عدد من الدارسين العرب إلى الحفر المستنير لهذا التراث، والدعوة إلى ما سُمي بنزع القداسة عنه، نشدانًا لفهم أفضل لمحموله، ورغبة — بصفة خاصة — لإحداث تلك القطيعة التي يكفُّ فيها التراث عن أن يتحول إلى مغيِّب للحاضر وبديل للمستقبل. شغلت أبحاث الأستاذ محمد عابد الجابري واسطة العقد في هذه الأطروحة التي ما لبثَت أن اتخذت لديه وعند مريديه — أو باحثين آخرين — تفريعات وتطويرًا لتعميق المفهوم وتشخيص نماذج ثقافتنا وترتيب أنساق تراثنا من وجوه شتى، بما يسمح بتحديد مجدد لهُويتنا في زمن لا يكفُّ يتغير.
لكن هذه الدعوة/الأطروحة لم تَنزِع، كما أوَّلها البعض، إما مجتهدًا أو مغرضًا، إلى القول باعتبار مفهوم القطيعة الإبستمولوجية نفيًا ولا إلغاءً للماضي بتاتًا. لقد تحرَّكَت في جانبها الأيديولوجي — الذي كثيرًا ما اختلط بغيره — نحو نقد السلفية الجديدة؛ أي نزعة تغليب أو إسقاط منظور ومسطرة معالجة شئون الحاضر بأدوات هي بنت زمنية سالفة، من باب قياس لا مجال للإسهاب فيه. وهي أرادت في العمق أن تعمل كمنظومة معرفية تستعير أو تنتج قدر الإمكان، بدائل على صعيد الجهاز المفاهيمي ومنه إلى متغيرات المعيش، أي الواقع بمختلِف مكوناته. ما يهمنا هنا هو الوعي الفكري والنقد المعرفي الذي تبلور منذ العقدين الأخيرين للقرن الذي ولَّى، وأملَى حتمية إعادة نظر جذرية تُفكك المكونات وتعيد بناء الأنساق، بصرف النظر عما شابها وتلوَّنت به كتأويلات أيديولوجية، وتوجيه سياسي أحادي البعد. فهذا هو المعتمد والسند الصحيح في مرجعية/مرجعيات التغيير لدى النُّخَب العربية لنهاية القرن.
بَيدَ أن التشوش النظري — من جهة — ونزعة الإغراض المسخرة، إما بمنهجية ثقافية مزعومة، أو بسياسة موجهة ومفروضة — من جهة أخرى — فضلًا عن الانهيار المتواصل للعالم العربي أمام أزماته، وإزاء الهيمنة الخارجية وتحديات العولمة، هذا كله قدَّم ويقدِّم الآن طرحًا مفلسًا للماضي في اتجاه إعدامه، أو إلحاقه بالعدم، يتعلق الأمر بماضينا نحن … الذي كان، أليس كذلك؟! وعوض أن نوسع دائرة التمثيل والمقايسة نبقى فيما يقدمه محيطنا من أنماط تبرز الفهم اللاتاريخي وحتى المبتذَل. في البلاد التي ما زالت إما تُراوح مكانها في استبداد مشذَّب أو إنها ما تزال تتلمذ في مدرسة الديمقراطية — والمغرب منها — نجد فيه فئات هجينة تتخصص في الصدى؛ حيث سياسيون وإعلاميون يُروجون لطراز جديد من التعامل مع مكونات مجتمعنا. هكذا، إن الأحزاب التاريخية عندهم انتهى دورها، والصحافة الوطنية الراسخة صارت رثة، والأعلام والوقائع التي ميزت زمنًا، بل أزمنة، كما تحددت علامات باهرة وحاسمة في تاريخ شعب قد خبا في عرفهم ضوءُها، فيما اعتمادها مرجعًا لا غنى عنه للشخصية الوطنية ليس أكثر من حنين رومانسي، وما أشبه مما نجد له نظائر في تصريحات طائشة، وأقوال تجري على ألسنة مغاربة جدد — لو صحَّت التسمية — يشاركهم جوقة متأسلبين مهمتهم التسفيه والشَّدو بهذيان الحمقى والمغفلين. وإذا كنا لا نستطيع وضع حد للغو ما دام يتحرك في مدار «العباطة» لتعميم العمى؛ فإننا في المقابل لا بدَّ أن نخاطب الذين يتبنَّون، بوعي وقصدية، النهج ذاته. تراهم، مثلًا، يرسمون الخريطة الانتخابية بتقديراتها على مزاج، ويفككون التركيب السياسي لبلاد يقولون إنها أفلتت من وعي التاريخ ودخلت إلى حتمية الذرائعية. أهم من هذا وذاك أنهم يحفرون طريق الغد على منوال الحسابات الظرفية، الزمن لا يتحرك فيه إلا في بؤرة واحدة موحدة، لا غير، مع مراعاة تكاثر الفقاعات.
لن نخاطب هؤلاء بمصطلحات وقيم يعتبرون الزمن عفى عليها. حسبنا أن نسألهم، أولًا، من أين أتَوا؟ ثانيًا، كيف، وبأي «تعازيم» انسلخوا عن تاريخنا إن كانوا انتموا حقًّا إلى شيء؟ ثالثًا، هل البدائل التي يُلوحون بها — الشبيهة بعلب محفوظة — هي من إبداعهم أم استعاروها، وممن؟ وهل يستطيعون لحظة واحدة حين يصبح التبجح بالكلمات، القواقع، السلعة الوحيدة في المزاد المفتوح، أن ينكروا بأن الجهات التي لا تقبل المساومة على تاريخها، أي ماضيها الحي لا الميت كقاعدة وجود تبقى تقض مضاجعهم، وفي مرآتها يرون ندوب وجوههم رغم طلاء الوقت. لسنا سلفيين، ولكننا لسنا عدميين، ومن يقبل المساومة ويعتمد المحو لا يمكن أن يكون جديرًا بالمستقبل، الذي هو إشباع بزمن مركب، زمن شمولي.