لمحة تاريخية عن شبه جزيرة القرم
لقد كانت شبه جزيرة القرم في القرون التي خلت من البلاد الإسلامية، وكان يسكنها قوم من التتر، ويتولى حكومتها ويشرف عليها حاكم يلقب بلقب (خان).
وأول غارة شنها المسلمون على هذا البلد كانت في سنة ٦١٦هـ (١٢١٩م) بقيادة سلطان تركي من سلاطين آسيا الصغرى، ولكن المسلمين لم يوطدوا أقدامهم في ربوعها إلا بعد هذا التاريخ؛ لأن أقدم نقود عثر عليها من مسكوكاتهم يرجع تاريخها إلى عام ٦٨٦هـ (١٢٨٧م).
وفي عام ٨٤٥هـ (١٤٤١م) استولى على هذا البلد أمير من التتر يقال له: حاجي جيراي ونصب نفسه عليه «خانا» وأسس فيه أسرة حاكمة تولت الحكم فيه ثلاثة قرون انتهت بضمه إلى روسيا.
ولهذا المسجد ١٤ قبة، وهو يعد من أعظم المباني التي أقيمت في روسيا وفقًا لهندسة المعمار الإسلامي، وهذا المسجد عاطل في هذه الأيام فلا تقام فيه الشعائر الدينية كما هو الحال الآن في بلاد الروس، وأمسى تابعًا لدار الآثار المعدة لدراسة أوصاف مختلف الشعوب.
ولم تستمر ممتلكات القرم محصورة في دائرة حدود شبه الجزيرة، بل تخطتها وامتدت في أراضي الروس الجنوبية إلى أن تاخمت نفس مدينة موسكو فنشأ من ذلك توالي القتال مع تلك الدولة، ومع تعاقب الأيام وكر السنين وهنت قواها أمام هذا العدو العاتي الجبار وانهزمت، وفي سنة ١٧٣٦م احتلت روسيا أول مرة شبه الجزيرة احتلالًا موقوتًا ثم أستولت عليها نهائيًّا عام ١٧٧١م.
ويقتضي نص معاهدة سنة ١٧٧٤م ومعاهدة سنة ١٧٧٩م أن ينتخب الأهالي الخان انتخابًا حرًّا، وأن يحكم بلاده وهو مستقل بدون أي تدخل من جانب الأتراك أو الروسيين؛ ولكن المعاهدات حسبما درجت عليه الدول الأوروبية ما هي إلا حبالة الغرض الحقيقي منها وضع اليد على ممتلكات الغير، ومتى أصبح هذا الأمر واقعيًّا تصير تلك المعاهدات عبارة عن قصاصات ورق لا قيمة لها ولا فائدة ترجى منها كما هو حاصل الآن بين حكومة بريطانيا ومصر في معاهدة السودان، بل في مصر نفسها، وكما حصل بين إيطاليا والحبشة.
وفعلًا لم تدم هذه الحالة في القرم زمنًا طويلًا فقد أدمجت بعد ذلك بأربع سنوات؛ أي: في سنة ١٧٨٣م في صلب الإمبراطورية الروسية وتلاشى بطبيعة الحال مركز الخان.
واضطر آخر خان تولى الحكم في شبه الجزيرة وكان يقال له (بختي جيراي) إلى أن يبارحها، وتوفي هذا الخان في شهر رمضان سنة ١٢١٥هـ (يناير سنة ١٨٠١م) في جزيرة مدللي التابعة للإمبراطورية العثمانية، ويبلغ عدد المسلمين بها الآن ٢٠٠٠٠٠ نسمة وهو يساوي ثلث مجموع سكانها.
وقد استقينا أغلب هذه المعلومات من دائرة المعارف الإسلامية بالأعداد التي بها الأسماء — بغجه سراي، وجيراي، وقرم.
والآن نذكر لك ما جاء عن وصف شبه جزيرة القرم في كتاب تحفة النظار المعروف (برحلة ابن بطوطة المتوفى في سنة ٧٧٩هـ/١٣٧٨م) طبع باريس من ص ٣٥٤ إلى ص ٤١٢، قال هذا الرحالة:
(١) من مدينة صنوب إلى مرسى الكرش
وكانت إقامتنا بهذه المدينة (أي: صنوب) نحو أربعين يومًا ننتظر تيسير السفر في البحر إلى مدينة القرم، فاكترينا مركبًا للروم وأقمنا أحد عشر يومًا ننتظر مساعدة الريح، ثم ركبنا البحر فلما توسطناه بعد ثلاث هال علينا واشتد بنا الأمر ورأينا الهلاك عيانًا وكنت بالطارمة ومعي رجل من أهل المغرب يسمى أبا بكر، فأمرته أن يصعد إلى أعلى المركب ليظر كيف البحر، ففعل ذلك وأتاني بالطارمة فقال لي: أستودعكم الله، ودهمنا من الهول ما لم يعهد مثله، ثم تغيرت الريح وردتنا إلى مقربة من مدينة (صنوب) التي خرجنا منها، وأراد بعض التجار النزول إلى مرساها فمنعت صاحب المركب من إنزاله، ثم استقامت الريح وسافرنا فلما توسطنا البحر هال علينا وجرى لنا مثل المرة الأولى، ثم ساعدت الريح ورأينا جبال البر وقصدنا مرسى يسمى (الكرش)، فأردنا دخوله فأشار إلينا أناس كانوا بالجبل أن لا تدخلوا، فخفنا على أنفسنا وظننا أن هنالك أجفانًا للعدو فرجعنا مع البر.
(٢) وصف مرسى الكرش
فلما قاربناه قلت لصاحب المركب: أريد أن أنزل ها هنا فأنزلني بالساحل ورأيت كنيسة فقصدتها فوجدت بها راهبًا، ورأيت في أحد حيطان الكنيسة صورة رجل عربي عليه عمامة متقلد سيفًا وبيده رمح وبين يديه سراج يقد، فقلت للراهب: ما هذه الصورة؟ فقال: هذه صورة النبي علي فعجبت من قوله وبتنا تلك الليلة بالكنيسة وطبخنا دجاجًا فلم نستطع أكلها؛ إذ كانت مما استصحبناه في المركب ورائحة البحر قد غلبت على كل ما كان فيه، وهذا الموضع الذي نزلنا به هو من الصحراء المعروفة بدشت قفجق، والدشت: بالشين المعجم والتاء المثناة بلسان الترك هو الصحراء، وهذه الصحراء خضرة نضرة لا شجر بها ولا جبل ولا تل ولا تثنية ولا حطب، وإنما يوقدون الأرواث ويسمونها التزك بالزاي المفتوح، فترى كبراءهم يلقطونها ويجعلونها في أطراف ثيابهم، ولا يسافر في هذه الصحراء إلا في العجل، وهي مسيرة ستة أشهر ثلاثة منها في بلاد السلطان محمد أوزبك وثلاثة في بلاد غيره.
(٣) وصف مدينة الكفا
ولما كان الغد من يوم وصولنا إلى هذه المرسى توجه بعض التجار من أصحابنا إلى من بهذه الصحراء من الطائفة المعروفة بقفجق، وهم على دين النصرانية فاكترى منهم عجلة يجرها الفرس فركبناها ووصلنا إلى مدينة (الكفا) واسمها بكاف وفاء مفتوحتين، وهي مدينة عظيمة مستطيلة على ضفة البحر يسكنها النصارى وأكثرهم الجنويون، ولهم أمير يعرف بالدمدير ونزلنا منها بمسجد المسلمين.
(٤) حكاية
ولما نزلنا بهذا المسجد أقمنا به ساعة، ثم سمعنا أصوات النواقيس من كل ناحية ولم أكن سمعتها قط فهالني ذلك، وأمرت أصحابي أن يصعدوا الصومعة ويقرءوا القرآن ويذكروا الله ويؤذنوا ففعلوا ذلك فإذا برجل قد دخل علينا وعليه الدرع والسلاح فسلم علينا واستفهمناه عن شأنه، فأخبرنا أنه قاضي المسلمين هناك، وقال: لما سمعت القراءة والأذان خفت عليكم فجئت كما ترون، ثم انصرف عنا، وما رأينا إلا خيرًا، ولما كان من الغد جاء إلينا الأمير وصنع طعامًا فأكلنا عنده وطفنا بالمدينة فرأيناها حسنة الأسواق وكلهم كفار، ونزلنا إلى مرساها فرأينا مرسى عجيبًا به نحو مائتي مركب ما بين حربي وسفري صغير وكبير وهو من مراسي الدنيا الشهيرة.
(٥) وصف مدينة القرم
ثم اكترينا عجلة وسافرنا إلى مدينة القِرَم وهي بكسر القاف وفتح الراء، مدينة كبيرة حسنة من بلاد السلطان المعظم محمد أوزبك خان، وعليها أمير من قبله اسمه تلكتمور وضبط اسمه بتاء مثناة مضمومة ولام مضموم وكاف مسكن وتاء كالأولى مضمومة وميم مضمومة وواو وراء، وكان أحد خدام هذا الأمير قد صحبنا في طريقنا فعرفه بقدومنا، فبعث إلي مع إمامه سعد الدين بفرس ونزلنا بزاوية شيخها زاده الخراساني، فأكرمنا هذا الشيخ ورحب بنا وأحسن إلينا وهو معظم عندهم، ورأيت الناس يأتون للسلام عليه من قاضٍ وخطيب وفقيه وسواهم، وأخبرني هذا الشيخ زاده أن بخارج هذه المدينة راهبًا من النصارى في دير يتعبد به ويكثر الصوم، وأنه انتهى إلى أن يواصل أربعين يومًا ثم يفطر على حبة فول، وأنه يكاشف بالأمور ورغب مني أن أصحبه في التوجه إليه فأبيت ثم ندمت بعد ذلك على أن لم أكن رأيته وعرفت حقيقة أمره.
(٦) ذكر العجلات التي يسافر عليها بهذه البلاد
وهم يسمون العجلة عربة بعين مهملة وراء وباء موحدة مفتوحات، وهي عجلات تكون للواحدة منهن أربع بكرات كبار، ومنها ما يجره فرسان، ومنها ما يجره أكثر من ذلك، وتجرها أيضًا البقر والجمال على حال العربة في ثقلها أو خفتها، والذي يخدم العربة يركب أحد الأفراس التي تجرها، ويكون عليه سرج وفي يده سوط يحركها للمشي وعود كبير يصوبها به إذا عاجت عن القصد، ويجعل على العربة شبه قبة من قضبان خشب مربوط بعضها إلى بعض بسيور جلد رقيق، وهي خفيفة الحمل وتكسى باللبد أو بالملف، ويكون فيها طيقان مشبكة ويَرى الذي بداخلها الناس ولا يرونه، ويتقلب فيها كما يحب وينام ويأكل ويقرأ ويكتب وهو في حال سيره، والتي تحمل الأثقال والأزواد وخزائن الأطعمة من هذه العربات يكون عليها شبه البيت كما ذكرنا وعليه قفل.
وجهزت لما أردت السفر عربة لركوبي مغشاة باللبد ومعي بها جارية لي، وعربة صغيرة لرفيقي عفيف الدين التوزري، وعجلة كبيرة لسائر الأصحاب يجرها ثلاثة من الجمال، يركب أحدهما خادم العربة، وسرنا في صحبة الأمير تلكتمور وأخيه عيسى وولديه قطلودمور وصاروبك، وسافر أيضًا معه في هذه الوجهة إمامه سعد الدين، والخطيب أبو بكر، والقاضي شمس الدين، والفقيه شرف الدين موسى، والمعرف علاء الدين، وخطة هذا المعرف أن يكون بين يدي الأمير في مجلسه، فإذا أتى القاضي يقف له هذا المعرف ويقول بصوتٍ عالٍ، بسم الله سيدنا ومولانا قاضي القضاة والحكام مبين الفتاوى والأحكام بسم الله، وإذا أتى فقيه معظم أو رجل مشار إليه قال: بسم الله سيدنا فلان الدين بسم الله، فيتهيأ من كان حاضرًا لدخول الداخل ويقوم إليه ويفسح له في المجلس، وعادة الأتراك أن يسيروا في هذه الصحراء سيرًا كسير الحجاج في درب الحجاز، يرحلون بعد صلاة الصبح وينزلون ضحى ويرحلون بعد الظهر وينزلون عشيًّا، وإذا نزلوا حلوا الخيل والإبل والبقر عن العربات، وسرحوها للرعي ليلًا ونهارًا، ولا يعلف أحد دابة لا السلطان ولا غيره.
وخاصية هذه الصحراء أن نباتها يقوم مقام الشعير للدواب، وليست لغيرها من البلاد هذه الخاصية؛ ولذلك كثرة الدواب بها، ودوابهم لا رعاة لها ولا حراس، وذلك لشدة أحكامهم في السرقة، وحكمهم فيها أنه من وجد عنده فرس مسروق كلف أن يرده إلى صاحبه ويعطيه معه تسعة مثله، فإن لم يقدر على ذلك أخذ أولاده في ذلك، فإن لم يكن له أولاد ذبح كما تذبح الشاة.
وهؤلاء الأتراك لا يأكلون الخبز ولا الطعام الغليظ، وإنما يصنعون طعامًا من شيء عندهم شبه الآتلي يسمونه (الدوقي) بدال مهمل مضموم وواو وقاف مكسور معقود، يجعلون على النار الماء فإذا غلى صبوا عليه شيئًا من هذا الدوقي، وإن كان عندهم لحم قطعوه قطعًا صغارًا وطبخوه معه ثم يجعل لكل رجل نصيبه في صحفة، ويصبون عليه اللبن الرائب ويشربونه ويشربون عليه لبن الخيل وهم يسمونه (القمز) بكسر القاف والميم والزاي المشدد، وهم أهل قوة وشدة وحسن مزاج، ويستعملون في بعض الأوقات طعامًا يسمونه (البورخاني) وهو عجين يقطعونه قطيعات صغارًا ويثقبون أوساطها ويجعلونها في قدر، فإذا طبخت صبوا عليها اللبن الرائب وشربوها، ولهم نبيذ يصنعونه من حب (الدوقي) الذي تقدم ذكره.
وهم يرون أكل الحلواء عيبًا، ولقد حضرت يومًا عند السلطان أوزبك في رمضان، فأحضرت لحوم الخيل وهي أكثر ما يأكلون من اللحم ولحوم الأغنام والرشتا وهو شبه الأطرية يُطبخ ويُشرب باللبن، وأتيته تلك الليلة بطبق حلواء صنعها بعض أصحابي فقدمتها بين يديه فجعل أصبعه عليها وجعله على فيه ولم يزد على ذلك، وأخبرني الأمير تلكتمور أن أحد الكبار من مماليك هذا السلطان وله من أولاده وأولاد أولاده نحو أربعين ولدًا قال له السلطان يومًا: كل الحلواء وأعتقكم جميعًا، فأبى وقال: لو قتلتني ما أكلتها.
ولما خرجنا من مدينة (القرم) نزلنا بزاوية الأمير تلكتمور في موضع يعرف بسججان فبعث إلي أن أحضر عنده فركبت إليه، وكان لي فرس معد لركوبي يقوده خديم العربة، فإذا أردت ركوبه ركبته، وأتيت الزاوية فوجدت الأمير قد صنع بها طعامًا كثيرًا فيه الخبز، ثم أتوا بماء أبيض في صحاف صغار فشرب القوم منه، وكان الشيخ مظفر الدين يلي الأمير في مجلسه وأنا إليه، فقلت له: ما هذا؟ فقال: هذا ماء الدهن، فلم أفهم ما قال: فذقته فوجدته له حموضة فتركته، فلما خرجت سألت عنه فقالوا: هو نبيذ يصنعونه من حب (الدوقي)، وهم حنفية المذهب، والنبيذ عندهم حلال، ويسمون هذا النبيذ المصنوع من (الدوقي) البُوزة بضم الباء الموحدة وواو مد وزاي مفتوح، وإنما قال لي الشيخ مظفر الدين: ماء الدخن ولسانه فيه اللكنة الأعجمية، فظننت أنه يقول: ماء الدهن.
(٧) وصف مدينة أزاق
وبعد مسيرة ثمانية عشر منزلًا من مدينة (القرم) وصلنا إلى ماء كثير نخوضه يومًا كاملًا وإذا كثر خوض الدواب والعربات في هذا الماء اشتد وحله وزاد صعوبة، فذهب الأمير إلى راحتي، وقدمني أمامه مع بعض خدامه، وكتب لي كتابًا إلى أمير أزاق يعلمه أني أريد القدوم على الملك، ويحضه على إكرامي، وسرنا حتى انتهينا إلى ماء آخر نخوضه نصف يوم، ثم سرنا بعده ثلاثًا ووصلنا إلى مدينة (أزاق) وضبط اسمها بفتح الهمزة والزاي وآخره قاف، وهي على ساحل البحر حسنة العمارة، يقصدها الجنويون وغيرهم بالتجارات، وبها من الفتيان أخي بجقجي وهو من العظماء يطعم الوارد والصادر، ولما وصل كتاب الأمير تلكتمور إلى أمير أزاق وهو محمد خواجه الخوارزمي خرج إلى استقبالي ومعه القاضي والطلبة وأخرج الطعام، فلما سلمنا عليه نزلنا بموضع أكلنا فيه ووصلنا إلى المدينة ونزلنا بخارجها بمقربة من رابطة هنالك تنسب للخضر وإلياس عليهما السلام، وخرج شيخ من أهل (أزاق) يسمى برجب النهر ملكي نسبة إلى قرية بالعراق، فأضافنا بزاوية له ضيافة حسنة.
وبعد يومين من قدومنا قدم الأمير تلكتمور وخرج الأمير محمد للقائه ومعه القاضي والطلبة وأعدوا له الضيافات وضربوا ثلاث قباب متصلًا بعضها ببعض، إحداها من الحرير الملون عجيبة، والثنتان من الكتان، وأداروا عليها سراجة وهي المسماة عندنا أفراج، وخارجها الدهليز وهو على هيئة البرج عندنا، ولما نزل الأمير بسطت بين يديه شقاق الحرير يمشي عليها، فكان من مكارمه وفضله أن قدمني أمامه ليرى ذلك الأمير منزلتي عنده، ثم وصلنا إلى الخباء الأولى وهي المعدة لجلوسه، وفي صدرها كرسي من الخشب لجلوسه كبير مرصع وعليه مرتبة حسنة، فقدمني الأمير أمامه، وقدم الشيخ مظفر الدين وصعد هو فجلس فيما بيننا ونحن جميعًا على المرتبة، وجلس قاضيه وخطيبه وقاضي هذه المدينة وطلبتها عن يسار الكرسي على فرش فاخرة، ووقف ولدا الأمير تلكتمور وأخوه والأمير محمد وأولاده في الخدمة، ثم أتوا بالأطعمة من لحوم الخيل وسواها وأتوا بألبان الخيل، ثم أتوا بالبوزة.
وبعد الفراغ من الطعام قرأ القراء بالأصوات الحسان، ثم نصب منبر وصعده الواعظ وجلس القراء بين يديه وخطب خطبة بليغة ودعا للسلطان وللأمير وللحاضرين، يقول ذلك بالعربي ثم يفسره لهم بالتركي، وفي أثناء ذلك يكرر القراء آيات من القرآن بترجيع عجيب، ثم أخذوا في الغناء يغنون بالعربي ويسمونه (القول) ثم بالفارسي والتركي ويسمونه (الملمع)، ثم أتوا بطعام آخر ولم يزالوا على ذلك إلى العشي، وكلما أردت الخروج منعني الأمير ثم جاءوا بكسوة للأمير وكسى لولديه وأخيه وللشيخ مظفر الدين ولي، وأتوا بعشرة أفراس للأمير ولأخيه ولولديه بستة أفراس، ولكل كبير من أصحابه بفرس ولي بفرس.
والخيل بهذه البلاد كثيرة جدًّا وثمنها نزر، قيمة الجيد منها خمسون درهمًا أو ستون من دراهمهم وذلك صرف دينار من دنانيرنا أو نحوه، وهذه الخيل هي التي تعرف بمصر بالأكاديش، ومنها معاشهم وهي ببلادهم كالغنم ببلادنا بل أكثر، فيكون للتركي منهم آلاف منها، ومن عادة الترك المستوطنين تلك البلاد أصحاب الخيل أنهم يضعون في العربات التي تركب فيها نساؤهم قطعة لبد في طول الشبر مربوطة إلى عود في طول الذراع في ركن العربة، ويجعل لكل ألف فرس قطعة، ورأيت منهم من يكون له عشر قطع ومن له دون ذلك، وتحمل هذه الخيل إلى بلاد الهند فيكون في الرفقة منها ستة آلاف وما فوقها وما دونها، لكل تاجر المئة والمئتان، فما دون ذلك وما فوقه، ويستأجر التاجر لكل خمسين منها راعيًا يقوم عليها ويرعاها كالغنم ويسمى عندهم (القشي)، ويركب أحدها وبيده عصى طويلة فيها حبل، فإذا أراد أن يقبض على فرس منها حاذاه بالفرس الذي هو راكبه، ورمى الحبل في عنقه وجذبه، فيركبه ويترك الآخر للرعي.
وإذا وصلوا بها إلى أرض (السند) أطعموها العلف؛ لأن نبات أرض (السند) لا يقوم مقام الشعير، ويموت لهم منها الكثير ويُسرق، ويُغرمون عليها بأرض (السند) سبعة دنانير فضة على الفرس بموضع يقال له: (ششنقار)، ويغرمون عليها بملتان قاعدة بلاد السند، وكانوا فيما تقدم يغرمون ربع ما يجلبونه فرفع ملك الهند السلطان محمد ذلك، وأمر أن يؤخذ من تجار المسلمين الزكاة ومن تجار الكفار العشر، ومع ذلك يبقى للتجار فيها فضل كبير؛ لأنهم يبيعون الرخيص منها ببلاد الهند بمئة دينار دراهم، وصرفها من الذهب المغربي خمسة وعشرون دينارًا، وربما باعوها بضعف ذلك وضعيفه، والجياد منها تساوي خمس مئة دينار وأكثر من ذلك وأهل الهند لا يبتاعونها للجري والسبق؛ لأنهم يلبسون في الحرب الدروع ويدرعون الخيل وإنما يبتغون قوة الخيل واتساع خطاها، والخيل التي يبتغونها للسبق تجلب إليهم من اليمن وعمان وفارس ويباع الفرس منها بألف دينار إلى أربعة آلاف.
(٨) وصف مدينة الماجر
ولما سافر الأمير تلكتمور عن هذه المدينة أقمت بعده ثلاثة أيام حتى جهز لي الأمير محمد خواجه آلات سفري وسافرت إلى مدينة (الماجر)، وهي بفتح الميم وألف وجيم مفتوح معقود وراء مدينة كبيرة من أحسن مدن الترك على نهر كبير وبها البساتين والفواكه الكثيرة، نزلنا منها بزاوية الشيخ الصالح العابد المعمر محمد البطائحي من بطائح العراق وكان خليفة الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه، وفي زاويته نحو سبعين من فقراء العرب والفرس والترك والروح منهم المتزوج والعزب وعيشهم من الفتوح.
ورأيت بقيسارية هذه المدينة يهوديًّا سلم علي وكلمني بالعربي، فسألته عن بلاده، فذكر أنه من بلاد الأندلس وأنه قدم منها في البر ولم يسلك بحرًا وأتى على طريق القسطنطينية العظمى وبلاد الروم وبلاد الجركس، وذكر أن عهده بالأندلس منذ أربعة أشهر، وأخبرني التجار المسافرون الذين لهم المعرفة بذلك بصحة مقاله.
ورأيت بهذه البلاد عجبًا من تعظيم السناء عندهم وهن أعلى شأنًا من الرجال، فأما نساء الأمراء فكانت أول رؤيتي لهن عند خروجي من القوم رؤية الخاتون زوجة الأمير سلطيه في عربة لها، وكلها مجللة بالملف الأزرق الطيب وطيقان البيت مفتوحة وأبوابه، وبين يديها أربع جوارٍ فائقات الحسن بديعات اللباس، وخلفها جملة من العربات فيها جوارٍ يتبعنها، ولما قربت من منزل الأمير نزلت عن العربة إلى الأرض ونزل معها نحو ثلاثين من الجواري يرفعن أذيالها، ولأثوابها عرًى تأخذ كل جارية بعروة ويرفعن الأذيال عن الأرض من كل جانب، ومشت كذلك متبخترة، فلما وصلت إلى الأمير قام إليها وسلم عليها وأجلسها إلى جانبه ودار بها جواريها وجاءوا بروايا القمز فصبت منه في قدح وجلست على ركبتيها قدام الأمير وناولته القدح فشرب، ثم سقت أخاه وسقاها الأمير وحضر الطعام فأكلت معه وأعطاها كسوة وانصرفت.
وعلى هذا الترتيب نساء الأمراء وسنذكر نساء الملك فيما بعد، وأما نساء الباعة والسوقة فرأيتهن وإحداهن تكون في العربة والخيل تجرها وبين يديها الثلاث والأربع من الجواري يرفعن أذيالها، وعلى رأسها البغطاق وهو أقروف مرصع بالجوهر وفي أعلاه ريش الطواويس، وتكون طيقان البيت مفتوحة وهي بادية الوجه؛ لأن نساء الأتراك لا يحتجبن، وتأتي إحداهن على هذا الترتيب ومعها عبيدها بالغنم واللبن فتبيعه من الناس بالسلع العطرية، وربما كان مع المرأة منهن زوجها فيظنه من يراه بعض خدامها، ولا يكون عليه من الثياب إلا فروة من جلد الغنم وفي رأسه قلنسوة تناسب ذلك يسمونها الكلا.
(٩) معسكر السلطان في بش دغ
وتجهزنا من مدينة الماجر نقصد معسكر السلطان وكان على أربعة أيام من الماجر بموضع يقال له (بِش دَغ) ومعنى (بش) عندهم خمسة وهو بكسر الباء وشين معجم، ومعنى (دغ) الجبل وهو بفتح الدال المهمل وغين معجم، وبهذه الجبال الخمسة عين ماء حار يغتسل منها الأتراك، ويزعمون أنه من اغتسل منها لم تصبه عاهة مرض.
وارتحلنا إلى موضع (المحلة) فوصلناه أول يوم من رمضان فوجدنا المحلة قد رحلت، فعدنا إلى الموضع الذي رحلنا منه؛ لأن المحلة تنزل بالقرب منه، فضربت بيتي على تل هنالك وركزت العلم أمام البيت وجعلت الخيل والعربات وراء ذلك، وأقبلت المحلة وهم يسمونها (الأُردو) بضم الهمزة فرأينا مدينة عظيمة تسير بأهلها فيها المساجد والأسواق ودخان المطبخ صاعد في الهواء وهم يطبخون في حال رحيلهم والعربات تجرها الخيل بهم، فإذا بلغوا المنزل نزلوا البيوت عن العربات وجعلوها على الأرض، وهي خفيفة المحمل، وكذلك يصنعون بالمساجد والحوانيت.
واجتاز بنا خواتين السلطان كل واحدة بناسها على حدة، ولما اجتازت الرابعة منهن وهي بنت الأمير عيسى بك — وسنذكرها — رأت البيت بأعلى التل والعلم أمامه وهو علامة الوارد، فبعثت الفتيان والجواري فسلموا علي وبلغوا سلامها إلي وهي واقفة تنتظرهم، فبعثت إليها هدية مع بعض أصحابي ومع معرف الأمير تلكتمور، فقبلتها تبركًا وأمرت أن أنزل في جوارها وانصرفت وأقبل السلطان فنزل في محلته على حدة.
(١٠) ذكر السلطان المعظم محمد أوزبك خان
واسمه محمد أُوزْبَك بضم الهمزة وواو وزاي مسكن وباء موحدة مفتوحة، ومعنى خان عندهم السلطان، وهذا السلطان عظيم المملكة، شديد القوة، كبير الشأن، رفيع المكان، قاهر لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى، مجتهد في جهادهم، وبلاده متسعة، ومدنه عظيمة، منها (الكفا) و(القرم) و(الماجر) و(أزاق) و(سرداق) و(سوادق) و(خوارزم) وحضرته (السرا)، وهو أحد الملوك السبعة الذين هم كبراء ملوك الدنيا وعظماؤها، وهم مولانا أمير المؤمنين ظل الله في أرضه، إمام الطائفة المنصورة الذين لا يزالون ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة، أيد الله أمره وأعز نصره، وسلطان مصر والشام، وسلطان العراقين، والسلطان أوزبك هذا، وسلطان بلاد تركستان وما وراء النهر، وسلطان الهند، وسلطان الصين.
ويكون هذا السلطان إذا سافر في محلة على حدة معه مماليكه وأرباب دولته، وتكون كل خاتون من خواتينه على حدة في محلتها، فإذا أراد أن يكون عند واحدة منهن بعث إليها يُعلمها بذلك فتتهيأ له، وله في قعوده وسفره وأموره ترتيب عجيب بديع، ومن عادته أن يجلس يوم الجمعة بعد الصلاة في قبة تسمى قبة الذهب مزينة بديعة، وهي من قضبان حشب مكسوة بصفائح الذهب، وفي وسطها سرير من خشب مكسو بصفائح الفضة المذهبة وقوائمه فضة خالصة، ورءوسها مرصعة بالجواهر.
ويقعد السلطان على السرير وعلى يمينه الخاتون طيطغلي وتليها الخاتون بك، وعلى يساره الخاتون بيلون وتليها الخاتون أردجي، ويقف أسفل السرير عن اليمين ولد السلطان تين بك، وعن الشمال ولده الثاني جان بك، وتجلس بين يديه ابنته إيت كججك، وإذا أتت إحداهن قام لها السلطان وأخذ يدها حتى تصعد على السرير، وأما طيطغلي وهي الملكة وأحظاهن عنده فإنه يستقبلها إلى باب القبة فيُسلم عليها ويأخذ بيدها، فإذا صعدت على السرير وجلست حينئذ يجلس السلطان، وهذا كله على أعين الناس دون احتجاب.
ويأتي بعد ذلك كبار الأمراء فتنصب لهم كراسيهم عن اليمين والشمال، وكل إنسان منهم إذا أتى مجلس السلطان يأتي معه غلام بكرسيه، ويقف بين يدي السلطان أبناء الملوك من بني عمه وإخوته وأقاربه، ويقف في مقابلتهم عند باب القبة أولاد الأمراء الكبار، ويقف خلفهم وجوه العساكر عن يمين وشمال، ثم يدخل الناس للسلام الأمثل فالأمثل ثلاثة ثلاثة، فيسلمون وينصرفون فيجلسون على بعد، فإذا كان بعد صلاة العصر انصرفت الملكة من الخواتين ثم ينصرف سائرهن فيتبعنها إلى محلتها، فإذا دخلت إليها انصرفت كل واحدة إلى محلتها راكبة عربتها ومع كل واحدة نحو خمسين جارية راكبات على الخيل، وأمام العربة نحو عشرين من قواعد النساء راكبات على الخيل فيما بين الفتيان والعربة، وخلف الجميع نحو مئة مملوك من الصبيان، وأمام الفتيان نحو مئة من المماليك الكبار ركبانًا ومثلهم مشاة بأيديهم القضبان والسيوف مشدودة على أوساطهم وهم بين الفرسان والفتيان؛ وهكذا ترتيب كل خاتون منهن في انصرافها ومجيئها.
وكان نزولي من المحلة في جوار ولد السلطان جان بك الذي يقع ذكره فيما بعد، وفي الغد من يوم وصولي دخلت إلى السلطان بعد صلاة العصر وقد جمع المشايخ والقضاة والفقهاء والشرفاء والفقراء، وقد صنع طعامًا كثيرًا وأفطرنا بمحضره، وتكلم السيد الشريف نقيب الشرفاء ابن عبد الحميد والقاضي حمزة في شأني بالخير، وأشاروا على السلطان بإكرامي، وهؤلاء الأتراك لا يعرفون إنزال الوارد ولا إجراء النفقة وإنما يبعثون له الغنم والخيل للذبح وروايا القمز، وتلك كرامتهم، وبعد هذا بأيام صليت صلاة العصر مع السلطان، فلما أردت الانصراف أمرني بالقعود وجاءوا بالطعام من المشروبات كما يصنع من الدوقي ثم باللحوم المسلوقة من الغنم والخيل، وفي تلك الليلة أتيت السلطان بطبق حلواء فجعل أصبعه عليه وجعله على فيه ولم يزد على ذلك.
(١١) ذكر الخواتين وترتيبهن
وكل خاتون منهن تركب في عربة، وللبيت الذي تكون فيه قبة من الفضة المموهة بالذهب أو من الخشب المرصع، وتكون الخيل التي تجر عربتها مجللة بأثواب الحرير المذهب، وخديم العربة الذي يركب أحد الخيل فتى يدعى القشي، والخاتون قاعدة في عربتها وعن يمينها امرأة من القواعد تسمى أُولُو خاتون بضم الهمزة واللام، ومعنى ذلك الوزيرة، وعن شمالها امرأة من القواعد أيضًا تسمى كُجُك خاتون بضم الكاف والجيم ومعنى ذلك الحاجبة، وبين يديها ست من الجواري الصغار يقال لهن: البنات فائقات الجمال متناهيات الكمال، ومن ورائها ثنتان منهن تستند إليهن.
وعلى رأس الخاتون البغطاق وهو مثل التاج الصغير مكلل بالجواهر وبأعلاه ريش الطواويس، وعليها ثياب حرير مرصعة بالجوهر شبه المنوت (الملوطة) التي يلبسها الروم، وعلى رأس الوزيرة والحاجبة مقنعة حرير مزركشة الحواشي بالذهب والجوهر، وعلى رأس كل واحدة من البنات الكلا وهو شبه الأقروف وفي أعلاه دائرة ذهب مرصعة بالجوهر وريش الطواويس من فوقها، وعلى كل واحدة ثوب حرير مذهب يسمى النخ.
ويكون بين يدي الخاتون عشرة أو خمسة عشر من الفتيان الروميين والهنديين وقد لبسوا ثياب الحرير المذهب المرصعة بالجواهر، وبيد كل واحد منهم عمود ذهب أو فضة، أو يكون من عود ملبس بهما، وخلف عربة الخاتون نحو مئة عربة في كل عربة الثلاث والأربع من الجواري الكبار والصغار، ثيابهن الحرير وعلى رءوسهن الكلا، وخلف هذه العربات نحو ثلاث مئة عربة تجرها الجمال والبقر تحمل خزائن الخاتون وأموالها وثيابها وأثاثها وطعامها، ومع كل عربة غلام موكل بها متزوج بجارية من الجواري التي ذكرنا، فإن العادة عندهم أنه لا يدخل بين الجواري من الغلمان إلا من كان له بينهن زوجة، وكل خاتون فهي على هذا الترتيب ولنذكرهن على الانفراد.
(١١-١) ذكر الخاتون الكبرى
وفي غد اجتماعي بالسلطان دخلت إلى هذه الخاتون وهي قاعدة فيما بين عشر من النساء القواعد كأنهن خديمات لها وبين يديها نحو خمسين جارية صغار يسمون البنات، وبين أيديهن طيافير الذهب والفضة مملوءة بحب الملوك وهن ينقينه، وبين يدي الخاتون صينية ذهب مملوءة منه وهي تنقيه فسلمنا عليها، وكان في جملة أصحابي قارئ يقرأ القرآن على طريقة المصريين بطريقة حسنة وصوت طيب، فقرأ ثم أمرت أن يؤتى بالقمز فأوتي به في أقداح خشب لطاف خفاف، فأخذت القدح بيدها وناولتني إياه وتلك نهاية الكرامة عندهم ولم أكن شربت القمز قبلها، ولكن لم يمكنني إلا قبوله وذقته ولا خير فيه ودفعته لأحد أصحابي، وسألتني عن كثير من حال سفرنا فأجبناها ثم انصرفنا عنها، وكان ابتداؤنا بها لأجل عظمتها عند الملك.
(١١-٢) ذكر الخاتون الثانية التي تلي الملكة
واسمها كَبَك خاتون بفتح الكاف الأولى وفتح الباء الموحدة، ومعناه بالتركية النخالة، وهي بنت الأمير نغطي واسمه بنون وغين معجمة وطاء مهملة مفتوحات وياء مسكنة، وأبوها حي مبتلى بعلة النقرس وقد رأيته، وفي غد دخولنا على الملكة دخلنا على هذه الخاتون فوجدناها على مرتبة تقرأ في المصحف الكريم وبين يديها نحو عشر من النساء القواعد، ونحو عشرين من البنات يطرزن ثيابًا فسلمنا عليها وأحسنت في السلام والكلام، وقرأ قارئنا فاستحسنته وأمرت بالقمز فأُحضر وناولتني بالقدح بيدها كمثل ما فعلته الملكة وانصرفنا عنها.
(١١-٣) ذكر الخاتون الثالثة
واسمها بَيَلُون بباء موحدة وياء آخر الحروف كلاهما مفتوح ولام مضموم وواو مد ونون، وهي بنت ملك القسطنطينية العظمى السلطان تكفور، ودخلنا على هذه الخاتون وهي قاعدة على سرير مرصع قوائمه فضة وبين يديها نحو مئة جارية روميات وتركيات ونوبيات منهن قائمات وقاعدات، والفتيان على رأسها والحجاب بين يديها من رجال الروم، فسألت عن حالنا ومقدمنا وبعد أوطاننا وبكت ومسحت وجهها بمنديل كان بين يديها رقة منها وشفقة، وأمرت بالطعام فأُحضر وأكلنا بين يديها وهي تنظر إلينا، ولما أردنا الانصراف قالت: لا تنقطعوا عنا وترددوا إلينا وطالعونا بحوائجكم، وأظهرت مكارم الأخلاق وبعثت في أثرنا بطعام وخبز كثير وسمن وغنم ودراهم وكسوة جيدة وثلاثة من جياد الخيل وعشرة من سائرها، ومع هذه الخاتون كان سفري إلى القسطنطينية العظمى كما نذكره بعد.
(١١-٤) ذكر الخاتون الرابعة
واسمها أُرْدُجا بضم الهمزة وإسكان الراء وضم الدال المهمل وجيم وألف، وارد بلسانهم المحلة وسميت بذلك لولادتها في المحلة، وهي بنت الأمير الكبير عيسى بك أمير الأُلُوس بضم الهمزة واللام ومعناه أمير الأمراء وأدركته حيًا وهو متزوج ببنت السلطان إيت كججك، وهذه الخاتون من أفضل الخواتين وألطفهن شمايل وأشفقهن، وهي التي بعثت إلي لما رأت بيتي على التل عند جواز المحلة كما قدمناه، دخلنا عليها فرأينا من حسن خلقها وكرم نفسها ما لا مزيد عليه، وأمرت بالطعام فأكلنا بين يديها ودعت بالقمز فشرب أصحابنا، وسألت عن حالنا فأجبناها ودخلنا أيضًا إلى أختها زوجة الأمير علي بن أرزق.
(١٢) ذكر بنت السلطان المعظم أوزبك
اسمها إِيت كُجُجُك، وإيت بكسر الهمزة وياء مد وتاء مثناة، وكجك بضم الكاف وضم الجيمين ومعنى اسمها الكلب الصغير، فإن إيت هو الكلب وكججك هو الصغير، وقد قدمنا أن الترك يسمون بالفأل كما تفعل العرب، وتوجهنا إلى هذه الخاتون بنت الملك وهي في ملحة منفردة على نحو ستة أميال من محلة والدها، فأمرت بإحضار الفقهاء والقضاة والسيد الشريف ابن عبد الحميد وجماعة الطلبة والمشائخ والفقراء، وحضر زوجها الأمير عيسى الذي بنته زوجة السلطان، فقعد معها على فراش واحد وهو معتل بالنقرس فلا يستطيع التصرف على قدميه ولا ركوب الفرس، وإنما يركب العربة، وإذا أراد الدخول على السلطان أنزله خدامه وأدخلوه إلى المجلس محمولًا، وعلى هذه الصورة رأيت أيضًا الأمير نغطي وهو أبو الخاتون الثانية، وهذه العلة فاشية في هؤلاء الأتراك، ورأينا من هذه الخاتون بنت السلطان من المكارم وحسن الأخلاق ما لم نره من سواها وأجزلت الإحسان وأفضلت، جزاها الله خيرًا.
(١٣) ذكر ولدي السلطان
وهما شقيقان وأمهما جميعًا الملكة طيطغلي التي قدمنا ذكرها، والأكبر منهما اسمه تِين بك بتاء معلوة مكسورة وياء مد ونون مفتوح، وبك معناه الأمير وتِين معناه الجسد؛ فكأن اسمه أمير الجسد واسم أخيه جان بك بفتح الجيم وكسر النون، ومعنى جان الروح؛ فكأنه يسمى أمير الروح، وكل واحد منهما له محلة على حدة.
وكان تين بك من أجمل خلق الله صورة وعهد له أبوه بالملك، وكانت له الحظوة والتشريف عنده ولم يرد الله ذلك؛ فإنه لما مات أبوه ولى يسيرًا ثم قُتل لأمور قبيحة جرت له، وولي أخوه جان بك وهو خير منه وأفضل، وكان السيد الشريف ابن عبد الحميد هو الذي تولى تربية جان بك، وأشار علي هو والقاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والإمام المقرئ حسام الدين البخاري وسواهم حين قدومي أن يكون نزولي بمحلة جان بك المذكور لفضله؛ ففعلت ذلك.
(١٤) ذكر سفري إلى مدينة بلغار
وكنت سمعت بمدينة بلغار فأردت التوجه إليها لأرى ما ذُكر عنها من انتهاء قصر الليل بها وقصر النهار أيضًا في عكس ذلك الفصل، وكان بينها وبين محلة السلطان مسيرة عشر، فطلبت منه من يوصلني إليها فبعث معي من أوصلني إليها وردني إليه ووصلتها في رمضان، فلما صلينا المغرب أفطرنا وأُذِّنَ بالعشاء في أثناء إفطارنا فصليناها وصلينا التراويح والشفع والوتر وطلع الفجر إثر ذلك، وكذلك يقصر النهار بها في فصل قصره أيضًا وأقمت بها ثلاثًا.
(١٥) ذكر أرض الظلمة
وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة والدخول إليها من بلغار وبينهما مسيرة أربعين يومًا، ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤنة فيها وقلة الجدوى، والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار، فإن تلك المفازة فيها الجليد فلا يثبت قدم لآدمي ولا حافر الدابة فيها، والكلاب لها الأظفار فتثبت أقدامها في الجليد ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مئة عجلة أو نحوها موقرة بطعامه وشرابه وحطبه؛ فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر.
والدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي قد سار فيها مرارًا كثيرة، وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها، وتربط العربة إلى عنقه ويقرن معه ثلاثة من الكلاب ويكون هو المقدم وتتبعه سائر الكلاب بالعربات، فإذا وقف وقفت، وهذا الكلب لا يضربه صاحبه ولا ينهره، وإذا حضر الطعام أطعم الكلاب أولًا قبل بني آدم وإلا غضب الكلب وفر وترك صاحبه للتلف، فإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة نزلوا عند الظلمة وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك وعادوا إلى منزلهم المعتاد، فإذا كان من الغد عادوا لتفقد متاعهم فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم، فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذه، وإن لم يرضه تركه فيزيدونه وربما رفعوا متاعهم، أعني أهل الظلمة، وتركوا متاع التجار.
وهكذا بيعهم وشراؤهم ولا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم ويشاريهم أمن الجن أم من الإنس ولا يرون أحدًا، والقاقم هو أحسن أنواع الفراء، وتساوي الفروة منه ببلاد الهند ألف دينار، وصرفها من ذهبنا مئتان وخمسون، وهي شديدة البياض من جلد حيوان صغير في طول الشبر وذنبه طويل يتركونه في الفروة على حاله، والسمور دون ذلك تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها، ومن خاصية هذه الجلود أنه لا يدخلها القمل، وأمراء الصين وكبارها يجعلون منه الجلد الواحد متصلًا بفرواتهم عند العنق، وكذلك تجار فارس والعراقيين، وعدت من مدينة بلغار مع الأمير الذي بعثه السلطان في صحبتي فوجدت محلة السلطان على الموضع المعروف بدش دغ وذلك في الثامن والعشرين من رمضان، وحضرت معه صلاة العيد وصادف يوم العيد يوم الجمعة.
(١٦) ذكر ترتيبهم في العيد
ولما كان صباح يوم العيد ركب السلطان في عساكره العظيمة، وركبت كل خاتون عربتها ومعها عساكرها، وركبت بنت السلطان والتاج على رأسها؛ إذ هي الملكة على الحقيقة ورثت الملك من أمها، وركب أولاد السلطان كل واحد في عسكره، وكان قد قدم لحضور العيد قاضي القضاة شهاب الدين السايلي ومعه جماعة من الفقهاء والمشائخ فركبوا وركب القاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والشريف ابن عبد الحميد.
وكان ركوب هؤلاء الفقهاء مع تين بك ولي عهد السلطان ومعهم الأطبال والأعلام، فصلى بهم القاضي شهاب الدين، وخطب أحسن خطبة وركب السلطان وانتهى إلى برج خشب يسمى عندهم الكشك، فجلس فيه ومعه خواتينه، ونصب برجان دونهما عن يمينه وشماله فيهما أبناء السلطان وأقاربه، ونُصبت الكراسي للأمراء وأبناء الملوك وتُسمى الصندليات عن يمين البرج وشماله فجلس كل واحد على كرسيه، ثم نُصبت طبلات للرمي لكل أمير طومان طبلة مختصة به، وأمير طومان عندهم هو الذي يركب له عشرة آلاف فكان الحاضرون من أمراء طومان سبعة عشر يقودون مئة وسبعين ألفًا وعسكره أكثر من ذلك.
ونصب لكل أمير شبه منبر، فقعد عليه وأصحابه يلعبون بين يديه فكانوا على ذلك ساعة، ثم أتى بالخلع فخلعت على كل أمير خلعة، وعندما يلبسها يأتي إلى أسفل برج السلطان فيخدم، وخدمته أن يمس الأرض بركبته اليمنى ويمد رجله تحتها والأخرى قائمة، ثم يؤتى بفرس مسرج ملجم فيرفع حافره ويقبل فيه الأمير ويقوده بنفسه إلى كرسيه، وهنالك يركبه ويقف مع عسكره، ويفعل هذا كل أمير منهم، ثم ينزل السلطان عن البرج ويركب الفرس وعن يمينه ابنه ولي العهد وتليه بنته الملكة إيت كججك، وعن يساره ابنه الثاني وبين يديه الخواتين الأربع في عربات مكسوة بأثواب الحرير المذهب، والخيل التي تجرها مجللة بالحرير المذهب، وينزل جميع الأمراء الكبار والصغار وأبناء الملوك والوزراء والحجاب وأرباب الدولة فيمشون بين يدي السلطان على أقدامهم إلى أن يصل إلى الوطاق، والوِطاق بكسر الواو وهو إفراج وقد نصبت هنالك باركة (باركاه) عظيمة.
والباركة عندهم بيت كبير له أربعة أعمدة من الخشب مكسوة بصفائح الفضة المموهة بالذهب، وفي أعلى كل عمود جامور من الفضة المذهبة له بريق وشعاع، وتظهر هذه الباركة على البعد كأنها ثنية ويوضع عن يمينها ويسارها سقائف من القطن والكتان، ويفرش ذلك كله بفرش الحرير، وينصب في وسط الباركة السرير الأعظم، وهم يسمونه التخت، وهو من خشب مرصع وأعواده مكسوة بصفائح فضة مذهبة، وقوائمه من الفضة الخالصة المموهة، وفوقه عرش عظيم.
وفي وسط هذا السرير الأعظم مرتبة يجلس عليها السلطان والخاتون الكبرى، وعن يمينه مرتبة جلست بها بنته إيت كججك ومعها الخاتون أردجا، وعن يساره مرتبة جلست بها الخاتون بيلون ومعها الخاتون كبك، ونصب عن يمين السرير كرسي قعد عليه تين بك ولد السلطان، ونصب عن شماله كرسي قعد عليه جان بك ولده الثاني، ونصبت كراسي عن اليمين والشمال جلس فوقها أبناء الملوك والأمراء الكبار، ثم الأمراء الصغار مثل أمراء هزارة، وهم الذين يقودون ألفًا، ثم أُتي بالطعام على موائد الذهب والفضة، وكل مائدة يحملها أربعة رجال وأكثر من ذلك.
وطعامهم لحوم الخيل والغنم مسلوقة، وتوضع بين يدي كل أمير مائدة، ويأتي الباورجي وهو مقطع اللحم وعليه ثياب حرير وقد ربط عليها فوطة حرير وفي حزامه جملة سكاكين في أغمادها، ويكون لكل أمير باورجي فاذا قدمت المائدة قعد بين يدي أميره ويؤتى بصفحة صغيرة من الذهب أو الفضة فيها ملح محلول بالماء، فيقطع الباورجي اللحم قطعًا صغارًا، ولهم في ذلك صنعة في قطع اللحم مختلطًا بالعظم، فإنهم لا يأكلون منه إلا ما اختلط بالعظم، ثم يُؤتى بأواني الذهب والفضة للشرب، وأكثر شربهم نبيذ العسل، وهم حنفية المذهب يحللون النبيذ.
فإذا أراد السلطان أن يشرب أخذت بنته القدح بيدها وخدمت برجلها ثم ناولته القدح فشرب، ثم تأخذ قدحًا آخر فتناوله للخاتون الكبرى فتشرب منه، ثم تناول لسائر الخواتين على ترتيبهن، ثم يأخذ ولي العهد القدح ويخدم ويناوله أباه فيشرب، ثم يناول الخواتين ثم أخته ويخدم لجميعهن، ثم يقوم الولد الثاني فيأخذ القدح ويسقي أخاه ويخدم له، ثم يقوم الأمراء الكبار فيسقي كل واحد منهم ولي العهد ويخدم له، ثم يقوم أبناء الملوك فيسقي كل واحد منهم هذا الابن الثاني ويخدم له، ثم يقوم الأمراء الصغار فيسقون أبناء الملوك ويغنون أثناء ذلك بالملالية (بالموالية).
وكانت قد نصبت قبة كبيرة أيضًا إزاء المسجد للقاضي والخطيب والشريف وسائر الفقهاء والمشائخ وأنا معهم، فأوتينا بموائد الذهب والفضة يحمل كل واحدة أربعة من كبار الأتراك، ولا يتصرف في ذلك اليوم بين يدي السلطان إلا الكبار فيأمرهم برفع ما أراد من الموائد إلى من أراد، فكان من الفقهاء من أكل ومنهم من تورع عن الأكل في موائد الفضة والذهب، ورأيت مد البصر عن اليمين والشمال من العربات عليها روايا القمز، فأمر السلطان بتفريقها على الناس، فأتوا إلي بعربة منها فأعطيتها لجيراني من الأتراك، ثم أتينا المسجد ننتظر صلاة الجمعة فأبطأ السلطان، فمن قائل: إنه لا يأتي؛ لأن السكر قد غلب عليه، ومن قائل: إنه لا يترك الجمعة، فلما كان بعد تمكن الوقت أتى وهو يتمايل فسلم على السيد الشريف وتبسم له وكان يخاطبه بآطا وهو الأب بلسان التركية، ثم صلينا الجمعة وانصرف الناس إلى منازلهم وانصرف السلطان إلى الباركة، فبقي على حاله إلى صلاة العصر ثم انصرف الناس أجمعون، وبقي مع الملك تلك الليلة خواتينه وبنته.
(١٧) مدينة الحاج ترخان
ثم كان رحيلنا مع السلطان والمحلة لما انقضى العيد فوصلنا إلى مدينة الحاج تَرْخان، ومعنى ترخان عندهم الوضع المحرر من المغارم، وهو بفتح التاء المثناة وسكون الراء وفتح الخاء المعجم وآخره نون، والمنسوب إليه هذه المدينة هو حاج من الصالحين تركي، نزل بموضعها وحرر له السلطان ذلك الموضع فصار قرية ثم عظمت وتمدنت، وهي من أحسن المدن عظيمة الأسواق مبنية على نهر أتل وهو من أنهار الدنيا الكبار.
وهنالك يقيم السلطان حتى يشتد البرد ويجمد هذا النهر وتجمد المياه المتصلة به، ثم يأمر أهل تلك البلاد فيأتون بالآلاف من أحمال التبن فيجعلونها على الجليد المنعقد فوق النهر، والتبن هنالك لا تأكله الدواب؛ لأنه يضرها وكذلك ببلاد الهند وإنما أكلها الحشيش الأخضر لخصب البلاد، ويسافرون بالعربات فوق هذا النهر والمياه المتصلة به ثلاث مراحل، وربما جازت القوافل فوقه مع آخر فصل الشتاء فيغرقون ويهلكون.