ملحمة العقل
العقل أم الروح؟
مهمة كتاب «فينومينولوجيا العقل»
إن كون عرضي لآراء هيجل حتى الآن غير كامل على نحو كبير هو أمرٌ يمكن إدراكه عن طريق العودة إلى سؤال تجاهلتُه في بداية مناقشة فلسفة هيجل بشأن التاريخ، وهو: لماذا تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية؟ يبحث هذا السؤال عن إجابة. ينكر هيجل صراحةً — وقد يبدو على أي حال خارج نمط أفكاره ككلٍّ — أن يكون مسارُ التاريخ نوعًا من المصادفة السعيدة. ويؤكد هيجل أن ما يحدث في التاريخ يحدث بالضرورة. ماذا يعني هذا؟ كيف يمكن أن يكون حقيقيًّا؟ يجيب هيجل عن ذلك بقوله إن التاريخ ليس إلا تقدم الوعي بالحرية؛ لأن التاريخ هو تطور العقل. في كتاب «فلسفة التاريخ»، لم يشرع هيجل في شرح هذا المفهوم؛ لأنه كان قد نشر بالفعل مجلدًا كبيرًا وكثيفًا للغاية بغرض توضيح ضرورة تطور العقل على النحو الذي يتطور به بالفعل؛ ذلك المجلد هو كتاب «فينومينولوجيا العقل»، وأطلق عليه كارل ماركس «أصل وسر فلسفة هيجل الحقيقي». وقد كان آخرون، الذين أحبطهم الكتاب بصفحاته السبعمائة والخمسين من النثر المحير والملتوي، قانعين بترك الأسرار التي يحتويها هذا الكتاب أيًّا كانت كما هي دون أن تكون هناك محاولة لكشفها. ومع ذلك، لا يوجد أي حديث عن هيجل يمكن أن يتغاضى عنه ويكون الأمر مقبولًا.
إذا كان الفينومينولوجيا هو علم يُعنى بدراسة الطريقة التي تبدو لنا عليها الأشياء؛ فإذن يمكننا أن نخمن أن «فينومينولوجيا العقل» ستكون دراسة الطريقة التي يبدو لنا عليها العقل. قد يكون مثل هذا التخمين صحيحًا، لكن هناك حيلة هيجلية نموذجية يجب إضافتها. عندما ندرس كيف يبدو لنا عقلنا، يمكننا فقط دراسة كيف يبدو لعقولنا. إذن ففينومينولوجيا العقل في حقيقة الأمر هي دراسة كيف يبدو العقل لذاته. وعلى ذلك، يتتبع كتاب هيجل «فينومينولوجيا العقل» أشكالًا مختلفة من الوعي، مستعرضًا كلًّا منها من الداخل — إذا جاز التعبير — وموضحًا كيف تطورت أشكالٌ أكثر تقييدًا من الوعي بالضرورة إلى أشكال أكثر ملاءمة. هيجل نفسه يصف مشروعه بأنه «عرض المعرفة بوصفها ظاهرة»؛ لأنه يرى أن تطور الوعي هو تطور نحو أشكال من الوعي يمكنها إدراك الواقع بصورة أكثر شمولًا حتى بلوغ الذروة بتحقيق «المعرفة المطلقة».
في مقدمة كتابه «فينومينولوجيا العقل»، يشرح هيجل السبب وراء إيمانه بأن من الضروري إجراء هذا النوع من الدراسة؛ فيبدأ بمشكلة المعرفة، حيث يقول هيجل إن الهدف من الفلسفة هو «المعرفة الحقيقية لواقع الأمور»، أو كما يصفه هو على نحو غامض بعض الشيء ﺑ «المطلق». ومع ذلك، أليس من الأفضل قبل أن نشرع في التعليق على «واقع الأمور»، أن نتوقف قليلًا لنفكر في المعرفة ذاتها؛ أي كيف نصل إلى معرفة الواقع؟ خلال مساعينا لاكتساب المعرفة، نحاول إدراك الواقع؛ ولذلك فالمعرفة — كما يقول هيجل — كثيرًا ما يتم تشبيهها بأداة ندرك من خلالها الحقيقة. فإذا كانت أداتنا معيبة، فقد ينتهي بنا الحال ونحن لا نملك سوى الخطأ.
لذا نبدأ بدراسة المعرفة؛ وعلى الفور نجد أننا محاصَرون بمخاوف تشككية. إذا كانت محاولة التعرف على الواقع مثلها مثل استخدام نوع ما من الأدوات لإدراك الواقع، فألَا يوجد خطر في أن استخدام أداتنا مع الواقع قد يغيِّره، ونتيجة لذلك ندرك شيئًا مختلفًا كثيرًا عن الواقع الخالص؟ (قارن ذلك بالطريقة التي يجد بها الفيزيائيون المعاصرون أنه من المستحيل تحديد سرعة الجسيمات دون الذرية وموقعها؛ نظرًا لأنه مهما كانت الأداة التي سيستخدمونها لمشاهدتها، فإنها ستتداخل معها أيضًا.) يقول هيجل إننا حتى وإن تخلينا عن استعارة «الأداة»، واعتبرنا المعرفة وسيلة أكثر سلبية نشاهد من خلالها الواقع، فإننا نظل نشاهد «الواقع من خلال الوسيلة»، لا الواقع ذاته.
إذا كانت الأداة أو الوسيلة التي ننظر من خلالها لها أثر مشوِّه، فإن إحدى طرق التعرف على الوضع الحقيقي للأمور هو اكتشاف طبيعة التشوه واستبعاد الاختلاف الذي تسبِّبه. فعلى سبيل المثال، إذا نظرتَ إلى عصًا نصفُها في الماء والنصف الآخر خارجها، فسيبدو الجزء الذي في الماء منثنيًا. فهل العصا منثنية حقًّا؟ يمكنني حساب هذا إذا كنتُ أعرف قانون الانكسار؛ ومن ثم حساب الاختلاف الذي يُحدِثه النظر إليها عبر المياه. وباستبعاد هذا الاختلاف، سوف أكتشف حقيقة شكل العصا. هل يمكننا أن نقوم بالمثل مع التأثير المشوِّه لأداة أو وسيلة المعرفة؛ ومن ثم يمكننا معرفة الواقع كما هو؟
لا، يقول هيجل، هذا الهروب من لغزنا ليس متاحًا لنا؛ فالمعرفة ليست كالمشاهدة. ففي حال المعرفة، ما الشيء الذي سيتم استبعاده؟ سيكون الأمر أشبه ليس باستبعاد الاختلاف الذي تسبِّبه المياه للشعاع الضوئي، وإنما استبعاد الشعاع الضوئي نفسه. فبدون المعرفة لم نكن لنعرف العصا قط. وهكذا يتركنا استبعاد فعل المعرفة دون أي معرفة.
إذن فأداتنا لا يمكنها أن تضمن لنا تقديم صورة لواقع خالص، ولا يمكننا أن نقترب من الواقع بتقدير حجم التشويش الذي تُسبِّبه أداتنا. أينبغي لنا إذن أن نعتنق الموقف التشككي القائل بأنه لا يوجد أي شيء يمكننا معرفته في الواقع؟ لكن مثل هذا التشكك — يقول هيجل — يدحض نفسه بنفسه. إذا كنا سنشكك في كل شيء، فلماذا لا نشكك في الادعاء بأننا لا يمكننا معرفة شيء؟ علاوة على ذلك، الحُجَّة التشككية التي كنا نتناولها لديها افتراضاتها المسبقة، التي تزعم معرفتها؛ فهي تبدأ بفكرة أن هناك هذا الشيء الذي يسمى الواقع، وأن المعرفة هي نوع من الأداة أو الوسيلة التي ندرك الواقع من خلالها. وبهذا، افترضتْ مسبقًا وجود تمييز بيننا وبين الواقع، أو المطلق. لكن أسوأ من ذلك هو أنها تسلِّم جدلًا بأن معرفتنا والواقع مقطوعان أحدهما عن الآخر، لكن في الوقت ذاته لا تزال تتعامل مع معرفتنا بوصفها شيئًا واقعيًّا؛ أي: جزءًا من الواقع. إذن فالتشكك لن يقوم بأيٍّ منهما.
أسَّس هيجل بدقة وجهة نظر محددة عن المعرفة، ثم برهن أنها تؤدي إلى حفرة لا يمكننا أن نهرب منها، ولا أن نبقى فيها. يقول هيجل الآن إنه يجب علينا أن نهجر جميع هذه «الأفكار والتعبيرات عديمة الجدوى» حول المعرفة بوصفها أداة أو وسيلة؛ حيث إنها جميعًا تفصل المعرفة عن الواقع في حقيقته.
طوال هذه المناقشة لا يوجد ذِكرٌ لأي فيلسوفٍ تبنَّى وجهة نظر بشأن المعرفة تُماثل وجهة النظر التي يقول هيجل الآن إنه يجب علينا رفضها. إلى حدٍّ ما، ينتقد هيجل افتراضات شائعة لدى فلاسفة المذهب التجريبي مثل لوك وباركلي وهيوم وكثير غيرهم. ومع ذلك، يبدو أنه قد كان من الواضح لجميع قرائه أن هدفه الرئيسي هو كانط. فكانط كان يحاول أن يبرهن أنه لا يمكننا أبدًا أن نرى الواقع في حقيقته؛ لأننا لا يمكننا سوى إدراك خبراتنا في إطار المكان والزمان والسببية. والمكان والزمان والسببية ليست جزءًا من الواقع، لكنها الأشكال الضرورية لإدراكه. وعليه لا يمكننا أبدًا أن نعرف الأشياء على حقيقتها بعيدًا عن معرفتنا.
يقول كانط إنه علينا أن نصبح على دراية بالأداة قبل أن نشرع في العمل الذي سنستخدمها فيه؛ لأنه إذا كانت الأداة لا تفي بالغرض، فستذهب كل معاناتنا أدراج الرياح … لكن استقصاء المعرفة لا يمكن أن يتم إلا من خلال فعل خاص بالمعرفة. إن استقصاء هذا الشيء المسمى أداة هو نفس الشيء كمعرفته. لكن التماس المعرفة قبل أن نعرف هو عبثية مماثلة لعبثية القرار الحكيم الذي اتخذه سكولاستيكس بعدم المغامرة بالنزول في المياه حتى يتعلم السباحة.
إن الدرس المستفاد من حماقة سكولاستيكس واضح؛ فلكي نتعلم السباحة يجب أن نقفز بجرأة في جدول المياه؛ ولاكتساب المعرفة بالواقع، يجب أن نقفز بجرأة في جدول الوعي الذي هو نقطة الانطلاق لكل ما نعرفه. إن المدخل الوحيد الممكن إلى المعرفة هو استقصاء الوعي من الداخل على النحو الذي تبدو عليه لذَّاتها؛ أي فينومينولوجيا العقل. لن نبدأ بشكوك معقدة، بل بشكل بسيط من الوعي يرى في نفسه معرفة حقيقية. ومع ذلك، سيثبت هذا الشكل البسيط من الوعي أنه دون المعرفة الحقيقية، وعليه سيتطور إلى شكل آخر من أشكال الوعي، الذي سيثبت بدوره أيضًا أنه غير كُفْء أو ملائم وسيتطور إلى شيء آخر، وهكذا ستستمر العملية حتى نصل إلى المعرفة الحقيقية.
يتتبع كتاب «فينومينولوجيا العقل» هذه العملية بالتفصيل؛ فيصفه هيجل بأنه: «التسلسل المفصل لعملية تدريب الوعي ذاته وتعليمه حتى مستوى العلم.» جزء من هذا التدريب والتعليم هو في حقيقة الأمر تطور الأفكار الذي طرأ على مرِّ التاريخ. وهكذا يكون كتاب هيجل هذا هو بدرجة ما استباقًا للمادة التي تناولها كتاب «فلسفة التاريخ». ومع ذلك، هذه المرة يتم التعامل مع الأحداث ذاتها بطريقة مختلفة؛ فهدف هيجل هو إبراز ضرورة عملية تطور الوعي. يقودنا كل شكل من أشكال الوعي، عندما يكشف أنه دون المعرفة الحقيقية، إلى ما يطلِق عليه هيجل «النفي المحدد». إنه ليس التشكك الفارغ الذي يدافع عنه الفلاسفة الذين ينتقدون أساليبنا العادية للمعرفة، فمثل هذا التشكك الفارغ لا يجعلنا نصل إلى شيء. أما النفي المحدد، على الجانب الآخر، فهو شيء ما في ذاته (تأمَّل إشارة السالب في علم الرياضيات؛ فإنها لا تنتج صفرًا وإنما رقمًا سالبًا محددًا). و«الشيء» الناتج عن اكتشاف أن شكلًا من أشكال الوعي غير كفءٍ هو في ذاته شكل جديد من أشكال الوعي، فهو وعي على دراية بالقصور الموجود في الشكل السابق للوعي ومجبر على تبنِّي نهج جديد للتغلب على ذلك القصور. ولذلك علينا الانتقال من شكل من أشكال الوعي إلى الذي يليه في سعيٍ حثيث خلف المعرفة الحقيقية.
إذن سيقدِّم كتاب «فينومينولوجيا العقل» إجابة عن السؤال الذي طُرح من قبلُ المتعلق بالسبب وراء أن تاريخ العالم ليس إلا تطور الوعي بفكرة الحرية، وأن ما يحدث في التاريخ يحدث بالضرورة. ومع ذلك، وعلى نحوٍ لا يُصدَّق، كانت الإجابة عن هذا السؤال المهم مجرد نتاج ثانوي للهدف الأساسي للعمل؛ ألَا وهو إثبات إمكانية المعرفة الحقيقية؛ ومن ثم العمل كأساس لغاية الفلسفة المتمثلة في تقديم «المعرفة الحقيقية لواقع الأمور» — كما يصيغها هيجل.
إن الهدف من العملية التي يتم تتبُّعها في كتاب «فينومينولوجيا العقل» هو المعرفة الحقيقية أو «المطلق». كيف سنعرف أننا توصَّلنا إليها؟ ألن تظلَّ هناك احتمالية وجود شكوك؟ يردُّ هيجل على هذا بالسلب؛ لأن «المحطة النهائية هي المرحلة التي لا تُعَدُّ المعرفة عندها مجبرةً على التطور إلى أبعد من ذلك …» بمعنًى آخر: حين كان الوعي في السابق مجبرًا على الإقرار بأن معرفته غير ملائمة، والسعي للتوصل إلى معرفة أكثر ملاءمة تتجاوزه — السعي لمعرفة «الشيء في ذاته» — فإنه في نهاية العملية لن يُعدَّ الواقع «شيئًا أبعد» غير معروف. سيتعرَّف الوعي على الواقع مباشرةً ويتَّحد معه. ولن يكون هناك أي شيء آخر لِيُحاولَ الوصول إليه، وسينتهي الإلزام بالسعي المتواصل وراء معرفة أكثر ملاءمة.
لقد حدَّد هيجل لنفسه مهمة استثنائية. من خلال البدء بنقد لاذع لرؤية كانط للمعرفة (وليس كانط فقط، بل جميع الفلاسفة الذين يبدءون بافتراض وجود انفصال بين الشخص الذي يعرِف والشيء المعروف؛ أي فعليًّا كل الفلاسفة بدايةً من أفلاطون) يشرع هيجل في تطوير منهج جديد. إن منهج هيجل هو تتبُّع تطور جميع أشكال الوعي حتى غايتها النهائية بالتوصل إلى المعرفة الحقيقية، التي يجب ألَّا تكون معرفة بظاهر الواقع وإنما بالواقع ذاته. دعونا نتعرف الآن على كيفية قيام هيجل بهذه المهمة.
معرفة بدون مفاهيم
يبدأ هيجل بأكثر أشكال الوعي بدائية، الذي يطلق عليه «اليقين على مستوى الخبرة الحسية» أو بإيجاز أكبر «اليقين الحسي». كان هيجل يفكر في شكل من أشكال الوعي لا يفعل شيئًا سوى إدراك ما يوجد أمامه في أي وقت. يسجل اليقين الحسي ببساطة البيانات التي يتلقاها من الحواس. إنها المعرفة بالشيء المحدد الظاهر لحواسنا. لا يقوم اليقين الحسي بأي محاولة لترتيب المعلومات الأولية التي جمعتْها الحواس أو تصنيفها. إذن عندما يكون أمام هذا الشكل من أشكال الوعي ما يمكن أن نصفه بحبة طماطم ناضجة، لا يمكنه وصف خبرته بأنها حبة طماطم؛ لأنه بهذه الطريقة سيكون قد قام بتصنيف ما يراه. حتى إنه لن يستطيع أن يصف الخبرة بأنها رؤية شيء ما مستدير وأحمر اللون؛ لأن هذه المصطلحات أيضًا تستلزم شكلًا ما من أشكال التصنيف. فاليقين الحسي على وعي بما أمامه الآن فقط؛ أو كما يقول هيجل، هو اليقين باﻟ «هذا»، أو باﻟ «هنا» و«الآن».
يبدو أن اليقين الحسي لديه زعم قوي بأنه المعرفة الحقيقية؛ لأنه على وعي مباشر باﻟ «هذا»، دون أن يفرض عليه المرشحات المشوِّهة ذات النظام المفاهيمي، بما في ذلك المكان أو الزمان أو أي فئات أخرى. إن اليقين الحسي هو وعيٌ بسيط بالشيء كما هو بالضبط. ومع ذلك — كما يوضح هيجل — فإن الزعم بأن اليقين الحسي هو المعرفة لا يصمد أمام المزيد من الاستقصاء؛ ففور محاولة اليقين الحسي أن ينطق بمعرفته، يصبح غير مترابط. ما هو اﻟ «هذا»؟ يمكن تقسيمه إلى اﻟ «هنا» و«الآن»، لكن هذه المصطلحات لا يمكن أن توصل الحقيقة. فإذا ما سئلنا، في وقت متأخر من الليل، ما هو «الآن»؟ يمكن أن نجيب: «الآن وقت الليل.» لنفترض أننا كتبنا ذلك، والحقيقة — كما يقول هيجل — لا يمكنها أن تفقد أي شيء عند كتابتها ولا عند حفظها. وهكذا في اليوم التالي عند وقت الظهيرة، نُخرج الحقيقة التي قد قمنا بكتابتها لنكتشف — كما يقول هيجل — «أنها أصبحتْ قديمة.» وبالمثل، أقول: «هنا شجرة.» لكن يمكن ليقينٍ حسي آخر ببساطة أن يقول أيضًا: «هنا منزل.»
يبدو أن حُجَّة هيجل تستند إلى سوء فهم شديد للغة المستخدمة لنقل معرفة اليقين الحسي. بالطبع من الممكن إعادة التعبير عن معرفة اليقين الحسي بطريقة محصنة ضد مثل هذه الخُدَع عديمة القيمة، أليس كذلك؟ إلَّا أن الخُدْعة لا يمكن تجنُّبها بسهولة كما يمكن أن نتخيل. من وجهة نظر اليقين الحسي، لا يمكن قول — على سبيل المثال: «في منتصف الليل يكون الليل»، أو: «هناك شجرة في المتنزه.» هذه التعبيرات تفترض مقدمًا وجود ترتيب عام للأشياء، بما في ذلك مفاهيمنا عن الزمان والمكان.
كيف يمكن إذن التعبير عن معرفة اليقين الذاتي؟ ما يقصده هيجل هو أنه لا يمكن التعبير عنها باستخدام اللغة نهائيًّا؛ لأن اليقين الحسي هو معرفة الشيء المحدد الخالص، أما اللغة فدائمًا ما تتضمَّن وضع شيء ما تحت مسمًّى أكثر عمومية أو كونية. «الطماطم» مصطلح عام يميز فئة كاملة من الأشياء، وليس شيئًا محددًا مفردًا، وينطبق هذا على أي مصطلح آخر. إن الغرض من هجوم هيجل على مصداقية «الآن وقت الليل» هو إثبات أن استخدام مصطلحات مثل «الآن» و«هنا» و«هذا» ليست طريقة للتعبير عن معرفة بشيء محدد خالص. هذه المصطلحات أيضًا كونية؛ فهناك أكثر من واحدة من «الآن» أو «هنا». إذن فقد عَلِق اليقين الحسي، خلال مسعاه للتعبير عن معرفته بشأن الشيء المحدد الخالص، بحتمية المصطلح الكوني.
يؤمن هيجل بأنه قد أثبتَ استحالة المعرفة دون مفاهيم كونية. لكنْ هناك نقطتان لدحض حُجَّته يجدر ذكرهما بإيجاز. تشير النقطة الأولى إلى استثناء واضح لقاعدة أن كل مصطلح يميز مجموعة من الأشياء وليس شيئًا محددًا؛ ألَا وهو أسماء الأعلام. فالأسماء «جون دي روكفيلر» و«روزا لوكسمبورج» و«دار أوبرا سيدني» وغيرها من أسماء الأعلام، تميز أشياء محددة. أليس من الممكن أن يصف اليقين الحسي خبرته عن طريق منح كل «هذا» اسمَ عَلَم؟
يتجاهل هيجل في كتاب «فينومينولوجيا العقل» حقيقة أن أسماء الأعلام هي استثناء لوجهة نظره بشأن اللغة، لكن يمكننا إعطاء تخمين عادل للرد الذي كان سيقدِّمه؛ ففي كتابه «علم المنطق»، أكد هيجل أن أسماء الأعلام خالية من المعنى، على وجه التحديد لأنها تفتقر إلى الإشارة إلى أي شيء أبعد من الاسم ذاته؛ أيْ إلى أي شيء كوني. يمكننا أن نتخيل هيجل يقول إن التعبير عن المعرفة المحددة لليقين الحسي باستخدام أسماء الأعلام هو مجرد وضْع لمُسمَّيات خالية من المعنى لكل «هذا» كان الشخص على وعي به. وتلك المسميات لن تعكس أيَّ شيء.
هذا يقودنا للنقطة الثانية لدحض حُجَّته، التي تُسلِّم بأن معرفة اليقين الحسي قد يستحيل صياغتها باستخدام اللغة ونقلها للآخرين، لكنها تؤكد على الرغم من ذلك أنها معرفة. لماذا ينبغي علينا افتراض أن جميع المعارف يمكن أن يُعبَّر عنها عن طريق الكلمات؟ كثيرًا ما أكَّد المتصوِّفون استحالة صياغة حقائق الخبرات الروحانية في كلمات، مع أنها أعمق الحقائق على الإطلاق. «لا يمكن أن تفقد الحقيقة أي شيء عند كتابتها.» هكذا قال هيجل، لكن ربما كان هذا الزعم البسيط هو الخطوة الأولى على طريق البُعد عن الحقيقة. ألم يكن علينا أن نوقف هيجل ها هنا، ونصرُّ على صحة القول بأن المعرفة نقية للغاية ولا يمكن صياغتها في كلمات؟
يجب أن يردَّ هيجل على هذه النقطة؛ لأنها تهدِّد جوهر مشروعه. هو لا ينكر أن هناك شيئًا ما لا يمكن الوصول إليه باستخدام اللغة، لكنه يؤكد أن هذا «ليس إلَّا شيئًا غير حقيقي وغير عقلاني، شيئًا يُعتقد فيه بالكاد وببساطة.» قد أظن تمامًا أنني أعرف ما أقصد، حتى لو لم أستطِع أن أصيغه في كلمات، لكن في الحقيقية هذه ليست معرفة، بل هي رأي ذاتي وشخصي محض. والرأي ليس معرفة، ولا يصبح معرفةً إلا عندما يتم الإفصاح عنه.
يمكننا الآن النظر لتحليلنا للزعم القائل بأن هذا الشكل البدائي من أشكال الوعي يمثل المعرفة الحقيقية. حاولنا تحديد نوع المعرفة التي يمكن امتلاكها باستخدام وعي لا يفعل شيئًا سوى إدراك الشيء الذي أمامه في أي وقت. لكن المحاولة باءت بالفشل؛ لأن الحقائق التي توصَّل إليها هذا الشكل من أشكال الوعي ثَبتَ أنها إما أكاذيب واضحة أو شيء شخصي محض لا يمكن التعبير عنه مطلقًا. في كلتا الحالتين لا يمكن قبول هذه الحقائق المزعومة على أنها معرفة.
وهكذا برهن اليقين الحسي أنه غير كفء. تحققت النتيجة من الداخل، كما وعدنا هيجل في مقدمته؛ أي كل ما لزم لإظهار عدم كفاءة اليقين الحسي هو أخذ مزاعمه على عواهنها ومحاولة جعلها أكثر دقة. لم يستسلم اليقين الحسي إلى شكل منافس من أشكال الوعي، بل انهار نتيجة عدم ترابطه الذاتي. في الوقت نفسه، ومرة أخرى كما وعدنا هيجل في المقدمة، لم تكن هذه النتيجة مجرد نتيجة سلبية؛ فقد قادتْنا إلى إدراك استحالة معرفة الأشياء المحددة الخالصة، ومِن ثَمَّ ضرورة وضع الخبرات الحسية المحددة في شكل من أشكال النظم المفاهيمية بحيث يصنف ما نختبره وفقًا لجانب كوني، وهكذا يصبح من الممكن نقل خبرتنا عبر اللغة. إذا كنا نسعى للتوصل إلى المعرفة، فلا يمكننا أن نختبر الأشياء على نحو سلبي، بل يجب أن نسمح لعقولنا بأن تضطلع بدور أكثر فاعلية في ترتيب المعلومات التي نتلقاها من حواسنا. وهكذا فإن الشكل التالي من أشكال الوعي الذي يتناوله هيجل هو شكل يحاول من خلاله الوعي بفاعلية أن يُنشئ نوعًا من الوحدة والترابط من البيانات الأولية التي يتلقاها عبر تجربته الحسية.
ظهور الوعي الذاتي
انطلاقًا من شكل الوعي الأوَّلي الذي ناقشناه في الجزء السابق، يتتبع هيجل تطور الوعي عبر مرحلتين لاحقتين يطلق عليهما «الإدراك» و«الفهم». وفي كل مرحلة منهما يضطلع الوعي بدور أكثر فاعلية مما كان عليه في المرحلة السابقة. ففي مرحلة الإدراك، يصنف الوعي الأشياء وفقًا لخصائصها الكونية، لكن هذا يثبت عدم كفاءته؛ لذا في مرحلة الفهم يفرض الوعي قوانينه الخاصة على الواقع. إن القوانين التي كان يقصدها هيجل هي قوانين نيوتن الفيزيائية، والرؤية التي تشكَّلت بشأن الكون بناءً عليها. وعلى الرغم من أن هذه القوانين تُعتبر بصورة عامة جزءًا من الواقع الذي اكتشفه نيوتن وغيره من العلماء، فإن هيجل يرى أنها لا تتعدى كونها امتدادًا للتصنيف الذي يقوم به الوعي للبيانات الأولية التي يتلقاها عبر تجربته الحسية. وكما أن وضع هذه البيانات في فئات كونية خاصة باللغة جعل من الممكن نقلها، فإن قوانين الفيزياء هي طريقة لجعل البيانات أكثر ترابطًا ويمكن التنبؤ بها. إن المفاهيم المستخدمة في هذه العملية — مفاهيم مثل «الجاذبية» و«القوة» — ليست أشياء نراها موجودة في الواقع، لكنها مفاهيم شكَّلها فهْمُنا لمساعدتنا على إدراك الواقع.
لا يرى الوعي في مرحلة الفهم هذه المفاهيم كما هي في حقيقتها، بل يعتبرها أشياء موجودة لفهمها. يمكننا نحن، الذين نتتبع عملية تطور الوعي، أن نرى أن الوعي في الحقيقة يحاول فهم ما صنعه بنفسه. فقد وصل الوعي إلى مرحلة يمكنه فيها تأمل ذاته. إنه الوعي الذاتي الكامن. بهذا الاستنتاج يختتم هيجل الجزء الأول من كتاب «فينومينولوجيا العقل» (الجزء المعنون «الوعي»). في الجزء التالي، تحت العنوان العام «الوعي الذاتي»، يتخلَّى هيجل عن الاستقصاء المباشر لمشكلة المعرفة التي كانت محور الجزء الأول، ويحول تركيزه إلى تطور الوعي الذاتي الكامن إلى الوعي الذاتي الجلي تمامًا (يظل هذا بالطبع جزءًا من تطور العقل نحو مرحلة المعرفة المطلقة).
العقل الراغب
إن مفهوم هيجل عن الوعي الذاتي مهم؛ وقد أثَّر بطرق مختلفة على كلٍّ من المفكرين الماركسيين والوجوديين. يؤكد هيجل أن الوعي الذاتي لا يمكن أن يوجد بشكل منفصل؛ فلتكوين صورة صحيحة عن ذاته، يحتاج الوعي بعض التبايُن. يتطلب الوعي شيئًا يستطيع أن يميز نفسه عنه. فلا يمكنني أن أصبح على وعي بذاتي إلا إذا كنت على وعي بشيء ما ليس ذاتيًّا. فالوعي الذاتي ليس مجرد وعي يتأمل ذاته.
على الرغم من أن الوعي الذاتي يحتاج إلى شيء خارج ذاته، فإن هذا الشيء الخارجي هو أيضًا شيء غريب عنه ومناقض له. إذن يوجد علاقة حب وكراهية مميزة بين الوعي الذاتي والشيء الخارجي. تظهر هذه العلاقة، في أفضل تقاليد علاقات الحب والكراهية، في شكل رغبة. فالرغبة في شيء هي أن تتمنى امتلاكه، وهكذا لن تدمره بالكلية، لكن أيضًا أن تحوِّله إلى شيء خاص بك، وهكذا تتخلص من كونه غريبًا عنك.
إن تقديم هذا المفهوم عن الرغبة يشير إلى تحوُّلٍ في اهتمام هيجل من المشاكل النظرية المتعلقة باكتشاف الحقيقة إلى المشاكل العملية المتعلقة بتغيير العالم. لدينا هنا تنبؤ بفكرة «وحدة النظرية والممارسة» التي يوليها الماركسيون اهتمامًا عظيمًا. لا يتم التوصل للحقيقة عن طريق التأمل وحده، وإنما عن طريق التأثير في العالم وتغييره. يحمل شاهد القبر الخاص بماركس كلماتٍ من أطروحته الحادية عشرة الشهيرة حول فويرباخ: «لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بعدة طرق، إلا أن تغييره هو الأهم.» كان ماركس بالتأكيد يفكر في هيجل كأحد «الفلاسفة»، ولا شك أن ماركس تمنَّى تغيير العالم بصورة جذرية أكثر من هيجل؛ ومع ذلك، كان من الممكن أن يشير هيجل إلى أن الفكرة الضمنية التي تحملها كلمات ماركس يمكن العثور عليها في كتاب «فينومينولوجيا العقل»؛ وذلك عندما يكتشف الكائن الواعي بذاته أنه لكي يكون لديه إدراك تام لذاته، عليه أن يشرع في تغيير العالم الخارجي، وأن يجعله ملكه.
تظهر الرغبة كتعبير عن حقيقة أن الوعي الذاتي في حاجة لشيء خارجي؛ ومع ذلك يجد نفسه مقيدًا بأي شيء خارج ذاته. لكن الرغبة في شيء تعني عدم الرضا؛ لذا فالرغبة — بتلاعُبٍ هيجليٍّ نموذجيٍّ بالألفاظ — هي حالة عدم رضًا لدى الوعي الذاتي. والأدهى من ذلك، يبدو أن الوعي الذاتي مقدَّرًا له أن يظلَّ غير راضٍ إلى الأبد، فإذا ما تم التخلص من الشيء المرغوب فيه كشيء مستقل، فسيكون الوعي قد دمَّر الشيء الذي يحتاجه لوجوده.
إن الحل الذي يقدِّمه هيجل لهذا المأزق هو تحويل ذلك الشيء إلى وعي ذاتي آخر. وبهذه الطريقة سيكون لدى كل كائن واعٍ بذاته شيء آخر يمكنه مقارنة نفسه به، لكن يتضح أن «الشيء» الآخر ليس مجرد شيء بسيط يجب تملُّكه، ونتيجة لذلك «نفيه» بوصفه شيئًا خارجيًّا، بل هو وعي ذاتي آخر يمكنه امتلاك ذاته؛ ومن ثم يمكنه التخلص من ذاته كشيء خارجي.
إذا كان هذا الكلام يبدو مبهمًا، فلا تقلق، فالكلام أكثر إبهامًا في نص هيجل. يُبرز إيفان سول — أحد المعلقين — «الغموض المفرط» في حجة هيجل في هذه النقطة. كما يتناول معلق آخر، وهو ريتشارد نورمان، هذا الجزء بإيجاز، قائلًا: «نظرًا لأنني أجد أجزاءً كبيرة منه غير مفهومة، فسأتحدث بإيجاز عنه.» إن النقطة المحورية عند هيجل هي أن الوعي الذاتي يتطلب وعيًا ذاتيًّا آخر، وليس مجرد أي شيء خارجي. إحدى الطرق التي يمكن أن نشرح بها هذه النقطة هي القول بأنه لِيَرى المرءُ ذاتَه، يحتاج إلى مرآة. ليكون المرء على وعي بذاته ككائن واعٍ بذاته، يحتاج المرء أن يكون قادرًا على مشاهدة كائن آخر واعٍ بذاته ليرى كيف يبدو الوعي الذاتي. وهناك طريقة بديلة لشرح هذه النقطة؛ وهي أنه لا يمكن للوعي الذاتي أن يتطور إلا في سياق تفاعل اجتماعي. فالطفل الذي ينشأ في عزلة تامة عن جميع الكائنات الأخرى التي لديها وعي بذاتها، لن يتطور ذهنيًّا لأبعد من مجرد مستوى الوعي؛ نظرًا لأن الوعي الذاتي ينمو من خلال الحياة الاجتماعية. كلٌّ من طريقتَيِ الشرح هاتين مقبولتان، لكن للأسف، من الصعب ربط أيٍّ منهما بالكلمات التي يستخدمها هيجل؛ ومع ذلك، قد تشبه إحداهما أو كلتاهما ما كان يجول في خاطر هيجل.
السيد والعبد
إذا كان هذا المفهوم للحاجة للإقرار والاعتراف به لا يزال غامضًا، فتأمل التشبيه الخاص بدولة تحصل على الاعتراف الدبلوماسي بها. فأهمية الاعتراف الدبلوماسي للدول تتضح من خلال الجهود التي تبذلها بعض الدول، مثل الصين، للحصول عليه، وأيضًا من خلال الجهود التي تبذلها دول أخرى حتى تحرمها من الحصول عليه. وحتى تحصل الدولة على اعتراف الدول الأخرى بها، لا تكون دولة كاملة الحقوق. إن الاعتراف الدبلوماسي مهمٌّ؛ لكونه من جهة لا يقوم ظاهريًّا إلا بالاعتراف بشيء موجود بالفعل، ومع ذلك من جهة أخرى يجعل شيئًا ما أقلَّ من دولةٍ يصبح دولةً كاملة. الأهمية نفسها يتسم بها مفهوم هيجل عن الاعتراف بالذات.
إن الحاجة للاعتراف متبادَلة. إذن قد يتصور المرء أن الناس يمكنهم الاعتراف بعضهم ببعض بسلام وينتهي الأمر. بدلًا من ذلك، يخبرنا هيجل أن الوعي الذاتي يسعى ليصبح خالصًا، وليحقق هذا المسعى يجب عليه إثبات أنه غير متعلق بأشياء مادية. وفي الحقيقة، يتعلق الوعي الذاتي بالأشياء المادية على نحو مزدوج؛ فهو متعلق بجسده الحي وبالجسد الحي للشخص الآخر الذي يتطلب منه الإقرار بوجوده. إن طريقة إثبات أن الوعي الذاتي غير متعلق بأيٍّ من هذين الشيئين الماديين هي خوض صراع حياة أو موت ضد الشخص الآخر. فالسعي لقتل الآخر يثبت أنه لا يعتمد على جسد الآخر، ومخاطرة الشخص بحياته تثبت أنه غير متعلق بجسده الشخصي أيضًا. إذن تكون العلاقة الأولية بين الفردين ليست مجرد اعتراف متبادَل وسلمي، بل صراع.
من الصعب معرفة ما يمكن أن نستشفَّه من هذا. يبدو أن هيجل يخبرنا بأن الصراع العنيف ليس حدثًا عارضًا في العلاقات الإنسانية، بل هو عنصر ضروري في عملية إثبات المرء لذاته. مع ذلك، هل من الممكن أنه يقصد حقًّا أن الأشخاص الذين لم يخاطروا بحياتهم ليسوا أشخاصًا بحق، أو على نحو كامل؟ ربما يكون من الأفضل — وبالتأكيد أكثر تلطفًا — اعتبار عملية «الإثبات» مجرد عملية للإعلان عن شيء موجود بالفعل (على سبيل المثال، عندما نقوم بإثبات نظرية ما، فإن إثباتنا لا يحولها إلى حقيقة، بل يثبت أنها كانت حقيقية طوال الوقت). وفقًا لهذا التأويل، يمكن لشخص ما لم يخاطر بحياته أبدًا أن يظل شخصًا، على الرغم من أن وجوده بوصفه شخصًا لم يثبت. وعلى نحو أكثر تلطفًا، قد يمكننا تفسير قول هيجل بأنه يعتقد فقط أنه من الضروري في مرحلة ما أن يخاطر بعض الأشخاص بحياتهم لإثبات استقلاليتهم عن أجسادهم، ولا داعِيَ لتكرار هذا الإثبات مع كل شخص.
وبالعودة إلى الصراع، كانت الفكرة الأصلية هي أن كل فرد كان عازمًا على قتل الآخر؛ ومع ذلك، فإن تأمل الفكرة للحظة يُظهر أن هذه النتيجة لا تناسب أي شخص؛ لا الشخص المهزوم الذي سيكون ميتًا، ولا المنتصر الذي سيكون قد دمَّر مصدر الاعتراف به الذي يحتاجه لتأكيد إحساسه بذاته بوصفه شخصًا. وهكذا يدرك الشخص المنتصر أن الشخص الآخر مهم لوجوده؛ ولذا يُبقي على حياته، إلا أن المساواة الأصيلة بين شخصين مستقلين حل محلها وضع غير متساوٍ يكون فيه المنتصر مستقلًّا والخاسر تابعًا؛ يكون الأولُ السيدَ والثاني العبدَ.
بهذه الطريقة يفسر هيجل الانقسام بين الحاكم والمحكوم. ومن جديد — مع ذلك — فإن هذا الوضع غير مستقر. والسبب الذي يبديه هيجل وراء عدم استقراره هو سبب مبتكر على نحو مدهش.
للوهلة الأولى يبدو أن السيد لديه كل شيء؛ فهو يرسل العبد للعمل في العالم المادي ويستلقي للاستمتاع بخنوع العبد وثمار عمل العبد. لكن تأمَّلِ الآن حاجة السيد إلى الاعتراف به. بالطبع يحظى السيد باعتراف العبد به، لكن العبد في نظر السيد ما هو إلا شيء، وليس وعيًا مستقلًّا على الإطلاق. ففي نهاية المطاف لا يمنحه السيد الاعتراف الذي يطلبه.
كذلك وضعُ العبد ليس كما بدا للوهلة الأولى. بالطبع يفتقر العبد إلى اعتراف كافٍ به، فهو مجرد شيء في نظر السيد. من ناحية أخرى، يعمل العبد في العالم الخارجي. وعلى عكس سيده، الذي يحقِّق شعورًا مؤقتًا بالرضا ناتجًا عن الاستهلاك، يشكِّل العبد الأشياء المادية التي يعمل عليها ويصنعها؛ وبهذا يحوِّل أفكاره الشخصية إلى شيء دائم، وخارجي (فعلى سبيل المثال، إذا ما صنع العبد من لوح خشب كرسيًّا، يبقى تصوره عن الكرسي وتصميمه والجهد الذي بذله في صنعه جزءًا من العالم). ومن خلال هذه العملية يصبح العبد أكثر دراية بوعيه الشخصي؛ نظرًا لأنه يراه أمامه كشيء ملموس. عند العمل، حتى وإن كان العمل تحت إمرة عقل عدائي آخر، يكتشف العبد أن لديه عقلًا خاصًّا به.
بعد مرور ما يقرب من أربعين عامًا، طوَّر كارل ماركس مفهومه عن «العمل المغترب». اعتبر ماركس — مثله مثل هيجل — أن العمل هو عملية يضع بها العامل أفكاره ومجهوداته الشخصية — في الواقع أفضل ما لديه — في الشيء الذي يعمل عليه. وهكذا يجسِّد العامل ذاته، أو يشخِّصها. ثم أثبت ماركس إلى حدٍّ كبير نقطة ضمنية فيما يقوله هيجل: لو أن الشيء الناتج عن العمل هو ملك لآخر، وبخاصة شخص آخر غريب وعدائي، لفقد العامل ذاته المجسَّدة. هذا ما يحدث لعمل العبد، لكنه يحدث أيضًا، كما يصر ماركس، في ظل الرأسمالية. فالكرسي أو الحذاء أو الأقمشة أو غيرها من الأشياء التي قد أنتجها العامل تخص صاحب رأس المال. وهي تُمَكِّن الشخص الرأسمالي من التربح؛ ومن ثم زيادة رأس ماله وتعزيز هيمنته على العمال. إذن فالعامل لم يفقد ذاته المجسدة فحسب، بل تحوَّلتْ إلى قوة عدائية تستبدُّ به. هذا هو العمل المغترب، الفكرة الرئيسية لكتابات ماركس الأولى، ومقدمة مفهوم فائض القيمة الذي كان الأساس الذي استند إليه النقد الماركسي للنظم الاقتصادية الرأسمالية.
الفلسفة والدين
يرى ماركس أن حل مشكلة العمل المغترب هذه كان إلغاء الملكية الخاصة وتقسيم البشر إلى حكَّام ومحكومين. أما هيجل، على الجانب الآخر، فكان يرى نفسه يتبع مسارًا سبق أن سلكه الوعي بالفعل. لذا لم يكن هناك إمكانية للقفز في هذه المرحلة نحو مجتمع مستقبلي ما بلا طبقات. في واقع الأمر، في هذه المرحلة بالضبط أصبح كتاب «فينومينولوجيا العقل» تاريخيًّا بصورة أكبر، مقتربًا من المادة التي تناولها هيجل لاحقًا على نحو أكثر تحديدًا في كتابه «فلسفة التاريخ». إن الجزء الخاص بالسيد والعبد تليه مناقشة حول «الرواقية»، وهو مذهب فلسفي أصبح ذا أهمية في ظل الإمبراطورية الرومانية، ومن أبرز كُتَّابه ماركوس أوريليوس الإمبراطور، وإبيكتيتوس العبد. إذن الرواقية ترأب الصدع بين السيد والعبد؛ ففي الرواقية، يمكن أن يجد العبد المقموع، الذي وصل إلى وعي ذاتي كامل من خلال عمله، نوعًا من الحرية. فمن تعاليم الرواقية أن ينسحب الشخص من العالم الخارجي — حيث يبقى العبد عبدًا — ويختلي بذاته. كذلك يقول هيجل: «عندما أفكر فأنا حر؛ لأنني لست متصلًا بآخر، لكن أبقى ببساطة على اتصال بذاتي فحسب؛ والشيء الذي أرى أنه واقعي الحقيقي هو … وجودي الشخصي.» ثم يقول من جديد: «إن جوهر هذا الوعي هو أن تصبح حرًّا؛ سواء أكنت معتليًا العرش أم مقرَّنًا في الأصفاد …» يظل الرواقي المقرَّن في الأصفاد حرًّا؛ لأنه لا يُلقي للأصفاد بالًا؛ فهو يحرر نفسه من جسده ويلوذ بعقله؛ حيث لا يمكن أن يمسه أي طاغية.
إن نقطة الضعف الموجودة في مذهب الرواقية هي أن الفكرة — مجردة عن العالم الواقعي — تفتقر إلى أي مضمون محدد. وأفكاره التنويرية خالية من الجوهر، وسرعان ما تصبح مملَّة. ثم يلي الرواقية اتجاه فلسفي آخر، هو التشككية. ومن التشككية نتقدم إلى ما يطلق عليه هيجل «الوعي الشقي»، وهو مفهوم سأتطرق إليه بإيجاز نظرًا لأهميته لدى بعض مَن أتَوْا بعد هيجل.
من الواضح أن «الوعي الشقي» هو شكل من أشكال الوعي وُجد في ظل المسيحية، ويشير إليه هيجل أيضًا باسم «الروح المغتربة»، الذي يقدِّم فكرة أفضل عما يجول في خاطر هيجل في هذا الشأن. في الروح المغتربة، تتركز ثنائية السيد والعبد في وعيٍ واحد، إلا أن العنصرين لا يتوحدان؛ فالوعي الشقي يتطلع إلى الاستقلال عن العالم المادي، والتشبه بالإله، والخلود والروحانية الخالصة، إلا أنه في الوقت ذاته يقرُّ بأنه جزء من العالم المادي، وأن رغباته المادية وآلامه وملذاته حقيقية ولا مفر منها. نتيجةً لذلك ينقسم الوعي الشقي على نفسه. ينبغي أن يكون هذا المفهوم مألوفًا من خلال موقف هيجل تجاه نظرية كانط عن الأخلاق، الذي تناولناه في الفصل السابق؛ وفي هذه النقطة، كان هيجل يقصد المسيحية وليس كانط. تذكَّر قول القديس بولس الرسول: «فأنا لا أعمل الصلاح الذي أريده؛ وإنما الشر الذي لا أريده فإياه أمارس.» وتضرع القديس أوجستين: «امنحني العفة والطهارة، لكن ليس الآن.»
إن ما يقصده هيجل هو أي ديانة تقسم الطبيعة البشرية على نفسها، وأكد أن هذا هو نتيجة أي ديانة تفصل الإنسان عن الإله، بوضع الإله في «عالم بعيد» خارج عالم البشر. إن مفهومه هذا عن الإله هو في الحقيقة يصوِّر أحد جوانب الطبيعة البشرية. ما لا يدركه الوعي الشقي هو أن الصفات الروحية التي يقدِّسها في الإله هي في حقيقة الأمر صفات يتمتع بها هو ذاته. وهذا هو المقصود بأن الوعي الشقي هو روح مغتربة؛ فقد تجلَّت طبيعته الحقيقية في مكان سيظل بعيدًا عنه إلى الأبد، مكان يجعل العالم الواقعي الذي يعيش فيه يبدو بائسًا وعديم الأهمية مقارنةً به.
مَن يقرأ تناوُل هيجل لمفهوم الوعي الشقي بمعزل عن كتاباته الأخرى، قد يحسبه يهاجم جميع الديانات، أو على الأقل الديانتَيْن اليهودية والمسيحية وغيرهما من الديانات التي تستند إلى مفهوم أن الإله كائن منفصل عن عالم البشر. يبدو أن هيجل ينكر وجود أي إله بهذا الشكل، ويفسر إيماننا بالإله كتجلٍّ لصفاتنا الأساسية. ولم ينجُ من هجومه سوى مذهب وحدة الوجود، أو مذهب إنساني يقدس الجنس البشري. ومع ذلك، كان هيجل — كما رأينا — عضوًا في الكنيسة اللوثرية، وتناول المسيحية البروتستانتية على نحو إيجابي في كثير من كتاباته الأخرى، بما فيها كتاب «فلسفة التاريخ»، بل وفي جزء لاحق من كتاب «فينومينولوجيا العقل» نفسه. هل وازن هيجل في كتاباته اللاحقة وفي تصرفاته الشخصية آراءه المتطرفة بشأن الدين، كما فعل فيما يتعلق بآرائه المتطرفة بشأن الدولة؟ بعد وفاة هيجل، قام مجموعة من الشباب المتطرف بتبنِّي وجهة النظر هذه من فلسفة هيجل، وظنوا أنهم يتبعون الجوهر الحقيقي والسليم لفكرته، وأولَوا اهتمامًا خاصًّا لمناقشته للوعي الشقي. وسوف نتعرض لهذا في الفصل الأخير من هذا الكتاب.
غاية العقل
سوف نتغاضى الآن عن جزء ضخم من كتاب «فينومينولوجيا العقل». بعض الأجزاء التي تغاضينا عنها مملة ومبهمة، والبعض الآخر على نفس القدر تقريبًا من أهمية وتأثير الأجزاء التي قد تناولناها. وفي بعض الأحيان تكون الموضوعات هي بالضبط ما قد يتوقع المرء أن يجده في عمل فلسفي؛ فهناك مناقشات بشأن الأفكار الميتافيزيقية لكلٍّ من فيخته وكانط، وهناك نقد لمذهب المتعة، أو السعي وراء اللذة، وهناك مناقشة لنظرية كانط عن الأخلاق؛ حيث يبدي اعتراضات مشابهة للاعتراضات التي تناولناها بالفعل عند مناقشة كتاب «فلسفة الحق». كذلك يتناول العاطفية الأخلاقية التي انتشرت في عصره من خلال الحركة الرومانسية بتحليل نقدي.
أما الموضوعات الأخرى فهي فريدة من نوعها؛ فهناك — على سبيل المثال — جزء طويل عن علم الفِراسة وعلم فِراسة الدماغ، وهما من العلوم الزائفة التي تستند إلى فكرة أن المرء يستطيع أن يتعرف على شخصية الشخص — في حالة علم الفراسة — مِن شكل الوجه، أو — وفقًا لعلم فراسة الدماغ — من نتوءات الجمجمة. يعارض هيجل هذه الأفكار، ليس لأنه يمتلك دليلًا على عدم دقتها، وليس لأي سبب دنيوي آخر، لكن نتيجة للحُجة الفلسفية التي تقضي بأنه يجب ألا يربط العقل بأي شيء مادي مثل الوجه والجمجمة.
هناك جزء آخر فريد، وهو تحليل لمجتمع قائم على النظرية الاقتصادية لآدم سميث ومدرسته التي تقوم على مبدأ «عدم التدخل»، التي تقول بأن كل شخص يعمل ليجمع ثروة لنفسه لكنه في الحقيقة يسهم بعمله في تحقيق الرخاء للجميع. يكمن اعتراض هيجل هنا — وهي نقطة تبناها لاحقًا كلٌّ من النقاد الماركسيين وغير الماركسيين للاقتصاد الحر وأولَوْها اهتمامًا كبيرًا — في أنه نتيجة لتشجيع الأفراد على السعي وراء مصالحهم الشخصية، يؤدِّي هذا النظام الاقتصادي إلى حرمان الأفراد من اعتبار أنفسهم جزءًا من مجتمع أكبر.
إن هذه الموضوعات المتنوعة، بالإضافة إلى كثير من الموضوعات الأخرى، تمتزج بعضها مع بعض لتشكِّل تصور هيجل عن المسار الذي يجب أن يسلكه العقل كي يصل إلى المعرفة المطلقة. وقد رأينا كيف أكَّد أنه لا يمكن وجود معرفة كافية دون عقل واعٍ بذاته، وكيف تطور الوعي الذاتي من خلال التأثير في العالم وتغييره. انطلاقًا من هذا، يرى هيجل التاريخ البشري بأكمله كعملية لتطور العقل. إن العصور التاريخية، مثل أيام اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية وعصر التنوير والثورة الفرنسية، جميعها لها الدلالة نفسها، كما في كتاب «فلسفة التاريخ»؛ فهي مراحل في عملية تقدم العقل نحو الحرية. وهكذا الحال بالنسبة للكثير من عناصر المجتمع العضوي التي وصفها هيجل في كتاب «فلسفة الحق». ورغم أوجه التشابه الكبيرة هذه، فإن هناك بعض الاختلافات بين طريقة هيجل في تناول هذه المادة في كتاب «فينومينولوجيا العقل» وطريقة تناوله لها لاحقًا في كتابيه «فلسفة التاريخ» و«فلسفة الحق». وسأذكر منها ثلاثة اختلافات.
إن الاختلاف الذي يصدم القارئ على الفور هو أن كتاب «فينومينولوجيا العقل» لا يتضمن أي بلدان أو عصور أو تواريخ أو أحداث أو أشخاص محددة. وعلى الرغم من أن الإشارات لعصور وأحداث محددة تكون عادةً واضحة بما يكفي — خاصة للقارئ المُلمِّ بكتاب «فلسفة التاريخ» — تمَّ تناول كل شيء كما لو أنه حديث عن عملية عامة يُجبَر العقل على خوضها نتيجة للحاجة الداخلية التي تدفعه لتحقيق الذات. يبدو الأمر كما لو أن الإشارات إلى أشخاص أو أوقات أو أماكن محددة، قد يوحي بطريقة ما بأن الأشياء كان من الممكن أن تصبح مختلفة إذا اختلف الأشخاص أو اختلفت الظروف. ينجح هيجل في إعطاء انطباع بأن العملية التي يصفها كان من شأنها أن تتم حتى لو جرى تطور العقل على كوكب المريخ. وبالفعل، يتسم كتاب «فينومينولوجيا العقل» بأسلوب مجرد وبخلوِّه من أي إحساس بالزمان أو المكان، لدرجة أنه في حال كان العقل قد تطور على كوكب المريخ بالفعل، لم يكن هيجل ليضطر لتغيير أي شيء.
أما الاختلاف الثاني، فهو أن كتابَيْ «فلسفة التاريخ» و«فلسفة الحق» ينتهيان بالوصول إلى دولة تشبه الشكل المَلَكي لدولة بروسيا، أما في كتاب «فينومينولوجيا العقل» فلا يوجد أي ذكر لمثل هذه الدولة. فالأجزاء الموازية لكتاب «فلسفة التاريخ» تنتهي بالثورة الفرنسية. إن الثورة الفرنسية هي ذروة التاريخ من حيث إنها تمثل العقل في حالة حرية مطلقة، والذي يكون على دراية بقدرته على تغيير العالم وتشكيل الحياة السياسية والاجتماعية وفقًا لإرادته. نتيجةً لأسباب مماثلة للأسباب التي أبداها في كتاب «فلسفة التاريخ»، يصوِّر هيجل الحرية المجردة للثورة الفرنسية بأنها تقود حتمًا إلى نقيضها؛ ألا وهو نفي الذات الحرة؛ أي الإرهاب والموت. لكن لا يوجد أي تطور سياسي آخر في كتاب «فينومينولوجيا العقل». بدلًا من ذلك ينتقل مسار العقل إلى مستويات أرقى، بدايةً من الرؤية الأخلاقية للعالم التي طوَّرها كانط وفيخته والرومانسيون، ثم ينتقل إلى الرؤية الدينية، وأخيرًا يصل إلى المعرفة المطلقة ذاتها التي تتحقق عن طريق الفلسفة.
هناك تفسير واضح لعدم وجود إشارات إلى دولة بروسيا في كتاب «فينومينولوجيا العقل»؛ فعندما كتب هيجل هذا الكتاب، لم يكن في بروسيا وإنما في مدينة ينا، ذلك فضلًا عن أنه كتبه خلال فترة الحروب النابليونية، وهو الوقت الذي كانت فيه فرنسا القوة المهيمنة في أوروبا، وكان مستقبل الدول الألمانية في علم الغيب. إذن كان يجب أن يكون هيجل متبصرًا على نحو كبير كي يتنبأ بنهضة دولة بروسيا، ويجعلها ذروة التاريخ السياسي بالنسبة له. إن الغياب المفهوم لإشارات إلى دول ما جعل كتاب «فينومينولوجيا العقل» رائجًا بطبيعة الحال وسط مَن يؤمنون بأن هيجل في أعماله اللاحقة قد خفَّف من حدَّة آرائه كي يُرضي أسياده السياسيين.
ننتقل إلى الاختلاف الرئيسي الثالث بين كتاب «فينومينولوجيا العقل» والأعمال التالية له؛ ففي كتاب «فلسفة التاريخ»، يصف هيجل مسار التاريخ بأنه ليس إلا تقدم الوعي بفكرة الحرية، في حين يركِّز في كتاب «فينومينولوجيا العقل» — كما سبق وأن رأينا — على التطور نحو المعرفة المطلقة. بالنظر إلى هذه الكلمات بمعناها العادي، قد يبدو أن هيجل يتبنى وجهات نظر مختلفة وغير متطابقة في الكتابين. بالطبع قد يكون المرء مثقفًا بينما هو قابع في زنزانة طاغية، وقد يكون آخر يعيش بحرية تامة على جزيرة استوائية وهو جاهل على نحو تام بكل العلوم والسياسة والفلسفة. لكن ينبغي علينا الآن أن نكون قد تعرَّفنا على هيجل بما يكفي لنحترس من أن نفهم كلماته بمعناها العادي. فهيجل يرى أن المعرفة المطلقة والحرية الحقيقية متلازمتان. وستكون مهمتنا الأخيرة، فيما يتعلق بكتاب «فينومينولوجيا العقل»، هي فهم ما يقصده هيجل بالمعرفة المطلقة. وللقيام بذلك نحتاج أولًا لفهم سبب أن تقدُّم الوعي بفكرة الحرية هو أيضًا تقدُّم العقل نحو المعرفة المطلقة.
كشف الاستعراض الذي قمنا به في وقت سابق لمفهوم هيجل عن الحرية أنه يرى أننا نكون أحرارًا عندما نكون قادرين على الاختيار دون إجبار من أشخاص آخرين أو الظروف الاجتماعية أو رغباتنا الطبيعية، وقد اختتمنا هذا الاستعراض بوعدٍ بأننا سنتوصل لفهم أفضل لوجهة النظر هذه فور أن نعرف القليل عن نسقه الفكري ككلٍّ. لقد علمنا الآن من كتاب «فينومينولوجيا العقل» أن هيجل يرى التاريخ البشري بأكمله مسارًا ضروريًّا لتطور العقل، وتشير حقيقة أنه يتخذ من العقل القوة المحركة للتاريخ إلى سبب إصراره على أن رغباتنا، سواء أكانت فطرية أم اجتماعية، هي قيد على الحرية. فالحرية من وجهة نظر هيجل ليست الحرية في أن نفعل ما يحلو لنا، وإنما تكمن في أن يكون لدينا عقل حرٌّ. فالعقل يجب أن يتحكَّم في كل شيء آخر، ويجب أن يدرك أنه هو المسيطر. لا يعني هذا — كما عنى عند كانط — أن الجانب غير العقلاني للطبيعة البشرية ينبغي ببساطة كبْتُه. يعطي هيجل مساحة لرغباتنا الفطرية والاجتماعية كما يعطي مساحة للمؤسسات السياسية التقليدية، لكنه دائمًا ما يضعها في تسلسل هرمي ينظِّمه العقل ويتحكَّم فيه.
إن الحرية التي يؤمن هيجل بأنها الحرية الحقيقية يمكن العثور عليها — كما رأينا — في الاختيار العقلاني. إن التفكير العقلاني هو الطبيعة الأساسية للعقل؛ فالعقل الحر، الذي لا يعوقه أي إجبار من أي نوع، سيتبع التفكير العقلاني بسهولة كما يتدفق النهر الذي لا تعوقه جبال أو تلال مباشرة نحو البحر. وأي شيء يعيق التفكير العقلاني هو قيد على حرية العقل. فالعقل يسيطر على كل شيء عندما يكون كل شيء منظمًا بعقلانية.
كما أننا رأينا كيف يعتبر هيجل التفكير العقلاني كونيًّا بالفطرة. وإذا كان التفكير العقلاني هو الأداة الأساسية للعقل، فالعقل كوني بالفطرة. إن عقول البشر الخاصة كأفراد مرتبطة بعضها ببعض؛ لأن لديها تفكيرًا عقلانيًّا كونيًّا مشتركًا. وكان هيجل يصيغ هذه الفكرة على نحو أقوى، قائلًا إن عقول البشر الخاصة كأفراد هي أوجه لشيء ما كوني بالفطرة؛ ألَا وهو العقل ذاته. إن العقبة الأكبر التي تعوق التنظيم العقلاني للعالم هي ببساطة أن البشر لا يدركون أن عقولهم هي جزء من هذا العقل الكوني. يتقدم العقل نحو الحرية عن طريق إزالة هذه العقبة من طريقه. تذكَّر في بداية كتاب «فينومينولوجيا العقل» كيف كان الوعي محدودًا بمعرفة الشيء المحدد الخالص «هذا»، وأجبر على قبول المصطلحات الكونية الضمنية في اللغة. انطلاقًا من هذه النقطة، كانت كل خطوة هي خطوة عبر طريق ملتوٍ يؤدِّي إلى عقلٍ أقرب إلى تصوُّر ذاته كشيء عقلاني وكوني في الوقت ذاته. هذا هو الطريق نحو الحرية؛ لأن العقول البشرية المفردة لا يمكنها أن تجد الحرية في الاختيار العقلاني عندما تكون منغلقة داخل تصورات لذاتها لا تقرُّ بقوة التفكير العقلاني أو طبيعته الكونية الفطرية.
كون أن العقل عند المصريين قد تمثَّل لوعيهم في شكل «مشكلة» هو أمر جليٌّ في النقش الشهير في معبد الإلهة نيث: «أنا ما هو كائن، وما قد كان، وما سوف يكون؛ لم يُمِطْ عني اللثامَ أحد» … عند نيث المصرية، الحقيقة لا تزال مشكلة. والإله أبولو هو حلُّها؛ فهو يقول: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.» لا يُقصد بهذا القول معرفة الذات للجوانب الجزئية لضعفها وأخطائها: فالمقصود ليس هو الإنسان الجزئي الذي ينبغي أن يعرف خصائصه، وإنما المقصود هو الإنسان بصفة عامة، والذي ينبغي عليه أن يعرف نفسه.
إن البشرية بصورة عامة — كما كان من الممكن أن يضيف هيجل — مدعوة في الوقت ذاته إلى الحرية.
المعرفة المطلقة
لقد رأينا أن غاية كتاب «فينومينولوجيا العقل» هي المعرفة المطلقة، وأنها مرتبطة بغاية التاريخ؛ وهي الوعي بالحرية. فمعرفة الذات هي شكل من أشكال المعرفة، وأيضًا هي أساس مفهوم هيجل عن الحرية. لماذا — على الرغم من ذلك — يصف هيجل معرفة الذات بمصطلح «المعرفة المطلقة»؟ ألَا ينبغي أن نقول إن معرفة الذات هي جزء من المعرفة، لكنها بالتأكيد ليست المعرفة كلها؟ فعلم النفس في نهاية الأمر ما هو إلا أحد العلوم المتعددة، وحتى إذا أضفنا إليه علم الأنثروبولوجيا وعلم الأحياء والتاريخ ونظرية التطور وعلم الاجتماع وجميع العلوم الأخرى التي يمكن أن تسهم في معرفتنا بأنفسنا، فسيكون هناك العديد من مجالات المعرفة خارج هذه الفئة بالكامل أو في أفضل الأحوال ستكون على صلة بعيدة للغاية بها: علم الجيولوجيا، وعلم الفيزياء، وعلم الفلك، وغيرها. أليست هذه العلوم أيضًا جزءًا من المعرفة المطلقة؟
هناك فكرتان خاطئتان في هذا الاعتراض، إحداهما يسهل توضيحها، وهي أن هيجل لا يقصد بمصطلح «المعرفة المطلقة» معرفة كل شيء؛ فالمعرفة المطلقة هي معرفة العالم في حقيقته، مقارنةً بمعرفة المظاهر فقط. لاكتساب المعرفة المطلقة لا يتعين علينا معرفة جميع الحقائق التي من الممكن معرفتها؛ فوظيفة العلماء هي معرفة المزيد والمزيد عن الكون. وكان هدف هيجل هو الهدف الفلسفي الذي يكمن في إثبات مدى إمكانية أن تكون المعرفة حقيقية، ولم يكن هدفه هو هدف العلماء الذين يسعون إلى زيادة المعرفة التي لدينا.
أما الفكرة الخاطئة الثانية، فيمكن الرد عليها فقط عن طريق توضيح موقف هيجل من طبيعة الواقع المطلق. فهيجل كان يصف نفسه بمصطلح «المثالي المطلق». و«المثالية» في الفلسفة لا تعني المعنى الدارج لها في اللغة العادية؛ فلا علاقة لها بتبنِّي مُثُلٍ عُلْيا أو السعي إلى الكمال الأخلاقي. فالمصطلح الفلسفي كان ينبغي حقًّا أن يكون «الفكرية» لا «المثالية»؛ فمعناه أن الأفكار — أو على نحو أوسع: عقولنا وأفكارنا ووعينا — هي التي تشكِّل الواقع المطلق. أما وجهة النظر المناقضة، فتتمثل في المذهب المادي الذي يؤكد أن الواقع المطلق هو شيء مادي، وليس عقليًّا (يؤمن أنصار مذهب الثنائية بأن كلًّا من العقل والمادة يشكل الواقع).
يؤمن هيجل إذن بأن الواقع المطلق هو العقل، لا المادة، كذلك يؤمن بأن كتاب «فينومينولوجيا العقل» هو الذي قاده إلى هذا الاستنتاج. فبدايةً من مرحلة اليقين الحسي، فشلت كل محاولات اكتساب المعرفة بشأن واقع موضوعي مستقل عن العقل. وثبت خلو المعلومات الأولية التي نتلقاها عبر الحواس من أي معنًى إلى أن نضعها في نظام مفاهيمي ينتجه الوعي. كان على الوعي أن يشكِّل العالم على نحو عقلاني، وأن يرتِّبه ويصنِّفه، قبل أن تكون المعرفة ممكنة. واتضح أن ما يُطلق عليه «الأشياء المادية» ليست أشياء توجد بصورة مستقلة تمامًا عن الوعي، لكنها مفاهيم متعلقة بالوعي، بما في ذلك مفاهيم مثل «التملك» و«المادة». وعلى مستوى الوعي الذاتي، أصبح الوعي على دراية بقوانين العلوم بوصفها قوانينه الخاصة؛ وعليه وللمرة الأولى وجد العقل نفسه موضع الاستقصاء من جانبه. وفي هذه المرحلة أيضًا بدأ الوعي في تشكيل العالم على نحو عملي وعقلاني عن طريق تقبُّل الأشياء المادية والتأثير فيها، وتصميمها وفقًا لتصوراته الشخصية لما ينبغي أن تكون عليه. ثم بدأ الوعي في تشكيل عالَمه الاجتماعي أيضًا، وهي عملية تصل في ذروتها إلى اكتشاف أن العقل مسيطر على كل شيء. بعبارة أخرى: على الرغم من أن هدفنا في البداية كان فقط تتبُّع مسار العقل وهو في طريقه لمعرفة الواقع، فسنكتشف في نهاية الطريق أننا كنا نشاهد العقل وهو يشكِّل الواقع.
وفقًا لهذا المفهوم عن الواقع بوصفه مِن صُنع العقل وحده، يمكن لهيجل أن يفي بالوعد الذي قطعه على نفسه في مقدمة كتاب «فينومينولوجيا العقل» بأن يثبت أن بإمكاننا الوصول إلى معرفة حقيقية بالواقع. تذكَّر كيف صبَّ جَامَ سخريته على كل الرؤى التي ترى أن المعرفة أداة لإدراك الواقع، أو وسيلة نشاهد من خلالها الواقع؛ فقد قال إن جميع هذه الرؤى تفصل المعرفة عن الواقع. كان كانط، بمفهومه «الشيء في ذاته» الخاص بالواقع بوصفه شيئًا يتخطى دائمًا حدود معرفتنا، أحد الذين أصابتهم سهام هذا النقد. وفي المقابل، قطع هيجل على نفسه وعدًا بأن كتاب «فينومينولوجيا العقل» سيصل إلى مرحلة «لا تُعَدُّ المعرفة عندها مجبرةً على التطور إلى أبعد من نفسها»، ولن يُعدَّ الواقع عندها «شيئًا أبعد» يتخطى حدود المعرفة، بل سيعرف الوعيُ الواقعَ مباشرةً ويتَّحد معه. الآن يمكننا فهم ما كان يعني بكل ذلك: يتم التوصل للمعرفة المطلقة عندما يدرك العقل أن «ما يسعى لمعرفته هو ذاته.»
هذا هو مفتاح فهم كتاب «فينومينولوجيا العقل» ككلٍّ. وهذه النقطة هي على الأرجح أعمق أفكار هيجل التي أحاول أن أوصلها في هذا الكتاب؛ لذا دعونا نستعرضها مرة أخرى.
الواقع يشكِّله العقل، لكن العقل لا يدرك ذلك في بادئ الأمر؛ فهو يرى الواقع كشيء ما مستقل عنه، بل وكشيء عدائي وغريب عنه. في هذه الفترة، يكون العقل منفصلًا أو مغتربًا عما صنعه بنفسه. يحاول العقل أن يكتسب المعرفة بالواقع، لكن هذه المعرفة ليست حقيقية لأن العقل لا يدرك الواقع في حقيقته؛ ولذا يعتبره شيئًا غامضًا يتجاوز حدود إدراكه. وعندما ينتبه العقل لحقيقة أن الواقع هو مِن صنعه، حينها فقط يتخلى عن السعي وراء هذا «الشيء الأبعد» المتجاوز لحدوده، ثم يفهم أنه لا يوجد ما هو أبعد من ذاته، ثم يعرف الواقع على نحو مباشر وفوري كما يعرف ذاته. إنه يتَّحد معه. وكما يصيغها هيجل في الجزء الختامي من كتاب «فينومينولوجيا العقل»: المعرفة المطلقة هي «عقل يعرف ذاته في شكل عقل.»
وهكذا قد وصل هيجل بعمله المهم إلى استنتاج جريء وعبقري. لقد توصَّل لحلٍّ مذهل للمشكلة الأساسية للفلسفة، وفي الوقت نفسه أوضح سبب أن التاريخ وجب أن يتحرك في المسارات التي سلكها في الحقيقة. إن مدى ثبات هذا الصرح الفكري الضخم الذي بناه هيجل من عدمه هو مسألة أخرى، لكن حتى إذا انهار أمام أعيننا، فلا يمكننا سوى الإعجاب بروعة التصميم وأصالته.
هناك سمة واحدة في التصميم لن يستطيع مرشدك أن يقاوم رغبته في أن يلفت نظرك إليها. سَلْ نفسك متى تتحقق المعرفة المطلقة. الإجابة هي بالطبع أنها تتحقق فور أن يفهم العقل أن الواقع هو من صنعه، وأنه لا يوجد «شيء أبعد» ليعرفه. ومتى يحدث هذا؟ حسنًا، نظرًا لأن هذا المفهوم عن الواقع هو نتيجة كتاب هيجل «فينومينولوجيا العقل»، يجب أن يحدث عندما يدرك عقل هيجل نفسه طبيعة الكون. من وجهة نظر هيجل، يصل العقل إلى محطة راحته النهائية عندما يفهم هيجل نفسه طبيعة الواقع. نادرًا ما يوجد استنتاج أكثر أهمية من هذا لعمل فلسفي. إن الصفحات الختامية لكتاب «فينومينولوجيا العقل» ليست مجرد «وصف» لذروة التاريخ البشري كله، وإنما «هي» ذروة التاريخ البشري ذاتها.
تعليقان أخيران
إن عظمة أفكار هيجل الفلسفية كبيرة لدرجة أن التعليق عليها قد يبدو أمرًا سخيفًا؛ ومع ذلك، هناك العديد من التعليقات التي تطرح نفسها فعليًّا. سأتناول بإيجاز تعليقين جوهريين منها.
التعليق الأول يتعلق بمثالية هيجل. قد نعترف أنه من غير الممكن أن يكون هناك معرفة دون عقل ينظم المعلومات الأولية التي يتلقَّاها من الحواس. قد نسلِّم بأن البشر يشكلون عالمهم بصورة عملية، كما يشكلونه بصورة نظرية، عن طريق التأثير فيه. لكن حتى مع أخذ كل هذا وأكثر في الاعتبار، يظل الاعتقاد الراسخ بأنه لا بد من وجود شيء ما «خارج العقل» مستقلًّا عن خبرتنا به. فقولنا إن العقل يفرض تصنيفاته على المعلومات الأولية التي يتلقَّاها من الحواس — بشأن اﻟ «هذا» الموجود مباشرةً أمام الوعي في مستوى اليقين الحسي — يعني أننا نفترض مسبقًا ورود تلك المعلومات من مكان ما. يمكن أن ينكر هيجل أن هذه المعلومات ترقى لمستوى المعرفة، لكنه لن يستطيع إنكار أنها تشير لوجود شيء ما خارج العقل ذاته. الفكرة ذاتها تنطبق على نحو أكثر وضوحًا على وجهة النظر التي تقول بأن العقل يشكِّل العالم بصورة عملية من خلال التأثير فيه. قد يكون مايكل أنجلو قد واتتْه فكرة صنع تمثال للنبي داود، فحمل قطعة من الرخام وحوَّلها إلى تمثال يتفق مع أفكاره، لكنه لم يكن ليحقق أي شيء لو لم يكن لديه رخام في المقام الأول.
نمط التفكير هذا — من الناحية النظرية لا العملية — وصل بكانط إلى طرح فكرته عن «الشيء في ذاته» الذي لا سبيل لمعرفته. وجَّه هيجل انتقادات حادَّة لهذه الفكرة، لكن هل أوضح حقًّا أننا يمكننا الاستغناء عنها؟
التعليق الثاني أيضًا ينبع من مثالية هيجل. بعض المثاليين ينتمون لمذهب الذاتية، ويؤكِّدون على أن الشيء الواقعي في النهاية هو أفكار الشخص وأحاسيسه. والعقول المختلفة قد تكون لديها أفكار وأحاسيس مختلفة، وفي هذه الحالة، لا توجد أي طريقة ممكنة للحكم على مضمون أحد العقول بأنه حقيقي، ومضمون عقل آخر بأنه زائف، وبالتأكيد في وجهة النظر هذه لا معنى لتلك التصنيفات؛ لأنها تفترض مسبقًا على نحو خاطئ وجود واقع موضوعي خارج نطاق أفكار وأحاسيس العقول المفردة. يرفض هيجل وجهة النظر القائلة بأن هناك صورًا مختلفة لا حصر لها من الواقع تُقابل العقول المختلفة التي لا حصر لها. ويطلق هيجل على نموذج المثالية الخاص به اسم «المثالية المطلقة» ليميزها عن المثالية الذاتية. فمن وجهة نظر هيجل، هناك واقع واحد فقط؛ لأنه في نهاية الأمر لا يوجد سوى عقل واحد.
الآن نعود إلى السؤال الذي بدأ به استعراضنا لكتاب «فينومينولوجيا العقل». إذا كان هيجل يؤمن بوجود عقل واحد فقط، فماذا يقصد بمصطلح «العقل»؟ لا بد أنه يقصد نوعًا ما من العقل الجمعي أو الكوني. وفي هذه الحالة، ألم يكن من الأفضل استخدام «الروح»، بما تحمله من دلالات دينية، كترجمة أفضل من البداية؟ أليست فكرة العقل الجمعي هي بالأساس فكرة دينية؟ ألا ينبغي أن نعتبره تصور هيجل عن الإله؟
ربما، لكن إذا أُجبِرنا في نهاية الأمر على تقبُّل وجهة النظر هذه، فسنتقبَّلها بعد فهمٍ أفضل لغموض موقف هيجل وتشكُّكه مما لو قمنا بتبنِّي هذه الترجمة من البداية.
لا شك أنه ما زال هناك العديد من الشكوك حول مفهوم هيجل عن العقل. فمن جهة، يحتاج هيجل إلى مفهوم عقل جمعي أو كوني، ليس فقط لتجنُّب النموذج الذاتي للمثالية، بل أيضًا كي يثبت رؤيته التي تشير إلى أن العقل يتوصَّل إلى رؤية الواقع كله بوصفه مِن صُنْعه. فإذا كانت هناك ملايين العقول الفردية المتمايزة، فلن يتمكن عقل منفرد من رؤية الكثير من الواقع بوصفه مِن صُنْعه عمليًّا؛ لأن جزءًا كبيرًا من الواقع سيكون عمليًّا من صُنْع عقول أخرى. كثيرًا ما ستثبت الطريقة التي يدرك العقل بها العالم قبل وصوله للمعرفة المطلقة — كشيء مستقلٍّ عنه بل وعدائي تجاهه — أنها ليست خدعة، لكنها الحقيقة المجردة. يبدو كما لو أن هذا كله يفرض علينا تفسيرًا لفهم مصطلح هيجل «العقل» بوصفه نوعًا من الوعي الكوني؛ ليس بالطبع المفهوم التقليدي للإله بوصفه منفصلًا عن الكون، لكن كشيء ما أقرب للفلسفات الشرقية التي تُصِرُّ على أن «الكل واحد».
من ناحية أخرى، يعتبر هيجل نفسه مدافعًا أساسيًّا عن العقل. فهل نستطيع أن نوفِّق بين هذا وبين ما يقوله، ويحتاج لقوله، بشأن العقل؟ قد تكون إحدى الطرق التي يمكن أن نقوم من خلالها بذلك هي أن نتأمل بجدية مدى إيمان هيجل بأن الوعي يجب أن يكون اجتماعيًّا. يصرُّ هيجل، بدايةً من الجزء الأول في كتاب «فينومينولوجيا العقل»، على أن المعرفة تصبح معرفة فقط إذا كان من الممكن نقلها عن طريق اللغة. إن حتمية استخدام اللغة تلغي فكرة وجود وعي مستقل تمامًا. يجب أن يتفاعل الوعي مع نماذج أخرى من الوعي كي يتطور ليصبح وعيًا ذاتيًّا. وفي النهاية، لا يمكن أن يجد العقل الحرية وفهم الذات إلا في مجتمع منظم بعقلانية. إذن فالعقول ليست ذرات منفصلة، تربطها مصادفات. فإما أن توجد العقول الفردية معًا، أو لا توجد على الإطلاق.
إن نظرية هيجل الاجتماعية مهمة؛ خاصةً لتأثيرها على الفكر لاحقًا، لكنها قد لا تكون كافية لتسمح لنا بفهم فكرته عن المعرفة كعقلٍ متَّحدٍ مع ذاته. لكن يظل هناك عنصر ثانٍ يمكن طرحه؛ ألا وهو فكرته عن الطبيعة الكونية للتفكير العقلاني. لقد سبق وأن رأينا كيف يعتبر هيجل التفكير العقلاني هو المبدأ الرئيسي للعقل، ويرى أن هذا التفكير كوني بصورة أساسية. كان يمكنه إذن أن يقول: بقدر ما أن العقول الفردية هي عقل في الواقع — وليست رغبة أنانية أو متقلبة — بقدر ما ستفكر وتتصرف حقًّا بتناغم بعضها مع بعض، وستعرف حقًّا أنها جميعًا تملك الطبيعة الأساسية نفسها. هذه الطبيعة الأساسية — هذا «العقل الكوني» — ليست عقلًا فرديًّا أو عقلًا جمعيًّا، وإنما هي ببساطة وعيٌ عقلاني.
قد تكون وجهة النظر هذه متطرفة وأحادية بشأن طبيعة التفكير العقلاني والعقل. وقد تستند — كما أشرت فيما يتعلق بفلسفة هيجل السياسية — إلى تفاؤل مضلل بشأن إمكانية وجود تناغم بين العقول البشرية. ومع ذلك، لا يُعَدُّ هذا ارتدادًا إلى الوحدة الروحية لوعي كوني. أما كونها تفسيرًا دقيقًا للرسالة الرئيسية التي يحملها كتاب «فينومينولوجيا العقل» أم لا، فهي مسألة أخرى.