المنطق والمنهج الجدلي
كما ذكرتُ في مقدمة الكتاب، أنا لا أنوي تقديم عرض تفصيلي لكتاب هيجل «علم المنطق»، لكنني من جهة أخرى لا أرغب في أن أترك انطباعًا خاطئًا لدى القارئ بأن كتاب «علم المنطق» عمل غير مُهمٍّ أو سطحي بالنسبة لنسق هيجل الفلسفي ككلٍّ؛ لذلك سأذكر بعض ما أراد هيجل تحقيقه في هذا الكتاب، وفي أثناء ذلك، سأستغل الفرصة لشرح رؤيته بشأن المنطق التي كثيرًا ما يُنظر إليها بوصفها أعظم اكتشافات هيجل، والتي تُعرَف بالمنهج الجدلي.
مفهوم هيجل عن المنطق
هنا لدينا شكل دون مضمون. يمكننا أن نكتب: «إنسان» و«فاني» و«سقراط» بدلًا من: «أ» و«ب» و«س» على التوالي. أو يمكننا كتابة: «حيوان من ذوات الأربع» و«مكسو بالفراء» و«سلحفاتي الأليفة». الحُجَّة صحيحة في كلتا الحالتين، على الرغم من أن وجود مقدمة منطقية خاطئة قد يؤدِّي أيضًا إلى استنتاج خاطئ. صحة الحُجَّة هي مسألة شكل لا مضمون؛ فعالِم المنطق لا يعنيه المضمون.
نتيجةً لهذا الفصل بين الشكل والمضمون، لا يخبرنا المنطق بأي شيء بخصوص العالم الواقعي. إن أشكال الحُجج التي يصفها المنطق ستظل كما هي بالضبط إذا كان البشر غير فانين أو كانت السلاحف فعلًا مكسوة بالفرو، ولن تتغير إذا لم يكن هناك بشر أو سلاحف على الإطلاق.
إذا تذكَّرنا كيف بدأ هيجل في كتاب «فينومينولوجيا العقل» تناول مشكلة المعرفة من خلال الاعتراض على التمييز الشائع المفترض بين العالِم والمعلوم، فلا ينبغي أن نتفاجأ إذا ما علمنا أن هيجل يذكر هذا التمييز التقليدي بين الشكل والمضمون حتى يعترض عليه. فالمنطق، كما يقول هيجل، هو دراسة الفكر، لكن هيجل في كتابه «فينومينولوجيا العقل» أوضح بالفعل أنه لا يوجد واقع موضوعي مستقل عن الفكر. فالفكر هو واقع موضوعي، والواقع الموضوعي هو الفكر. وهكذا عندما يدرس المنطق الفكر، لا بد أن يدرس الواقع أيضًا. يقول هيجل إننا «إذا كنا لا نزال نرغب في استخدام كلمة «المادة»، فيجب أن يكون مضمون المنطق هو «المادة الحقيقية الواقعية».» ثم يقدم لنا هيجل بعض الصور عن موضوع المنطق. فيقول هو «الحقيقة كما هي، دون قناع، في ذاتها ولذاتها.» أو بكلمات أخرى: «يعلن هذا المضمون عن وجود الإله كما هو في جوهره الخالد قبل خلق الطبيعة والعقل المحدود.»
يطلق فالتر كوفمان على هذا «ربما أكثر الصور جنونًا في كتابات هيجل كافة»، لكن ما يشير إليه هو أمر لا يتعلق نهائيًّا بوجهة النظر التقليدية بشأن أن المنطق لا يخبرنا بأي شيء عن العالم. إن القول بأن المنطق لا يتعلق بعالم الطبيعة والعقول المحدودة، يعني أن هيجل يقبل جزءًا من وجهة النظر التقليدية. إن الجزء الذي يتحمس بشدة لرفضه هو فكرة أن الواقع — أو الحقيقة — يوجد «فقط» في عالم الطبيعة والأشخاص. على العكس من ذلك، فمثاليته المطلقة تُظهِر أن الواقع المطلق يوجد فيما هو عقلي وفكري، وليس فيما هو مادي. فهو يوجد، على وجه التحديد، في الفكر العقلاني. إذن المنطق هو دراسة الواقع المطلق في شكله الخالص، مجردًا من الأشكال المحددة التي يتخذها في العقول المحدودة للبشر أو في العالم الطبيعي.
هناك أثر آخر لوجهة نظر هيجل عن العقل بوصفه الواقع المطلق على أهمية المنطق؛ فبما أن العقل يشكِّل العالَم، فستكشف دراسةُ الفكر العقلاني المبادئَ التي شُكِّل هذا العالمُ على أساسها. لنصِغها بمصطلحات هيجل الخاصة: إن فهم جوهر الإله الخالد قبل خلق العالم هو فهم الأساس الذي خُلق العالَم بناءً عليه.
المنهج الجدلي لهيجل
من حيث «منهج» التناول، ساعدني كثيرًا أنني بالمصادفة البحتة تصفَّحتُ مجددًا كتاب هيجل «علم المنطق» … لو أن لديَّ الوقت للقيام بمثل هذا العمل، لوددت بدرجة كبيرة أن أجعل في متناول الذكاء البشري العادي، في صفحتين أو ثلاث صفحات مطبوعة، ما هو «عقلاني» في المنهج الذي اكتشفه هيجل لكن في الوقت نفسه المغلف بغطاء روحي …
إن المنهج الذي يشير إليه ماركس هو بالطبع المنهج الجدلي، الذي يصفه هيجل بأنه «المنهج الحقيقي الوحيد» للعرض الفكري والعلمي. إنه الطريقة التي يستخدمها هيجل في «علم المنطق» للكشف عن شكل الفكر الخالص.
لم يجد ماركس الوقت أبدًا ليكتب تفسيره لما هو عقلاني في المنهج الجدلي. ومع ذلك، استطاع الكثير غيره الكتابةَ في هذا الموضوع، إلا أنهم بالتأكيد لم يكونوا بالإيجاز الذي نواه ماركس. يطور بعض هؤلاء المعلقين المنهج الجدلي كي يكون بديلًا لكل أشكال المنطق السابقة؛ كي يكون شيئًا يحلُّ محَلَّ التفكير العقلاني العادي الذي يشبه الشكل المنطقي القياسي البسيط الوارد في الصفحة الأولى من هذا الفصل. لا يوجد لدى هيجل ما يبرر مثل هذه المزاعم المبالغ فيها فيما يتعلق بالمنهج الجدلي. ولا توجد أي حاجة للتعامل مع هذا المنهج بوصفه شيئًا عميقًا وغامضًا. فكما يقول هيجل، هو طريقة ذات «إيقاع بسيط» ولا تحتاج لمهارة كبيرة للرقص على أنغامها.
في عرضنا لكتاب «فينومينولوجيا العقل»، كنا في حقيقة الأمر نمارس المنهج الجدلي لهيجل؛ فذلك العمل هو — كما يخبرنا هيجل — «مثال على تطبيق هذا المنهج على شيء أكثر مادية؛ ألَا وهو الوعي.» لا يمكن لأي شخص آخر أن يفكر في الوعي بالصورة التي يصفها في كتاب «فينومينولوجيا العقل» كشيء ماديٍّ نسبيًّا. لكن هناك أمثلة مادية أكثر للمنهج الجدلي في أعمال هيجل اللاحقة؛ لذا ولسهولة العرض، لنبدأ بمثال من كتابه «فلسفة التاريخ».
في كتاب «فلسفة التاريخ»، تهيمن حركة جدلية هائلة على تاريخ العالم، بدءًا من العالم اليوناني وحتى الآن. كانت اليونان مجتمعًا يقوم على الأخلاق العرفية، مجتمعًا متناغمًا يتوحد فيه المواطن مع المجتمع ولا يفكر في معارضته. يشكل المجتمع العرفي هذا نقطة انطلاق الحركة الجدلية، التي تسمى اصطلاحًا «الأطروحة».
المرحلة التالية هي أن تثبت هذه الأطروحة أنها غير ملائمة أو متناقضة. في حالة المجتمع في اليونان القديمة، تتكشف عدم ملاءمة الأطروحة عبر تشكيك سقراط. لم يكن اليونانيون ليستمروا دون فكر مستقل، لكن المفكر المستقل هو الخصم اللدود للأخلاق العرفية. هكذا ينهار مثل هذا المجتمع القائم على العُرف أمام مبدأ الفكر المستقل. حان الآن دور هذا المبدأ ليتطور، وهو ما حدث في ظل المسيحية. تؤدي حركة الإصلاح الديني إلى قبول الحق الأسمى للضمير الفردي. لقد فُقد تناغم المجتمع اليوناني، لكن الحرية انتصرتْ. هذه هي المرحلة الثانية للحركة الجدلية. إنها نقيضُ أو مضادُّ المرحلة الأولى؛ لذلك تُعرف باسم «الأطروحة المضادة».
ثم تثبت المرحلة الثانية أيضًا أنها غير ملائمة. فالحرية، وحدها، يتضح أنها مجردة بدرجة أكبر من المطلوب ولا يمكنها أن تكون أساسًا يقوم عليه المجتمع. وعند التطبيق، يتحول مبدأ الحرية المطلقة إلى الإرهاب الثوري في الثورة الفرنسية. وهكذا يمكننا رؤية أن كلًّا من التناغم العرفي والحرية المجردة للفرد نموذجٌ أحادي الجانب. فيجب الجمع بينهما وتوحيدهما بطريقة تحافظ على كلٍّ منهما، وتتجنب الأشكال المختلفة لأحاديتهما. يقودنا هذا إلى المرحلة الثالثة الأكثر ملاءمة؛ وهي مرحلة «الأطروحة المركَّبة». في كتاب «فلسفة التاريخ»، نجد أن تلك الأطروحة في الحركة الجدلية ككلٍّ هي المجتمع الألماني في عصر هيجل، الذي اعتبره متناغمًا لأنه مجتمع عضوي، ومع ذلك يحافظ على الحرية الفردية لأنه منظم على أسس عقلانية.
تنتهي كل حركة جدلية بأطروحة مركَّبة، لكن لا تنهي كل أطروحة مركَّبة العملية الجدلية بالطريقة التي ظن هيجل أن المجتمع العضوي في عصره أنهى بها الحركة الجدلية للتاريخ. فكثيرًا ما يتضح أن الأطروحة المركَّبة — على الرغم من أنها توفق بين الأطروحة والأطروحة المضادة على نحو ملائم — أحادية من جانب آخر؛ ومِن ثَمَّ تصبح أطروحةً لحركة جدلية جديدة، وهكذا تستمر العملية. وقد رأينا ذلك يحدث أكثر من مرة في كتاب «فينومينولوجيا العقل». على سبيل المثال، انتهى الجزء الخاص بالوعي بظهور الوعي الذاتي. وباعتبار هذا أطروحة، رأينا أن الوعي الذاتي كان في حاجة إلى شيء ما يستطيع أن يميز نفسه من خلاله. يمكن اعتبار الشيء الخارجي هو الأطروحة المضادة. لم يكن هذا مُرضيًا؛ لأن الشيء الخارجي هو شيء غريب عن الوعي الذاتي أو عدائي تجاهه. وكانت الأطروحة المركَّبة هي الرغبة، التي يحتفظ فيها الوعي الذاتي بالشيء الخارجي، لكن يجعله خاصًّا به. ثم ثبت أن حالة الرغبة بدورها غير مرضية، وهكذا انتقلنا إلى شيء خارجي كان هو ذاته وعيًا ذاتيًّا. يمكن اعتبار الوعي الذاتي الثاني هو الأطروحة المضادة للوعي الذاتي الأول، وكانت الأطروحة المركَّبة هي موقفًا يهيمن فيه السيد على العبد، وبذلك يحصل على الاعتراف به. لم تصمد تلك الأطروحة الجديدة أكثر من سوابقها؛ حيث انتهى الحال بأن أصبح العبد أكثر استقلالية وأكثر وعيًا بذاته من السيد. وقد وجدت الأطروحة المضادة هذه أطروحتها في مذهب الرواقية، الفلسفة التي تجمع بين السيد والعبد … وهكذا.
تم تطبيق هذا المنهج نفسه في كتاب «علم المنطق» على الفئات المجردة التي نفكر من خلالها. يبدأ هيجل بأكثر المفاهيم غير المحددة والخالية من المضمون على الإطلاق: الوجود، أو الوجود الخالص. إن الوجود الخالص — يقول هيجل — هو شيء غير محدد وفارغ تمامًا. لا يتضمن هذا الوجود أي شيء كي يدركه الفكر. هو فارغ تمامًا. في حقيقة الأمر، هو لا شيء أو عدم.
انطلاقًا من هذه البداية المثيرة، تتقدم العملية الجدلية في كتاب «علم المنطق». الأطروحة الأولى، وهي «الوجود»، تحولت إلى أطروحة مضادة، وهي «العدم». الوجود والعدم متناقضان ومتماثلان؛ إذن فحقيقتهما هي هذه الحركة؛ كلٌّ منهما باتجاه الآخر أو بعيدًا عنه؛ أي «الصيرورة».
وهكذا تستمر العملية الجدلية، لكننا لن نتتبعها؛ فقد رأينا ما يكفي لندرك فكرة المنهج الجدلي. فمن وجهة نظر هيجل، هي طريقة للعرض، لكنها أيضًا طريقة يقول عنها هيجل «إنها لا تختلف بأي حال عن الشيء الخاص بها ومضمونها؛ لأن المضمون في ذاته، والجدلية التي تتضمنها في ذاتها، هما اللذان يحركانها.» في فئات فكرنا وفي تطور الوعي وفي تقدم التاريخ، هناك عناصر متناقضة تؤدي إلى تفكك ما بدا أنه مستقر، وإلى ظهور شيء جديد يوفق بين العناصر التي كانت متناقضة في السابق لكنه بدوره يطور توترات داخلية خاصة به. هذه العملية ضرورية؛ لأنه لا الفكر ولا الوعي يمكنهما البروز في الوجود في شكل ملائم. ولا يمكنهما تحقيق الملاءمة إلا عبر عملية التطور الجدلي. ووفقًا لهيجل، تعمل العملية الجدلية كطريقة عرض؛ لأن العالم يعمل على نحو جدلي.
الفكرة المطلقة
إن غاية هيجل الرئيسية من كتاب «علم المنطق» غاية واضحة: إثبات ضرورة المثالية المطلقة. وهو يسعى إلى القيام بهذا عن طريق البدء — كما رأينا — من المفهوم الخالص للوجود، وإثبات أن هذا المفهوم يقود — نتيجة للضرورة الجدلية — إلى مفاهيم أخرى تعبِّر عن طبيعة الواقع على نحو أكثر دقة وصدقًا، وهذه المفاهيم بدورها تثبت عدم ملاءمتها وتتطلب مفاهيم أخرى حتى نصل في النهاية إلى «الفكرة المطلقة»، التي يقول عنها هيجل: «عداها كل شيء آخر هو خطأ، وظلام، ورأيٌ، واجتهاد، وهوًى، وفانٍ؛ فالفكرة المطلقة وحدها هي الوجود، والحياة الخالدة، والحقيقة المعروفة بذاتها، والحقيقة كلها.» إذن يشبه كتاب «علم المنطق» كتاب «فينومينولوجيا العقل»، فيما عدا أنه يتنقل في عالم المفاهيم بدلًا من عالم الوعي. وهكذا لا تكون غايته المعرفة المطلقة وإنما الفكرة المطلقة ذاتها. وسواء نجح في إثبات ضرورة المثالية المطلقة أم لا، فهذا شيء لن أتطرق إليه هنا، لكن سيكون من الصعب على المرء أن يجد فيلسوفًا معاصرًا يؤمن بأن هيجل قد نجح في ذلك.
إذن ما «الفكرة المطلقة»؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة. ربما تكون أفضل إجابة هي: كل شيء. إلا أن هذه الإجابة غير واضحة أو محددة؛ لذلك سأحاول أن أكون أكثر تحديدًا.
يقول هيجل إن الفكرة المطلقة «تتضمن كل شيء محدد.» يقصد بذلك أنها تتضمن بداخلها كل شيء محدد ومميز: كل إنسان وكل شجرة وكل نجم وكل جبل وكل حبة رمل. يقول هيجل إن الطبيعة والعقل هما طريقتان مختلفتان يتجلَّى فيهما وجود الفكرة المطلقة؛ فهما شكلان مختلفان لتلك الفكرة. والفن والدين طريقتان مختلفتان لإدراك الفكرة المطلقة، أو كما يصيغها هيجل، الفن والدين هما طريقتان مختلفتان تُدرك بهما الفكرة المطلقة ذاتها (تنبع فكرة الإدراك الذاتي هنا من حقيقة أن البشر هم جزء من الفكرة المطلقة). وحتى الفلسفة هي طريقة لإدراك الفكرة المطلقة، لكنها شكل أعلى من الفن أو الدين؛ لأنها تدركها على نحو مفاهيمي، وبناءً على ذلك فهي تفهمها من الجانبين الجمالي والديني بجانب إدراكها لذاتها.
إن من طبيعة الفكرة المطلقة أن تتجلى في أشكال متميزة ومحدودة، ثم تعود إلى ذاتها. وإدراك الذات هو الشكل الذي تعود فيه إلى ذاتها. هذه هي العملية التي شاهدناها في كتاب «فلسفة التاريخ» وكتاب «فينومينولوجيا العقل»، ونشاهدها الآن في كتاب «علم المنطق». يصبح إدراك الذات نموذجًا اجتماعيًّا موضوعيًّا في الحالة المثالية الموصوفة في كتاب «فلسفة الحق». ويقيِّم هيجل في كتابيه «محاضرات في علم الجمال» و«محاضرات في فلسفة الدين» كفاءة وملاءمة العديد من أشكال الفن والدين بوصفها أنماطًا لإدراك الفكرة المطلقة. سواء أكانت ظاهرة بوضوح أو مستترة ضمنيًّا، نجد أن فكرة الإدراك الذاتي للمطلق هي الفكرة الرئيسية المهيمنة على فلسفة هيجل بأكملها.
لقد ذكرت أن هيجل يرى أن المطلق هو كل شيء. كما قلت إن المطلق يسعى لإدراك ذاته؛ لذا نعود مجددًا إلى السؤال الذي تركناه دون إجابة في ختام مناقشتنا لكتاب «فينومينولوجيا العقل»: هل يؤمن هيجل حقًّا بأن الكون بأكمله، وكل ما فيه، يشكل كيانًا مُدرِكًا من نوع ما؟ هل الفكرة المطلقة هي الإله؟
من الواضح أن هيجل، على الرغم من كونه أحدَ أتباع المذهب اللوثري، لم يكن مسيحيًّا أرثوذكسيًّا مؤمنًا بوجود إله منفصل عن العالم؛ فالرسالة التي يحملها الجزء الخاص ﺑ «الوعي الشقي» في كتاب «فينومينولوجيا العقل» تتكرر كثيرًا في أماكن أخرى من أعماله. إن النظر إلى الإله باعتباره شيئًا منفصلًا عن العالم هو اغتراب لروح الإنسان. فإذا كان الإله موجودًا، فهو في العالم، والبشر يشاركونه بعض صفاته.
إذن هل يؤمن هيجل بوحدة الوجود؛ أي يجزم بأن الإله ببساطة هو العالم؟ قد يكون هذا التفسير متماشيًا مع بعض الأشياء التي قالها، لكنه في كتاب «محاضرات في فلسفة الدين» يرفض هذا صراحةً، بل وينكر أن أيَّ أحدٍ قد زعم من قبلُ أن «الكل هو الإله». بالطبع لا يعتقد هيجل أن الأشياء المحددة والبشر المحدودين هم الإله.
هل من الممكن أن يكون هيجل مُلحدًا؟ لقد رأينا أنه يضع الفلسفة في مرتبة أعلى من الدين كوسيلة لإدراك الفكرة المطلقة. ويصف الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشي فلسفة هيجل بأنها «مخالفة للدين بصورة جذرية؛ لأنها لا ترضى بأن تضع ذاتها في مقابل الدين أو أن تصنِّفه بجانب ذاتها، بل تحوِّل الدين إلى ذاتها وتحلُّ محله.» كان كروتشي على حق في الإشارة إلى هذا المعنى في فلسفة هيجل؛ فرَفْضُ أنْ يحتل الدين مكان الصدارة هو أمرٌ مخالف للدين بشدة. ومع ذلك، هناك الكثير من أفكار هيجل التي لا يمكن إدراكها إلا في قالب ديني. فهناك صُوَره وتعبيراته المجازية، مثل التي استخدمها لوصف طبيعة كتابه «علم المنطق». وهناك فلسفته التاريخية، التي تهدف لتوضيح كيفية عمل التاريخ لتحقيق غايته بتوجيه من العقل. وهناك أيضًا وجهة نظره عن الواقع المطلق بوصفه يستطيع إدراك ذاته، مما يوحي بأن الواقع المطلق شخصي. فوصف هيجل بأنه ملحد سيكون معارضًا لبعض أهم أفكاره الرئيسية.
إذن هيجل ليس مسيحيًّا أرثوذكسيًّا مؤمنًا بوجود إله منفصل عن العالم، ولا هو مؤمن بوحدة الوجود، ولا هو ملحد، فماذا تبقَّى؟ منذ بضعة أعوام، حاول أحد الباحثين في فلسفة هيجل، يدعى روبرت فيتمور، أن يثبت أن هيجل كان مؤمنًا بوحدة الموجود. والمقابل الإنجليزي لمصطلح وحدة الموجود يأتي من كلمات يونانية تعني «الكل في الإله». ويصف هذا المصطلح وجهة النظر القائلة بأن كل شيء في الكون هو جزء من الإله، لكن — وهنا يختلف عن وحدة الوجود — الإله أكبر من الكون؛ لأنه هو الكل، والكل أكبر من مجموع أجزائه. تمامًا مثل أن الإنسان أكبر من مجموع كل الخلايا التي تُكَوِّن جسده، على الرغم من أن الإنسان ليس شيئًا منفصلًا عن الجسد. إذن وجهة النظر هذه تقول بأن الإله أكبر من كل أجزاء الكون، لكنه ليس منفصلًا عنه. وكما أنه لا توجد خلايا منفردة ترقى لتكون إنسانًا، فلا توجد أيضًا أجزاء منفردة من الكون ترقى لتكون الإله.
إن تفسير ويتمور مقبول، ليس فقط لأنه يتسق مع ما يقوله هيجل عن الإله تحديدًا، لكن أيضًا لأنه يجعل من الفكرة الرئيسية المهيمنة في فلسفة هيجل منطقية. فإذا كان الإله هو الفكرة المطلقة، والواقع المطلق للكون، والكل بالنسبة لأجزائه، فيمكن أن نفهم السبب وراء ضرورة تجلِّي الفكرة المطلقة لذاتها في العالم، وتقدمها هناك نحو إدراكها لذاتها. فالإله يحتاج الكون على النحو الذي يحتاج فيه الإنسان الجسد.
إن فكرة أن الإله يفتقر إلى أي شيء مستهجنةٌ من قِبل أغلبية المؤمنين المتدينين. وكون هيجل يشير لهذه الفكرة، في نظرهم، سببٌ لوصف فلسفته بأنها مخالفة للدين، لكنني أعتقد أن هذا خطأ؛ فهيجل يرى الإله، ليس بوصفه خالدًا وغير متغير، لكن كروح تحتاج لأن تتجلَّى في العالم، وما إن تتجلى، فإنها تجعل العالَم كاملًا كي تجعل ذاتها كاملة. إنها رؤية غريبة، لكنها رؤية قوية. إنها رؤية تُضفي أهمية هائلة على ضرورة التقدم: إن حركة تقدم التاريخ هي المسار الذي يجب أن يسلكه الإله لتحقيق الكمال. وهناك قد يكمن سر التأثير الهائل لهيجل، على الرغم من كونه محافظًا ظاهريًّا، على المفكرين الراديكاليين والثوريين.