٥ ساعات
كنتُ أجلس على المقعد ذي المسند العالي، وأمامي المكتب المتهالك، وقد ملأه الأطباء الذين عملوا قبلي بأسمائهم التي حفروها عليه، والحجرة قديمة قِدَم القصر العيني، وكل شيء فيها قد رأيتُه مرات ومرات حتى ارتويت. كلُّ شيء حتى بقايا القطن والشاش والدماء الجافة المتناثرة فوق الأرض، والترمومتر المكسور الذي وارتْه الممرضة لتوِّها في ركن الغرفة، كلُّ شيء حتى الأنَّات الصادرة من الكمساري الراقد هناك، وقد انتهيتْ من إعطائه حقنةً لم تستطعْ بعدُ أن تُخدِّر الماردَ الجبار الذي كان يعتصر كليتَه.
وفجأة دقَّ جرسُ الإسعاف.
دقَّ في قصر مرتفع مبتور.
ولهذا الدقِّ عند كل الناس معنًى، معنًى يحمل في طيَّاته رهبةً تشرخ قلوبَهم، ورعشة تنتفض لها أعصابُهم، فإنه يعني إنسانًا يموت أو سيموت. أما عند الأطباء فإنه يحمل في طيَّاته عملًا، ويبعثُ في تفكيرهم بالخيط وقد لُضم في الإبرة، والجلد وقد تعقَّم، ورائحة المخدِّر وقد تصاعدت مختلطة برائحة صبغة اليود، وحشرجة إنسان يتعذَّب.
ودقَّ الجرس مرةً ثانية.
وتوقَّفت، وتوقَّف التومرجي عن سرَحانه، واستدار ليُلقيَ ببقية سيجارته خِلسة، ثم عاد ينظر إليَّ من جديد، وقد زال الحرجُ الكثير الذي شعر به طيلةَ أنفاسه المختلسة.
وسادت فترةُ صمت كنَّا نتسمَّع خلالها عويل عجلات «الترولي» وهو ينساب قادمًا إلينا عبرَ الممرِّ الطويل.
ودلف رجلُ الإسعاف إلى حجرة الاستقبال، وقال وهو يكاد يلهث: حالة ضرب نار يا بيه! واحد ظابط اغتالوه في الروضة! ضرب نار! ضابط! اغتيال!
لم أعد نفسي حينئذٍ لصبغة اليود وماسك الإبر والخيط، فقد اختفى من شخصيتي تمامًا عامل الحياة، وطفحتْ تلك الكلماتُ القلائل فوق ذهني يدفعها بركانٌ يختزنه شعوري عن الاغتيال والظلام وضرب النار.
وقبل أن أستعيد نفسي، انساب «الترولي» إلى الحجرة في نفس اللحظة التي مزَّقت فيها سكونَ المستشفى كله صرخةٌ مدوية طويلة صادرة من الأدوار العليا.
وغادرتُ المقعد في لهفة وانكببت على الجريح أراه وأرى النار التي أتتْ عليه.
والحقُّ أنني لم أرَ ما حدَستُ رؤيتَه؛ فقد كان الرجل يرقد في ثقة، وقد أَسبل عينَيه وشبَّك ذراعَيه فوق صدره وزمَّ شفتَيه، واسترعتْني ملامحُه، كانت فيها مصرية، مصرية من ذلك النوع الذي يوقظ فيك مصريتك، ويجعلك تعشقها من جديد. وكان أسمر، تلك السُّمرة التي إذا ما تمعَّنتَ فيها وجدتَ في صفائها تاريخَ شعاعات الشمس المجيدة التي صنعت الحضارة على جانبَي النيل، وكان شاربُه الأسود الكثُّ يُلوِّن تلك السمرة، وتستشفُّ منه رجولة، رجولة تبعث القشعريرة في الرجال، وكان جسده صُلبًا شاهقًا، وعنقُه ممتلئة غليظة، كان يضجُّ بالحياة والفُتوة. ومع هذا يقولون مضروب بالنار.
وقفتُ أُحدِّق فيه ولا أتحرك، ولم أَعُدْ إلى نفسي إلا حين همَّ بالكلام؛ إذ مِلتُ عليه ألتقط الكلمات، وإذا بي أقول في صوت مستنكر هامس: إيه؟! قتلوك؟!
ومضى في نفس صوته المملوء المنخفض الرنَّان يقول: قتلوني في الضلمة، ضربوني بالنار، هنا في ضهري.
وسألته، وأنا ملسوع دهش: مين، مين هم؟!
فقال وهو مسترسل بنفس صوته الذي كان يجذبني إليه بقوةٍ وعنف: المجرمين ورئيسهم، العصابة كلهم، أولاد الكلب.
ثم توقَّف لحظة، وحدَّق بعينَيه السوداوين الواسعتين، وكأنه يخترق سقفَ الحجرة إلى ما وراءها من سماء: كده يا فاروق، تقتلني؟!
وتلقَّف الواقفون كلماتِه، وسرَت الهمهمةُ من داخل الحجرة إلى الخارج، إلى الشارع، إلى البلد كله، إلى التاريخ.
وأحسستُ بنفسي أنفعل وكأن نارًا قد شبَّت فيَّ، كنَّا أيامها تحت حكم فاروق، وكانت هناك أحكامٌ عرفية، وكان الظلام والسخط يُخيِّم على مصر، ويُعشِّش في قلوب الناس.
وكان لا يحمل إليَّ إلا ضحايا العربات وعجلاتها، وصرعَى التِّرام، وعتاةَ المتشاجرين، وكان ذلك أولَ جريح أراه مضروبًا بالرصاص.
ولم أعُدْ أتمالك نفسي.
تناسيتُ أني طبيب، وتناسيتُ ما عليَّ من واجب، ولم أعُدْ أُفكِّر إلا كمصري يختنق بالظلم، ثم يرى الظالمَ صرَع أخاه.
وغمغم الرجلُ المسجَى أمامي.
وعدتُ أنظر إليه وأُدقق النظر.
كان وجهُه يصفرُّ ويصفر، وكانت تقاطيعُه المفتولة تتراخى تحت وابل من نُقط العَرَق الصغيرة، وهي تتجمَّع فوق جبهته، وعلى وجنتَيه كقطرات الندى تتجمَّع على زهرة تَذبُل، وتلمستُ جسدَه فوجدتُه باردًا، لم تكن برودةَ الثلج، إنما كانت برودةَ ممرٍّ طويل في نهايته الفناء والضياع.
وقفزتْ إلى ذهني في قوة الانفجار تلك الكلمةُ التي طالما استبشعتُها: صدمة!
نطقت بها غيرَ شاعر أني أنطق، ومددتُ يدي أتحسس ذراعَه مرةً أخرى لأرى نبضَه، وصدرتْ من بين شفتيه التي كانت قد ازرقَّت تمامًا أنَّةٌ طويلة عميقة تعوي وتتلوَّى، وجمدتْ يدي في مكانها.
– آخ، آه، دراعي، دراعي مخلوع.
والتقط بضعَ أنفاس لاهثة.
وكنتُ أعرفُ الألم الذي لا يُطيقه بشرٌ حين تتحرك الذراعُ المخلوعة، إنه الألم الذي يصدم، ويقتل، ويُميت. ومع هذا فقد كان عليَّ أن أرى الإصابة، وكان عليَّ أن أديرَه، وأوقفتُ شعوري، وأوقف الرجال الموجودون أنفاسَهم ورنَّات آهاته وآلامه، تخرسنا جميعًا.
واستقرَّ بصري على أربع دوائر سوداء، وحولها ظلامُ الجلد المحترق. وكنتُ أعرف ما يؤدي إليه السواد والظلام، فقد كان يؤدي إلى ثلاث قطع محمية من الرصاص استقرَّت داخل الصدر، وقطعة نفذت واخترقت الرئة، وسال من منفذها الدمُ.
وقلت وكأنني أستنجد بشيءٍ غامضٍ، ولكنه قادر: الإسعاف السريع.
كان في هذه الكلمات، إذا احتاج الأمر أن أقولها، ما يردُّ لهفتي دائمًا ولهفةَ المريض في بعض الأحيان، وهرج التومرجية والممرضات في كليهما. كان فيها معنى النجدة، كانت تصور لي ظلام الريف الواسع المفتوح، وإنسانًا يستغيث في لهفةٍ راجفة، فإذا بلهفته تُرَدُّ إليه، ورجفته يعقبها طُمأنينة، حين يسمع من بعيد ومن أغوار الظلام، ذلك الصوتَ المغيث، تُردِّده فتحاتُ الفضاء: جايلك يا واد، جايلك.
•••
وعلى نفس السرير الذي مات عليه عبد العليم الطالب الصغير الذي أصيب بخبطة هوجاء في رأسه أثناء المظاهرات، والذي مات عليه صديق ابن العربجي الذي مرَّت فوق صدره عربةُ أبيه فتهشمت ضلوعُه، والذي مات عليه شعبان وصالح وعبد اللطيف ومحمد، على نفس هذا السرير رقد عبد القادر الجريح وحوله أسطوانات الأكسيجين، وأجهزة نقل الدم، وأوعية الماء الساخن، وطِلاء الحجرة الأبيض الناصع، وأزيز غلَّاية الماء، وحفيف البخار المتصاعد، ومجموعة من الأطباء، وممرضة، وصمت ترعشه أنَّاتُ عبد القادر.
وما كادت آخرُ قطرة من أول لتر من الدم تأخذ طريقَها إلى قلبه، حتى اختفت قليلًا تلك الصفرةُ التي علتْ وجهَه، وخفتت حركاتُ عينيه، حتى تركَّزت حدقتاه عليَّ، وظلَّ يحدجني ببصره طويلًا كالذي يتحفز لفعل شيءٍ دون أن ينطقَ بحرف. وعجبتُ لهذا التحديق، ثم زاد عجبي وأخذتْ دوائرُ صغيرة من القلق تنداح في صدري.
وفي اللحظة التي بدأ الخوفُ يأخذ طريقَه إليَّ تحركت شفتاه، وتغيرت ملامحُه، ثم استقرت تقاطيعُه على ابتسامةٍ كانت أجملَ ما رأتْه عيناي ليلتها.
ولستُ أدري ما ارتسم على وجهي لحظتها، فقد أحسستُ بفرحةٍ غامرةٍ دقَّ لها قلبي.
وطالت ابتساماتُنا، وامتدت، حتى قلتُ له وكأنني أقولها متأخِّرًا جدًّا: إزيك؟ إزيك دلوقت؟
ونطق بهمسة لاهثة: أحسن، أحسن كثير.
وشيئًا فشيئًا بدأت ابتسامتُه تتلاشى وراء غيوم، ثم اختفت، وأظلمت ملامحُه، وتقاربت تقاطيعُه، وانطلقت من سواد عينيه أشعةٌ تبرق، فقلت وأنا قلِق: مالك؟! فيه حاجة؟!
وتوترت أنفاسُه اللاهثة، واندفع يقول كالذي يخنقه كابوس: أيوه، علي، علي، الندل، يجرني للضلمة. وأنا صاحبه، صاحبه، الخاين، بس لو أروق له، وأروق لهم.
وتعبت تقاطيعُه، وخفت البريق، وأصبح سوادُ عينيه أكثرَ سوادًا، وتلألأت فجأة تلك القطراتُ الصغيرة الشريرة من العَرَق على جبهته وعلى وجنتَيه.
ولعل الابتسام هو ما كان يحاول فعلَه فلا تطاوعه قسَماتُه حين قال في صوتٍ خافتٍ غير مهتزٍّ: ميه، عاوز أشرب، عطشان.
وكانت يدي أسبقَ من يد الممرضة أمدُّها إليه بقطعة القطن، وقد بللتُها بالماء لأمسح بها شفتيه ولسانه. وطاوعتْه القسماتُ في النهاية، فابتسم وهو يقول: متشكر، متشكر يا دكتور، كمان، كمان، عطشان، يا ناس، عاوز أشرب.
وكانت يدي أسبقَ من يد الممرضة؛ لتمنع عنه الماء هذه المرة.
وسمعتُ نقرًا على الباب، وحين فتحتُه وجدتُ الممر الطويل يضيق بالناس والهمسات والتوجس، واندفعتِ العيونُ نحوي، ولمحتُ في كل العيون تساؤلًا، ورجاء، رجاء في أمل.
ودخل كاتب الاستقبال، صامتًا على غير عادته، لا تستقرُّ نظراتُه كالذي يبحث عن شيءٍ، ونسي ما يبحث عنه. واتجه إلى الركن الذي وضعنا فيه أشياءَ عبد القادر، بذلة في ظهرها ثقوب، وقميص أبيض لا تهتمُّ لبياضه بقدر ما تقشعرُّ للدائرة الحمراء البشعة على صدره الأيمن، وعلبة فيها ثلاث سجائر، ومنديلان، وقطعة حلوى، وحافظة نقود فيها فوق ما فيها من أوراق صورة قديمة تثنَّت حوافُّها لطفلٍ صغير.
وتلكأ الكاتب قليلًا بعد أن انتهى من مهمته، ودار ببصرٍ ذاهلٍ في أرجاء المكان، واستقرت عينُه بعد تردُّد على عبد القادر، ثم غادر الحجرة تاركًا خلفه أصداء همهماته المكتومة.
وأغلقتُ الباب.
•••
وكان الوقت قد تأخَّر، والمصابون الذين يتطلبونني قد انتهوا أو كادوا، والليل قد عمَّ أرجاء المستشفى، والظلام في الخارج واسع واسع لا حدود له، والنور في الداخل ساطع يلمع له كلُّ شيء، والغلَّاية تزنُّ، والممرضة تتثاءب، والتومرجي واقف قد ألصق ساقَيه بحافة السرير، والهواء أصبح لزجًا ثقيلًا.
وأحسستُ أول الأمر أن أشياء كثيرة حولي تلهث.
ثم شعرتُ بالحجرة كلها تزفرُ، وكأنها رئةُ محموم.
والتفَّت حول قلبي أصابعُ رفيعة غامضة، وشدَّدت قبضتَها.
ووجدت نفسي أقف، وأتمشَّى في الحجرة، ورفعتُ «كوبس» الغلَّاية، وأعدتُ رباط «محلول الملح»، وما كان في حاجةٍ إلى رباط.
ومع هذا بقيت الحجرةُ كلها تلهث كرئة المحموم.
وعلى حين بغتةٍ عرفتُ ما حدث.
ووقفتُ أرقب صدْرَ عبد القادر الصاعد الهابط، وأتمعن فيه وهو يجاهد ليستخلص الهواء، فتتقبض كلُّ جارحةٍ من جسده، ويُصبح وجهُه كالقمر المخنوق، ثم يناضل ويتألَّم وهو يناضل، حتى يدفعَ القليلَ الذي استخلص، ويستعدَّ للأقل الآتي.
كان يتنفس، وكأنما حجر ضخم يجثم فوق صدره، ولا يستطيع منه فِكاكًا.
واحتار السببُ في رأسي قبل أن يجدَ الجواب.
وأملت نفسي قليلًا أرى الجانب الأيمن.
ورأيت الدم، الدم لا كما اعتدتُ رؤيته يلون جرحًا أو يخضب رأسًا، وإنما الدم المندفع في نافورةٍ حمراء، وقد أغرق الملاءات، وشبعتْ منه المرتبة، ومضى يتساقط عبر حديد السرير الأبيض نقطة وراءها نقطة، وسربًا وراءه أسراب.
لقد بدأ النزيف.
وبحثنا جميعًا عن كل ما استطعناه من قطنٍ وشاشٍ نكتم به الدمَ المتصاعد الوهَّاج.
واحمرَّ القطن الأبيض وامتلأ. واعتصرناه، ثم وضعناه فعاد يمتلئ ويتسرب منه الدمُ بإصرار وعمدٍ إلى أرض الحجرة.
وأفلحنا أن نسدَّ الثقبَ المتربص تحت الثدي الأيمن كالعدو المبين، وألصقنا عليه المشمع طبقة فوقها طبقة، ولم أثقْ في المشمع، فوضعت يدي فوقه أكتمُ بها النزيف.
ووقع بصري على يدي، فوجدتُها كلُّها دمٌ جف، وآخر لم يجفَّ.
ولم يكن هذا أولَ دمٍ أراه، كانت رائحةُ الدم تملأ أنفي دائمًا منذ أن عملتُ في الاستقبال، الرائحة التي لها دفئه، الدفء الخانق القابض، والتي تلمح خلالها زفارةً كعفن الموت، الرائحة التي تُذكِّرك بالمذبوحين والمبقورين، ومن في صدورهم سُلٌّ.
ولكن في تلك الليلة، كنت كلما رأيت دم الجريح المغتال يجفُّ فوق يدي، وينكمش حين يجفُّ، كلما أوغلتُ في تأملي للجريح الذي لا بد كان رجلًا ككل الرجال، نمَى من طمي وادينا، ومضَغ قمحَنا، وارتدى قطنَنا، وصنعتْ أذرتنا خلاياه.
وكلما أوغلتُ في تأملي، كلما همتُ أستعيد ما فات، وأرى الأجداد والآباء، والشهداء الذين لهم أسماء فوق الرخام، والشهداء الذين بلا أسماء ولا رخام، وأرى الناس ونفسي، وكل من له عِرق، وكل من له خال، وكل أولئك القانعين بالألم.
أهيم، ثم أعود إلى يدي التي فوق صدر الجريح، إلى الأصابع التي تحاول عبثًا أن تمنع موتًا جديدًا، وأي موت؟
عدتُ مرةً لأجد اللاصق الذي وضعتُه قد انتزعه الدمُ الساخن المتصاعد، والنافورة قد بدأت.
وضغطتُ يدي، وأجلْتُ بصري أراقب بقايا الزجاجة الخامسة من الدم، وهي تسيل من الجهاز إلى شرايين الجريح، وتدفعها الشرايينُ إلى الثقب الذي ما كانت يدي تستطيع أن تُفلحَ في سدِّه، وينتهي الدمُ إلى خيط النقط الغليظ، وهي تتساقط على أرض الحجرة الصُّلبة.
وفرغ كلُّ ما في المستشفى من دماءٍ صالحة.
ولم يفرغ الدمُ المنبثق.
وكنتُ وزميل جاء يساعدني تتقابل نظراتُنا، ثم تتباعد لتغيب عقولنا.
وكان لا بد من دمٍ آخر.
وانتهت دورة الزميل على مستشفيات القاهرة كلها، وقد عاد بلترٍ واحد، آخر لتر من الدم في البلد، وآخر ما نتعلق به، وقد يئسنا من الأمل.
وكنا قد يئسنا.
فصدره الصاعد الهابط كان قد بدأ يخرخش، والفقاقيع التي تكوَّنت في كراتٍ حول فمه، وسمرته أخذت مكانها رمادية لا تمتُّ إلى الأحياء.
وكثيرًا ما رأيتُ أناسًا، ورأيتُ جرحى، ورأيتُ جرحى يموتون، ولكن كان صعبًا عليَّ أن أصدق أن عبد القادر سيموت. كان قد أقبل في أول الليل فما أحسستُ أن في صدره رصاصًا، وقضيتُ بجواره ساعات، خمس ساعات. أسمع حديثه اللاهث، وأرى فُتوتَه تنكمش وتنكمش، والعملاق الذي كان يُضمر ويُضمر، وجسده الذي كان قد ابتلع الجروحَ فما ظهر لها أثر، أصبح كل ما فيه الجروح، وكنتُ أكثر الوقت معه وحيدًا، وكان هو خائفًا من الموت، وكنتُ خائفًا عليه، وكان كلانا عنده أمل. كنتُ أستمدُّ أملي من الزجاجات والمورفين وحمَّام الكهرباء، وكان يستخلص أمله من أملي، ويناضل وهو يستخلصه كما يقاتل وهو يستمدُّ الهواء.
وكان يقول لي في أول الليل: يا دكتور، وكنت أقول له يا كابتن، ثم ناداني باسمي، وناديتُه باسمه. وكان الوقت يمضي، في بطءٍ ثقيل، وكانت الأحداثُ كثيرة تكاد تستغرق عمرًا بأكمله، وكنتُ أحسُّ طوالَ العمر الثقيل أنه مضروبٌ في ظهره، وأنه مغتالٌ، وأنه مظلوم؛ لأننا كلَّنا مظلومون.
وما كنتُ وحدي الذي حدَث له هذا.
كنتُ والممرضة والتومرجي قد ألَّف بيننا ذلك العمر، وهدَّتْنا الخمسُ ساعات، وصاحبنا عبد القادر في رحلته، فعزَّت علينا الصحبة، وأصبحنا كالأسرة الواحدة ذات الجرح الواحد.
وكان اليأس هو أمضَّ ما نستطيع ابتلاعه.
وكان اللتر الأخير الذي جاء به الزميل أهمَّ حدَث في ليلتنا.
ورحنا نعالج وضعَه وإحكامه بحرص، ونكل في البحث عن وريد نضع فيه الإبرة، وقد اختفت كلُّ الأوردة، فلا تومرجي أو حكيم، إنما مجموعة من البشر تكافح من أجل إنسان، إنسان قد أصبح عزيزًا عليها.
وسرى الدمُ الجديد.
وتقاربنا حول الفراش نرقب النتيجة، ونُخفي وجلَنا ونحن نرقب رَجلَنا، وهو يئنُّ بلا فَم، ويتلوَّى ويرفع ساقه ويدفعها، وتنقبض أيديه وتنبسط بقوة، وجسدُه يُصارع النزيف الداخلي.
وهدأ الجسدُ بعد هنيهة، واستمرَّ الأنين الخافت المتواصل؛ الأنين الذي يُثير فيك كامنَ أشجانك، فتذكر كل ما مرَّ بحياتك من أحزان، وتبكي على كل من مات.
وحدسُنا أن الأزمة قد مرَّت، والدمَ الأخير قد أفلح.
ولكن كان الهدوء الذي ساد جسدَه لا يُطمئن، وكانت الخرخشة التي في صدره تزداد، حتى أصبحت كأصوات المنشار، وهو يغور في الخشب.
وكانت الساعة تبتعد عن الثالثة.
وفجأة توقفت أنفاسُه، واشرأبَّت أعناقُنا، ولكنه عاد يفتح شفتَيه؛ ليبصق ملء فمه، دمًا أحمر، نفس الدم الذي كان منذ هنيهة في الزجاجة.
واحمرَّ القطن من جديد وهو ينضح الدم.
وتباعدت أجفانُه التي كانت مسدلةً من أمدٍ بعيد، وسقط الضوءُ على عينيه، وهما تُحدقان في لا شيء، وتحدقان في ضعف، وكأنهما لا تريان شيئًا، تباعدت أجفانُه، وانساب من حلقه صوتٌ لا يكاد يُسمع، وهمس: ميه، عطشان.
وبللتُ فمَه بالماء، بل أقول الحق جعلتُه يرتشف ما شاء من كوب الماء المثلج الذي أحضرته له.
وفتح فمَه بعدها مرة، ومرة، ومرات ليبصق الدم.
وأصبح الجرح الذي في جانبه أوسع من فمه، وما يجئ منه أغزر.
ثم راح في غيبوبة.
ورحنا في صمت.
وتلفتُّ حولي لأجد الحجرة قد وقف ما فيها من هواء، ومصابيحُ النور حولها دوائر لها ألوان، والجدران تُردِّد حشرجةَ أنفاس تتباعد وتطول، والوقت أبطأ من بطئه حتى لكأن بين الثانية والثانية عام، وزميلي يكاد يقف على أطراف أصابعه، وقد أمسك بالسرير وسمَّر عينيه على زجاجة الدم، والممرضة راحت عيناها تعدو بين الفم الذي أصبح كالجرح، والجرح الذي أصبح كالفم، والتومرجي قد أمسك بمفتاح أسطوانة الأكسجين واستمات عليه.
كنا جميعًا نتحفز ونستعدُّ، كنا نحسُّ بشيءٍ غامضٍ مخيف يحوم حولنا. وكانت قلوبُنا وسواعدنا وعقولنا متشابكةً متلاحمة تُحاصر رَجلَنا، وتمنع عنه الحائمَ المخيف.
وتباعدت الثواني، وضاقت الحجرة، حتى ما عُدنا نستطيع التنفس.
واندفعنا نحوه كما نقذف بأنفسنا في خِضَمِّ البحر لانتشال غريق، وتصبَّبْنا مياهًا ونحن ندفع الهواء إلى رئتيه، ونخترق صدره بإبرة طويلة، حتى تصل إلى قلبه، فيحركه العقار، وننفخ في الزجاجة ليذهب الدم جميعه مرةً واحدة إلى عروقه، ونفتح أسطوانة الأكسيجين على آخرها؛ ليعلوَ صدره.
وحاربنا عدوًّا قويًّا لا نراه.
كنا نكزُّ على أسناننا، ونبذل طاقاتِنا كلها، ونحسُّ أننا نستطيع دكَّ الجبل، وهزَّ السماء وأرجاف الأرض.
ولكن الحقيقة كانت تلاحقنا.
وخفنا أن نصدق، ورحنا نراوغها ونسابق بعضنا بعضًا في المراوغة والهروب، ونسرع في اعتصار أنفسنا، وضم قوانا، ويزداد إيماننا بخداع الحقيقة.
وجاءنا من الركن نحيبُ الممرضة المكتوم.
واقشعرت أجسادُنا من النحيب، وانتفضنا نبذل ما في وسعنا من جرأة اليائس ومقدرته.
وعلا نحيبُها، فأصبح كدوي الطبول.
ودفع التومرجي أسطوانة الأكسيجين جانبًا، وارتمى فوق عبد القادر وهو ينهنه ويبكي، ويقتلع النفوس ببكائه الرجالي الخشن ويقول: آه يا حبيبي يا خويا.
وأفقت على قول زميلي، والدموع تغصُّ حلقَه: البقية في حياتك.
وتسربت إلى نفسي من خلال كلماته تلك اللحظة التي نعرفها جميعًا، والتي نحسُّ فيها أننا أوهنُ من الضعف، وأتفه من العجز، وأننا مضيعون، تلك اللحظة التي لا نملك معها إلا البكاء، فيحملنا البكاءُ إلى بكاء.
وجال بخاطري أن أُعانقَ زميلي وأضمَّ ما في صدري إلى ما في صدره، وأُخفيَ ما أحسُّ به من خجل إزاء فشلنا أمام الموت، أخفيه فيما يحسُّ به من خجل.
ولم أفعل، وبقينا بلا زمن، راجين، نتأمل الرجل المسجى، وتحز الخسارة في قلوبنا، وأعيننا ثابتة في مكانها لا تغادر وجهَه الوديع الذي كان يلمع بالعرق، آخر عرق، وملامحه التي استراحت في هدوءٍ دائم.
وحين واريناه تحت الغطاء كان الشكُّ في موته لا زال يملأ منا النفوس.