أم الدنيا
كان مطعم الدرجة الثالثة في آخر عشاء يسوده جوٌّ غريب، ومع أن الضوء كان قويًّا باهرًا، ودقائقه تتساقط في عددٍ لا نهاية له على كل شيء فتبدو وجوهُ الجرسونات الحليقة الناعمة، والمفارش البيضاء والملاعق، والأكواب الزجاجية النظيفة، تبدو كلها لامعة أنيقة، وكأنها طليت بماء النور.
مع هذا إلا أن المسافرين كان حديثهم همسًا خافتًا، يدور معظمُه حول الوصول إلى الإسكندرية في الصباح الباكر، ثم نهاية الرحلة بعد الظهر في بيروت، وكان بعض الحديث يدور حول البحر ودواره وصرعاه في اليومين السابقين الراقدين، لا يستطيعون التحرك أو حتى العشاء.
وأثناء الهمسات والابتسامات كان من المسافرين يجولون بأبصارهم في أرجائه، ويودِّعون كلَّ شيء بأعينهم ويودعون بعضهم بعضًا، وقد أحسوا بلذعة؛ إذ سيتركون وجوهًا قد اعتادوا عليها وألفوها، بل بدَا الجرسونات أكثر رقة، والناس ينادون بعضًا منهم بأسمائهم وقد عرفوها، ويتبادلون معهم فكاهات سريعة، وهم يوزِّعون الطعام.
وكان المسافرون أنفسهم خليطًا متنافرًا، بعضهم سائحون، وبعضهم أجانب عائدون، ولبنانيون، وأروام.
ثم كان هناك بعضُ مصريين، سبعة من المصريين الذين جمعتهم الرحلة، ولا شيء سواها.
وصحيح أن الرسام العائد من إيطاليا، والذي كان جالسًا في ركنه المعهود يمضغ الطعام على مهلٍ تائه لم يكن يبدو عليه أنه مصري، إلا أنه كان كذلك، بل من حي الحسينية بالتحديد. وكان في آخر عشاء أيضًا لا زال منطويًا على نفسه، ولا زال يُحدِّق في الفتاة التي خلبتْ لُبَّه، وجعلتْه يمضي الأيام الأربعة التي استغرقتْها الرحلة يلتهمها بنظراته، ويراها، كما رآها أول مرة، أجمل فتاة في الوجود، فلم تقع عينُه أبدًا على شبيه ولو من بعيد لذلك الجمال، جمال الجهاز الدقيق، الرائع الدقة، الجمال الذي ليس فيه وجهٌ كالقمر، وعينان مثل عيون المها، وشفتان كحبَّات الكريز، وصدر بارز، وسيقان ملفوفة، وإنما ذلك الجمال الذي لا تنبع الروعة من أجزائه مهما بلغت من سحر، إنما هو كاللحن الموسيقي الفريد، يحسُّ الإنسان بما فيه من عبقرية إذا استمع إليه كله، واستوعبه كله وعاش فيه.
هكذا رآها أول مرة.
وهكذا أحسَّ بها، ثمينة في دقائقها، حتى ليخاف على ملامحها من نظراته، رائعة في كلها، حتى لتروي ظمأ البشر أجمعين إلى الجمال.
وثيابها كانت بسيطة، بل كان الجمال في بساطتها، بنطلون واسع وبلوزة، وحول عنقها إيشارب بنفسجي عقدتْه في إهمالٍ بسيطٍ مثير، كان يعبث به الهواء فيتطاير، ويبهت لونه، ويتلاشى وكأنه يستحيل إلى عطرٍ وبنفسج.
ولم يكن أول ما وضع قدمه في الباخرة يحلم برؤيتها، بل ما كان يفكر حتى في دخول المطعم ولا العشاء، كان يومها مثل بقية المسافرين يحسُّ بالانتقال المفاجئ من المدن والجبال والشاطئ إلى البحر والطبيعة الجديدة التي احتوته؛ ولهذا كان يشعر بقلقٍ غامض يمور في صدره، ويدفعه للبحث عن شيءٍ لا يدري كنهَه، فراح يجوب الباخرة، ويقف ولا يدري لماذا يقف، ثم يسير ولا يدري أين يسير، ويتفرج على كل شيء، حتى على الفرشة التي ينظف بها البحَّار ظهرَ الباخرة، ويفكر في كل شيء، حتى في شيَّال محطة نابولي الذي لا ريبَ قد استغفله، ويتلكأ ليسمع حديث البحَّارة الإيطاليين، وتُعجبه نغمةُ دقَّات العشاء، وهي تخفت وتعلو وتبتعد، ويذهب هكذا وبلا إرادة إلى المطعم، وهناك يراها، وحينئذٍ يُدرك كنهَ ما ظلَّ يبحث عنه، ويحس بالقلق الغامض يهدأ، ويصبح كالراحة الأبدية في صدره.
ولم يرَ شيئًا سواها طيلةَ الأيام الأربعة، وقنع بالتحديق فيها من بعيدٍ لبعيد، وهو يحسُّ بها إحدى معجزات الكون، وينتشي برؤيتها، كما ينتشي برؤية السحاب المضيء، وأنوار القرى المبعثرة على جانبي مضيق مسينا، وهي تبرقُ في الليل كنجوم الأرض، والبحر العميق الذي لا يهجع.
لم يحاول حتى أن يعرفَ اسمَها، ولا مِن أين جاءت أو مع مَن تقيم. ورآها ترقص «الدبكة» مع اللبنانيين، وسمِعها تتحدث بالفرنسية مرة، والإنجليزية مرةً أخرى، وأحبَّ إنجليزيتَها تمامًا مثلما أحبَّ الفرنسية، وهي تنساب في رقةٍ من بين شفتيها.
وظلَّ يعبدُها هكذا بنظراته إلى آخر عشاء.
وبينما الرسام في هذا، كان هناك مدرسٌ مصري آخر عائدٌ من البعثة مشغولًا كالعادة بمزاولة هوايته في التعرف إلى الناس ومحادثتهم، وفي ذلك الوقت كان يتحدث باهتمام مع جارٍ جديدٍ له تعرَّف عليه قبل العشاء بدقائق، وكان سعيدًا جدًّا بالفرصة التي انتظرها طويلًا؛ فالرجل قد أتعبه وحيَّره أمرُه، وهو يراه لا يُغيِّر ملابس الكشَّافة التي ركب بها الباخرة، ولا يكلُّ عن التجول فوق ظهر المركب برأسه قليلة الشعر، ووجهه الأحمر الشديد الحمرة، والشعر الأصفر القليل الذي حول ركبتَيه المكشوفتين، والكتاب الأزرق الذي لا يتركه من يده.
حيَّره الرجلُ طويلًا، حتى أُتيحت له الفرصة في آخر عشاء، فعرف أنه سائحٌ ألماني في طريقه إلى مصر، وأن الكتاب الذي في يده هو عن آثارها.
وكان بيترو هو أسهل مَن تعرَّف إليه من الناس؛ إذ بعد أن وضع حقائبَه في الكابينة، وصَعِد إلى البوفيه، وتلفَّتَ فلم يجد إلا وجوهًا متعبة، عجوزًا ممسكة بمجلة، وفوق عينَيها نظارة، ورجلان سمينان مالت رأساهما، وراحا يتهامسان، وراهبةً شديدة البياض ساهمة تُحدِّق.
وعانس كان يبدو أنها إنجليزية جالسة ترمق الموجودين باشمئناط، ولا شيء غير هؤلاء سوى المقاعد التي تنزلق وتتخبَّط كلما تمايلت الباخرة فوق صدر الموج الصاعد الهابط.
ولم يجد حينئذٍ ما يُغريه، فاتَّجه إلى البوفيه، وابتسم لبيترو الجرسون الواقف يُعِدُّ القهوة، وكأنهما صديقان قديمان، وقال له هاشًّا باشًّا بالإيطالية: بونا سيرا.
فقال بيترو: بونا سيرا سنيور.
وهكذا انتهى كلُّ ما يعرفه من الإيطالية، وبدأ يستعين بالإنجليزية التي ذهب إلى إنجلترا يتخصص في تدريسها، وعاد يعدُّ الماجستيراه، ولاحظ أن بيترو يُجاهد بأدبه الكسول ليلمَّ أطرافَ إنجليزيته، ويُجيب على أسئلته الكثيرة.
ومع هذا طال حديثُه مع بيترو.
وعجب المدرس لذلك الإنسان الذي له بيتٌ وزوجة وأولاد في فينيسيا، والذي لا صديقَ له سوى البحر، وقد عمل فيه ثلاثين عامًا، وأصبح لا يطيق ساعة واحدة يقضيها في البر، حتى ولو قضاها في بيته وبين أولاده.
وعلى مائدة العشاء لم يكلفه الأمرُ أكثر من ابتسامات أربعة أصبح بعدها يعرف كلَّ شيء عن الأربعة الجالسين بجانبه إلى مائدة العشاء.
وكان الأمس فقط هو أكثر أيامه ازدحامًا، فقد عرَف فيه أكثرَ من ثلاثين مواطنًا لبنانيًّا عائدين من المهجر.
وكان أغرب مَن عرفه حقًّا هو اليوناني العجيب الذي ليس في رأسه شعرة واحدة سوداء، والذي لم يصدقه أبدًا وهو يروي كيف ذهب إلى العراق شابًّا قبل الحرب الأولى ليعمل في حقول البترول هناك، وكيف ظلَّ يعمل ويكدح، حتى انتهت الحرب الثانية. ولما أحسَّ بالكبر وأراد أن يستريحَ باع كلَّ ما يمتلكه، وعاد إلى اليونان هو وزوجته.
والذي أضحكه بحق أن اليوناني العجوز قال إنه لم يحتمل البقاء في اليونان، ولم يرتحْ إلى معاشرة مواطنيه، وقد مات أصدقاؤه وتفرَّق معارفُه، وأنه أحسَّ فعلًا بالغربة في بلده، وامرأته ضاقت بلِدَاتها اليونانيات، وكانت تبكي دائمًا حين يَتهمْنَها بأن الصحراء قد خشنتْ طباعَها وغيَّرتْها؛ ولهذا قرر بعد شهور قليلة قضاها في اليونان أن يعود إلى العراق هو وزوجته، فقد اشتاق إلى الماء هناك، وإلى البيت الذي على نهر الفرات، والذي طالما حلم به.
ويقهقه المدرس كلما تذكَّر العجوز، وهو يتنهَّد، ويقول بلكنته العراقية الأجنبية: وين أنت شيخ جابر؟ وين أنت جافري؟ وين كلكم؟ كلكم؟
وبينما المدرس في آخر عشاء منهمكًا في حديثه مع الجار الجديد الذي تعرَّف به، ومنهمكًا في مناقشة ما يحتويه الكتاب الأزرق عن مصر، ويتحمَّس وهو يعطي للسائح نمرة تليفونه، ويعرض عليه مرافقتَه طوال فترة إقامته.
بينما هو في هذا، كان أربعةُ مصريين آخرين يحتلُّون المائدة التي بجواره، وكانت العينُ لا تُفلتُ مِصريتَهم، وحول المائدة طربوش وجلباب، ووجوه سمراء وأفواه فيها طعام، وضحكات، وقبضات تدق، وظهور مائلة إلى الوراء كثيرًا، ومائلة معها المقاعد، ونكت تترى، و«قافية» قد انهالت على الجرسون الطلياني، وهيصة، وكلام.
وكان الأربعة خدم أمير مصري قضوا معه الشتاء في نيس، ثم أرسلهم يسبقونه إلى مصر.
وكان الأوسطى شرف الطباخ مرحًا على غير عادته، وكان يرتدي نفس جلبابه الإفرنجي الذي له جيب ساعة على الصدر، والذي فيه ساعة لها «كتينة» غليظة، وعلى رأسه كانت طاقيته البفتة، وذيلها محبوك على جبهته. وكان جالسًا على راحته بجسده الضخم الذي في ضخامته طيبة وعنقه الغليظ السمين، ووجهه المنتفخ الأشداق الوديع القسمات، وشاربه الكث الذي تناثرت فيه شعراتٌ بيضاء قليلة، وكان الأوسطى يرفُّ بعينه إلى المرأة الرومية البدينة، ويقشعر جسده، فيُخفي القشعريرة بضحكة عالية تتردَّد بين أشداقه.
ومنذ حادثة البوفيه والمرأة تكهربه كلما رآها، فهو قد ركب الباخرة بعد أن قضى في بلاد الناس شهورًا طويلة عانى في أثنائها ما عانى من الحنين إلى امرأته فردوس وسروالها البمبي المشغول بالدانتلا، والذي يصل إلى الركبة، وكان أحيانًا يضعف، ولكنه كان لا يطيق أبدًا أن يرتكب الفحشاء، ولو بالنظر، وحين احتوتْه الباخرة كان لا يزال عند تصميمه الأكيد، ولكن تلك المرأة ذات الأرداف، أعوذ بالله، هل سلطها الشيطانُ عليه؟ لقد كان جالسًا في أمان الله في البوفيه يومها يلعب «الولد يقش» مع عوض أفندي، ومن حيث لا يدري ولا يعلم وجدها واقفة بجواره تبتسم، وحدث أن مالت الباخرة، فجعلت المرأة تكاد تلتصق به، أو على وجه التحديد جعلت رِدفها الأيمن يلطشه في جانبه، ومن ساعتها وكلما رآها وقف شعرُ رأسه، بل وقف شعرُ جسده كله.
وكان عوض أفندي كالعادة جالسًا بجواره، وعينه لا تفارق الطبق الذي أمامه، وطربوشه محكم الوضع على رأسه، ووجهه الأسمر هادئ لا اضطراب فيه، ولا يلمع منه في الضوء إلا مكان العصفورتين اللتين كانتا مرسومتين على جانبَي وجنته، ثم أزالهما بماء النار، وبقي مكانهما لأبيض يلمع، وكان عوض أفندي هو المختص بقهوة الأمير وتقديمها، وهو الذي عليه انتقاءُ البنِّ وتذوقه وضبط السكر.
وكان ابن حلال لا يعرف لفًّا ولا دورانًا، وقد قضى أيام الرحلة كلها يقرأ في المصحف الذي يحمله معه دائمًا، حتى كاد يختم الربعة، وكان هناك شيءٌ خطير يشغله ويُربكه ويسدُّ نِفسه؛ فهو كان يصلي على ملاءة السرير، وظلَّ يصلي عليها طوال الرحلة وما أدراه أن الملاءة طاهرة والناس الذين في الباخرة لا يعرفون طهارة أو يحزنون؟
والأدهى من هذا أنه لا يجد أحدًا على الباخرة يُفتيه، وكلُّ من عليها فسقةٌ لا يصلون.
أما الأوسطى حامد الجالس ووجهه في الحائط المقابل، فقد كان سائقَ الأمير الخاص، وكان لهذا أتعسهم جميعًا. وكانت العربةُ الجديدة سببَ تعاسته؛ فقد اشتراها الأمير من أوروبا، وكان على حامد أن يتولَّى شحنها على نفس الباخرة، وقد فعل هذا على أتم ما يرام، ولكنها أُصيبت بخدشٍ واضح.
ولم يفكرْ حامد أثناء المجيء كله إلا في ذلك الخدش، وكيف يُداويه، وهل يُفلح في إخفائه عن عين الأمير الذي شغف بالعربة وجنَّ بها، خاصةً وهو الآن لا ريب قد وصل مصر من زمن، وينتظرها على أحر من الجمر، ولم يُفكر إلا في هذا، ولم يرَ إلا وجهَ الأمير الغاضب وعقله الصغير، ولسانه وهو يَرطُن بالتركية ويرفده.
وعلى عكسه، كانت الدنيا لا تسعُ سعد الله السفرجي، وقد اشترى بكل ماهيته بدلة، أول بدلة في حياته، ولم يلبسْها من ساعة أن اشتراها، وإنما تركها في صندوقها الكرتون الكبير، وكل ليلة كان يفتح الصندوق، ويُخرج السترة ويتلمَّسها، وأحيانًا يرتديها ويخطر بها أمام المِرآة، ثم يخلعها ويطويها ويعيدها إلى مكانها في الصندوق، وقضى الرحلة كلها وهو سعيد بملمسها الدافئ، وبجيبها الداخلي الصغير الذي توضع فيه الفكة، ولا يستطيع أن يتخيَّلَ بالمرة أنه سيرتديها يومًا ويصبح أفنديًّا.
أما السابع، فقد كان ينزوي في آخر عشاء في ركنه المعهود لا يُعجبه ضجيجُ مواطنيه، وتشمئزُّ له نفسُه، وتنتابه موجاتُ الضيق، وهو يشاهد مواطنَه الآخر المدرس الذي لا يملُّ الاحتكاكَ بالناس ولا التظرف إليهم. وكان السابع عائدًا من البعثة كالمدرس والرسام بعد أن أخذ الدكتوراه في قانون من القوانين، وكان مفروضًا أن يعود في الدرجة الثانية، ولكنه آثر أن يحصلَ على الفرق، ويعود في الثالثة، وكانت مشاغلُه أكثرَ من أن تسعها الثانية والثالثة معًا، أربعة وثلاثون طردًا معه، فيها هدايا وتُحَف وأشياء عانى في نقلها العذابَ الأليم، ومن قبل أن تبدأ الرحلة وهو مهموم يُدبِّر كلَّ تصرفاته يومَ الوصول، وكم يأخذون في الجمرك، أو هل يَعدُّونه يا تُرى تاجرًا.
وكان على العشاء الأخير يحدج مواطنيه، ويحسدهم على قلوبهم الخالية وضحكاتهم التي لا همَّ فيها.
•••
وانتهى العَشاء.
وتسلَّل المسافرون إلى الشُّرفة التي أمام المطعم.
واستند بعضهم إلى الحاجز، ومشي البعض متلكِّئًا، وجلس آخرون.
وكانت الدنيا رائعة.
ظلام ليس أجمل من النجوم تملؤه، ونجوم ليس أجمل من الظلام يُحيطها، وهدير البحر يتدفق إلى الآذان وكأنه آتٍ من حناجر ملايين معذبة تعيش في أماكن مجهولة وراء الليل، واهتزازات موتور الباخرة التي يرتجُّ لها كلُّ شيء لا تنقطع، والطلاء الأبيض الذي يلون حتى الحبال، والأضواء الكثيرة التي تُحيل الباخرة إلى نجفة كبيرة عائمة في الظلام.
وتوقَّف الرسام لا يتحرَّك، وقد بلغت به النشوة حدَّ السكون والاستسلام، وأحسَّ بخياله يمضي على وقْع دقَّات المحرك واهتزازاته، ويجتاز ذلك الحاجز الرقيق الذي يفصل بين حياته وأحلامه، فيعيش وكأنه يحلم، ويحلم وكأن أحلامه حياة.
وصحا على قُبلة عبرت بأحلامه، فدقَّ الحاجزَ بيده كما لو كان يثور، وأخذ طريقَه إلى الفراش وهو ساخط على نفسه وضعفه واكتفائه بمشاهدة الفتاة، وكأنها طبيعة صامتة، لا حياة فيها ولا حياة فيه. ولما احتواه الفراش لم يَنمْ، ولكنه راح يتقلَّب ويثور ويؤكِّد لنفسه ما استقرَّ عليه عزمُه، وكان قد قرَّر أن يبقى في الباخرة حتى تنجليَ الزحمة، ثم يذهب إلى الفتاة ويُحدثها، ويطلب منها بلباقةٍ في آخر الحديث أن تقضيَ معه بضع ساعاتٍ في الإسكندرية، حتى يحينَ ميعادُ إقلاع الباخرة.
ونام أخيرًا وهو يرقب المحادثةَ التي سوف تدور، وينتقي كلماتِها، بل ويجرِّب نفسَه حين ينطقها.
والتهم المدرس عشاءه كالموهوم، ومضى حالًا إلى فراشه، فقد عرف من أحد جيرانه أن وكيل وزارة المعارف مسافرٌ في الدرجة الأولى على نفس الباخرة، وكان عليه أن يتعرفَ به؛ إذ من يدري؟ ربما؟! ربما أقنعه بكفاءته؟! وجائز جدًّا أن يقتنعَ، وجائز أن يُعيِّنَه ناظرَ مدرسة أو على الأقل مدرسًا أول في القاهرة، وفكَّر ثانية واحدة في الغد، وكيف سيجد المنيرة؟ لا بد أن أحداثًا كثيرة قد وقعت. لا بد أن البواب العجوز قد مات، وصبي موقف التاكسي قد أصبح سائقًا. وما لبث أن عاد إلى الوكيل، وظلَّ يُفكر ويُرتب الأمر بكل دقة حتى أصبحت كلُّ خطوة كاملةَ العدة في عقله، وأحسَّ بعقله المتعب يرتاح وتثاءب.
وفي نفس الوقت كان الأوسطى شرف راقدًا في الفراش، ونار موقدة تحت ظهره، ويده تعبث بشاربه، وتزن ابتسامة المرأة الرومية البدينة التي لوحته بها على العشاء، ويُديرها على كل وجه، وقال وهو ينفث زفيرَه بحُرقة: آه لو الواحد يقنيها.
وقطع عوض أفندي صلاتَه وسلَّم وسأله عما يقول.
ولم يجبه الأوسطى شرف فلحظتها كان بالتحديد في ليلة الدخلة، والباب موصَد عليه وعلى ذات الأرداف، ثم وجد نفسه يستعيذ بالله من فكرة كانت تحوم حوله وتُلحُّ ولا ينفع فيها نش، وكان آخر ما رأتْه عيناه ازدحام الناس الشديد، وتدافعهم والمرأة أمامه، وداهمه النومُ قبل أن يطردَ الفكرة أو يستعيذ بالله.
واستأنف عوض أفندي صلاتَه وهو يقضي فروض الأيام التي مضتْ، وقد أدرك أخيرًا أن الملاءة التي اعتاد الصلاةَ عليها غير كاملة الطهر.
ولما انتهى وقبل أن يُطفئَ النور جاء حامد، وكان قد ذهب للمرة المائة يرى الخدش، ووجد أنه أخطر مما كان يحسب، وأن رفتَه لا جدال فيه ولا شك.
وسأله عوض أفندي عن الساعة، فأجابه حامد وهو يتسلَّق سرير الأوسطى شرف ليصل إلى فراشه، وعاد عوض أفندي يسأله ويكذب ساعته، وبعد إصرار ومناوشات أدرك عوض أفندي مرعوبًا أنه نسي تقديم ساعته، فظلَّت دائرةً بتوقيت أوروبا، ومعنى هذا أن كل ما فات من صلاته باطل.
وفيما كان حامد يُريح جسدَه المنهَك برقتْ في ذهنه فكرةٌ جهنمية، فماذا يحدث لو طلَى الخدش بورنيش حذائه ليداريه؟ وبعد أن يمرَّ أولُ يوم يُصلحه على حسابه؟ وهل إذا فاتت على الأمير تفوت على الوكيل؟ كلُّ شيء محتمل، ولكن ليس لديه خيار. وحين جاء النومُ كانت البطالة وأيامها السود تجذبه من ناحية، والأمل يُداعبه من ناحيةٍ أخرى، ولكن على أي الحالين كان طلاء الخدش أول ما يجب عليه في الصباح.
وأطفأ عوض أفندي النور والحزن يأكل قلبه على الفروض الضائعة، وحين كان يقرأ آية الكرسي ويلفُّ يدَه حول رأسه كان قد صمَّم على أن يقضيَ الفروض كلَّها قبل مغادرة الباخرة، فيصلي الفجر، وينوي بعده للقضاء. ونام وهو يتمتم: إن شاء الله.
وفي ذلك الوقت كان دكتور القانون يبحث عن طرْد ناقص، ووجده أخيرًا تحت الفوطة، وابتسم للطرحة السوداء والفستان الحرير التي يحتويها الطرد، والتي أحضرها لأمِّه، ورأى نفسَه دون أن يدريَ في قريتهم، والناس يقولون يا دكتور، ويسألونه عن أوروبا، والتهاني، وبابهم الكبير المفتوح، وأمُّه تحاول من فرحتها أن تزغردَ وهو يخجل ويمنعها.
وعاد إلى نفسه وراح يحسب كلَّ دقيقةٍ من ساعات الصبح، ويُحدِّد أين يقف وعدد الشيالين، ويوصي نفسَه بالمحاسبة على طرْد البللور، ويُخمِّن المبلغ الذي سيُسكِت به موظف الجمرك، وتعب عقله ونام. ومع هذا كانت تتصاعد منه بين الحين والحين غمغماتٌ تدور كلها حول الطرود.
وكان سعد الله السفرجي آخرَ مَن أوى إلى كابينته، فليلتها ذهب كما تعوَّد إلى بيترو، وعبَّ من خمره التي بلا ضرائب أو جمارك حتى ارتوى وفضفض كلَّ ما عنده من إنجليزية وعربية وسريانية، واستمرَّ يبحث عن الممرِّ المؤدِّي إلى الكابينة، حتى عثر عليه الخادم السهران فقاده إليها، وما إن دخل حتى تهاوى جالسًا على الأرض، وأتعبه الجلوسُ فتمدَّد لا يلوي على شيء، وعثرت يدُه حين فردَها على صندوقه الكرتون، وفي داخل الصندوق ملَّست أصابعُه على صوف البدلة الخشن، ورفَّت بذهنه المدووش ومضات، النادي النوبي، أبو عفان، الواقفة تحت المصباح في ميدان سليمان، والواحد مبسوط، البدلة.
ولدى ذكرِها راق مخُّه تمامًا، وأقسم أنه لن ينزلَ من الباخرة إلا وقد ارتداها، ووضع يدَه في جيب بنطلونه، بنطلونه.
•••
واستيقظ السبعة.
وكان الواحد منهم حين يفتح عينَيه، ويرى الضوء منتشرًا على غير العادة، يتولَّاه خوفٌ داهِم، وكأنه تلميذٌ صحا بعد فوات الامتحان، ولا تكاد دقيقةٌ واحدة تمضي عليه إلا ويكون مندفعًا إلى ظهر الباخرة كالسهم، وهو لا يدري ما الذي يدفعه؟
حتى عوض أفندي الذي كان أول مَن صحا، لمَّا ذهب ليتوضأ، أحسَّ بشيءٍ كالهاتف يأمره، فترك الوضوء وأسرع إلى فوق.
وكان دكتور القانون هو الوحيد الذي وقف على باب الكابينة يحرس الطرود، ويروح ويغدو وثمة قلقٌ ينهش خطواتِه.
وكان الصاعد إلى الظهر يذهله السكون المستتب، فالباخرة تنساب بنعومة فوق البحر الذي هدأت أمواجُه، والدنيا فيها سكون الصبح المبكِّر، والناس كثيرون متشبِّثون بالحاجز، ويُفتشون بأنظارهم الأفقَ، ولا يجدون شيئًا، ومع هذا يزدادون تشبُّثًا، وتصطبغ ملامحُهم بترقبٍ عظيم كالذي يتوقع أنباء هامة، أو يتطلع إلى معجزة.
وكانت طيور النورس هي الوحيدة التي تُحدث ضجيجًا صغيرًا مفاجئًا حين تنقضُّ على سطح الماء وترتطم به.
وأظلم الأفقُ قليلًا، ثم أشرق على خطٍّ رمادي طويل.
وسرتْ همهمة، هي، مش هي، دي سحابة، لسه بعيد.
وأطلقتِ الباخرةُ صفارة لها ضجيج مبحوح مرتعش.
وأبطأتْ من سيرها، وانخفض أزيزُ المحرك.
وصفت زرقةُ السماء، حتى أصبحَ لا يُعادلُها إلا زرقةُ البحر.
ومن بين الزرقتين أهلُ موكب الشمس، وظهرتْ طلائعُها، ثم بدأ القرصُ الأحمر الكبير والهيبة تحيطه يتقدم في بطءٍ وجلال.
ومضت الباخرة في حرصٍ هادئٍ كالحبيبة حين تتسلل إلى لقاء الحبيب، والناس فوقها يرقبون تعاقبَ الألوان والمشاهد، وكأنهم يُتابعون أحداثًا مثيرة على شاشة عرضها السموات والأرض.
ومن حيث لا يتوقع أحدٌ ارتفع صوتٌ نسائي له رخامة الصبح المبكر يقول: ماريا، فرانشسكا، لينا، سيلفانا.
وتعالَى صخبُ أربع بنات صغيرات كأنهن جئن في بطن واحدة، واستطرد الصوتُ الرخيم يقول: كويستا، إيجيتو، ماريا، كويستا، الساندريا.
وتحوَّلت العيون إلى مكان الصوت؛ حيث كانت تقف أمٌّ إيطالية على صندوق قديم حائرة موزعة بين بناتها اللائي حملت واحدة منهن، والباقيات يصرخن ويجذبْنها من ثوبها، ويقرصْنها، وبين رغبتها في رؤية الخط الذي عند نهاية الأفق، وهو يتحول إلى أرض.
وأيقظت ضجةُ الصغيرات الناسَ من ترقبهم وانبهارهم.
وخبط الأوسطى شرف حامد على كتفه، ثم ضمَّه وهو يهتزُّ ويقول: واد يا حمادة، ولا يا حمادة، وصلنا يا واد.
وسكت قليلًا، ولما تبيَّن أن التي على مرمى البصر أرضٌ حقيقية انتابتْه الخِفَّة: والنبي هيه، بلدنا أهه، يا سلام يا جدعان.
وكان سعد الله يقول لعوض أفندي: وصلنا يا عم عوض؟!
– وصلنا يا أبو السعود.
– ودي مصر يا عم عوض؟!
– والنبي مصر يا خويا.
– وعشنا وشفناها؟
– وشفناها.
– أم الدنيا؟!
– أم الدنيا؟!
– ووصلنا؟
وتلفَّت عوض أفندي إلى الواقفين غير مصدق، وأحسَّ بنفسه يستعيد عنفوان شبابه، وكل ما فيه مرح، وهو يسمع الأفواه تُردِّد مصر، إيجيبت، إيجيتو، ليجيبت، الساندريا، كايرو، ألكس.
وغير بعيد كان يدور بين المدرس والرسام أولُ حوار لهما على الباخرة، وهما واقفان كتفًا إلى كتف وعيونهما عند الشاطئ البعيد: يا أخي ليها وحشة.
– ياه، الواحد نفسه في قرص طعمية سخن.
– الله، دي فعلًا ليها، الله، الواحد قلبه بيدق.
– بقى هي دي اللي الواحد سابها قرفان.
– بزمتك مش شامم الريحة؟
– شوف الراجل ومراته لازقين في بعض وعمالين يبصوا إزاي؟
– صحيح! ريحة! والنبي مصر لها ريحة، بزمتك مش شامم.
– يا ترى أخبارك إيه يا مصر؟ ومين مات ومين عاش؟
وعاد المدرس بأنظاره إلى الناس، ورأى الراهبة واقفة متجهة إلى حيث تتجه العيونُ ووجهها أبيض قد كستْه حمرةٌ طارئة، وشفتاها تُتمتمان بشيءٍ وكأنها تستقبل المذبح.
ورأى كذلك اليوناني العجوز الذاهب إلى العراق، فقال له بصوتٍ لا ضابط له: أم الدنيا أهه يا خواجة.
وابتسم العجوز وقال: لا خبيبي، لا، أنا واحد أمي هناك، عند الفرات، وضحك المدرس أطول وأعمق ضحكة جرؤ عليها من أربع سنين.
ولم يعدْ يحتمل الدكتور وهو يسمع المولد المنصوب على ظهر الباخرة، ولا يرى شيئًا، وما كاد يلمح أحد البحارة حتى أوصاه بالطرود على عجل، ثم طار إلى الظهر.
ودوت صفارةُ الباخرة طويلة ممدودة هذه المرة.
وأقبل لنش بخاري فيه بحار، وفيه عساكر وضباط، وحين كان اللنش يدور حول نفسه ليرسوَ خلع قائدُ اللنش طربوشه ولوَّح به قائلًا بترحيب طيب، لا ادِّعاء فيه: حمد الله عالسلامة يا جماعة، حمد الله عالسلامة.
واندفع الأوسطى شرف يقول بصوت كالرعد: الله يسلمك، ميت فل عليك.
وسكت يستجمع أنفاسه، ثم انفجر بكل ما يملك.
– تحيا مصر يا جدعان، والنبي تحيا مصر، الله، هو احنا لنا غيرها يا اخوانا، والنبي لولا بركتها ما نساوي بصلة، الله دي بلدنا! دي بلدنا يا رجالة والا إيه؟!
وتهدج صوتُه حتى ظنَّ الناسُ أنه يبكي.
وأصبحت الإسكندرية تملأ الأفق، وبدتْ كبيرة لا تحدُّها الرؤيا، وبدت الباخرة إلى جوارها كالسردينة الميتة الطافية.
وبعد هذا نسي السبعةُ أنفسهم، ولم يعوا وهم يختمون الجوازات، ويُحضرون الأمتعة، ويتعاونون على حمل طرود الدكتور وقد انتابتْهم خِفَّةُ الأطفال في يوم العيد.
وعلا الضجيجُ حتى أصبح الصارخُ لا يسمع نفسَه.
ولاح الرصيف.