في الليل
كانوا قد تجمَّعوا كما اعتادوا التجمُّعَ كلَّ ليلة، وكان الملل قد بدأ يتسرَّب إليهم، وأملُهم في ظهوره راح يتأرجح.
وجاء واحد وقال إنه رآه عند الجامع.
وتهلَّل الجالسون والواجمون.
كان بعضُهم قد مدَّد رجلَيه في إعياءٍ وملَل، وكان آخرون قد تربَّعوا، والباقون قد أراحوا ظهورهم على الجدار ليُريحوا ما فيها من ألمٍ مُمْض، وكانت أجسادُهم كلها ليس فيها موضعٌ لتعب آخر، وقد أتَوا بعد العشاء كالأشباح الناحلة السمراء قد اختلط في وجوهها العَرقُ بالرماد، وطالتْ لِحاها، واحمرَّت منها العيون.
وجاء قادمون جُدد.
وتبادلوا تحية المساء مع الجالسين، تبادلوها في فتور، وكان الواحدُ منهم ما يكاد يجلس حتى تزحف ذرَّاتُ التعب الذي لاقاه طولَ النهار كجيوش النمل آخذة طريقها إلى رأسه، فيتخدر جسدُه لزحفِها، ويسكر، ويحس بالراحة تتصاعد من جوفه فتُلطِّف جفافَ حلقه، وكأنها حبَّات نعناع.
وقال واحد وهو يُناجي نفسَه أكثر مما يُخاطب الآخرين: يا سلام، الدنيا ضلمة يا ولاد، والعتمة حلوة.
وما كان الليل جميلًا لما فيه من سكون أو نجوم، وإنما كان جميلًا؛ لأن ليس فيه عمل، ولأن فيه راحةً وجلوسًا، ولأنهم يستطيعون فيه الحديث، ويحسُّون إذا جلسوا واستراحوا، وتحدَّثوا أنهم بشرٌ مثل سائر البشر.
ومع أن الليل كان هناك، وكانوا جالسين مرتاحين إلا أنهم ملُّوا ما راحت أفواهُهم تلوكه من تافه الأخبار، وسرعان ما مات الكلام على أفواههم وتجمَّد.
وتبادلوا نظراتٍ متثائبة، في تثاؤبها تساؤل، وفي تساؤلها قلقٌ غامض.
ومرة أخرى راحت أسئلتُهم تترى عنه.
وقبل أن يعودوا ويملُّوا السؤال، جاءهم الصوتُ الرطب الواضح المخارج، الحلو، المملوء بالرنين، يقول: مساء الخير يا رجالة.
•••
وتحرَّكت ألسنتُهم، وقد طال سكوتُها: مسا الخير يا عوف، ليلتنا ندا يا عبده، أنت فين يا أخي، يا ميت ندامة على اللي حب ولا طلشي.
وبينما الجماعة قد عَلتْها ضجةُ الترحيب به، لم يتمالك بعضٌ منها نفسَه، وهو يرى الابتسامة الحائرة التي تودُّ الظهورَ على وجه عوف فيمنعُها أدبُه، لم يتمالك نفسَه وهو يقارن وجهَه الجادَّ بالهزل الذي قاله، والذي سوف يقوله، فانطلق يضحك.
ولم ينتظر عوف أن يَهدأ الهيجانُ، وإنما انسلَّ في رقَّة وأدب، وركع في سرعة على ركبتَيه قبلما يقوم له أحد، ومدَّ يدَه في خجل مؤدب وسلَّم عليهم واحدًا واحدًا بحرارة، وهو يُقسِم ألا يُتعِبوا أنفسهم ويقوموا، واندفع الذين لم يُضحِكْهم أدبُه، فضحكوا على حرارة سلامه وغِلَظ قسَمِه.
وأخيرًا جلس، بينما تنحَّى أُناس، واعتدل آخرون، وامتدَّت أذرعٌ تُصلح أوضاع الجالسين، وتوسِّع الحلقة.
وتلاقت العيونُ والأسئلة كلُّها عليه، وقد تربَّع ووضع قبضتَيه متلاصقتَين في حِجره كما اعتاد أن يفعل، ولمعتْ بشرتُه السمراء والابتسامة ما زالت تتردَّدُ قبل ظهورها على ملامحه.
كانوا يودُّون سؤالَه مثلًا إن كان قد وجد عملًا. وآخرُ عملٍ كان يقوم به عوف كان مع تجار البهائم؛ إذ كان عليه أن يوصِّلَ بضاعتَهم من المواشي إلى الأسواق قبل الفجر، وحين ينفضُّ السوق يعود بما بَقيَ دون بيع، وما جدَّ بالشراء، وكان لا يعود قبل حلول الظلام. وانتهى موسم التجارة، ووقفتْ سوقُ البهائم، وأصبح عوف مرةً أخرى بلا عمل.
وكانوا يودُّون سؤالَه أيضًا أين كان طيلةَ ما بعد العشاء؛ إذ لا ريبَ أنهم كانوا لا يعرفون كيلةً إلا ذرة، وما جرتْه عليه من مصائب، ولا ما أجبرتْه عليه من سؤال وهمس وإلحاف.
وما استمر السكون الذي صنعه قدومُ عوف طويلًا؛ إذ سرعان ما رفع رأسَه، وحدَّق فيهم جميعًا دون أن ينطقَ حرفًا، وأدار رقبتَه، وشمشَم بطاقتَي أنفه، وتابع الموجودون حركاتِه وهم صامتون يُخمِّنون ويستعدُّون. وظلَّ عوف برهة يُحاور عيونَهم ويُلاعبها، ثم جعل ابتسامتَه تضحك ضحكتَها القصيرة الخاطفة، وأتْبعها بقوله، وكأنه يستنكر: واللا هاو آريو يا رجاله!
وانفجر الجمعُ ضاحكًا.
ولم تتحمَّل الصدورُ ما فيها من ضحكات، فسعلت، وضحكت، ثم سعلت. واستلقى بعضهم على ظهره ليضحك أكثر، وانثنى البعضُ حتى لاصق وجهُه الأرضَ وهو يضرب بيده على فخذه، وقد تشنَّج ضاحكًا.
لم يكن ما قاله عوف يستحقُّ كلَّ هذا الانفجار، بل ما كان قولُه غريبًا على أسماعهم، ولكنهم كان يكفي أن يروه أو يسمعوه، أو حتى تأتيَ سيرتُه، لتنسابَ منهم الضحكاتُ. كان هو التميمةَ القادرة دائمًا على فتْح أفواههم، وقد سمَّرها طول النهار.
ولم تكد الموجةُ الأولى تنحسر، ويبدأ الضحكُ يتحوَّل إلى همْس ضاحك، حتى قال عوف بصوته الذي فيه بحَّة رنَّانة يذوبون فيها: كيلة الدرة يا ولاد!
ودون أن يعرفوا ما هي الحكاية قهقهوا بكل ما يملكون من صدور.
واستطرد عوف والقهقهات تترى من حوله: أنا سايب الولية من غير عشا يا جدعان!
ولعلعت الضحكاتُ، ووضع البعضُ أيديَهم على بطونهم، حتى لا تتمزَّق، بينما تعبت بطونُ الآخرين.
ولما لم يَجُزْ عليهم ما في وجهه من جدٍّ ولا ما في ابتسامته المؤدبة من تردُّد، ولا ما في ملامحه من حزنٍ وتأثُّر، هزَّ رأسَه في يأسٍ، ووسَّع ابتسامتَه على قدر ما استطاع، وتلفَّت حوله وهو يُدير رقبته في استسلام، وعلى يمينه كان هناك جالس قد استحوذ عليه النعاس رغم كل تلك الضجة، وراح يفقر، ورأسه تَهوي على صدره، ثم تنتفض عائدةً إلى مكانها فوق رقبته.
ومضى عوف يتأمَّل الرأسَ الصاعدة الهابطة عن يمينه وقد ران عليه تفكيرٌ عميق، وكأنه أمام معضلة لا حلَّ لها. وكان الجالسون ينظرون إليه، ثم إلى النائم، ولا يستطيعون بعد هذا أن يملكوا زمامَ أنفسهم فيضحكون. وبدا على عوف أنه قد وجَد الحلَّ، فقرُب فمُه من أُذُن النائم، ثم قال بأعلى صوته، وكأنه يهشُّ على جَدْيٍ كبير: سك، سكك دبحه!
وثارت عاصفةُ ضحك عاتية، واستيقظ النائمُ على ثورتها نصف مذهول، واستردَّ وعيَه وهو يضحك، ثم أسرف في الضحك حتى قهقه، ولما رأى العاصفةَ مستمرةً قام، وخلَع طاقيتَه الصوف ورماها، وداس عليها بقدمه الغليظة، ثم سبَّ أبا الدنيا وقعد وهو يبتسم في سذاجة وذهول.
ونَسيَ عوفٌ نفسَه وسوق الماشية والكيلة وما بعد العشاء، وقد أعجبه ما أشاعه فيهم من ضحك وحياة، بل إنه أحسَّ بشيء غير قليلٍ من الفخر والتِّيه، وهو يرى كلماتِه تتلاعب بعقولهم، فتُحرِّكها أنَّى تشاء.
ونسي الحاضرون أنفسَهم هم الآخرون، ونسوا حياتَهم.
وما كان يأتيهم النسيانُ إلا بعد عناء.
وبدءوا يضحكون ضحكًا حقيقيًّا.
وأيضًا ما كان يأتيهم الضحكُ إلا بشق الأنفس.
كانوا يضحكون أول الأمر وهم فقط يُقلدون مَن يضحكون.
ثم يحسُّون أن ما هم فيه يستحقُّ الضحك فعلًا فيضحكون.
ثم يرون أن ما أمامهم فرصة ينعمون فيها بضحك لا ثمن له، وهم ما اعتادوا أمثال تلك الفرص، فيضحكون لحاضرهم ويختزنون ضحكاتٍ أخرى للمستقبل.
ثم كانوا يتذكَّرون ما قاسوه في النهار، وما سوف يبذلونه في الغد المقبل، فيتشبَّثون بما هم فيه من ساعة أُنْس، ويضحكون ويغصبون على أنفسهم، ويضحكون أكثر وأكثر.
ولا يدوم هذا إلى الأبد.
فسرعان ما يمسح عجوزٌ منهم الدمعةَ الضاحكة عن عينه، ويقول بصوت فيه رنَّةُ ندم، وكأنه اقترف إثمًا: اللهم اجعله خير يا ولاد.
•••
وفي لحظة من لحظات السكوت نادى واحد وطلب شايًا لعوف.
وأحسَّ الموجودون كلهم أنهم غفَلوا عن شيءٍ خطير، وأنهم أخطئوا في حقِّ الرجل، وقد منعهم الهرجُ من القيام بالواجب؛ ولذلك راحوا يتنافسون، وكلٌّ منهم يُصِرُّ أن شاي عوف سيكون على حسابه. وعوف قد جلس جلستَه المتربعة المؤدبة الخجلة يُتمتم من بين شفتيه الوادعتين: خلِّي عنكو يا رجالة، خلي عنكو.
ولكن الرجال لم يخلُّوا عنهم، بل وطلب كلٌّ منهم لنفسه طلبًا، وكأنهم يجلسون في أحسن قهوة، والمكان ما كان حتى غرزة، وإنما هو فضاء صغير تحدُّه البيوتُ الداكنة المنخفضة، وفي وسطه حفرة، فيها نار، وعلى النار برادٌ كبير، رأى صاحبه أن يجلس، ويضحك، وأيضًا يعمل، فكان يصنع لهم القهوة والشاي، ويرص لهم الكراسي.
وسرعان ما وُزِّعت الأكوابُ على الذي معه، والذي ليس معه، فما كان لحظتَها مهمًّا مَن الذي يدفع، وقد أصبح ما في جيب كلٍّ منهم ليس هو محطَّ تفكيرِه وبؤرةَ اهتمامِه، ولكن أصبح ما في الجيب آخرَ ما يفكِّر فيه، وإخراجه أسهل، والندم الذي يعقبه أقل وأوهى.
وراحت أفواهُهم التي عليها بقايا ضحكات وابتسامات ترتشفُ ما في الأكواب، وأحسُّوا لأصوات رشفاتهم، وحشرجة شفطهم ترنيمةً رائقة تتصاعد في جوف الليل الساكن الساجي، وكان القَدَحُ الذي في يد عوف مجمعَ أنظارهم؛ فقد كان مُمسكًا إياه بطريقته الرشيقة، ويرتشف منه بفمه الذي ضيَّقه ودقَّق من فتحته، بينما لمعتْ سُمرةُ وجهِه بعرَقٍ خفيفٍ أشاعه دِفءُ الشاي.
وأخذ واحدٌ منهم رشفةً ذات نغَم طويل، ثم مصمص حلقَه، وقال: إزاي الحال؟
ولم ينتظر ليردَّ عوف، وإنما مضى يسأله: إزاي الحال دلوقتي؟
سأله وهو يبتسم، وفي تُؤَدةٍ واتِّزان قبَّل عوف باطنَ يده، ثم قبَّل ظهرَها ونظر إليه بعينَيه التائهتَين السارحتين، وقد ضيَّق المثلث الضاحك الذي فيه شاربُه، وقال: عال، نحمده، أنضف من الصيني بعد غسيله، والأشيا معدن.
وسخسخ الحاضرون ضاحكين، وتساقط بعضُ ما في الأكواب على أيديهم فلسعها، وتساقط على أثوابهم فما سألوا فيها، بينما اصطدمت الضحكاتُ الخارجة من أفواههم بالرشفات الداخلة، فاحتقنت الوجوه، وشاعت فيها حمرةٌ غريبة على ما كان فيها من شحوب، ولم يرحمْهم عوف، وإنما استطرد: هو طول ما أنت فيها يا أبو وش يملا كنكة إحنا حنشوف طيب؟!
وانهال عليه بلسانه.
وكان المضحوكُ عليه أولَ الضاحكين، فما تأثَّر أو اربدَّ، بل أسعده في الحقيقة أن يتخذَه عوف هدفًا للذعاته. وما كان أحدٌ يستطيع أن يزعل من عوف أو يتأثَّر من كلامه، كانوا كلهم قد أجمعوا على حبِّه رغم أنه كان أفقرَ رجل في القرية، ورغم أن حياتهم كانت جدباءَ صعبة لا يستطيع الحبُّ أن يجد له مكانًا فيها، ولا يستطيعون العيش إلا إذا كرهوا وحقدوا وتخاطفوا. كانوا ككل مَن في القرية يودُّون الحياة، ولا حياةَ هناك إلا بالصراع، ولا بقاءَ إلا للأقوى.
وفوَّر فيهم ما احتسوه من قهوةٍ وشاي نشاطًا، وتلمَّظ عوف ووجهُه يلمع، وبحث فيهم بعينَيه التائهتَين، ثم توقَّفت ابتسامتُه وقتًا غير قليلٍ على واحدٍ منهم، وأشار إليه بطرف ابتسامته، وقد ضيَّق إحدى عينيه، وقال في أدبه وخجله: إلا معاكشي حتة ألف يا عوبد؟
ولم يملك الرجل يدَه فامتدَّت للتوِّ في جيبه، وأخرج علبة صغيرة غمس فيها عود كبريت وقدَّمه لعوف، وعليه سِنة أفيون، وحين كان يرجع العلبة إلى جيبه، وقد عاد ينظر كما كان ينظر إلى الرجال حوله، لمح في عيونهم رغبات، ومرةً أخرى لم يستطع أن يملك يدَه، فاستمر عود الكبريت رائحًا غاديًا بين العلبة وبين ألسنتهم، وقد أخرجوها من أفواههم ومدُّوها على قدر ما يستطيعون.
وعلى رشفات الشاي مصمصها عوف والألسن حوله تتحرك في الأفواه المقفلة فتنبعج لحركتها الأشداق. وفي جرعات أخرى من الشاي ابتلعوا ما أذابوه، وبدأ الانسجام.
وأحسُّوا جميعًا بريقهم يجفُّ وحلوقهم تطلب الكثير من الدخان. ودارت الجوزة التي لا شيء عليها، وراح الرجال يعتصرون صدورهم ويجذبون الأنفاس، وتزدحم عروقُ رقابهم النحيلة بما في أجسادهم من دم قليل، وهم يجذبون ويجذبون، والجوزة تُكركر وتجأرُ كعربة نقل ينوء محرِّكُها بما فوقها من أحمال، وغامت الجلسة بسحابات الدخان الرمادي الرخيص، وهي تنعقد وتنفضُّ فوق الرءوس.
وقال عوف وكلماته تصنعها دفعاتُ الدخان التي ينفثها: عارفين الحرب قامت ليه يا رجالة؟
وانتبهت العقولُ كلها، وصمت القليلون المتحدثون، فقد كانوا يتوقعون هذا السؤال أو مثلَه من زمن، ويأملون وقد طال بهم الانتظارُ أن يُتحفَهم عوف بحكاية.
ولم يُجِب عوف مرةً واحدة، إنما بكلماته التي كان ينتقيها بخبرة ورويَّة، ثم يقطعها ويُنغِّمها ويُمثِّلها، وبملامح وجهه التي يملك زِمامَها كلَّها، ويستطيع أن يقول بها ما شاء دون حاجةٍ إلى كلام، وبحنجرته التي تَخرج منها الأصواتُ لها بحَّة الناي الحزين الذي يضحك حزنه، بهذا كله بدأ عوف في رواية القصة، فتنحنح ثم قال: إنتو عارفين جدكو عامر يا ولاد؟
وضحكوا قبل أن يقول حرفًا آخر؛ إذ ما كادوا يتصوَّرون الجدَّ عامر العجوز الذي ترك وراءه التسعين، وبدأ يتطلَّع إلى المائة، والذي قضى حياته كلَّها لا يعرف إلا الزرع والصلاة، والذي كانوا أول الأمر يجعلون من كلامه حِكمًا يردِّدونها في المناسبات، لا لشيءٍ إلا لأنه عجوز وشعره أبيض كله. ما كادوا يتصوَّرون الجدَّ عامر، وعوف يُردِّد نفس حكمه بنفس كلماته، فيُدركون مدى سُخفِها، وكثرة ما فيها وما في حِكَم الكبار كلهم من تخريف.
ما كادوا يتصوَّرون هذا حتى ضحكوا وأغرقوا في الضحك، واستمرَّ عوف يقول وهو يُغالب ابتسامتَه: كان مرة جدكو عامر هو وأبوكو اسماعين قاعدين يشمسوا في ضهر الزريبة، وانتو عارفين الاتنين ولله الحمد خبراء من الدرجة الأولى في الفقر وقلة البخت، وبعدين السياسة حزقت أبوكو اسماعين قوي، قام قال: إلا بذمتك يا جد مخيمر، وحياة الله يرحمها دنيا وآخرة جدتي أم عاشة، وحق من أماتها يا شيخ، عارفشي الحرب قامت ليه؟ قام جدكو عامر هرش ضهره في الحيطة وقاله: بقى يا ابن أم خرزة ما نتاش عارف ليه؟
قال له: والله أهو أنا عارف كل زقاق في السياسة إلا المدعوقة دي.
قام جدكو عامر اتنهد، وقالوا إيه: أما عقلك فارغ صحيح، دا يا واد الحكاية بسيطة قوي، الألمان قالوا للإنجليز طياييركو ما تمشيش مع طياييرنا في سكة واحدة، الإنجليز قالوا رأسنا وألف سيف، وهب راحت قايمة.
وما كانت تلك أول مرة يرويها، ومع هذا فقد ضحكوا لها، وأسرفوا في الضحك، فالحكاية من فمه كانت لها لذة، وروايته لها وتمثيله إياها كانت تضفي عليها رونقًا جديدًا.
وانتهت القصة ولم تنته القهقهات التي انبعثت وراءها، والتي كانت تتصاعد حيَّةً مليئة بالحياة والرغبة فيها، تتصاعد من أعماق القرية الراقدة كبقعة سوداء كبيرة من الصمت القتيل.
وأعادت ضحكاتُهم الكثيرة كلَّ ما جار عليه الزمن من إنسانيتهم وانتشوا وهم يحسُّون أنهم مثل الأفندية تمامًا، لهم قعدة ومجلس، وتُحكَى من أجل إيناسهم القصص.
وتعالت الأصواتُ تطلب من عوف المزيد، وقد هضموا كلَّ ما فات.
وتمنَّع عوفٌ أولَ الأمر ككل فنَّان، ثم انطلق يحكي عن أبيه وكيف كان لا عملَ له إلا الصيد بالسنارة، وكيف كانوا يتعشَّون كلَّ يوم سمكًا.
ويَحكي عن لسان أبيه وطوله، خاصةً ساعة الطبلية، وما كان يتبادله هو وأبوه من قفشات حتى ينقلب عشاؤُهم آخرَ الأمر إلى سامر يتجمَّع له الناس، ويتسمَّعون من وراء الباب، ثم يذهبون بعيدًا ويضحكون.
والمرة التي طلعت لأبيه في السنارة فردة حذاء، والمرة التي رأي فيها الجنِّيَّة وكاد يتزوجها.
ولا تفرغ قصصُ عوف.
وكانوا يحبون كلهم حكايةَ ذهابه إلى المولد وهو صغير، والثلاث ورقات والملحمة الكبيرة التي قامت ليلتَها، واستوعبت كلَّ ما في المولد من شماريخ وخيزرانات وحلاوة ورجال.
ولا يستكنُّ لسان عوف.
كان يسخر من كل شيء، من الناس، ومن نفسه، ومن الحياة التي يُحيونها.
كان قد لفَّ مصر من أولها إلى آخرها، ودخل السينما، وشاهد المتاحف وقام بأنواع لا أول لها ولا آخر من الأعمال، وعاش في القاهرة، وعرَف مخابئ الإسكندرية أيام الغارات، وتعلَّم هاو آريو من الجيش الإنجليزي حين كان فيه، وكان يدور دورتَه ويعود إلى القرية:
«ألاقي أبوك الحجعلي لسه بيقول للفحلة، عاه يا بنت الأنيتة، وخالتك أم بركة لسه بتدور على فرن خابز تشحت منه رغيف، والعمدة لسه متنك على قرماية الخشب، وأبوك مخيمر واقف جنبه لابس حتة العباية اللي ما تساويش ثلاثة ابيض، ودي بنت مين اللي فايته يا مخيمر؟ يقوله دي بنت فلان يا عمدة اللي اجوزها علَّان، واللي طلقها تلتان، حاجة تفلق اللي ما ينفلقش، الدنيا تنشال وتنهبد وبلدنا ولا هي هنا، يا رب لا اعتراض ولا مانع، إنما أدنته شايف.»
وحين كانوا يسمعونه يشرق ويغرب ويقول كل ما عنده كانوا يهزُّون رءوسهم ويضحكون وهم يوافقون، ويحسُّون بفرحة وهم يوافقون، ويزدادون بكل حكاية من عوف إيمانًا بأن حياتَهم لا جديدَ فيها، ولا طريف، حتى الموت ما كان فيه جديد، وإنما كان عودة حزينة لحزنٍ قديم، الناس تولد وتكبر، ثم تموت، والبقرة تدور في الساقية مغماة لا تدري أين تسير، وعيون الساقية تغترف الماءَ من باطن الأرض، وتمتلئ به، ثم تصبُّه العيون ليعود إلى الأرض وباطنها، لا جديد في حياتهم ولا طريف.
•••
وفجأة سكت عوف عن كلامه، وسكت الناس لسكوته، وتحوَّلوا ينظرون حيث ذهبت عيناه، ومن بعيد أقبل شبحٌ أسود طويل عرفوا فيه امرأتَه وكلها سواد في سواد، حتى وجهها قد غطتْه، زيادةً في الحياء، بشاشِها الأسود الذي لا يخلو من ثقوب.
وكانت تُمسك بمفتاح ضبة بابهم الخشبية وتتلاعب به.
ومن بعيد أيضًا جاء صوتُها رفيعًا كقوامها، طويلًا كطولها: عبد الرحمان.
وأُرْتِجَ على عوف ومأمأ برأسه، ثم خفضها وهو ينحني حتى أصبحت بين فخذيه، وقال في همسٍ مملوء بالخوف الذي يُضحك: ولاد، أنا مش هنا.
وسمعوها تغمغم بكلامٍ لم يسمعوه، ثم نادت بعد برهة بصوتٍ يائسٍ وقد نفد صبرُها: يه، شوفوا الراجل يا خواتي وأنا لفيت عليه البلد حتة حتة، عبد الرحمان.
وأفلح البعضُ في كتْم ضحكاته، ولم يُفلح آخرون، ولعلها لمحتْه وهو منحنٍ وقد قارب الأرض، فإنها صرخت قائلة: وطي كمان وطي، مانتاش مكسوف والنبي عليك، سايب الدار على الحميد المجيد، وجاي تنصب السامر بتاع كل ليلة، عبد الرحمان.
ولم يجد عوف بُدًّا من الظهور فاعتدل شيئًا فشيئًا، وهو يقول لمن حوله هامسًا: أهي قلبت بغم يا رجالة.
ورفع صوته جادًّا لا أثر للهزل فيه، وقال: روحي يا بت.
وتعالت الضحكات لجدِّه وإمارته.
وردَّت المرأة وقد عِيلَ صبرُها: والنبي يا شيخ؟! اسم الله عليك وعلى حواليك! مش تلايمها شوية، فين يا راجل حق كيلة الدرة اللي انت قايللي دقيقة واحدة وحاجيبه؟
وبنفس الصوت الجاد قال عوف بعصبيةٍ أكثر وقد تذكَّر كلَّ شيء: روحي يا بت اختشي.
وضحكوا كما لم يضحكوا في ليلتهم، بل في أعمارهم كلها.
وأغاظت ضحكاتُهم المرأة، فقالت وهي تكاد تصرخ: والله مانا منقولة إلا أما تجيب حق الكيلة، دا صاحبتها قاعدالي في الدار مِ المغرب، سامع والا لأ.
وأجاب عوف بصوتٍ عالٍ: لا مش سامع.
فقالت وهي مَغِيظة: عنك ما سمعت، هه، وآدي قعدة.
وحاولوا مرةً أخرى أن يتأدَّبوا ويكتموا الضحكات، والمرأة تنتقي لنفسها مجلسًا فوق كومة سباخ عالية. ورفع عوف رأسَه ونظر إليها وهي ممتطية الربوة كأم قويق، وسكت برهة، ثم قال بصوتٍ نصفه ضاحك، ونصفه جاد:
روحي يا بت يا ام وش زي وش السلندر.
ومع أنهم ما كانوا يعرفون ما هو السلندر، إلا أنهم انثنوا وتمايلوا مقهقهين، وعيونهم قد شدتْ إلى عوف الجالس لا يعرفون إن كان هو جادًّا في كلامه أم هازلًا.
ولم تسكت المرأة، وإنما قالت على الفور: والنبي ماني مروحة يا ابو راس أنعم من البريزة الماسحة.
واستمرت الضحكاتُ تترى بلا انقطاع.
وقال عوف وهو يزيد النصف الضاحك من صوته: والنبي ان ما روحتي لقايم فاتح بطنك، ومطلع منه طعم.
وما عاد الحاضرون يتمالكون أنفسهم، ولا يعرفون إن كانوا يضحكون أو لا يضحكون.
وبينما هذا يحدث كان بعضهم يُفكِّر فيه من ناحية أخرى، وتمنَّى أكثرُ من جالس أن يمدَّ يدَه إلى محفظته الكالحة ويستخرجها، ثم يُسقط في يد عوف ثمن الكيلة. ولكن كانت أمانيهم بصيرة، وأيديهم قصيرة، جد قصيرة.
وكان عوف هو الآخر يضحك بقلب، ويحلم بقلب آخر أن تمتدَّ يدٌ في حِجره وتُدفئ أصابَعه بالثلاثين قرشًا التي داخ عليها من المغرب. وبقيت أصابعُه باردةً في حِجره.
وشخط عوف في المرأة قائلًا: عليَّ الطلاق إن ما روحتي …
وعلى الفور نزلت المرأة، واستدارت عائدةً بشبحها الأسود الطويل.
وقال عوف وقد سرَّه ما أحدثتْه الشخطة، واستعاد لسانَه الحاد: شايفين يا ولاد، والنبي رِجل مراتي اليمين بتنفس.
واختلطت القهقهاتُ بالأصوات، وسمعوا ضحكةً تفلت من المرأة المبتعدة رغمًا عنها.
وكانوا قد تعبوا وما عادوا يستطيعون الضحك فسكتوا. وسكت الليل، وسكت كلُّ شيء وأصبح لا صوتَ هناك إلا نقيق الضفادع، وتنهدات البعض والماء وهو يغلي في البراد ويفور.
حتى عوف كان قد أرخى رأسه على صدره، وكأنه يفكر.
واستمر الصمتُ زمنًا لم يقطعْه إلا عوف حين رفع رأسه، وقال وهو يستغرب منهم السكوت، ويُحدِّق فيهم: والله هاو يا رجالة.
وانفجروا يضحكون، واستمرت الضحكات تنفجر، وهي لا تريد أن تنتهيَ، وكان يبدو أنها لن تنتهيَ لولا أنهم سمعوا همهمةً لم يألفوها، وحمل إليهم الظلامُ جعجعةَ شيخ الخفراء المعهودة، ونبراتِه القاطعة الحادة: واد انت وهوه، إنتو عاملينها غرزة يا ولاد الكلب. قوم قامك عفريت منك له.
وكان أول من تسلَّل لا يلوي على شيءٍ هو خالي الوِفاض منهم، أما الذي في حافظته قرش أو يتدفأ جنبُه بورقةٍ، فقد تكاسل قليلًا وهو يقوم، ولما وقف تثاءب كثيرًا وتمطَّى، ثم مضى في خطواتٍ وئيدةٍ وهو يُلقي بالسلام إلى مَن حوله، ويُشدِّد على عوف باللقاء في ليلةٍ ثانية، وكلُّهم يحسُّون أن الليلة قد انتهتْ، وما كان يريد لها أحدٌ أن تنتهيَ.
واستوقف شيخُ الخفراء عوف، وقال له بعد أن اطمأنَّ إلى ذهابهم جميعًا: واد يا عوف، إزيك؟
وفهم عوف ما يريد، فقال له وكأنه يؤدِّي فرضًا عليه: هاو آريو يا شيخ الغفر.
وقهقه الرجل، وظلَّ يقهقه ويتلوَّى وعوف يأخذ طريقَه إلى داره.
ومضى الليل.
•••
وقبل شروق الشمس الجديدة كانوا جميعًا يأخذون طريقَهم إلى النهار، وكانوا يأخذون طريقَهم إليه، ووجوهُهم باسمةٌ وأطيافٌ من الليلة التي مضتْ تلوحُ لهم، وتظلُّ عالقةً بخاطرهم تُخفِّف ما في نهارهم من حدَّة.
وكان عوف يتسلَّل هو الآخر كالعصفور المبتلِّ، مؤدَّبًا وخجولًا؛ ليستأنفَ همسَه وسؤاله عن ثمن الكيلة.