ع الماشي
كان ما ضايق الأستاذ وهو عائد من الإسكندرية في الأوتوبيس الصحراوي أن جاره في العربة عرف أنه محامٍ، وكان لا يخاف في الدنيا شيئًا أو يعبس لشيءٍ قدْر خوفِه وعبوسه إذا حدث في مكانٍ ما، وعرف الناس أنه محامٍ؛ فهو يعلم تمامًا أن الأسئلة حينئذٍ تنهال عليه، وتنهال معها الاستفساراتُ، ولا يهم أن يكون هو متضايقًا أم غير متضايق، مستريحًا أم غير مستريح، فهم لا يفرقون بينه كإنسان، وبينه كمحام، إنما يرونه دائمًا وفي كل وقتٍ محاميًا.
جلس الأستاذ في العربة، وهو يستعيذ بالله خائفًا أن يبدأ الجارُ حديثَه؛ ولهذا راح ينظر من النافذة، وقد ترك أفكاره ترعى على مهلها في الصحراء الجدبة الممتدة، وتمرح فيها من أقصاها إلى أقصاها.
ولم ينفع هذا؛ إذ سرعان ما أحسَّ بلكزة خفيفة أعادت أفكارَه من انطلاقها، وسمع جارَه يقول: دي فرصة سعيدة يا أستاذ والله.
فقال الأستاذ وهو يزوم: مرسي.
وأقبلت فترةُ صمت كان قلبُ الأستاذ فيها كالريشة في مهبِّ الريح، فقد كان يعلم أن جاره سوف يتحوقل بفمه، ويتبسمل بعد قليل، ثم يفتح باب الكلام ويا ويله لو فتح الباب.
ولم يَخِبْ ظنُّ الأستاذ؛ إذ ما أسرع ما قال الجار: ألَّا من فضلك يا أستاذ؟
فقال المحامي في اشمئناط: نعم.
– حضرتك بقى مدني والَّا جنائي والَّا مخدرات؟
فردَّ المحامي على البديهة، وكأنه محامٍ: كل حاجة، كله كله.
ومن تجاربه السابقة مع أمثال ذلك الجار كان الأستاذ يعرف أن المتحدث يسكت هنا، وتبدأ فترةُ صمت أخرى.
وفعلًا أغلق الرجلُ فمَه المبتسم قليلًا، ثم فتحه قائلًا: أهلًا وسهلًا، تشرفنا.
واستطرد بعد هنيهة: حضرتك لازم تعرف بقى الأستاذ «…» المحامي.
وتردَّد الأستاذُ قليلًا، ثم استخار الله وقال: لا والله، متأسف معرفوش.
واستنكر الجار: متعرفوش إزاي، دا أشهر من نار على علم!
فقال الأستاذ بفروغ بال: أهو اللي حصل، قسمتي كده! والله وديني وما أعبد ما أعرفه.
– دا راجل جبَّار، ناصح تمام، ياما دوَّخ قضاة ومحاكم.
– يا سلام؟! بقى كده؟!
وسكت الجار ولم يردَّ، وخاف الأستاذ من هذه السكتة، فقد كان يعرف ما وراءها إذ بعد قليل قال الجار: يعني المدني حضرتك تفهم فيه برضه؟
– طبعًا، طبعًا، أمال إيه.
قال الأستاذ هذا ولم يسأل عن السبب مخافة أن يحدث ما لا تُحمد عقباه.
ولكن الجار تفوَّه بلهجة مَن لا يهمه الأمر: دا بس أصل فيه حكاية كده.
وأطبق الأستاذُ فمَه لا يودُّ فتحَه، وكأنه ليس هنا.
ولم يُثبِّطْ هذا من همة الرجل، فسرعان ما أردف: حكاية كده غلبوا فيها المحامين، هو مش حضرتك بتدافع في المدني برضه، أصل أنا خايف أضايق حضرتك.
وأصرَّ المحامي على صمته ولم يردَّ.
ومع هذا تنحنح الجار وقال: الحكاية غلبوا فيها كتير، اوعى تكون حضرتك مضايق والَّا حاجة، شوف يا سيدي، بقى أصل في سنة ١٩٢٥ كان لي بيت وارثه عن أبويا، وكان فيه ورثه تانيين.
وبدأ الجار يروي القصة بحذافيرها من يوم أن كانت إلى يومنا هذا، ويشرح ما مرَّت به، والجلسات، والنقض، ونقض النقض، والأستاذ قد انشوى واستوى وهو يُصغي، ومضطرٌ أن يُصغيَ.
وكانت العربة في هذه الأثناء قد وصلت «الرست هاوس»، فنزل المحامي والرجل وراءه، وأكمل القصة وهما يتناولان القهوة، وينفضان ما عليهما من أكوام التراب، ودفع المحامي الحساب والجار مستمرٌّ في الرواية. وفي الطريق إلى العربة كان الرجل قد انتهى، أو كاد، فسأل بلهجةٍ لا تخلو من حداقة: وإيه رأي سيادتك بقى؟!
ولا بد للأستاذ أن يكون له رأي، أمال أستاذ إزاي؟!
وقال المحامي رأيه، وحينئذٍ مطَّ الجار ابتسامته على آخرها، وقال: طيب لو سمحت بقى ولو فيها مضايقة بس تكتب لي مذكرة، الكلمتين اللي قلتهم سيادتك دلوقتي كفاية قوي، أصل الحكاية عقدة وصعبة، دوخت المحاميين، والنبي أنا خايف أكون بضايقك، طب بزمتك؟ وحياة والدك مانتاش مضايق؟ لا لا، متتعبشي نفسك يا أستاذ، القلم أهه وآدي الورقة يا سيدي، متشكرين قوي، متشكرين خالص، عاجزين عن الشكر، يا سلام، دي فرصة سعيدة، بيقولوا رب صدفة خير من ألف ميعاد، بقى حضرتك ما تعرفش الأستاذ «…» ياه، دنيا، دا كان أعز أصحابي.
وكتب الأستاذ المذكرة وهو يفور ويمور وينفخ.
واعتزم أن يترك المقعد الذي كان يجلس فيه، وأن يبحث له عن آخر بعيد كل البعيد عن هذا الجار، حتى لو اضطره الأمر أن يتخلف عن العربة.
وأفلح الأستاذ في اغتصاب مكان، وظلَّ قلبُه مع هذا في مهبِّ الريح مخافة أن يكون الجار الجديد أحد المتحدثين الذين سواء عرفوه أم لم يعرفوه، فأسئلتهم لا تهدأ ولا تنتهي، ولكن الجار كان رجلًا طيبًا صموتًا ما فتح فمه، ولا حتى ألقى ناحيته بنظرة، ولو على سبيل المجاز.
ورغم أن الدنيا كانت قيظًا، والعربة أصبحت كالفرن الذي ليس له مدخنة، والغبار من كثرته صار له لسع الناموس، وأزيز الذباب، والمقاعد عليها بحور عرق في وسطها ناس، رغم هذا فقد استراح الأستاذ لصمت الجار الراحة كلها، وأحسَّ بقلبه ينعنشه ثلج بارد.
وراحت العربة تئنُّ وهي تقطع الطريق الملتوي الطويل، وشعر الأستاذ بعد قليل أنه يودُّ معرفة الساعة التي ستصل العربة فيها، وكان ممكنًا أن يسأل جاره ببساطة، ولكنه لم يشأ هذا حتى لا ينبش الجار فيفتح فمه، ولا يقفله أبدًا.
ولكن في مطب من المطبات الكثيرة مال الأستاذ على الجار، فكاد يوقعه وكلمة من هنا، واعتذارات من هناك تعرَّفَا، واتضح للأستاذ أن جاره دكتور، واكتفى الأستاذ بالذي كان فأغلق باب الحديث، وأحكم الإغلاق.
وانتهت المطبات، وسارت العربة كالريح، والأستاذ صامت، وجاره صامت أيضًا، ولكن بعد وقت تذكَّر المحامي شيئًا، ونسي قراره فابتسم وقال لجاره: الا حضرتك بقى دكتور في الطب، والا في …
وحين وصلت العربة إلى القاهرة، وغادرها الركاب كان الأستاذ لا زال يقول للطبيب: لا لأ، متتعبشي نفسك، بلاش روشتة، آدي القلم والورقة، اسند هنا على ضهر العربية، بس والنبي عايز دوا يقضي عليه، دا مغلبني قوي الصداع ده، زي ما قلت لحضرتك، من سنة ٣٦، والروشتات أهيه، اوعى أكون ضايقتك يا دكتور والنبي؟ متشكرين، متشكرين قوي، بقى حضرتك بتشتغل في إسكندرية، يا سلام عالصدف السعيدة، يا سلام!