نص المسرحية
غرفة كبيرة في منزل في شمال غرب لندن. مؤثثة تأثيثًا جيدًا رغم قلة قطع الأثاث. كرسي متين ومريح ذو ظهر مستقيم، يجلس عليه هيرست. مكتبة في الحائط وبعض القطع الفخارية رُصت فيها الكتب، إلى جانب قدحين كبيرين من أقداح الجعة.
ستائر كثيفة تظلل النوافذ.
في منتصف الغرفة — أهم ملامحها — بار كلاسيكي عليه رخامة ضخمة، وقطع نحاسية متعددة، ورفوف مفتوحة رُصت عليها أنواع كثيرة من الزجاجات: كحوليات وفواتح شهية وجعة … إلخ.
صيفًا-ليلًا
(سبونر يقف في منتصف الغرفة، يرتدي حُلة عتيقة رخيصة، وقميصًا داكنًا ناحل اللون، ورباط عنق منقط غير مكوي.)
(هيرست يصب الويسكي في كأس لدى البار، يرتدي ملابس أنيقة، وجاكتة سبور، وبنطلونًا رشيقًا.)
(هيرست يقدم الكأس إليه.)
(هيرست يصب لنفسه كأس فودكا.)
(يشربان. سبونر يرتشف الويسكي قطرة قطرة، بينما هيرست يجرع كأس الفودكا جرعة واحدة، ثم يملأ كأسه مرة ثانية ويتجه إلى كرسيه ويجلس. ينتهي سبونر من شرب كأسه.)
(يتجه سبونر إلى البار فيملأ كأسه ثم يستدير إلى هيرست.)
(يشرب.)
(وقفة.)
أرجو … اسمح لي أن أعبر لك عن امتناني العميق لدعوتك لي بالدخول! والحق أنك عين الكرم والعطف … لربما كنتَ دائمًا كذلك … الآن وفي إنجلترا وفي هامستد وإلى الأبد!(يتجول ببصره في الغرفة.)
ما أجملها وأرقها من غرفة! أحس بالاطمئنان هنا! أحس بالأمان من كل الأخطار … ولكن — أرجوك — لا تنزعج فلن أمكث هنا طويلًا … ليس من عادتي أن أمكث طويلًا مع الأغراب … لا أحد يحب ذلك … وهذا يسعدني على أي حال … فنوع الأمان الوحيد الذي أرجوه — وعزائي وسلوتي الحقيقية — هو ثقتي في أنني لا أحظى من الناس — مهما اختلفت ألوانهم ومشاربهم — إلا بلا مبالاة … بمستوى ثابت وعام من اللامبالاة … وهذا يطمئنني ويؤكد لي صورتي عن ذاتي؛ أي أنني ثابت وذو وجود مادي … أما إذا أبدى أحدهم اهتمامًا بي أو (لا قدر الله!) إذا بدا أن أحدًا يمكن أن يرضى عني رضاءً حقيقيًّا … فسوف يكون ذلك مصدر إزعاج شديد لي … ولكن هذا الخطر بعيد الاحتمال … لحسن الحظ.(وقفة.)
وأنا أتحدث إليك بهذه الصراحة المزعجة لأنك بوضوح رجل تحب الصمت … وهو صفة محببة إلى النفس … وأنك غريب علي … ولأنك – بوضوح أيضًا – عين العطف!(وقفة.)
هل من عادتك أن تتجول وحدك على ربوة هامستد؟(وقفة.)
(وقفة.)
(وقفة.)
على فكرة! بالنسبة لاستراق النظر، لا بد أن أوضح لك شيئًا واحدًا … إنني لا أتطلع ولا أسترق النظر إلى المداعبات الجنسية؛ فلقد مضى عهد ذلك إلى الأبد. هل تفهمني؟ عندما تفصح أغصاني — إذا جاز هذا التعبير — عن مداعبات جنسية — مهما كانت درجة التوائها — أجد أنني لا أرى إلا بياض العيون في مواجهتي، عيون تتخم شهيتي، وتلغي المسافة بيني وبينها … وإذا لم تكن تستطيع أن تحافظ على المسافة بينك وبين الآخرين، إذا لم تستطع أن تحافظ على العلاقة الموضوعية بينك وبين عالم المادة فسترى أن اللعبة لا تستحق الجهد … ومن ثَمَّ فعليك أن تنسى الموضوع وأن تتذكر أمرًا واحدًا: أن أشد الضرورات هو أن تُبقِي الفراغ ماثلا أمام عينيك … والفراغ في ضوء القمر بصفة خاصة … بل المزيد والمزيد منه دائمًا!(هيرست ينهض. يتجه إلى البار ويصب الفودكا في كأسه.)
– هل تعديت حدودي؟(هيرست يزيح الستارة ويتطلع من النافذة للحظة قصيرة ثم يغلقها ويظل واقفًا.)
ولكنك محق على أي حال … إن حدسك صائب … فأنا أستطيع أن أتعدى أبعد من هذه الحدود، وبصورة متعددة يمكنني أن أتقدم، وأحافظ على مواقعي الدفاعية، وألقي ببديل في المعمعة وأنادي سلاح الفرسان؛ بل أدفع بكل شيء إلى الأمام، واثقًا أنه حينما يتدفق الفرح وينساب فلن تستطيع قوة في الأرض أن توقفه! والذي أحاول أن أقوله — إذا كان مقصدي قد فات عليك — هو أنني رجل حُر.(هيرست يصب لنفسه كأسًا من الفودكا ويشربها. يضع الزجاجة على المائدة. ويتقدم بحذر من كرسيه ويجلس.)
(يتجه إلى البار.)
(سبونر يصب الويسكي.)
(سبونر يحضر إلى هيرست كأسه.)
(يشربان.)
قل لي … هل تتجول كثيرًا بالقرب من الحانة المسماة «جاك سترو»؟لعلك قد حدست أنه كان من الطبقة الأرستقراطية في المجر!
(وقفة.)
أعتقد أنني بعد أن تجرعت نصف قدحي ولم أعد إليه بعد ذلك، أعتقد أنني تكلمت، فجأة … تكلمت فجأة … وتلقيت استجابة … نعم استجابة — لا أستطيع ان أجد كلمة أبلغ من هذه — استجابة لم أرَ مثلها.(وقفة.)
دهمني في تلك اللحظة تقريبًا إحساس بأنه على قدر من الرزانة، لم أكن قد عهدته من قبل في أي شخص.(سبونر يحدق فيه.)
(وقفة.)
(وقفة.)
وقد قابلتك في نفس الحانة هذا المساء؛ ولكن حول مائدة مختلفة.(وقفة.)
وإني أعجب لك الآن مثلما عجبت له ذات يوم … ولكن ترى هل سأعجب لك غدًا مثلما أعجب له اليوم؟(وقفة.)
سأسالك سؤالًا آخر: هل تعرف مصدر قوتي؟هذا هو مصدر قوتي. هل أحبَّك أنت أحد قط؟
(وقفة.)
ومع ذلك فلا بد أن أقول إن والدتي لا تزال سيدة جذابة من عدة نواحٍ. لا يجاريها أحد في صنع الفطائر.(هيرست ينظر إليه.)
فطائر الوشنة … لا تجارى.(سبونر يأخذ الكأس. يصب الويسكي فيها ويعطيها إلى هيرست.)
(سبونر يجلس لأول مرة.)
(وقفة.)
كن صريحا. قل لي. لقد كشفت عن شيء. لقد أشرت إشارة واضحة إلى ماضيك. لا تسحبها. إننا نشترك في شيء. ذكرى رعوية. إننا إنجليز. نحن الاثنان.(وقفة.)
(وقفة.)
ولكن الزهور لا تقدم للفتيات فقط، وإنما لجميع من يموتون دوان زواج، وفي صدورهم الزهور البيضاء التي تصوغها حياة الشرف.(وقفة.)
(وقفة.)
(صمت.)
لن تقول. دعني إذن أقول لك أنا … إن زوجتي … كان لديها كل شيء. عينان وفم وشعر وأسنان وأرداف وأثداء؛ كل شيء. وأرجل.زوجتك أم زوجتي؟
(وقفة.)
هل هي هنا الآن. زوجتك؟(وقفة.)
هل كانت هنا قط؟ هل كانت قط هناك. في منزلك الصغير؟ من واجبي أن أخبرك أنك فشلت في إقناعي. أنا شريف وذكي. وأنت تعطيني أقل مما أستحق. ترى هل تعامل هذه السيدة بنفس روح الإنصاف التي تعاملني بها؟ إنني لأعجب إذا كنت تهتم على الإطلاق بالتعريفات الدقيقة حقًّا، ومن ثَمَّ بالتعريفات التي تتسم بالشاعرية في جوهرها. إنني لأعجب إذا كنت تذكرها حقًّا وصدقًا … إذا كنت قد أحببتها حقًّا وصدقًا … إذا كنت حقًّا قد دللتها … إذا كنت حقًّا قد هدهدتها … إذا كنت حقًّا قد رعيتها رعاية الأزواج … إذا كنت حقًّا قد أُغرمت بها ولم تحلم بذلك حلمًا زائفًا وحسب! لقد ناقشت هذه الفروض مناقشة جادة، وأجدها جميعًا هزيلةً باليةً!(صمت.)
كانت عيناها — على ما أعتقد — عسلية!(هيرست يقف في حذر. يتقدم — وهو يترنح إلى حدٍّ ما – من البار ويصب لنفسه ويسكي ويشرب.)
(وقفة.)
عسل زفت؛ أتساءل: هل رأيت عسلًا زفتًا قط؟ أو حتى عيونًا عسلية؟(هيرست يرميه بالكأس فلا تصيبه بل تتدحرج على البساط.)
هل أحس برنة عداء؟ هل أحس — مع احترامي — برنة شرب أقداح جعة كثيرة تبعثها كئوس الويسكي الذي يجرح؟ الذي يجرح؟(صمت.)
(وقفة.)
(وقفة.)
أستطيع أن أقول — رغم أننا لم نتعرف إلا منذ وقت قصير — أنك تفتقد إحدى مقومات الرجولة، وهي أن تثق ثقة كاملة في الشراب: أن ترفع قدحًا إلى فمك واعيًا أنه قدح، وأن تعلن أنه قدح، ثم تستمر في ولائك لهذا القدح كأنما خرج من معدتك، أو كأنما ولدته أنت … تنقصك هذه المقدرة — في رأيي.(وقفة.)
أرجوك أن تغفر لي صراحتي … إنها محض جنون وليست قائمة على خطة محددة … ولذلك فأرجو ألا تعترض إذا أخرجت مسبحتي وسجادة الصلاة حتى أحيي ما أعتقد أنه عجزك.(يقف.)
أحيي. وأوافق. وأعلن أنني في مقدمتك يا من تشمل الجميع! انتبه إلى ما أقول، إنني شاهد لا يمكن تجاهله؛ بل يمكن أن أكون صديقًا.(هيرست يقبض على البار ويتصلب.)
أنت في حاجة إلى صديق. إن أمامك طريقًا طويلًا يا بني … وسوف تجد نفسك — عما قريب — تذرعه وحيدًا. اجعلني الملاح الذي يقود سفينتك؛ إذ إننا حين نتحدث عن النهر فنحن نتحدث في الحقيقة عن بناء منخفض عميق ومبلل! وبعبارة أخرى لا تحتقر أبدًا اليد التي تمتد لتساعدك، وخاصة إذا كانت ممتازة ونادرة مثل يدي. وليس امتياز العرض الذي أتقدم به هو الشيء النادر حقًّا … بل العرض نفسه … مجرد تقدمي بالعرض … لم يسبق له مثيل. إنني أقدم نفسي إليك باعتباري صديقًا. فكر قبل أن تتكلم.(هيرست يحاول أن يتحرك، ولكنه يتوقف ثم يقبض على البار.)
تذكر هذا. لقد فقدت زوجتك العسلية اللون. لقد فقدتها وماذا تستطيع أن تفعل؟ لن تعود إليك مطلقًا … لن تغني لك ترلم تم تم … ترلم تم تم!(وقفة.)
هذه العزلة … هذا القفر … لا يتحرك … لا يتغير ولا يتقدم في السن … ولكن يظل إلى الأبد … كالجليد … كالجليد … متجمد … وصامت.(هيرست يرخي قبضته من البار. يترنح عبر الغرفة ثم يتساند إلى كرسي.)
(ينتظر ثم ينهض ثم يتحرك ويقع.)
(سبونر يرمقه.)
(يزحف هيرست نحو الباب يفتحه ثم يزحف خارجًا منه.)
سبونر يظل ساكنًا.(يتأمل الغرفة. يتجول فيها. يفحص كل شيء فحصًا دقيقًا. يقف وتشتبك يداه خلف ظهره ويظل يتأمل الغرفة.)
(صوت باب يغلق في مكان ما بالمنزل.)
(صمت.)
(يفتح الباب الأمامي للمنزل … ثم يتصفق بشدة.)
(يتصلب سبونر في وقفته.)
(فوستر يدخل الغرفة — مرتديًا حلة غير رسمية — يقف جامدًا عندما يرى سبونر. يقف وينظر إليه.)
(صمت.)
(يذهب إلى البار فيفتح زجاجة جعة ويصب لنفسه قدحًا.)
ماذا تشرب؟ لقد تأخرنا كثيرًا … وقد أنهكني التعب. هذا هوما أريد. (يشرب) تاكسي! … مستحيل. سائقو التاكسي يعادونني. شيء ما فيَّ يزعجهم. أحد العوامل المجهولة. ربما الطريقة التي أسير بها. أو ربما لأنني أرحل متنكرًا … (بعد أن يشرب) آه … انكسر العطش! هذه الجعة تصنع المعجزات! كيف حالك؟ ماذا تشرب؟ من أنت؟ كنت أتصور أنني لن أدرك الموعد. يا لها من رحلة. ليس هذا فحسب فأنا أعزل لا أحمل مسدسًا في لندن. ولكن هذا لا يهم. فما دمت تستطيع أن تعيش في الشرق فلا خوف عليك. وقد نجحت أنا في الشرق. ومع ذلك فأنا أحب المنارات الصغيرة؛ مثل هذا المنار. هل قابلت صاحب المنزل؟ إنه والدي. والليلة هي ليلة يوم العطلة ولذلك قرر أن يبقى في المنزل، ويستمع إلى بعض الأغاني الشعبية الألمانية. أرجو أن يكون قد أمضى أمسية هادئة وممتعة. وبهذه المناسبة … من أنت؟ وماذا تشرب؟(يدخل بريجز إلى الغرفة ويقف. ربعة القوام ولا يرتدي حلة تقليدية.)
فوستر. جون فوستر. جاك فوستر. فوستر. واسم هذا الرجل بريجز.
(وقفة.)
(فوستر وبريجز يحدقان فيه.)
أقصد أن ذلك آخر مكان زرته. فأنا أعرف أوروبا خير المعرفة … واسمي سبونر بهذه المناسبة. نعم. في عصر يوم من الأيام … في أمستردام … كنت أجلس في مقهى على ضفة قناة. كان الجو رائعًا … وإلى مائدة أخري في الظل يجلس رجل يُصَفِّر صفيرًا خافتًا. كان يجلس دون حراك إلى درجة الجمود، وعلى جانب القناة كان صياد. اصطاد سمكة ثم رفعها في الهواء، فهلَّلَ الجرسون وصفق ثم ضحك الرجلان؛ الجرسون والصياد. وكانت فتاة صغيرة تسير قريبًا منهم فضحكت، وكان هناك عاشقان يسيران بالقرب منها فتعانقا … وارتفعت السمكة في خيط السنارة في الهواء … ولمعت السمكة والسنارة في الشمس وهما يتأرجحان، واندفع الدم إلى وجه الصياد من الفرحة. فقررت أن أرسم لوحة للفتاة والجرسون والطفلة والصياد والعاشقين والسمكة وفي الخلفية — في الظل — الرجل الجالس إلى المائدة الأخرى، وأن أسمي اللوحة «ذو الصفير الخافت». أو «ذو الصفير». فلأسألكما: إذا كنتما رأيتما اللوحة وعنوانها، ترى هل كان يبدو محيرًا؟(وقفة.)
(وقفة.)
هل سمعت ما قلته؟ ربما كنت قد سعدت باللوحة. فمن شأن العمل الفني الجيد أن يثيرني. أتفهمني؟ … لست حمارًا تمامًا … فاهم؟(وقفة.)
أسعدني أن أسمع أنك رسام، لا بد أنك ترسم في أوقات الفراغ.(سبونر ينظر إلى بريجز.)
ماذا تشرب؟
(فوستر يتجه إلى البار، ويصب قدحًا من الويسكي ويقف حاملًا إياه.)
(يدخل هيرست. مرتديًا روب دي شامبر.)
بريجز يتجه إلى البار ويصب الويسكي.(هيرست يجلس. بريجز يحضر الويسكي.)
يا إلهي! أهذه كأسي؟ كيف عرفت؟ كنت تعرف. أنت حساس جدًّا. في صحتك. هذه أول كأس أشربها اليوم … في أي يوم نحن؟ كم الساعة؟ أما زلنا بالليل؟(يقدم كأسه إلى بريجز فيملؤها ويعيدها إليه.)
أمر يدعو للاكتئاب. ما هو؟ الحلم! نعم. الشلالات. لا … لا … البحيرة. الماء. الغرق. شخص آخر. ما أجمل أن يكون لك رفيق. هل تتخيل كيف يمكن أن تصحو هنا فلا تجد أحدًا، ولا ترى إلا الأثاث يحدق فيك؟ شيء مزعج. لقد خبرت هذا الوضع ومررت بتلك الفترة — في صحتك — ثم اهتديت إلى البحث آخر الأمر. مثلكم. خطوة حكيمة حاولت أن أضحك وحدي … مؤسف. هل تناولتم جميعًا مشروباتكم؟(ينظر إلى سبونر.)
من هذا؟ صديق لكم؟ ألا تُعَرِّفونني به؟(يفرغ كأسه في جوفه. ثم يرفعها فارغة.)
من أكثرهم كرمًا وتعطفًا هنا؟(بريجز يأخذ الكأس إلى البار.)
ماذا يكون الحال لو لم تكونا — أنتما الاثنان — هنا؟ ربما جلست هنا إلى الأبد في انتظار غريب يأتي ليملأ لي كأسي … وماذا كنت أفعل أثناء انتظاري؟ أتفحص الألبوم؟ أضع خططًا للمستقبل.(يشرب وينظر إلى سبونر.)
من هذا الرجل؟ هل أعرفه؟كان لي عالمي … ولي عالمي الآن … لا تتصوروا أنه بعد أن مضى هذا العالم، بعد أن انتهى، سوف أسخر منه أو أشك فيه أو أتساءل ما إذا كان قد وجد حقًّا وصدقًا. لا … نحن نتحدث عن شبابي … شبابي الذي لا يمكن أن يرحل … لا … لقد وجد … كان صلبًا وكان الناس فيه أيضًا ذوي صلابة ولكن … تغيرت صورته في الضوء، إذ كان حساسًا لكل الأضواء المتغيرة.
عندما وقفت سقط ظلي عليها … فرفَعَت عينيها إليَّ … أعطني الزجاجة … أعطني الزجاجة.
(بريجز يعطيه الزجاجة فيشرب منها.)
لقد ولت. هل كانت موجودة؟ لقد مضت … لم تكن موجودة قط … وهي باقية.إنني أجلس هنا إلى الأبد.
ما أشد عطفك! أود أن تخبرني ما حال الطقس. أودك أن تخبرني في أي ليلة نحن؛ في هذه الليلة، أم الليلة القادمة، أم الليلة الماضية — أقصد — قبل البارحة؟ تفضلوا. أكره أن أشرب وحدي. فعلًا … عَمَّ كنت أتحدث؟ الظلال. الأضواء من خلال أوراق الأشجار. والقفز والتواثب. بين الأشجار. العشاق الصغار. شلال صغير. كان حلمي البحيرة. من كان يغرق في حلمي؟ كانت تعمي البصر. أذكرها. لقد نسيتها. أقسم بكل مقدس. توقفت الأضواء. واشتد لذع البرد. هناك فجوة في داخلي. لا أستطيع أن أملأها. هناك نهر يفيض من خلالي. لا أستطيع أن أوقفه. إنهم يطمسونني. من الذي يفعل ذلك؟ إنني أختنق. إنها وسادة. وسادة معطرة تضغط على وجهي. إن أحدهم يحاول قتلي. رفعت عينيها إليَّ … فأصابني الدوار. لم أر في حياتي أجمل منها. كان سمًّا زعافًا، فلا يمكن أن يتصور أن نحيا هكذا.
لا أذكر شيئًا. إنني أجلس في هذه الغرفة، وأراكم جميعًا … كل واحد منكم. لقاء اجتماعي، تسوده روح التعاطف. هل أنا نائم؟ لا يوجد ماء. لا أحد يغرق. نعم. نعم. هيا. هيا. هيا.
صفروا … تكلموا … تكلموا … إنكم لتسخرون مني يا أولاد اللئام … أيها الأشباح … الأشباح الطويلة، إنكم تصدرون أصواتًا وأستطيع أن أسمع همهماتكم؛ وأرتدي قميصًا أزرق قشيبًا في لوكاندة «ريتس» — وأعرفه جيدًا — الجرسون الذي يقدم النبيذ. بوريس. بوريس. لقد عمل هناك سنوات وسنوات. ظلال تعمي البصر. ثم شلال.
(يقع هيرست على الأرض. يهرع الجميع إليه. فوستر يتحول إلى سبونر).
(بريجز يعين هيرست على النهوض … هيرست يبعده عنه.)
(يقف على قدميه.)
(سبونر يتجه إليه.)
احترموا شيخوختنا … هيا تعال … سأعينك على الجلوس.
هؤلاء الناس لا يعرفون الشفقة.
(يتحول إلى بريجز.)
ما الداعي للكلام؟ قل لي … هه؟(يتحول ثانيًا إلى سبونر.)
اسمع يا قفل. إننا نحمي هذا السيد المحترم من النساء، من ذوي الحيل، ومن الأشرار، ونستطيع أن نقضي عليك دون تردد. إننا نعتني بهذا السيد. ولا دافع لنا سوى الحب.(يتحول إلى بريجز)
لماذا أتحدث إليه؟ إنني أضيع الوقت مع شخص ميئوس منه. لا بد أنني سأُجَن. أنا عادة لا أتكلم. فليس ثمة ما يدفعني على الكلام … عادة ما أخلد إلى الصمت.(يتحول إلى سبونر.)
أعرف حقيقة الأمر. ثمة شيء فيك يبهرني.(يتقدم من سبونر، ويشير إليه أن تعال بإصبعه السبابة.)
(بريجز يقف ساكنًا.)
(يخرج من الغرفة.)
(يدخل بريجز ويقف ويستمع.)
إنني أفتقد الفتيات السياميات. أفتقد فتيات بالي. لا تجد أمثالهن هنا. تراهن من حين لحين. على سُلَّم مدارس اللغات. يتعلمن الإنجليزية. لسن على استعداد لتبادل الضحكات والقبلات بلغتهن الأصلية. ليس في شارع ريجنت على أي حال. ضحكة وقبلة. أحيانًا لا أجدني أطمع في أبعد من هذا … لا أستطيع أن أفعل شيئًا آخر بطبيعة الحال. أستطيع أن أحيا حياة مختلفة. لا شيء يضطرني أن أضيع وقتي في البحث عن كلبه! يمكنني أن أجد العمل المناسب فأعيش سعيدًا. العمل المناسب والسعادة المناسبة.(سبونر يبتعد عن طريقه.)
(هيرست ينهض ببطء، فيقوده بريجز من يده إلى الباب.)
(بريجز يصحب هيرست إلى خارج الغرفة.)
(صمت.)
(وقفة.)
(فوستر يتجول في الغرفة، ويقف لدى الباب.)
اسمع. هل تعرف ما يحدث عندما ينطفئ النور فجأة؟ سوف أريك. هذا ما يحدث … انظر!(يطفئ النور.)
الفصل الثاني
الصباح
(سبونر وحده في الغرفة … الستائر لا تزال مغلقة؛ ولكن أشعة الصباح تتسلل إلى الغرفة.)
(سبونر جالس.)
(يقف. يسير ببطء نحو الباب، يدير المقبض بجهد شديد ثم يتراجع.)
(يجلس ويرتعد.)
(ينفتح الباب. يدخل بريجز ممسكًا بمفتاح في يده. يرتدي حُلَّة. يزيح الستائر. ضوء النهار.)
(وقفة.)
(وقفة.)
(بريجز يخرج.)
لقد جربت هذا من قبل. الباب المفتوح. دخول رجل غريب. تقديم الصدقات. سمك القرش في المرفأ.(صمت.)
(يدخل بريجز حاملًا صينية عليها أطباق طعام الإفطار مغطاة بأطباق فضية، وزجاجة شمبانيا في دلو به ثلج.)
(يضع الصينية على منضدة صغيرة، ويأتي بكرسي إلى المنضدة.)
(يبدأ بريجز في فتح الزجاجة، سبونر يرفع أغطية الأطباق ينظر إلى المحتويات، ثم يضع الأغطية جانبًا، ويضع الزبد على التوست.)
(بريجز يصب الشمبانيا. يقدم كأسًا. يرتشف منه سبونر.)
(وقفة.)
(يبدأ سبونر في تناول الطعام. بريجز يسحب كرسيًّا إلى المائدة ويجلس عليه، وينظر إلى سبونر.)
أرسلت رسالة إلى صحيفة التايمز حول هذا الموضوع بعنوان «الحياة في طريق مسدود» دون نتيجة، على أي حال، قلت له ربما كان من الأفضل أن تنسى هذا الموضوع تمامًا ولا تذهب إلى شارع بولسوفر. أذكر أنني قلت له: هذه الرحلة التي تريد القيام بها … لا بد أن تنساها … يمكن أن تؤدي بك إلى الهلاك. ولكنه رد قائلًا: إن عليه أن يوصل طردًا لمكان ما. على أي حال، بذلت كل هذا الجهد معه لأن له وجهًا صبوحًا مشرقًا، وأحسست أنه رجل يميل على الدوام إلى فعل الخير؛ فأنا عادة لا أكترث بمساعدة أحد. لا بد أن أقول لك إنه سوف ينكر هذه القصة؛ لديه رواية أخرى لما حدث.
(سبونر يضع الغطاء على الطبق.)
(بريجز يصب الشمبانيا في كأس سبونر.)
متى كانت آخر مرة تناولت فيها الشمبانيا على الإفطار؟(وقفة.)
هوجو كان رفيقًا حسنًا.(وقفة.)
سوف تسألني بالطبع عما كان يترجم لي! والإجابة هي قصائدي، فأنا شاعر.(وقفة.)
(سبونر يفحص الزجاجة.)
(سبونر يشرب.)
لا بد أن تشرب الزجاجة كلها؛ أوامر الأطباء.(وقفة.)
قل لي متى تريد القهوة.(وقفة.)
لا شك أنه أمر رائع … أن تكون شاعرًا ولك معجبون، ومترجمون … وأن تكون شابًّا … أنا لست هذا ولا ذاك!من المهم جدًّا أن يكون الاجتماع خاصًّا؛ لأننا سنناقش سياسة المجلة.
(وقفة.)
(يدق التليفون. يتجه بريجز إليه، يرفع السماعة وينصت.)
(بريجز يرفع الصينية ويخرج بها.)
(سبونر يجلس ساكنًا.)
(يصب الشمبانيا.)
(هيرست يدخل مرتديًا حُلَّة. يتبعه بريجز.)
(يصافح سبونر.)
هل أكرموا وِفادتك؟ دنسون! أحضر لنا بعض القهوة.(بريجز يترك الغرفة.)
تبدو في أتم صحة … لم تتغير على الإطلاق. لا بد أنها رياضة الاسكواش … تحافظ على قوامك وصحتك … أذكر أنك كنت لاعبًا ماهرًا في جامعة أكسفورد. ما زلت تمارسها؟ تفكير سديد وعاقل! يا لله! لقد مضت سنوات وسنوات … متى التقينا آخر مرة؟ أظن أننا تناولنا الغداء معًا آخر مرة في عام ١٩٣٨م؛ في النادي. هل تتذكر ذلك أنت؟ كان معنا كروكسلي … ومن أيضًا؟ وكان معنا مرياث … نعم أتذكر ذلك كله الآن … وبيرستون سميث. يا لها من شلة! ويا لها من ليلة! إذا صحت ذاكرتي؛ لقد ماتوا الآن جميعًا بطبيعة الحال. كلا! كلا! يا لي من أبله! يا لي من مغفل! إنني أذكر آخر مرة التقينا فيها حقًّا؛ كانت في عام ١٩٣٩م في مقصورة في ملعب لورد للكريكيت. في مباراة ضد فريق جزر الهند الغربية. وكان هاتور وكرمتون يصدان الضربات بإحكام رائع، وكان قسطنطين يوجه الكرات، وكانت الحرب تلوح في الأفق. أتعتقد أنني على حق؟ لقد شربنا معًا زجاجة نبيذ رائعة. وإنك لتبدو في نفس اللياقة البدنية التي تميزت بها آنذاك. هل مرت الحرب عليه بسلام؟(يدخل بريجز بالقهوة ويقدمها على المنضدة.)
شكرًا يا دنسون! اتركها هناك … شكرًا!(بريجز يترك الغرفة.)
كيف حال إمیلي؟ يا لها من امرأة! (يصب القهوة) سوداء؟ كيف حالك؟ يا لها من امرأة! لا بد أن أقول لك إنني وقعت في غرامها ذات يوم … لا بد أن أعترف لك … خرجت معها لنحتسي الشاي في فندق دورشستر، وبحت لها باشتهائي … قررت أن أواجه الموقف دون خوف … اقترحت عليها أن تخونك؛ قلت لها إنك إنسان ممتاز ورائع حقًّا … ثم استطردت قائلًا إنني لا أريد منها أي شيء يخصك … أنت؛ ولكنني أردت منها ذلك الجزء الذي تحتفظ به كل النساء لوقت عصيب. لكم عانيت حتى أقنعها! قالت إنها تحبك حب العبادة، وإن حياتها ستفقد معناها لو خانتك. وهنا أعملت فيها سحر الفطائر المشربة بالزبد، والقشدة الصافية، والقطايف الشهية، والفراولة الطازجة … حتى استسلمت … لا أظن أنك علمت بهذا قط … ماذا؟! لقد تقدم بنا العمر كثيرًا فلم نكترث لهذه الأمور … ألا توافقني؟(يجلس ممسكًا بالقهوة.)
استأجرت بيتًا صغيرًا لفترة الصيف. وكانت تأتي لي في سيارتها مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع … كنت جزءًا لا يتجزأ من رحلاتها إلى السوق … كنتما تسكنان في منزل في المزرعة … مزرعة والدها … وكانت تزورني في العصر — ساعة الشاي — أو في الصباح — ساعة القهوة — الأوقات البريئة! كانت لي طوال الصيف … بينما كنت تتصور أنها لك!(يحتسي القهوة.)
كانت تحب المنزل الريفي … كانت تحب الزهور مثلما أحبها … زهور النرجس، وحنك السبع، والأقاحي، والبانسيه، والبنفسج، والقرنفل!(وقفة.)
يداها الرقيقتان.(وقفة.)
لا يمكن أن أنسى طريقة ترتيبها للزهور.(وقفة.)
هل تذكر حين صحبتها إلى فرنسا؟ أكان ذلك في عام ۳۷م؟ لقد كنت معكما على ظهر الباخرة نفسها … لم أغادر قمرتي … كانت تأتي إليَّ أثناء تأديتك التمرينات الرياضية … كان حماسها لا يُجارى! ولم أشهد في حياتي مثله! … آه … حسنًا!(وقفة.)
كنتَ دائمًا مشغولًا بصحتك وقوامك، لا غبار على ذلك … كان لك قوام رائع … قوام ریاضي بطبيعته … كنت تحصل على الميداليات، وينقش اسمك على الشهادات، ويحفر بالذهب على الرخام. إذا وصل العَدَّاء يومًا إلى آخر الشوط، وحاز قصب السبق، فسوف يكون الأول في كل شيء … طول حياته. لا يمكن لشيء أن يلطخ تلك اللحظة الذهبية … أما زلتَ تعدو؟ لماذا لم نكن نلتقي إلا نادرًا بعد أن تركنا الجامعة؟ أعني … كان لديك أمر آخر يشغلك، فأنت أديب مثلي … صحيح أننا كنا نخرج معًا أحيانًا للنزهة مع تابي ولم وباقي الشلة، وكنا نتناول كأسًا أو كأسين من الويسكي في النادي؛ ولكننا لم نوثق عرى صداقتنا قط … ترى ما السبب؟! لقد نجحت أنا في وقت مبكر … طبعًا!(وقفة.)
ألم تقل إنك استمتعت بالحرب؟(وقفة.)
(وقفة.)
(وقفة.)
ماذا تعني بالضبط؟ لا أفهمك.(وقفة.)
(وقفة.)
(يقف هيرست.)
سأضع اسمك في القائمة السوداء وأشطبه من النادي!
(يتجه إلى الباب وينادي.)
دنسون! ويسكي وصودا!(يتجول في الغرفة.)
الواضح أنك وغد دنيء، «تشارلز وذربي» الذي عرفته كان سيدًا مهذبًا، أما الآن فقد تضاءل حجمه وانكمش … إنني لآسف لك … أين الحماس الأخلاقي الذي غذى كيانك يومًا ما؟ ألقيت به في القمامة؟(بريجز يدخل. يصب الويسكي والصودا. ويقدمه إلى هيرست. هيرست ينظر إليه.)
ألقي في القمامة … ألقي في القمامة تمامًا … (يشرب) لا أفهم … لا أفهم … وأنا أرى ذلك الآن أمامي … ودائمًا … كيف يمكن لأكثر الناس حساسية وثقافة أن يتحول بهذه السهولة … وبين عشية وضحاها … إلى رجل فظ الطباع … شرير … قاطع طريق. لم يكن يتحول أحد في الماضي (على أيامي)، كان الرجل يوجد فحسب. ولم يكن باستطاعة شيء أن يغيره إلا الدين. وكان هذا — على الأقل — بؤسًا رائعًا.(يشرب ويجلس في كرسيه.)
لسنا أفراد عصابة من الأشرار. وأنا على استعداد للصبر والتحمل … سأكون كريمًا وعطوفًا. سأريك مكتبتي؛ بل ربما أريتك غرفة المكتب؛ بل ربما أريتك قلمي ونشافتي؛ بل ربما أريتك مسند قدمي.(يرفع كأسه.)
كأس أخرى.(بريجز يأخذ الكأس ويملؤها ويعيدها.)
بل ربما أريتك ألبوم الصور … ربما رأيت فيه وجهًا يذكرك بوجهك أنت … بالرجل الذي كنتَ يومًا ما … ربما رأيت وجوه آخرين؛ في الظل … أو خدود آخرين … تستدير، أو فك هذا أو ذلك … أو قفاه … أو عينيه وقد ظللتها القبعات، فربما ذكرتك بآخرين كنت تعرفهم يومًا ما … كنت تظنهم قد ماتوا من زمن بعيد؛ ولكنك تستطيع أن تراهم يتطلعون إليك … ينظرون إليك من طرف خفي … إذا كنت تستطيع أن تواجه الشبح الطيب … إذا كنت تسمح بحب الشبح الطيب أنهم يكنون كل هذه العاطفة … لعاطفة الحبيبة في وجوههم … أنكن لها احترامًا. من المؤكد أنها لن تخلي سبيلهم ولكن … من يدري؟! … ربما أعطيتهم راحة … من يدري؟! … فربما عادت إليهم الحياة … في أغلالهم … في القدور التي تشتمل على رفاتهم … هل تعتقد أنه من القسوة أن نعيدهم إلى الحياة بعد أن حبسوا وثبتوا في أماكنهم؟ کلا … ثم كلا … إنهم في أعمق أعماقهم يريدون أن يستجيبوا للمسة أو لنظرة منك … وحين تبتسم تفيض قلوبهم بفرح طاغٍ! ولذلك أقول لك لا بد أن تعطف ويرق قلبك للموتى، مثلما تريد من الناس أن يعطفوا عليك ويرق قلبهم لك الآن … فيما تعتبر أنه حياتك.(يشرب.)
(صمت.)
(وقفة.)
أعطني الزجاجة.بریجز: لا.
(وقفة.)
بریجز: لأنني سأرفض الرحيل.
(صمت.)
(هيرست يوجه الكلام إلى سبونر.)
(سبونر يتجه إلى البار. بريجز لا يتحرك. سبونر يمسك زجاجة الويسكي ويسير إلى هيرست. هيرست الويسكي ويضع الزجاجة إلى جواره.)
بریجز: سأشرب كأسًا أنا أيضًا.(بريجز يأخذ كأسًا إلى حيث وُضعت الزجاجة، فيصب منها كأسًا ويشرب.)
(فوستر يدخل الغرفة.)
(وقفة.)
قلت إن موعد مسيرتك الصباحية قد حان.(بريجز يخرج.)
(بريجز يدخل ومعه الشمبانيا. يقف لدى الباب ويستمع.)
(بريجز يدخل الغرفة، ويضع الشمبانييرة على المنضدة.)
(بريجز يفتح زجاجة الشمبانيا، ويصب كأسًا يقدمه إلى سبونر.)
(بريجز يصب كأسًا، ويقدمها إلى فوستر.)
(هيرست يرفع كأسه.)
(همهمات: في صحتك.)
(يشرب الجميع، هيرست ينظر إلى النافذة.)
(بريجز يرخي الستائر، ويضيء المصابيح.)
(وقفة.)
يا للهناء!(وقفة.)
سأقرر اليوم أمرًا. ثمة أمور لا بد أن أحسمها اليوم.(يشير إلى بريجز.)
إنه شریکي … إنه الذي رشحني … لقد تعلمت الكثير منه … لقد كان وما يزال دليلي … إنه أكثر من عرفتُ ابتعادًا عن الأنانية … دعُوه يحدثكم … فليتحدث.(فوستر ينظر إلى سبونر.)
بریجز: إلى هذا؟ إلى جامع القمامة؟ عامل المراحيض؟ إلى بائع الروبابيكيا؟ ما هذا الهذر الذي تقوله؟ انظر إليه! إنه يعبئ عصير البؤس في زجاجات، ويخبز فطائر الذل في الأفران … لماذا تتحدث إليه أصلًا؟!
(صمت.)
(وقفة.)
أرجوك أن تعطيني هذه الوظيفة! لوكنت أرتدي حلة مثل حلتك، لرأيتني في ضوء مختلف. إنني ممتاز في التعامل مع التجار، والباعة المتجولين، ورجال الدعاية، والراهبات … يمكن أن أصمت إذا طُلِب مني ذلك، أو إذا دعت الحاجة يمكن أن أكون هشًّا بشًّا … ويمكنني أن أناقش أي موضوع تختاره؛ مستقبل الأولاد، الزهور البرية، أو الألعاب الأوليمبية … صحيح أن الدهر قد أزرى بي؛ ولكن خیالي وذكائي لم تشُبْهما شائبة، ولم تلِن إرادتي على العمل، وما زلت قادرًا على تحمل أخطر وأثقل المسئوليات. ومن ناحية المزاج والطبع فيمكنني أن أتشكل حسبما تريد؛ فإن شخصيتي في جوهرها تتسم بالتواضع. أنا رجل أمين وشريف، زد على ذلك أنني لم أتخط سن التعلم، ومهارتي في الطبخ لا بأس بها. أميل إلى فنون الطهي الفرنسية؛ ولكن الأطباق العادية لا تستعصي عليَّ، وعيني قادرة على اكتشاف التراب في أي مكان، فإذا توليت المطبخ بلغ درجة نادرة من الكمال. وأنا رقيق في معاملة الأشياء فيمكن أن أُعنى عناية بالغة بأطقم الفضيات، وأستطيع لعب الشطرنج، والبلياردو، والبيانو. يمكنني أن أعزف لك قطعة من شوبان … ويمكنني أن أقرأ لك آيات من الإنجيل. أنا رفيق حسن.(وقفة.)
لا بد أن أعترف أن حياتي العملية اتسمت بالتقلب والتنوع. كنت أحد العناصر الذهبية في جيلي؛ ولكن شيئًا ما حدث! لا أعرف ما هو، ومع ذلك فأنا لا أزال أنا، وقد عشت وتغلبت على الإهانة والحرمان. إنني أنا. إنني أقدم نفسي، ليس بمهانة؛ ولكن بكبرياء عريق. إنني آتي إليك كمحارب، وسوف يسعدني أن أخدمك باعتبارك سیدي! إنني أنحني على ركبتي أمام فخامتك، وأتمتع بالورع والحكمة والكرم والخير. وإذا رفضت هذه الخصال فسوف تخسر كثيرًا. إن من واجبي، باعتباري سيدًا مهذبًا، أن أظل لطيف المعشر جسورًا عاقلًا صموتًا شهمًا في تنفيذي لهذه المهمة أو تلك. ومعنى ذلك أن تظل حياتك الشخصية خاصة بك وسرًّا من أسرارك، ومع ذلك فلن أقبل أن يسيء إليك أحد أقل إساءة. وسيكون سَيْفي على استعداد لتمزيق كل أشكال القوى الشريرة التي تتآمر لتدميرك، وسوف أرى أن واجبي هو أن أظل سمح الوجه سليم الضمير. وسأقبل أن أنازل الموت نفسه من أجلك؛ بل إنني لأصارعه من أجلك بكل جسارة؛ سواء كان ذلك في حومة الوغى، أو في غرفة النوم … إنني فارسك. وإنني لأفضل أن أدفن نفسي في قبر من الشرف على أن أرى الأعداء — محليين أو أجانب — يلطخون كرامتك … إنني تحت (صمت.) أمرك.(هيرست ما يزال جالسًا لا يتحرك. فوستر وبريجز واقفان دون حراك.)
(صمت.)
(وقفة.)
للمرة الأخيرة.(وقفة.)
ماذا كنت أقول؟(وقفة.)
بریجز: لأن الموضوع.
(صمت.)
(وقفة.)
نعم. صحيح. إنني أسير نحو بحيرة. يتبعني شخص ما من خلال الأشجار. غبت عن نظره بسهولة. أرى جثة في الماء، تطفو على السطح. أنفعل. أنظر وأتأمل، فأرى أنني كنت مخطئًا، لا شيء في الماء. أقول في نفسي إنني رأيت جسدًا يغرق؛ ولكنني كنت مخطئًا فلا شيء هناك.(صمت.)
(صمت.)
(يشرب.)