الفصل الثاني
طمع واضطراب ووجل
الولاة والجنود
وما كاد الأتراك العثمانيون يستولون على أبرشيات أنطاكية حتى دخلوا في دور من الانحطاط
دام طويلًا، فإنهم بلغوا أقصى مجدهم وعظمتهم في عصر سليمان، وبعد وفاته في السنة ١٥٦٦
ابتدءوا
في انحطاط مستمر اللهم إلا فترات كانوا ينتعشون فيها ويظهرون بعض علامات القوة
والنشاط.
وترجع أسباب انحطاط الأتراك العثمانيين إلى أسباب داخلية وخارجية، وأهم الأسباب الداخلية
أنه جاء بعد سليمان القانوني عدد من السلاطين الضعفاء الذين لم يكن لهم همٌّ سوى الانغماس
في
الملذات. فلما أصبح الجنود بلا سلطان شجاع يقودهم إلى النصر في ساحات الوغى سقطت هيبة
السلاطين من أعينهم، وشعروا بما لهم من حول وقوة فبدءوا يعزلون ويولون من يشاءون متطلبين
الأعطيات الجزيلة مبتزين الأموال الكثيرة.
وأدى استئثارهم بالسلطة على هذا الوجه إلى الانغماس في الترف والفساد، ففقدوا صفاتهم
الحربية القديمة، وأصبحت ترقياتهم مشروطة بما يبذلونه من الرشوة لولاة الأمور منهم ولبطانة
السلطان. وعمَّت الرشوة مصالح الحكومة بأسرها وأصبحت جميع الوظائف تُباع وتُشرى، فاضطر
الولاة
أن يبتاعوا وظائفهم. وكان الواحد من هؤلاء لا يُوفق إلى تجديد مدة ولايته دون أن يُرسل
إلى
عاصمة الدولة ما يرضي به رؤساءه، فيضطر والحالة هذه أن ينظر إلى وظيفته كوسيلة لابتزاز
المال.
وأصبحت مناصب القضاء أيضًا تُباع وتُشرى وتُعرض في أسواق المساومة، فترسو على من يدفع
الثمن
الأعلى، وكان المولى خلافة لا يعرف العربية فيتكل في استماع المرافعة إلى مترجم يُصبح
هو صاحب
القول الفصل في بعض الأحيان.
واستوطن الانكشاريون والسباهيون حلب ودمشق وطرابلس فصيدا واستقروا بها، فصار لهم صبغة
محلية وكثرت مطامعهم ومشاكلهم، ولجئوا في غالب الأحيان إلى القوة للوصول إلى ما كانت
تصبو
إليه نفوسهم، وكانت تغلق الحوانيت ويجري الدم فيضطر كل صاحب مهنة أن يأخذ أسلحته معه
إلى محل
عمله. وأصبح «أهل الذمة» بحالة يُرثى لها يتكيسون بأصحاب السطوة من المسلمين لصيانة أنفسهم،
أو يفرون إلى لبنان ليعيشوا فيه أحرارًا معززين.
بطاركة القرن السادس عشر
ويختلف الرواة في أسماء البطاركة وفي تسلسل سلطتهم ومدة رئاستهم، وليس لدينا من السجلات
الرسمية ما نستعين به لإثبات هذه الحقائق التاريخية الأولية، فحوادث السنة ١٨٦٠ في دمشق
قضت
على كل ما كان قد تجمع في البطريركية من أوراق وسجلات، وأحرقت ما كان قد تبقى من كتب
طقسية
وذيبتيخات في الكاتدرائية البطريركية.
ويقول قسطنديوس القسطنطيني إن دوروثيوس الثالث تولى السدة البطريركية الأنطاكية من
السنة
١٥١١ حتى السنة ١٥٢٣، وإن يواكيم الرابع خلفه في السنة ١٥٢٤ فساس الكنيسة ثلاثين عامًا،
وإن
ميخائيل الخامس جلس اثنتي عشرة سنة (١٥٥٥–١٥٦٧)، وإن يواكيم الخامس ظل متوليًا من السنة
١٥٦٧
حتى السنة ١٥٨٥، وإن دوروثيوس الرابع خلفه فتُوفي بعد اثنتي عشرة سنة؛ أي في السنة ١٥٩٧.
١
وجاء في كتاب «الأرج الزكي» مثل ما جاء في لائحة قسطنديوس حتى نهاية عهد ميخائيل الخامس
في السنة ١٥٦٧. ثم جاءت بطريركية يواكيم الخامس سنة واحدة تلتها رئاسة يواكيم السادس،
فدامت
سبع عشرة سنة (١٥٨٥)، ثم بطريريكية دوروثيوس الرابع حتى السنة ١٦١٠. وأضاف صاحب «الأرج
الزكي»
أن الأرشمندريتي بولس أبو عضل تكرم عليه بالسلسلة البطريركية، وأن غريغوريوس متروبوليت
طرابلس
(البطريرك فيما بعد) نظر فيها وأجازها.
وإذا ما قابلنا هاتين اللائحتين بما صنفه البطريرك مكاريوس (زعيم) وابنه بولس
٢ وبما حبَّره الخوري ميخائيل بريك، «الخلاصة الوافية في تاريخ بطاركة أنطاكية»،
٣ هالنا التناقض وأرهبنا، وليس في ما ظهر في مجلة «المنار» الأرثوذكسية بقلم غطاس
قندلفت أو في ما أورده الأب كرالفسكي في «قاموس التاريخ والجغرافية الكنسي» ما يُسكن
روعنا
ويُخفض جأشنا، ولولا جهود المغفور له السيد خريسوستومس (بابا ذوبولوس) رئيس أساقفة أثينا،
٤ وصبر الأب الأرشمندريتي جوزيف نصر الله،
٥ لما تمكنا من رسم الخطوط الرئيسية التالية. وأملنا أن يقوم بعدنا من يُعنَى بجمع
جميع ما تبقى من الآثار الخطية في اللغتين العربية واليونانية ليتسنى لخلفائنا الوصول
إلى
استنتاجات سليمة كاملة.
البطريرك دوروثيوس الثالث (١٤٩٧–١٥٢٣)
وجاء لبولس ابن الزعيم أن دوروثيوس (ابن الصابوني) كان يسوس الكنيسة الأنطاكية في
أيلول
السنة ٧٠٠٦ للخليقة (١٤٩٧)، وجاء أيضًا في ذيل إنجيل خطي في السابع والعشرين من آذار
سنة ١٥٢٣
تصديق لدوروثيوس يفيد أن هذا الإنجيل أصبح آنئذٍ وقفًا على كنيسة دير عطية،
٦ فنرانا مضطرين والحالة هذه أن نجعل مدة رئاسة دوروثيوس الثالث تشمل هذه السنوات
كلها. ولكنه ليس في نص بولس ما يمنع القول بابتداء هذه الرئاسة قبل السنة ١٤٩٧، وقد جاء
للمغفور له خريسوستومس رئيس أساقفة أثينا في كتابه في تاريخ كنيسة الإسكندرية أن يواكيم
بطريرك الإسكندرية تسلم عكاز البطريركية المرقسية في دمشق في السادس من آب سنة ١٤٨٧،
وهو
يستند في قوله هذا إلى مازاراكي وماليشيفسكي،
٧ وجاء لدوسيثيوس في تاريخه «جلاء الأبصار من غشاء الأكدار» أن دوروثيوس الأنطاكي
اشترك مع زميليه فيليتيوس الإسكندري ويواكيم الأوروشليمي في شجب أعمال مجمع فلورنسة في
القسطنطينية في السنة ١٤٨٤. ويرى الأب نصر الله أن ما يُنسب إلى دوروثيوس قبل السنة ١٤٩٧
هو
من أعمال سلفه ميخائيل، والواقع أنه لا يجوز البت في شيء من هذا، ومراجعنا الأولية لا
تزال
على ما هي عليه من نقص وغموض.
البطريرك ميخائيل الخامس (١٥٢٣–١٥٤١)
ولنا في تاريخ تجليد مخطوطة المتحف البريطاني رقم ٤١٨، وفي تصديق وقفية الإنجيل الخطي
الذي قدمه جرجس بن إلياس الملاتي إلى كنيسة القديس حنانيا في دمشق،
٨ وفي أخبار مجمع قارة الذي الْتأم في السنة ١٥٣٩ وفي كلام بولس ابن الزعيم ووالده
البطريرك مكاريوس،
٩ ما يجعلنا نرجح الحدين ١٥٢٣ و١٥٤١ لرئاسة ميخائيل الخامس كما ورد أعلاه، ويلاحظ
هنا أن لا أساس لفترة الخلو بين السنة ١٥٠٠ والسنة ١٥٢٣ التي قال بها الأب إسحاق أرملة
في
مقاله في مجلة «المشرق» سنة ١٩٣٦، وأن لا صحة لما رواه الأب قسطنطين الباشا عن بطريرك
أنطاكي
اسمه ميخائيل جاء في مخطوطة الفاتيكان رقم ١٤٧ بتاريخ ١٩ آذار سنة ١٥٢٢.
١٠ والبطريرك ميخائيل الخامس هو ابن الماوردي الذي زار الأماكن المقدسة تبركًا في
السنة ١٥٣٩، وهو الذي ترأس مجمع قارة.
مجمع قارة (١٥٣٩)
ونشأ خلاف في السنة ١٥٣٩ حول حساب عيد الفصح، فاجتمع حول السيد البطريرك الأنطاكي
ميخائيل
في قارة عدد من رجال الإكليروس بينهم يوحنا أسقف يبرود ويوحنا أسقف صيدنايا وجرمانوس
أسقف
بعلبك وأسقف الزبداني وجماعة من الخوارنة والقساوسة والشمامسة، «ولم يعرفوا كيف يمسكوا
من
الحدود الذي من العماد إلى مرفع اللحم، واشتبه الحساب عليهم بسبب زود الدقائق الزائدة،
فأرسلوا إلى الشماس إبراهيم عطنط في بيروت يستشيرونه في الأمر فأجاب: «وأنا اختلف الحساب
عليَّ!» وعندئذٍ أحضرني الشيخ إبراهيم بن العكيكة فبرهنت لهم حساب الدقائق وزودها، وجمعت
لهم
الزود إلى سنة سبعة عشر وسنة ثمانية عشر وتسعة عشر تكون تجعل أيام الخليقة سبعة حتى صح
لهم
الحساب؛ لأنهم لم يكونوا في زمان الأول يؤرخوا لنا سنة الغلطة، وحسبت لهم أن يرفعوا في
تسعة
أيام من شباط، وظهر لهم الحق والعيد في ستة أيام من نيسان.»
«أما طوائف الأراطقة فإنهم أكلوا اللحم جمعة النقية أول جمعة الصوم، وصاموا جمعة
الفصح
المجيد، وبرطلوا النقَّاش أمين كنيسة القدس بألف دينار فأشعل لهم القنديل، وأخذتني الغَيرة
فأخرجت لهم من شبكة يوحنا الدمشقي من سنة سبعة آلاف وسبعة وأربعين إلى سنة سبعة آلاف
ومائة
وسبعة وثلاثين برهنت فيها كم يكون فيها العيد العظيم، وكم تكون القاعدة الشمسية، وكم
تكون عدة
صوم الرسل.»
١١
ويُلاحظ هنا أن المشادة نشأت بين الأرثوذكسيين وبين اليعاقبة والأرمن والأحباش والموارنة،
وأن الكرج والإفرنج والأقباط وافقوا الأرثوذكسيين على موقفهم من حساب الفصح، ويلاحظ أيضًا
أن
وجه الصواب الْتبس على الأب كارالفسكي فظن في مقاله عن أنطاكية في قاموس التاريخ والجغرافية
الكنسي أن المشادة المشار إليها وقعت حول اختلاف بين البطريرك ميخائيل ويواكيم متروبوليت
بيروت.
١٢
البطريرك دوروثيوس الرابع (١٥٤١–١٥٤٣)
ولا نعلم الشيء الكثير عن دوروثيوس الرابع قبل وصوله إلى السدة الأنطاكية، ولعله كان
قسطنطيني المولد والنشأة والترهب، ولعلَّ اسمه في الرهبنة كان يوحنا.
اتصاله بالموارنة وخلعه
وجاء في رحلة البطريرك مكاريوس أن دوروثيوس أحب أن يتفقد شئون الرعية فقام بجولة
في
أبرشيات الكرسي الأنطاكي، وجاء طرابلس فاتصل ببطريرك الموارنة في قرية داريا من منطقة
الزاوية
وفاوضه في نوع من التعاون بين الطائفتين، فاقترح تبادل الخدمات الروحية بين الكهنة والسماح
بالتزاوج بين الطائفتين مع الاحتفاظ بالعقائد القديمة، ويضيف كاتب الرحلة: «وقد وجدنا
هذا كله
مدونًا في قلايتنا في حلب، ووجدنا أيضًا الرسالة العربية التي وجهها يواكيم البطريرك
الإسكندري إلى دوروثيوس التي حرمه فيها من ممارسة الأسرار المقدسة، وجاء في هذه السنة
نفسها
أرميا الثاني البطريرك القسطنطيني (١٥٢٢–١٥٤٥) أوروشليم فاجتمع بجرمانوس بطريركها (١٥٣٤–١٥٧٢)
ويواكيم بطريرك الإسكندرية؛ فحكموا بخلع البطريرك الأنطاكي وشرطنوا يواكيم متروبوليت
بيروت
بطريركًا محله.»
١٣
وليس في المراجع المارونية الباقية أي صدًى لهذا الحادث، والبطريرك الماروني المعاصر
هو
البطريرك موسى العكاري (١٥٢٤–١٥٦٧). وجل ما هنالك خبر الرسالة التي أرسلها هذا البطريرك
إلى
البابا بولس الثالث التي يرجو فيها إرسال ستة كهنة من رهبان القديس فرنسيس؛ «لينشئوا
مدرسة في
لبنان لتعليم بعض الشباب اللغة اللاتينية؛ لأنه منذ مدة طويلة لم يأتِ أحد من قبل الحبر
الروماني لزيارتهم، ولا استطاع هو أن يرسل أحدًا يعرف اللغة إلى قداسته.»
١٤ وهنالك رواية أخرى تفيد أن سمعان أسقف طرابلس لم يتمكن من الإقامة في طرابلس لما
حلَّ بالكاثوليكيين فيها من اضطهاد،
١٥ وهنالك أيضًا ما يفيد بمشادة نشأت في عكار بين الروم والموارنة حول بعض الأوقاف،
١٦ وجاء في رسالة وجهها البابا بيوس الرابع إلى البطريرك موسى العكاري بتاريخ أول
أيلول سنة ١٥٦٢ «أن يحل البطريرك جميع الهراطقة والمشاقين والمارقين سواء كانوا من الموارنة
أو من أية ملة كانت.»
١٧
البطريرك يواكيم الرابع (١٥٤٣–١٥٧٦)
وهو يواكيم بن جمعة أبصر النور في دمشق ولبس الأسكيم فيها، ثم انتُخب مطرانًا على
بيروت
وساس هذه الأبرشية إحدى عشرة سنة، وجاء لبولس ابن الزعيم أن يواكيم بن جمعة ظل بطريركًا
ستين
سنة، وجاء له أيضًا أن ابن جمعة تولى الرئاسة ثلاثة وثلاثين سنة،
١٨ ويرى الأب نصر الله أن ليس في هذين القولين تناقض؛ إذ يجوز أن يكون ابن جمعة قد
انتُخب بطريركًا في القسطنطينية في السنة ١٥١٦ فلم يتمكن من الوصول إلى الكرسي قبل خلع
دوروثيوس الرابع.
١٩
ويتفق مكاريوس البطريرك المؤرخ وابنه بولس ابن الزعيم على أن يواكيم تحلى بالفضيلة
والصلاح، وأنه ساس البطريركية بالعدل والإتقان،
٢٠ واشترك يواكيم الرابع في أعمال مجمع القاهرة في السنة ١٥٥٧ فتعاون مع زميليه
الإسكندري والأوروشليمي في حل مشكلة كنيسة سيناء. وعاد إلى القضية نفسها في السنة ١٥٧٥
فاعترف
مع أرميا القسطنطيني وجرمانوس الأوروشليمي بامتيازات هذه الكنيسة.
٢١
ونازعه الرئاسة مكاريوس بن هلال أسقف قارة، وانقسمت الرعية حزبين فكان يواكيم وجماعته
يصلون في كنيسة كبريانوس ويوستيني ومكاريوس وأتباعه يصلون في كنيسة حنانيا. ودام هذا
الشقاق
سبع سنوات، ثم مرض مكاريوس فأرسل في طلب يواكيم وسأله الصفح وتوفي، فعادت الألفة إلى
صفوف
الأرثوذكسيين وأصبح يواكيم وحده بطريركًا.
٢٢
نقد البنات والأرامل
«وكان من عادة الدمشقيين أن يكثروا نقد بناتهم، فكان الخطيب مهما قدَّم إلى خطيبته
لا
يقنع به أهلها، بل يطلبون المزيد، وكان في حارة حنانيا رجل غني له ابنة مخطوبة، وكان
خطيبها
قد قدم لها أموالًا وهدايا كثيرة، فلم يقنع أبوها ومنع زواجها حتى يرضيه. ولما تمادى
الأمر
على ذلك حجزت البنت، وكان لهم جار جندي فأرسل إليها وخدعها مع امرأة على أن تتزوج به،
فرضيت
وخرجت إلى الحاكم فأسلمت، وعقد لها على ذلك الجندي، ثم أحضرت أباها إلى المحكمة وأخذت
منه
نقدها سبعة آلاف غرش.»
«وحينئذٍ أرسل البطرك فجمع رؤساء كهنة الأبرشية وعقدوا مجمعًا مكانيًّا في داخل دمشق،
وأوجبوا أن يكون نقد البنات والأرامل أربع طبقات، الطبقة الأولى عشرة غروش صاغ ويتبعها
غرشان،
والثانية عشرون غرشًا يتبعها أربعة غروش، والثالثة ثلاثون غرشًا يتبعها ستة غروش، والرابعة
أربعون غرشًا يتبعها ثمانية غروش، وهي الهدايا والأعياد وغير ذلك. وكتب هذا القانون على
الحجر
المشهور بباطن كنيسة دمشق كما يُرى إلى يومنا هذا، وكان ذلك سنة ١٥٧٣، ومكث هذا البطريرك
في
الكرسي ثلاثًا وثلاثين سنة وتُوفي سنة ١٥٧٦.»
٢٣ وكتب يواكيم إلى زملائه بطاركة القسطنطينية والإسكندرية وأوروشليم يطلب الموافقة
على قرار مجمع دمشق، فوافقوا.
٢٤
البطريرك ميخائيل السادس (١٥٧٧–١٥٨١)
ولدى وفاة يواكيم الرابع التأم المجمع الأنطاكي المقدس ففوض غريغوريوس متروبوليت
حلب
ومكاريوس متروبوليت أفخائيطة
٢٥ ودوروثيوس متروبوليت طرابلس أمر انتقاء البطريرك الجديد، فآثر غريغوريوس الراحة
في حلب على متاعب البطريركية فرشح مكاريوس متروبوليت أفخائيطة، فاضطر دوروثيوس أن يوافقه
على
ذلك، ففاز مكاريوس بالبطريركية بالإجماع. وصدق المجمع على هذه اللجنة فسيم مكاريوس بطريركًا
على أنطاكية في مطلع السنة ١٥٧٧، واتخذ لنفسه لقب ميخائيل السادس،
٢٦ وحرر رسائل الجلوس إلى إخوته البطاركة فاعترفوا به.
٢٧
وهو مكاريوس بن وهبة بن عيسى الصباغ، أبصر النور في حماة ونشأ وترعرع فيها، ثم سِيم
على
أبرشية أفخائيطة المجاورة فإذا به يجيد العربية والسريانية واليونانية
٢٨ ويتقن الخط فينسخ عددًا من المخطوطات لا يزال بعضها باقيًا حتى يومنا هذا،
٢٩ وأفخائيطة اسم يوناني أطلق على بلدة حناك، وقد ذكرها مكاريوس الحلبي فجعلها قرب
معرة حلب، وشملت أبرشيتها محردة ومعلقا وأفيون والبيا ويسارين. ونقل مكاريوس عن أحد كهنة
حماة
الشيوخ أنه كان على زمانه في محردة أربعة آلاف إنسان، وكان يقيم فيها مطران أفخائيطة،
وأن آخر
من شرطن عليها ملاشيا. وتمر السنوات الأربع الأولى من بطريركيته هادئة خالية من كل ما
يُقلق
البال، فيطيب خاطر البطريرك الجديد ويهتم بشئون الكنيسة الجامعة خارج أبرشيته، فيشترك
في
السنة ١٥٧٩ مع زميله أرميا القسطنطيني لحل نزاع نشأ في أوروشليم بين جرمانوس البطريرك
الأوروشليمي ورهبان دير القديس سابا وأنطوشه مار ميخائيل في أوروشليم وبين يواكيم متروبوليت
بيت لحم، ويقوم بمهمة التدقيق والتحقيق دوروثيوس متروبوليت طرابلس بالنيابة عن البطريرك
المسكوني، وسيماون أسقف صيدنايا بالنيابة عن البطريرك الأنطاكي.
٣٠
وفي السنة ١٥٨٠ تحامل على البطريرك ميخائيل قوم من رعيته فاتهموه بإثم قبيح ورفعوا
أمرهم
إلى القاضي، وجاءوا براهب فشهد عليه بذلك، «وأوجبوا عليه السقوط من كهنوته، وكتبوا عليه
صكًّا
بذلك»، فخرج من دمشق ورجع إلى حماة وأقام فيها، وعلم غريغوريوس متروبوليت حلب بذلك فَلامَ
البطريرك «على نزوله عن بطريركيته بغير حق وبغير مجمع بطاركة»، فندم ميخائيل واحتفل بالقداس
الإلهي مع جماعة من رؤساء الكهنة والكهنة وحرم الدمشقيين.
٣١
وأقام الدمشقيون دوروثيوس متروبوليت طرابلس بطريركًا (١٥٨١) باسم يواكيم الخامس،
فانقسمت
الرعية وتراشق الطرفان بالحرم، وأيد ميخائيل أساقفة الشمال وشد أزر يواكيم أساقفة الجنوب،
«فكان بين الفريقين شقاق عظيم وغرامات لا تُحصى، واضطر البعض إلى جحد إيمانهم لشدة ما
نزل بهم
من الضيق وقتل أناس في هذه الفتنة ظلمًا.»
٣٢
واضطر ميخائيل أن يلجأ إلى السلطات العليا، فأقام غريغوريوس متروبوليت حلب نائبًا
عنه
وألبسه الصاكون لأول مرة، «ولم يكن أسقف حلب يلبس الصاكون»، وسار ميخائيل إلى القسطنطينية
وشكا أمره إلى زميله البطريرك المسكوني، فنظر المجمع القسطنطيني في المشكلة الأنطاكية
وحكم
لميخائيل، فاستصدر البطريرك المسكوني أرميا أوامر سلطانية بتأييد ميخائيل وأعاده إلى
حلب
معززًا بالقوة العسكرية، فتفاقم الشر واستطارت الفتنة وكثر الاعتداء وتنوعت المصادرات،
«فعاد
ميخائيل إلى القسطنطينية (١٥٨٥) فحكم عليه بالنزول عن كرسيه وبالعودة إلى مركزه في أبرشية
أفخائيطة.» فعاد في البحر، ولدى وصوله إلى جزيرة رودوس تُوفي فيها يوم عيد الميلاد سنة
١٥٩٢،
٣٣ وندم الراهب المفتري واعترف بذنبه أمام يواكيم واستغفر، فأرعشت يدا يواكيم واصطكت
ركبتاه وصاح لساعته: كل خامس يحرم وأنا يواكيم الخامس.
٣٤
رومة تواصل وتحادث (١٥٨١–١٥٨٤)
وضرب لوثيروس ضربته المؤلمة وصارح غيره كنيسة رومة وكاشفها بالخروج، فانجلت الشبهات
وتنادى الآباء الغربيون وشحذوا للأمر عزيمتهم واجتمعوا في تريدنتوم في التيرول سنة ١٥٤٥
وفي
غيرها، واتخذوا قرارات من شأنها إصلاح الكنيسة ودرء الخطر البروتستانتي عنها، ولم تنتهِ
أعمالهم المتقطعة قبل السنة ١٥٦٣، فأصدروا في السنة ١٥٦٤ بيانًا بالعقيدة الكاثوليكية
الصحيحة
عُرف فيما بعد بالبيان التريدنتي، وتريدنتوم هي ترانت الحديثة.
وفي السنة ١٥٥٩ اتصل اللاهوتي الألماني ميلانكتون بالبطريرك المسكوني يواصاف الثاني
(١٥٥٥–١٥٦٥)، ودعاه إلى إبداء رأيه في المشادة اللاهوتية القائمة بين البروتستانت والكاثوليك،
وكان ميلانكتون يعطف على لوثيروس كثيرًا، ولكنه كان يسعى لتوحيد الصفوف، فأرسل البطريرك
يواصاف شمَّاسه ديمتريوس إلى ويتنبرغ Wittenberg للبحث
والتدقيق، وعاد الشمَّاس حاملًا بيان أوغزبورغ Augsburg
الشهير، وما إن اطلع البطريرك عليه حتى نفر فأعرض وابتعد. وعاد علماء ويتنبرغ إلى المواصلة
راغبين في تأييد الكنيسة الأرثوذكسية، فكتبوا في ذلك إلى البطريرك المسكوني أرميا الثاني
(١٥٧٢–١٥٩٥)، فألف في الرد رسائل طويلة طافحة بالتعاليم الصحيحة المشتركة بين فرعي الكنيسة
الجامعة، فخيب أملهم وأثبت وحدة الاعتقاد بين الكنيستين اليونانية واللاتينية في ما أنكره
لوثيروس وأتباعه.
وأدى هذا كله إلى تيقظ رومة، فأصدر البابا يوليوس الثالث (١٥٥٠–١٥٥٥) في الثالث من
تموز
سنة ١٥٥٣ البولة
Cum Praesertim، فأمر بموجبها الرهبانية
اليسوعية بفتح ثلاث مدارس في الشرق؛ في أوروشليم والقسطنطينية وقبرص «لترميم جدران الكنائس
الشرقية وإعادة رونقها القديم.»
٣٥ وجاء البابا غريغوريوس الثالث عشر (١٥٧٢–١٥٨٥) فأنشأ مدرسة القديس أثناسيوس
اليونانية في رومة في السنة ١٥٧٧ لقبول الطلبة الروم، وعزم على تجديد العلاقات الودية
مع
الموارنة، فأوفد في السنة ١٥٧٨ الأب اليسوعي يوحنا إليانو للقيام بهذه المهمة. وكان الأب
إليانو يجيد العربية والسريانية فجال جولة موفقة في ربوع الموارنة ووضع تقريرًا ضافيًا
في
الحالة الدينية الراهنة آنئذٍ،
٣٦ وعاد إلى رومة فأثنى البابا على غَيرته وفطنته وطول أَناته، وأكد أنه سيبذل الجهد
لتنفيذ توصياته وأنه مصمم على إيفاده ثانية إلى لبنان. وعاد الأب إليانو ورفيق له اسمه
الأب
برونو في منتصف أيار سنة ١٥٨٠ ووصلا إلى قنوبين في التاسع من تموز، وكان مجمع في قنوبين
وكان
احتفال رائع بزيارة القاصدين، وقضى الأبوان سنة كاملة (آب ١٥٨٠–أيلول ١٥٨١) يطوفان في
ربوع
لبنان ساعين لنشر قرارات مجمع قنوبين وتعميمها.
وفي خريف السنة ١٥٨١ أبحر المرسلان من طرابلس إلى يافا لزيارة القبر المقدس والتبرك
بمشاهدته، وعادا إلى لبنان في أواسط كانون الأول عن طريق البر ليزورا الموارنة في دمشق
ويتصلا
بالبطريرك الأنطاكي كما أوصاهما الكردينال سان سفرينو.
ولدى وصول الأبوين المرسلين إلى دمشق كتب أحدهما — الأب إليانو — إلى البطريرك يواكيم
الخامس أن يسمح له بزيارته مع الأب برونو باسم حبر رومة غريغوريوس الثالث عشر وباسم الكردينال
سان سفرينو «محامي الطائفة اليونانية»، فعين البطريرك الأنطاكي يومًا استقبلهما فيه مع
أعيان
الطائفة ورحب بهما، فدار الحديث عن محبة غريغوريوس الثالث عشر لطوائف الروم واليونان،
وعن
المدرسة التي أنشأها في رومة لتخريج الشباب الروم، ثم عن رغبة حبر رومة في اتحاد الكنائس.
فأجاب البطريرك الأنطاكي أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل الاتصال بالبطريرك المسكوني،
وكتب
رسالة إلى غريغوريوس الثالث عشر شكر له فيها لطفه وذكر سروره بمشاهدة المرسلين وشفعها
برسالة
ثانية للكردينال سان سفرينو،
٣٧ وفي صيف السنة ١٥٨٢ قام الأب إليانو إلى حلب لزيارة الموارنة فيها. وكان بطريرك
اليعاقبة أغناطيوس نعمة الله المارديني قد وقع في جدل مع بعض علماء المسلمين فاتهموه
بالكفر
وأصدروا عليه الحكم بالإعدام، فحمله خوفه على الخروج وتظاهر بالإسلام. وكان قد وخزه ضميره
ففر
من ديار بكر إلى رودوس ومنها إلى رومة سنة ١٥٧٨، وكان قد أعلن توبته ووعد برد طائفته
إلى
العقيدة الكاثوليكية. فاتصل الأب إليانو بداود شاه أخي البطريرك الجاحد والنائب البطريركي
اليعقوبي فسوَّفه داود ووعده وعودًا عرقوبية. واجتمع الأب إليانو في أثناء إقامته في
حلب
بالبطريرك ميخائيل السادس مناظر البطريرك يواكيم الخامس، وفاتحه كلامًا في اتحاد الكنائس
«فاكتفى ميخائيل ببعض الوعود الطيبة.»
٣٨
وفي السنة ١٥٨٣ سام غريغوريوس الثالث عشر الأب ليوناردو آبل المالطي أسقفًا شرفيًّا
على
صيدا وأنفذه إلى الشرق ليعمل في سبيل الاتحاد ويدعو للتقويم الغريغوري الجديد. ووصل الأسقف
ليوناردو إلى طرابلس واتصل ببعض الأرثوذكسيين فيها، ثم قام إلى حلب وجالس ميخائيل البطريرك
الصاخب وفاتحه كلامًا في أمر الاتحاد. ويقول ليوناردو إن ميخائيل شكا الظلم الذي لحق
به
والحيف الذي جره عليه بطاركة اليونان، ورجا المعونة من الكرسي الرسولي، وأنه لأجل هذا
يرسل
بيانًا بإيمانه مرفوقًا بالرسائل اللازمة.
٣٩ وجاء في هامش «سفرة البطريرك مكاريوس» الحلبي التي نشرها الخوري قسطنطين الباشا
سنة ١٩١٢ أن الأب قسطنطين وجد في مكتبة الفاتيكان تحت الرقم ٤٨ من المخطوطات العربية
نص
الرسالة العربية التي وجهها البطريرك ميخائيل إلى الكردينال سفرينو، وإليك قراءة الأب
قسطنطين:
المجد لله دائمًا، لحضرة الأب الكردينال سنتا سافرينا وكيل ومدبر الشرقيين بمدينة
رومة. أقبل الطلعة الأقدسية الخاشعة الماسكية الناسكية العالمة العاملة فخر الملة
المسيحية الأب الأقدس والإناء غير المدنس الأب الكردينال سانتا سافرينا وكيل ومدبر جميع
الشرقيين بمدينة رومية العظمى، أدام الرب الإله رياسته وسني حياته ويرحم ضعف الحقير
بمقبول صلواته، آمين.
بعد تقبيل الطلعة الأقدسية وإهداء السلام الروحاني والوحشة الزائدة إليها قرب الإله
الاجتماع بها بخير وعافية وسلامة، فإنه على كل شيء قدير. ليس بخافي عن محبة قدسكم حضور
المحب الكامل العالم العامل المحقق المدقق فريد دهره ووحيد أهل زمانه وعصره الأسقف كير
ليونارضو أسقف مدينة صيدا إلى البلاد، وأنه أنشأ محبة وسلامًا وصلحًا مثل الرسول بولس،
وكل ذلك لأجل اتضاعه ومنطقه الحلو، ولأجل محبته الزائدة آثر الحقير أن يصحبه مسافرًا
معه
إلى عند قدسكم، ويشاهد طلعة قدس أب الآباء كير سيسطوس البابا الجزيل قدسه بمدينة رومية
العظمى وقدسكم أيضًا، وما قطعنا عن السفر إلا الضعف في مدينة حلب وشيء من الشيخوخة وعدم
القوة وشيء من عدم قوة الباصرة، ونرجو من الله أن يكون في العمر فسحة ويريد الله أن نحضر
بين أيديكم إن شاء الله تعالى وبركة صلواتهم، آمين.
ونطالع قدسكم لا تسل عما جرى على هذا الحقير من الامتحان والشدائد، وأخذني الروم
مرتين بشاويش، وصار على الحقير شيء ما صار على الشهدا. ولكن الشهدا جرى عليهم من الملوك
عبَّاد الأصنام، وأما نحن صار علينا هذا من أبناء جنسنا وعشيرتنا من جماعة الروم، وقدس
الأخ الأسقف يعلم ذلك، وفي مطالعة الأب البابا مسطَّر ذلك. وصبرنا على ذلك جميعه وقبلناه
بشكر وشكرنا الله عليه ونحن أضعف عباده. وفي التواريخ كما في شريف علمكم جرى على آباء
وقديسين كانت أشباحهم تقيم الموتى، وكل ذلك سمح الله به لأجل خطايانا وقلة محبتنا لبعضنا
بعض وتعدينا على النواميس المقدسة؛ إذ صارت البطركية والكهنوت ينباعوا بالمال ويؤخذ عليهم
الرِّشا. ويا ليت ينباعوا من النصارى، بل من الأمة الغريبة، وجميع ما كتبناه وعرفنا به
قدسكم من تعدي النصارى ما هو قيراط من أربعة وعشرين، ونعرف قدس الأب أن من عظم ما عملوا
مع الحقير أنه لم يعد يقدر على القوت واللباس بشهادة الله.
بعد تقبيل طلعة قدس الأب ثالثًا وطلعة من يلوذ بالولاية والأماكن المعمورة والمحلات
السعيدة، زمان طويل … بشفاعة سيدتنا السيدة البتول والقديس مار بطرس الرسول صاحب الكرسي
الروماني وجميع القديسين، آمين. سطر في تاريخ شهر أيار سنة ١٥٨٥ الحقير البطريرك ميخائيل.
٤٠
ويلاحظ أنه ليس في هذا النص ما يخوِّلنا القول إن ميخائيل دخل في طاعة رومة أو إنه
قال
قولها في أمر الانبثاق وغيره من الأمور التي بحثها مجمع فلورنسة. ويلاحظ أيضًا أن رسالته
إلى
البابا ضائعة، وأنه ليس لدينا من الروايات ما يثبت خضوع ميخائيل ودخوله في طاعة البابا
سوى
رواية الأسقف ليوناردو، ورواية ليوناردو فريدة في بابها ضعيفة في عدلها.
وقصد الأسقف البطريرك الجالس يواكيم الخامس للتفاوض معه في أمر الاتحاد فوجده قابعًا
في
عيتا البقاع مبتعدًا عن السلطات العثمانية المحلية، فتحدث إليه في أمر الاتحاد فأرجأ
البطريرك
البحث إلى اجتماع آخر يعقد في طرابلس بعد حين. وشددت السلطات على البطريرك في أمر المال
المطلوب فانتقل من عيتا إلى صيدا ومنها إلى القسطنطينية في طلب المعونة.
وعاد الأسقف ليوناردو إلى طرابلس فالتفَّ حوله كلٌّ من يوحنا بن إلياس النحوي ويوحنا
بن
نصر الله وسليمان بن مرتيه وثلاثة آخرون؛ ميخائيل وفضل الله ووهبة، فوافقوه على الاتحاد
وكتبوا بذلك إلى حبر رومة غريغوريوس الثالث عشر مؤكدين الطاعة مستمدين البركة:
والذي يطالع به قدس سيدنا هو أن الأب الأقدس والإناء المقدس أبينا وسيدنا كير دونلردو
أسقف صيدونيا خبرنا عن جميع إحسان قدسكم وحنوكم ومراحمكم، والخير الذي تفعلوه مع ساير
الطوايف المسيحيين وبالأكثر لطايفتنا عبيدك الملكية. وبعدها سافر من عندنا السيد كير
دونلردو المشار إليه من طرابلس إلى حلب ثم رجع إلى مدينة الشام واجتمع مع سيدنا وبطريركنا
كير يواكيم البطريرك الأنطاكي بطريرك الملكية في قرية من قرى الشام تُدعى عيتا، واتفق
معه
أن يجتمع عندنا في طرابلس في بيت الحقير تلميذكم. وكان الاتفاق بين سيدنا البطريرك وبين
كير دونلردو أن «يكون» تمام المحبة والطاعة إلى الكرسي البطريركي الروماني على ما رتبوه
الآباء القدسين الثلاثمائة وثمان عشر في مدينة نيقية، وأيضًا على ما رتبوه الآباء
القديسين في مدينة فرنسيا، وعلى أن الاتحاد يكون واحد والأمانة واحدة وهي الأمانة
المستقيمة الكاثوليكية الأرثوذكسية تكون واحدة والمحبة واحدة. وأيضًا خبرنا عن سبب
القاعدة الجديدة التي صارت في كنيسة رومة المقدسة، وهي قاعدة الأعياد والمواسم تكون عند
جميع الطوايف.
ولكن ما قسم نصيب في الاجتماع في هذه المدة لكون أن سيدنا البطريرك كير يواكيم صار
عليه حيف كثير وخصر خصاير كثير وتدين مبلغ له صوره، وليس له قدرة على وفاء دينه وخشي
من
أصحاب الديون لا يحبسوه، فما قدر أن يحضر إلى طرابلس، فنزل في البحر وسافر إلى مدينة
القسطنطينية إلى عند بطرك القسطنطينية شكى حالته وضرورته إلى إخوته الأساقفة والأراخنة
والكهنة لعل يجمعوا له شيء يوفي به دينه. وعن قريب إن شاء الله تعالى يحضر إلى عندنا
ونتكلم معه ونتمم ما في خاطركم وما رسمتم به.
٤١
ويلاحظ هنا أن يواكيم البطريرك الجالس لم يفعل ما فعله مناظره ميخائيل البطريرك
المخلوع،
ولم يكتب شيئًا إلى رومة، وأنه أرجأ البحث مع الأسقف ليوناردو إلى موعد آخر، وسافر إلى
القسطنطينية قبل الاجتماع به مرة ثانية. ولعله رأى من المصلحة الملحة أن يكتب غيره إلى
رومة
كتابة لطيفة تجعل حبرها يؤجل الاعتراف بميخائيل. لعل هؤلاء الطرابلسيين كتبوا بدون استشارته.
ويلاحظ أيضًا أن أنسطاسيوس متروبوليت طرابلس الذي ساس آنئذٍ أبرشيات طرابلس وبيروت وصيدا
وصور
صنف في السنة ١٥٨٣ نفسها رسالة ردَّ فيها على ما جاء في رسالة البابا إلى البطريرك يواكيم،
وأن هذا الأسقف لم يكن يونانيًّا، بل وطنيًّا نشأ وترعرع في مرمريتا في وادي النصارى.
٤٢ ويلاحظ كذلك أنه على الرغم من هذا كله ترى الأب اليسوعي بوسيفينو
Possevino رسول البابا غريغوريوس الثالث عشر إلى القيصر
الروسي إيفان الثالث يَسْتَبِقْ ما جرى في حلب في السنة ١٥٨٤، فيؤكد في السنة ١٥٨١ أن
بطريرك
أنطاكية اعترف بسلطة البابا وطلب تثبيته!
٤٣
البطريرك يواكيم الخامس (١٥٨١–١٥٩٢)
ووصل يواكيم إلى القسطنطينية في السنة ١٥٨٤ فوجد حبرها أرميا منفيًّا إلى رودوس ووجد
خلفه
باخوميوس طماعًا شرهًا لا يرى في الرئاسة إلا وسيلة لجمع المال، فتابع السير إلى كِيف
ومنها
إلى موسكو. ولدى وصوله إلى عاصمة الروس جابهه صاحبها القيصر فيدور بوجوب الاعتراف ببطريركية
روسية والسعي لدى سائر البطاركة لتأييد هذا الاقتراح. ثم زار يواكيم روثينية ونظر في
شئون
الكنيسة فيها، فأسس رهبانية ونهى الكهنة عن الزواج بعد وفاة زوجاتهم.
٤٤ وعاد إلى مولدافية في السنة ١٥٨٧ فاتصل بأسقفها جاورجيوس (موغيلة) وأهداه أيقونة
لا تزال محفوظة في دير سوكيفيتة حتى يومنا هذا.
٤٥ وقام يواكيم من مولدافية إلى تسالونيكية فأبحر منها إلى طرابلس فدمشق.
٤٦
ويشير الأب نصر الله إلى عبارة وردت في تاريخ المخطوطة الخامسة والثلاثين من مجموعة
دير
مار يوحنا الشوير جاء فيها أن ميخائيل أسقف طرابلس والكورة انتهى من نسخها في ١٣ نيسان
سنة
٧٠٩٤ يوم كان في أميون ينظر في قضية البطريرك يواكيم نقول يشير إلى هذا كله، فيظن أن
الأمور
لم تكن على ما يرام في أثناء غياب يواكيم في روسية.
٤٧
بطريركية موسكو (١٥٩٠–١٥٩٣)
وضعف نفوذ المغول وازداد نفوذ أمراء موسكو. وفي السنة ١٤٨٠ تجرأ إيفان الثالث أمير
موسكو
على قتل رسول المغول الذي كان مكلفًا بطلب الضرائب، وعندئذٍ شرع أمراء موسكو في التغلب
على
أمراء الروس الآخرين وجمع السلطة في أيديهم إلى أن كوَّنوا مملكة عظيمة متحدة الكلمة.
وفي السنة ١٥٤٧ والسنة ١٥٤٩ التأم في موسكو مجمعان روسيان للبحث في أمور وأمور، أهمها
مسح
إيفان الرابع «القاسي» فسيلفسًا واعتبار موسكو رومة ثالثة. وتم المسح في السنة ١٥٤٧ ونودي
بإيفان فسيلفسًا بدون استئذان البطريرك المسكوني. ثم طلب إيفان الرابع إلى البطريرك المسكوني
يواصف الثاني الاعتراف بما تم، فوافق هذا البطريرك في السنة ١٥٦٢، ولكنه اعترض على طقس
المسح.
٤٨ وفي السنة ١٥٨٦ فاتح القيصر فيدور البطريرك الأنطاكي يواكيم كلامًا في رفع
متروبوليت موسكو إلى رتبة بطريرك، كما سبق وأشرنا. ثم عاد أرميا الثاني البطريرك المسكوني
إلى
كرسيه في السنة ١٥٨٨ فوجد الخزينة فارغة والأملاك مُصادرة، فَأَمَّ موسكو في طلب المعونة،
فطلب فيدور إليه ما كان قد طلبه من يواكيم البطريرك الأنطاكي. فوافق أرميا ونصَّب في
السادس
والعشرين من كانون الثاني سنة ١٥٨٩ أيوب متروبوليت موسكو بطريركًا على موسكو. وفي أيار
السنة
١٥٩٠ الْتَأم مجمع في القسطنطينية اشتركت فيه الكنائس الرسولية الأربع، وبعد البحث في
قضية
البطريركية الروسية تقرر الاعتراف بأيوب بطريركًا على موسكو والاعتراف بحق المجمع الروسي
في
انتخابه واعتباره الخامس رتبةً بعد البطريرك المسكوني وسائر البطاركة الأرثوذكسيين. ووقَّع
هذا القرار كلٌّ من أرميا بطريرك القسطنطينية ويواكيم بطريرك أنطاكية وصفرونيوس بطريرك
أوروشليم.
٤٩ ولم يرضَ فيدور عن رتبة بطريركه وساءه أن بطريرك الإسكندرية لم يوقع قرار
القسطنطينية، فعاد البطاركة إلى الاجتماع في شباط السنة ١٥٩٣ وجددوا القرار السابق ووقعه
كل
من أرميا الثاني البطريرك المسكوني وصفرونيوس بطريرك أوروشليم وملاتيوس بطريرك الإسكندرية
بالأصالة عن نفيه وبالنيابة عن بطريرك أنطاكية،
٥٠ وكان يواكيم قد تُوفي في السابع من تشرين الأول سنة ١٥٩٢.
البطريرك يواكيم السادس (١٥٩٣–١٦٠٤)
وهو الملقب بابن زيادة «وكان مطرانًا على حمص فأقاموه بطركًا ومكث إحدى عشرة سنة،
وفي
أيامه خرج واحد من أبناء دمشق يُعرف بابن الكباب فتزيا بزي راهب وجعل يطوف في البلاد
حتى
انتهى إلى بلاد الكمخ
٥١ وما والاها من بلاد المشرق، وادعى أنه مطران مرسل إليهم من قبل بطرك أنطاكية،
وكانت معه كتب مزورة عن البطرك فقبلوه عندهم وأكرموه، وأقام يقدس عندهم وجعل منهم كهنة
وشمامسة ورهبانًا، وعمل كل ما يعمله رؤساء الكهنة، ونمي أمره إلى البطرك فاغتاظ غيظًا
شديدًا،
ولا سيما حين علم أنه قد جمع منهم مقدارًا جزيلًا من المال، وكان النصارى في تلك الناحية
يعادلون بقية النصارى في سائر الكرسي الأنطاكي، فأرسل مكاريوس بن خلف مطران حلب بكتاب
منه إلى
غريغوريوس بطريرك القسطنطينية يعلمه بالأمر، فاستعان بطرك القسطنطينية بالوزارة وبعث
فاشخص بن
الكباب إلى هناك ورافعه إلى مقام الوزارة، وطالبه بالمال المجموع فجحد إيمانه واعتصم
بالإسلام، فلم يحصل البطرك منه على طائل، ولشدة ما ناله من الغيظ مرض وتُوفي، وأما الكهنة
والشمامسة الذين أقامهم ابن الكباب فحكم البطرك ومجمعه في دمشق أن تعاد شرطونيتهم؛ لأن
ذلك
المحروم لم تكن عليه شرطونية.»
٥٢
ومن أخبار هذا البطريرك أنه طبخ الميرون المقدس وكرسه كالعادة يوم الخميس الكبير
سنة
١٥٩٤، وأنه وافق على تقسيم أبرشية أفخائيطة في السنة ١٥٩٧ بين مطراني حمص وحماة،
٥٣ ومن أخباره أيضًا أنه تدخل في شئون كنيسة قبرص وطالب بخضوعها إلى الكرسي الأنطاكي
متذرعًا بما أسماه القانونين السابع والثلاثين والثاني والأربعين من قوانين المجمع المسكوني
الأول مبرزًا نصًّا عربيًّا قديمًا بذلك، فأقنعه زميله الإسكندري البطريرك ملاتيوس (بيغاس)
بأن هذه النصوص مدسوسة على قرارات نيقية، وكان السبب في تدخله في شئون قبرص الاضطراب
الذي نشأ
فيه من جراء الاختلاف بين مجموعها المقدس وبين رئيس أساقفتها أثناسيوس (١٥٩٢–١٥٩٨).
٥٤
دير البلمند (١٦٠٣)
وبقي دير البلمند خرابًا بعد خروج الصليبيين حتى أوائل القرن السابع عشر، فقد جاء
في كراس
قديم بخط سيميون القس الراهب الذي اشترك في حفلات افتتاحه ثانية ما نصه:
بسم الله الخالق الحي الأزلي الناطق، لما كان بتاريخ شهر أيلول المبارك سنة سبعة آلاف
ومائة وأحد عشر لكون العالم (١٦٠٣) اتفق على بركة الله وحسن توفيقه تاريخ فتوح دير ستنا
السيدة ومار جرجس المعروف بدير الفالمند بإشارة السيد المطران أيواكيم مطران محروسة
طرابلس، وأنه اعتنى وأشار بعمارته، وأنه طلع لعند الحقير مكاريوس الديراني الذي كان
سابقًا رئيسًا على دير ستنا السيدة الذي يُعرف بدير كفتون، وأنه أجاب الأب الحقير بإشارة
السيد المطران كير أيواكيم مطران ثغر بيروت برأي المشايخ أبو صالح والحاج سليمان ياضجي
يوسف باشا سيفا ومشايخ قرية فيع الحاج فرحات والحاج بطرس، وابتدينا بفتوحه؛ لأنه كان
خراب
داشر من زمان دخلوا الإسلام إلى البلاد وهو تاريخ ثلاثمائة وثلاثين سنة.
٥٥
حرص يباعد
وعُني البابا غريغوريوس الثالث عشر (١٥٧٢–١٥٨٥) بالمؤمنين في الشرق عامة، وخصَّ الموارنة
برعايته فاستقصى أخبارهم واستجلى غوامضهم، ثم أوصى وأمر بالتنفيذ. وحذا حذوه إقليمس الثامن
(١٥٩٢–١٦٠٥) فأعاد البحث وكرر التوصية. وغالى الحبران في العناية وتطرفا في الحرص فنفَّرا
الأرثوذكسيين وزادا الانشقاق اتساعًا.
«والأغلاط التي كانت لا تزال تعزى إلى الموارنة هي قولهم أن في المسيح طبعًا واحدًا
ومشيئة واحدة وفعلًا واحدًا، وأن الروح القدس ينبثق من الآب وحده، وأن التقديسات الثلاث
(تريساغيون) تدل على صلب الثالوث بجملته، وأن لا وجود للمطهر ولا للخطيئة الأصلية، وأن
النفوس
لا تنال ثوابًا أو عقابًا قبل الدينونة، وأنه يجوز إنكار الإيمان ظاهرًا، وأن سرَّ التثبيت
لا
يمتاز عن المعمودية، وأنه يلزم خلط الميرون بغير البلسم أيضًا، وأنه يلزم التقديس على
الخمير،
وأن المسحة تكون بالزيت الذي يُباركه الكاهن لا الذي يباركه الأسقف، وأن طلاق الزوجة
لعلة
الزنى والمرض جائز، وأن صور الأسرار ناقصة وأنها ابتهالية.»
٥٦
والتدقيق في هذه الأمور وغيرها تم على يد الآباء اليسوعيين إليانو وراجيو في السنة
١٥٧٨
ودنديني وبرون في السنة ١٥٩٦. وأوصى هؤلاء الآباء بأشياء وأشياء ووافقت رومة على معظم
هذه
التوصيات. والتأم مجمع ماروني في قنويين في السنة ١٥٨٠ وفي السنة ١٥٩٦، فكان إجماع على
القول
بالطبيعتين والمشيئتين وعلى حذف العبارتين: «يا من وُلدت لأجلنا، يا من صلبت لأجلنا»
من
التريساغيون وعلى تحريم جحد الإيمان،
٥٧ وكان بالتالي تقارب من الأرثوذكسيين. ولكن هذه التوصيات الرومانية أوجبت على
الموارنة القول بالانبثاق من الآب والابن والاكتفاء بذكر كلمات السيد لأجل الاستحالة
والابتعاد عن مناولة الأطفال، وحظرت زواج المارونيات من «المشاقين» والبحث عن كتب المشاقين
وحفظها عند البطريرك في مكان مغلق، وعدم السماح بمطالعتها إلا للعلماء فتجانبت وباعدت،
٥٨ ثم جاءت السنة ١٦٠٦ فأمر البطريرك يوسف الرزي باتباع الحساب الغريغورياني، فيعد
الموارنة في طرابلس والجبة والبترون وجبيل مع الإفرنج وقبل الطوائف الشرقية بعشرة أيام.
ثم
اتبع باقي الموارنة هذا الحساب في دمشق وحلب وسائر المدن والقرى. أما موارنة قبرص فإنهم
أصروا
على اتباع الحساب القديم واستمروا في ذلك مدة أخرى من الزمن.
٥٩
مدرسة للموارنة في رومة (١٥٨٤)
وأحس بطاركة الموارنة بحاجة طائفتهم إلى كهنة مثقفين فبدءوا يرسلون منذ السنة ١٥١٥
إلى
رومة أحداثًا يتعلمون اللاتينية ويدرسون تعاليم الآباء. ومن هؤلاء بعثة البطريرك شمعون
الحدثي
سنة ١٥١٥ وبعثة البطريرك ميخائيل الرزي سنة ١٥٧٨، فبعثة أخيه سركيس سنة ١٥٨٣.
وفي السنة ١٥٨٤ بلغ عدد الأحداث الموارنة المرسَلين إلى رومة لتلقي العلوم الإكليريكية
فيها عشرين طالبًا، فأفرد البابا غريغوريوس الثالث عشر دارًا وكنيسة لهم. وفي الخامس
من تموز
من هذه السنة نفسها وافق على نظام تدريس هؤلاء الطلبة بالبولة
Humana sic
ferunt. وقد جاء في هذه البولة ما حمل البابا على إفراد المنزل السابق
للطلبة الموارنة وجعله مدرسة وما كان يتوقعه منها من الفوائد، ثم عدد المداخيل وشروط
الالتحاق
وغير ذلك من النظم، وجعل المدرسة تحت نظام محامي الطائفة المارونية، وكان هذا آنئذٍ الكردينال
كرافة. ولا تزال قوانين هذه المدرسة محفوظة في سجلات الرهبانية اليسوعية التي تعود إلى
ذلك
العهد، وقد نقل الأب شيخو شيئًا منها إلى اللغة العربية.
٦٠
البطريرك دوروثيوس الخامس (١٦٠٤–١٦١١)
وشاخ يواكيم السادس وذهب ضوء عينيه فامتنع عليه أمر الإدارة وأعجزه وأعياه، فطلب
إليه
أعيان الطائفة في دمشق أن يرسم أسقف قلاية يقوم بتدبير أمورهم، فسام عبد العزيز بن الأحمر
شماسًا في السنة ١٥٩٥ ثم قَسًّا ثم خوريًّا ثم أسقفًا على قلاية البطريركية ودعاه دوروثيوس،
وقام الأسقف دوروثيوس بأعماله الإدارية خير قيام وأصبح هو البطريرك. وذهب يواكيم إلى
السيسانية مسقط رأسه في منطقة حصن الأكراد، ثم عول على العزلة في دير القديسة كاترينة
في طور
سينا فقام من السيسانية إلى مصر، ولدى وصوله إلى القاهرة لبى دعوة ربه فيها في السنة
١٦٠٤
فنقل جثمانه إلى طور سينا ودُفن فيه، فخلفه دوروثيوس.
٦١
وجاء في التختيكون للقَس يوحنا العجيمي أن دوروثيوس لم يكن من ذوي العلم الواسع،
ولكنه
كان غيورًا شجاعًا، فرمم دار البطريركية في دمشق ووسعها ورفع الضرائب عن الكهنة والرهبان
وخفف
وطأة البلص والظلم، وجعل جباية الأموال الأميرية من النصارى الأرثوذكسيين بيد جباة
أرثوذكسيين، وصمد في وجه الطغاة من الحكام وقاومهم، وذهب إلى الآستانة نفسها ليقتصَّ
من متسلم
أنطاكية وعاد منها حاملًا أمرًا عاليًا بعزله من منصبه. وذكر بالاماس صاحب «تاريخ مدينة
أوروشليم اليوناني» (٤٨٨) أن دوروثيوس الخامس زار أوروشليم في ١٦٠٨ فاشترك مع كيرلس البطريرك
الإسكندري في تنصيب ثيوفانس البطريرك الأوروشليمي.
٦٢ وخرج من دمشق ليتفقد شئون النورية (أبرشيات الكرسي) ولدى وصوله إلى حاصبيا أقام
قداسًا وشرطونية، وحين خروجه من القداس تُوفي فجأة فدفن في حاصبيا.
البطريرك أثناسيوس الثالث (١٦١١–١٦١٩)
واختلفت الآراء فيمن يخلف دوروثيوس وكثر عدد «المنتدبين»، وكان خلاف وكانت «مشاحة»
شديدة. ثم برز أثناسيوس — ابن الدباس — متروبوليت حوران وطلب البطريركية لنفسه، ووعد
بأنه
«يؤدي عنهم في كل سنة ما يتبقى من جوالي المسيحيين، فرضوا وكتبوا عليه خطًّا في ذلك»
وأقاموه
بطريركًا عليهم.
٦٣ وكانت حوران آنئذٍ تغذي الجالية الأرثوذكسية في دمشق بالرجال والأنفس، فكثر عدد
الحورانيين في المركز البطريركي ونفذت كلمتهم، وكانت أسرة بيت الدباس من أعز الأسر النصرانية
في دمشق، فرحب الروم بالبطريرك الجديد وعقدوا به حبل أمانيهم. ثم خرج البطريرك في جولة
رعائية
فزار حمص وحماة وحلب وأدنة، وسار إلى القسطنطينية لمحاكمة ملاتيوس مطران حلب، وعاد إلى
دمشق.
وحان أجل الجوالي فأدى الدمشقيون وغيرهم ما تيسر منها وطالبوا البطريرك بالباقي بموجب
الاتفاق
الخطي، فامتنع عن أدائه، فشكوا أمرهم إلى الوالي فحكم على البطريرك بالحبس في القلعة
فافتدى
البطريرك نفسه بمبلغ من المال، وخرج إلى نواحي طرابلس وتُوفي هناك في الصوم الكبير ودفن
في
دير كفتين.
٦٤
البطريرك أغناطيوس الثالث (١٦١٩–١٦٣٤)
وبعد وفاة أثناسيوس الثالث حضر أخوه كيرلس متروبوليت حوران إلى طرابلس، واستعان بالحاج
سليمان النصراني كاخية يوسف باشا سيفا حاكم طرابلس وجهاتها، فأسعفه بما طلب وأرسل جماعة
من
الجند فأحضروا سيماون متروبوليت حماة وعازر متروبوليت حمص وديونيسيوس أسقف الحصن وأكرههم
على
تنصيب كيرلس بطريركًا، ففعلوا ونصَّبوه في أميون، وأقام في طرابلس يسانده يوسف باشا.
وكان أهل دمشق قد انتدبوا إلى البطريركية لدى وفاة أثناسيوس الثالث أغناطيوس (عطية)
متروبوليت صور وصيدا، وكان أغناطيوس قد سافر إلى القسطنطينية على رأس جماعة من الأعيان،
فاستقبله بطريركها تيموثاوس بكل ترحاب وأقامه بطريركًا على أنطاكية في اليوم نفسه الذي
تسلم
فيه كيرلس عكاز الرعاية في أميون، وعاد أغناطيوس إلى دمشق حاملًا براءة سلطانية فاستقبله
الدمشقيون بفرح واحتفال عظيمين.
وأرسل كيرلس ابن عمه جرجس إلى القسطنطينية فأخرج له أمرًا عاليًا بعزل أغناطيوس ونفيه
إلى
قبرص، فدفع أتباع أغناطيوس أموالًا طائلة فأبقوه في كرسيه، فقصد كيرلس سميَّه كيرلس (لوكارس)
بطريرك الإسكندرية وشكا الدمشقيين إليه، فكتب هذا إلى الدمشقيين يلومهم فأجابوه جوابًا
جافيًا
ولم يسمعوا له في ذلك قولًا. وجاء لغطاس قندلفت أنهم قالوا: «لا نريد كيرلس ولا نرضاه،
وأما
أنت فانظر إلى حالك وليس لك أن تُلزمنا وتحكم علينا في شيء لا نرضى به.»
٦٥ وازداد التعصب والشر وتُوفي ابن سيفا حاكم طرابلس، فهرب كيرلس من طرابلس خوفًا من
ابن معن، وقام إلى حلب ونزل في دار المطران ملاتيوس، وأقام هناك اثنين وأربعين يومًا،
ولم
يدعه المطران إلى القداس ولا شارك أحدهما الآخر في ذلك.
ثم خرج كيرلس من حلب إلى القسطنطينية، وكان كيرلس بطريرك الإسكندرية قد أصبح بطريركًا
مسكونيًّا، وكان جراسيموس قد خلفه في كرسي مرقس، ففرح كيرلس الإسكندري بمقدم كيرلس الأنطاكي
وأرسله إلى بلاد الفلاخ والبغدان وأصحبه برسائل منه إلى أكابر تلك البلاد فأكرموه. ثم
عاد إلى
القسطنطينية واستخرج أمرًا سلطانيًّا بعزل أغناطيوس، فتجددت الغرامات في دمشق وأنفق أهلها
أموالًا جزيلة واستخرجوا أمرًا بعزل كيرلس، ففعل هذا مثل ذاك، وهكذا حتى اضمحلت أحوال
المسيحيين في الأبرشية كلها، ولا سيما في دمشق. وتكاثر الضغط والضيق فاضطر الكثيرون إلى
الاختفاء، وتوارى الكهنة عن الأنظار، وتُوفي أحد الأكابر فلم يجدوا كاهنًا يتولى دفنه،
وكان
أغناطيوس في هذه المدة كلها في بيروت وصيدا.
وعاد كيرلس من القسطنطينية إلى حلب في السنة ١٦٢٤ فنزل في دار أحد أكابر الأرمن؛ لأن
ملاتيوس لم يقبله في دار المطرانية. وأدب كيرلس مأدبة فاخرة ودعا إليها أكابر المدينة
من
الأشراف والجند (الانكشارية) وبطريركي الأرمن والسريان وكانا يومئذٍ في حلب مع حاشيتهما
وأكابر الإفرنج وغيرهم، فأرسلوا وأحضروا ملاتيوس من قلايته وحضوه على مشاركة كيرلس في
القداس
فأبى وانصرف وتمارض، فأرسل كيرلس يطالبه بواسطة مجلس الحاكم بمال اثنتي عشرة سنة، فأمر
الحاكم
فجلد ملاتيوس ثمانين جلدة وحمل على بساط وحبس اثني عشر يومًا، ففدى نفسه بمال كثير وخرج
واختبأ في بيت أحد شيوخ المسلمين. وفي السنة التالية جمع كيرلس مجمعًا عظيمًا آخر وخاطب
ملاتيوس في شركة القداس فأبى وانصرف إلى القسطنطينية. فتبعه كيرلس إليها وجرت بينهما
مخاصمات
كثيرة، ثم عاد ملاتيوس إلى حلب وعاد كيرلس أيضًا إليها في السنة ١٦٢٨، وترافعا إلى الحاكم،
فحبس الحاكم ملاتيوس في القلعة وسجن سبعة وعشرين من أتباعه في سجن المتسلم، وغرَّمهم
بمال
كثير.
مجمع رأس بعلبك (١٦٢٨)
وسار كيرلس بعد ذلك إلى دمشق، فلم يقوَ الدمشقيون على مقاومته، فأرسل يسأل ابن معن
أن
يأمر بعقد مجمع من رؤساء الكهنة لينظر في المشكلة القائمة بينه وبين أغناطيوس، فأجابه
الأمير
إلى ذلك. وقام أغناطيوس سنة ١٦٢٨ إلى قرية رأس بعلبك إلى دير السيدة بجوارها وتوافد رؤساء
الكهنة أيضًا، ولكن كيرلس توانى فأحضره الأمير بالقوة، ونظر الأساقفة في أمره فأجمعوا
على
قطعه وإفرازه؛ «لأنه صار بغير رضا أهل أبرشيته ولكثرة أذاه وضرره»، وثبتوا رئاسة أغناطيوس.
وغضب فخر الدين بن معن على كيرلس فنفاه إلى مغارة الراهب بالقرب من الهرمل «وفيها كان
قبره.»
ووضع الرؤساء المجتمعون في رأس بعلبك قوانين كيفية انتخاب البطاركة والمطارنة وانتداب
الكهنة، وحرموا بعض العادات بين المسيحيين تتعلق بالزيجات والأعراس والأديار، وجعلوا
قوانينهم
في عشرين مادة. وكان عدد رؤساء الكهنة أحد عشر، وهم: سمعان متروبوليت حماة ويواكيم متروبوليت
حمص وملاتيوس متروبوليت حلب، ومكاريوس أو مرقس متروبوليت صور وصيدا ونقولاووس متروبوليت
حوران
وأبيفانيوس متروبوليت بعلبك، ويواكيم متروبوليت طرابلس وأغناطيوس متروبوليت باياس من
أعمال
قيليقية وسمعان أسقف صيدنايا، ويواكيم أسقف الزبداني ويواصف أسقف قارة. وكان يحيط بهم
عدد من
وجهاء الملة، وكان ذلك في حزيران السنة ١٦٢٨، وجاء لبولس ابن الزعيم أن الرؤساء كتبوا
بذلك
«صورة» حفظوها في خزانة كتب البطريركية، وأنه كان لديه نسخة عنها، وجاء لغطاس قندلفت
أنه عرف
هذه الأحكام، وأنه سينشرها في مقال عن تاريخ نظام الكنيسة.
٦٦
-
أولًا: كان للمسيحيين عادة ردية؛ إذا مات البطرك يحضر رئيسي كهنة أو ثلاثة ويصلوا عليه
بغير حضور باقيهم، فمن الآن لا يجوز أن يصير بطرك إلا بحضور رؤساء كهنة الأبرشية
جميعهم والمتروبوليت الأكبر. وإن صار بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
-
ثانيًا: كان لهم عادة يصير بطرك بغير قرعة حسبما يأمر في النواميس المقدسة، فمن الآن لا
يجوز أن يصير بطرك بلا قرعة وبغير رضا الشعب، بل إذا حضر جميع رؤساء الكهنة ينتخبوا
ثلاثة منهم يكونوا تربوا بالعفة والبتولية، والذي تقع عليه القرعة من الثلاثة يصير
بطرك. وإن صار بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
-
ثالثًا: كان لهم عادة ردية؛ يصيِّروا بطرك بغير مشورة، وبسبب ذلك يصير انشقاقات وشرور
وفتن، فمن الآن لا يجوز أن يصير بطرك بغير مشورة، بل يكون برضا الشعب؛ لأن البطرك
خليفة المسيح والمسيح هو فخر السلامة. وإن صار بطرك على غير ذلك وعمل بخلاف الناموس
فجماعة السينودس تُحرمه.
-
رابعًا: كان لهم عادة ردية أن أعوام المسيحيين وبعض كهنة يدخلوا في أمر البطركية
ويعملوا بطرك على مرادهم وشهوتهم، فمن الآن لا يجوز لأحد من العوام المسيحيين ولا
من الكهنة أن يتدخلوا في أمر البطريرك بالكلية، بل إن كان في أمره شغب فليؤخذ رأي
الأكثر منهم. ومن عمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تُحرمه.
-
خامسًا: كان لهم عادة ردية؛ إذا مات البطريرك قبل أن يلتم رؤساء الكهنة يعملوا بطرك
ويصلوا عليه ويحتجوا بخدمة الحاكم. فمن الآن لا يجوز فعل ذلك، بل يمهلوا الحاكم حتى
يحضروا رؤساء الكهنة كلهم، وإذا حضروا كافتهم يرموا قرعة ويصلوا على واحد ويصيروه
بطرك، وهو يعطي الخدمة كالعادة. ومن عمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس
تُحرمه.
-
سادسًا: كان لرؤساء الكهنة عادة ردية؛ إذا مات البطرك يسبق واحد منهم حتى يعمل بطرك
بأمر الحاكم قبل ما يجوا رفقته، ويكون غير مستحق البطركية، وآخر يتأخر عن الحضور
خوفًا من التعب والنَّصَب. فمن الآن لا يجوز لأحد أن يسبق ليأخذ البطريركية بأمر
الحاكم، ولا يجوز لأحد أن يتأخر كسلًا منه وتهاونًا بالمجمع. وهذه المهلة التي
يحضروا فيها رؤساء الكهنة شهر من الزمان والكثير شهرين، وإن زاد عن ذلك ثلاثة شهور
على ما في الناموس المقدس. ومن عمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
-
سابعًا: كان لهم عادة ردية أن البطرك يأخذ على الشرطونية من الرؤساء الكهنة ورؤساء
الكهنة يأخذوا من الكهنة والشمامسة. فمن الآن لا يجوز لبطرك ولا لمطران ولا لأسقف
يأخذ على الشرطونية ولا أحد يعطي على الشرطونية؛ لأن ذلك في الشرطونية خطيئة واصلة
إلى الله، وهي كالتجديف على الروح القدس وأعظم من تسليم يوضاس للمسيح، وأكثر كفرًا
من أبوليناريوس وأعظم تجديفًا من مكدونيوس. فمن أخذ على الشرطونية فجماعة السينودس
تُحرمه.
-
ثامنًا: كان لرؤساء الكهنة عادة ردية؛ إذا جاء إليهم إنسان ليرتسم كاهن وكان مشهور
بالاسم ما يبحثوا عنه ولا عن سيرته، بل يشرطنوه بغير فحص ويعتقدوا أن الشرطونية
تغفر الخطايا الكبيرة. فمن الآن لا يجوز أن يصير كاهن بغير فحص لئلا يكون سقط في
خطيئة من الخطايا التي تمنع الكهنوت، بل يكون حر طاهر من بيت أحرار ولا يكون أُمي،
بل كامل بالعلم والعمل. وكل من عمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
-
تاسعًا: كان لهم عادة ردية؛ يأخذوا رشوة على الزيجة الحرم سواء كانت جسدانية أو روحانية
بالششبونية، وتكون ناقصة وجه ويسموا الرشوة قانون ويقولوا نعطيه للفقراء. فمن الآن
لا يجوز لأحد أن يحلل الزيجة الناقصة وجه لا جسدانية ولا روحانية أعني الششبونية؛
لأن قرابة الميرون الروحانية أعظم من القرابة الجسدانية. فكل من رشى أو ارتشى وعمل
بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
-
عاشرًا: كان لهم عادة ردية أن في عماد أولادهم يهدوا لهم أشابينهم هدية إما ذهب وإما
فضة وإما قماش أو غير ذلك، ويعملوا يوم العماد ويوم الأسبوع ولائم وضيافات للأكل
والشرب والسكر، والمصيبة الكبيرة أنهم يطلقون للأشابين أن يكون راهن من غير مانع.
فمن الآن لا يجوز فعل ذلك جميعه، ومن عمل بخلاف ناموس الله فجماعة السينودس
تحرمه.
-
حادي عشر: كان لهم عادة رديَّة؛ يغلوا صداق البنت ويأخذوا في عربون الخطبة إما أساور ذهب
وإما مبلغ له صورة أو غير ذلك من المتاع. وكذلك في الصداق يطلبوا مال كثير حتى إن
البنت كانت تقوم مقام النساء ولم تُخطب، والرجل يشيب ولم يتزوج؛ فلذلك عملنا للبنات
صداق حد محدود، فحددنا لروءس الطبقات أربعون غرشًا وعربون أربعة غروش، والحد الأوسط
ثلاثين غرش وعربون ثلاثة غروش، والحد الذي دونه عشرين غرش وعربون غرشين، وأقل ذلك
عشرة غروش وغرش عربون. وأما الهدايا في الأعياد تكون بالقناعة بغير حيف على العريس
مدة الخطبة ثلاث سنين كما في الناموس. ومن خالف ذلك فجماعة السينودس تحرمه.
-
ثاني عشر: كان لهم عادة ردية؛ أن الكهنة يدخلون إلى الأعراس التي فيها الطبل والزمر
ويجلسون في الولائم والعزائم ويشربون إلى أن يسكروا بالخمر. فمن الآن لا يجوز لكاهن
من الكهنة ولا لشمَّاس من الشمامسة أن يفعلوا مثل هذه الأفعال المذمومة؛ لئلا
يبكتهم الكتاب القائل: «إذ كان الطعام في أفواههم طلع عليهم رجز الله وقتل أكثرهم
وعرقل مختاري إسرائيل.» والكتاب الآخر القائل: «لا تشربوا الخمر لئلا تنسوا
الحكمة.» والرسول الإلهي قال: «إن السكيرين بالخمر لا يدخلون ملكوت الله.» ومن سكر
وعمل بخلاف الناموس فجماعة السينودس تحرمه.
-
ثالث عشر: ثالث عشر: كان لهم عادة ردية؛ أنهم يكللوا العريس والعروس من المساء وفي الليل
برا الكنيسة، ويكون الكاهن فاطر والعريس والعروس فاطرين وينقشوا يديها ورجليها
بالماشطة مثل الأمم، ونسيوا أن الأكاليل مثل القداس الإلهي وجهلوا أيضًا أنه لا
يجوز الإكليل إلا في الكنيسة، ويكون الكاهن صائم والعروس والعريس صائمين وغير مزينة
بالماشطة حتى يحل عليهم الروح القدس. فمن الآن لا يجوز أن يصير إكليل برا الكنيسة
إلا عن ضرورة، ويكون الكاهن صائم والعريس والعروس صائمين وغير مزينة بالماشطة. فمن
عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
-
رابع عشر: كان لهم عادة ردية؛ أن الكهنة يكتبوا الحروز والعوام يعلقوا الحروز والتعاويز
على رءوس أولادهم ويقرءوا صلاة السيدة ويعلقوها على أولادهم وكثير من المسيحيين،
ويصدقوا المنجمين والرقائين، وربما أنهم يرقوا رَقَوات مثل الأمم ويفتحوا الفال
ويمضوا إلى عند السحرة. فمن الآن لا يجوز فعل ذلك؛ لأن الكتاب الإلهي يقول: لا يكون
فيكم من يفتح الفال، ولا من يقول بالرقا، ولا من يكتب الحروز، ومن فعل ذلك إن كان
كاهن يقطع من كهنوته، وإن كان علماني يفرز من بيعة الله. فمن عمل بخلاف ناموس الله
جماعة السينودس تحرمه.
-
خامس عشر: كان لهم عادة ردية؛ أن الرجال ينامون في ديورة النساء، والراهبات يختلطن في
الرجال، فمن الآن لا يجوز فعل ذلك؛ لأن الشيطان له مدخل عظيم في مثل هذا الأمر. فمن
تعدى ذلك وعمل بخلاف ناموس الله جماعة السينودس تحرمه.
-
سادس عشر: كان لهم عادة ردية؛ بغير معرفة وجهلًا منهم يدخلوا كتب الأراطقة إلى الكنيسة
ويظنونها كتب الأرثوذكسيين ويقروا منها قصص وأخبار وميامر وغير ذلك. فمن الآن لا
يجوز فعل ذلك على ما يأمر به الناموس المقدس، فمن عمل بخلاف الناموس فجماعة
السينودس تحرمه.
-
سابع عشر: كان لهم عادة؛ يأخذوا على التوبة والاعتراف دراهم ويسموها قانون، ويحتجوا حجج
بليدة ويقولوا ما نأخذ لنا، بل صدقة للفقراء أو ثمن قدَّاسات أو ثمن خام للمحتاجين.
فمن الآن لا يجوز لمعلم اعتراف أن يعمل سوى صوم وصلاة ومطانيات وإن أمر بصدقة
للتائب أو بقداسات فيقول للمعترف أن يعطي ذلك للفقراء من يده إلى يدهم وعلى يد
معلمه. ومن عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
-
ثامن عشر: كان لهم عادة ردية؛ الرهبان المرسومين على دير ينتقلوا إلى دير غيره والرهبان
الكهنة والرهبان العامية يدوروا في المدن والقرى ويقبلوا أولاد من المعمودية، ومنهم
أناس يلموا دراهم ويأخذوا نذورة على اسم كنيسة قديس من القديسين أو على اسم دير من
الديورة، ويكون معهم كتب من غير منشور بطك الأبرشية. فمن الآن لا يجوز فعل ذلك، ومن
عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
-
تاسع عشر: كان لهم عادة ردية؛ أن البطرك يرسِّم شماس أو قَس من غير أن يكون معهم منشور من
رئيس كهنتهم ولا كتاب في خطوط أيادي أهل بلدهم بأنهم مستحقين للكهنوت. وأشر من ذلك
أن بعض كهنة يكونوا مرسومين على كنيسة فيتركوها وينتقلوا إلى كنيسة غيرها. فمن الآن
لا يجوز فعل ذلك، وكل من عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
-
العشرون: كان لهم عادة ردية؛ أنهم يعملوا في كل موضع مرتشي لأجل قبض البرطيل الذي سموه
قوانين الذي يأخذوها على زيجات الحرام ويسموا المرتشي وكيل البطرك. والمصيبة
العظيمة يكون الوكيل عامي من أعوام الناس ويدخل في أمور الكهنوت ويعترض على رئيس
كهنة البلد في أمور الدين! فمن الآن لا يجوز يكون مثل هذه العادة الردية، ولا يصير
وكيل بطرك في بلد التي فيها رئيس كهنة. فمن عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس
تحرمه.
-
الخاتمة: ولتعلم جماعة المؤمنين أن أعراس المسيحيين لا يجوز فيها الطبل والزمر والدق
والرقص، ولا الأكل والشرب والسكر وغير ذلك. وبالجملة إن الكلفة على مثل ذلك حرام
وبفعله يسخط الله، وقد بطلنا هذا جميعه وأقصيناه ورذلناه. ونوصيكم بحفظ جميع هذه
السنن، وبحفظ جميع وصايا الله، وأن لا تحيدوا عن الناموس؛ لأن الإحادة عن الناموس
تقفر الأرض كلها، وافتعال الشر ينقض كراسي المقتدرين. إلى ها هنا انتهى كلامنا، فمن
عمل بخلاف الناموس جماعة السينودس تحرمه.
البطريرك أفتيميوس الثالث (١٦٣٥-١٦٣٦)
وعاد أغناطيوس إلى دمشق ودار دفة الرئاسة سبع سنوات متتالية، وتُوفي مرقس متروبوليت
صيدا
١٦٣٤، وكان أغناطيوس البطريرك في بيروت فقام إلى صيدا ليرأس الصلاة عن نفس مرقس، ثم عاد
إلى
بيروت ليلًا بِزي تتري؛ لأن الحرب كانت قد اندلعت بين فخر الدين وبين الأتراك العثمانيين.
وكان رجال الأمير قد علموا أن تتريًّا قِدم إلى صيدا حاملًا بريد السلطان إلى الوزراء،
فكمنوا
لهذا التتري في السعديات، ومرَّ البطريرك فظنه هؤلاء التتري المنشود، فأطلقوا عليه النار
فوقع
عن فرسه فتقدموا لسلبه فدهشوا وأسفوا، ثم حملوا البطريرك إلى الشويفات، فدُفن فيها.
٦٧
وكان ملاتيوس متروبوليت حلب قد رعى أبرشيته بالتقوى والحكمة متمسكًا بالقانون مناضلًا
في
سبيل الإيمان الأرثوذكسي. فلما بلغ الدمشقيين خبر أغناطيوس أرسلوا وفدًا من أكابرهم ووجهائهم
إلى حلب يرجون ملاتيوس القبول بالبطريركية، ثم أتوا به إلى دمشق بوافر الإكرام والاحترام
واحتفلوا بدخوله إلى مركز البطريركية احتفالًا شائقًا، ودعي أفتيميوس الثالث ولقِّب بابن
كرمة.
وُلد ملاتيوس في مدينة حماة سنة ١٥٨٦ من أبوين تقيين حوران وسعادة، وتُوفي والده
وهو لا
يزال صغيرًا، فعنيت والدته به عناية مسيحية فشب على التقوى وزار أوروشليم، فقدم النذر
في دير
القديس سابا ودعي أفتيميوس. ثم استدعاه سمعان متروبوليت حماة فرسَّمه شماسًا ثم قَسًّا
وعينه
واعظًا، فأحرز محبة الجميع بشدة تقواه وكثرة فضائله، وتميز في غَيرته على أعمال البر
والإحسان. وتراكمت الأموال الأميرية على المسيحيين فأرسله سمعان إلى حلب ليسترحم من واليها
تخفيفها فاستجاب الوالي التماسه، وأقام أفتيميوس في حلب مدة من الزمن يعلم ويقضي فأحبه
الحلبيون. وكانت أبرشيتهم قد ترملت فانتدبوه مطرانًا عليهم، وطلبوا إلى أثناسيوس الثالث
السيد
البطريرك أن يوافق على ذلك، ففعل وسامه مطرانًا على حلب في دمشق ودعاه ملاتيوس وذلك في
السنة
١٦١٢. وعاد ملاتيوس إلى حلب فرعى أبناءها في مراعي الخلاص، «وأغنى فقر نفوسهم بالغنى
الروحاني، وأسعدهم بحسن تدبيره الجسداني، فأقبل المؤمنون على حلب وغرسوا بها فأينعوا
وأثمروا
وزادوا وتكاثروا.» وأنشأ ملاتيوس منزلًا في قلاية المطرانية «متقن البنيان عالي الجدران»
بديعًا متينًا ووقفه على مَن بعده مِن رؤساء الكهنة. ونقل إلى العربية كتاب «القنداق»
و«الأفخولوجيون» و«السواعي» و«السنكسار» وغيرها من الكتب الكنسية، وسعى لطبعها في رومة
مركز
الطباعة العربية آنئذٍ.
٦٨
وقد قال رحمه الله في مقدمته لكتاب «التيبيكون»:
أما بعدُ؛ فإني لما رأيت اختلاف كنائس
المسيحيين في الترتيب والطقس والنظام وما دخل على أهلها من النقص في السجود والركوع والصيام،
وما قد أبطلوه من فرائض الكتب المحقة الصادقة، وما قد أثبتوه من عوايد المخالفين وسنن
الأراطقة … فلم أزل أفحص عن أصل مخالفتهم فحصًا شافيًا، وأبحث عن علة تعدِّيهم بحثًا
كافيًا
حتى وجدت أصل هذا الغلط؛ وعلَّته عدم وجود تيبيكون رومي قديم … فلما وجدت تيبيكون تأليف
القديس سابا العظيم الذي كمله القَس يوحنا الدمشقي الحكيم، فبالغت أنا الحقير ملاتيوس
بالكد
والجهد والطلب، وأنا يومئذٍ مطران مدينة حلب فأخرجته من اللغة الرومية إلى لغة الأعراب،
وذلك
بتاريخ سنة ٧١٢٠ لكون الدنيا الموافق ١٦١٢ لتجسد سيدنا يسوع المسيح.
وجاء في مقدمة كتاب
«الأفخولوجي»:
أجهدت نفسي في ترجمتها وتفسيرها وأخرجتها إلى اللغة العربية وأنا يومئذٍ مطران
في مدينة حلب، وحررتها بتاريخ سنة ١٦٣٤ لسيدنا يسوع المسيح.
٦٩
وشرطنه رؤساء الكهنة بطريركًا في أول شهر أيار فازداد حرصًا على التعاليم الإلهية
واندفاعًا في سبيل المؤمنين، وحث الشعب على التعرف إلى الله، وعلى العمل الصالح، وأثمر
وعظه
في دمشق فرد الخطاة إلى الله وجعلهم آنية طاهرة. وشرطن في حياته بابا غفرائيل الفاضل
مطرانًا
على باياس. وبعد مدة يسيرة مرض فاستدعى الكهنة والإكليروس وباركهم، وانتدب في حياته بابا
ملاتيوس الصاقزي بطريركًا أنطاكيًّا، وانتقل إلى الرب بسلام في اليوم الأول من شهر كانون
الثاني.
٧٠
البطريرك أفتيميوس الرابع (١٦٣٥–١٦٤٨)
وآثر بابا ملاتيوس أن يحمل اسم سلفه، فقلَّده عصا الرعاية كلٌّ من فيلوثيوس متروبوليت
حمص
وسمياون أسقف صيدنايا ويواكيم أسقف الزبداني ودعي أفتيميوس الرابع. وبابا ملاتيوس بدأ
حياته
الروحية راهبًا في دير القديس سابا وبرع في رسم الأيقونات، فلما تبوأ أفتيميوس الثالث
السدة
البطريركية استدعاه إلى دمشق وطلب إليه أن يزين الكنيسة الكاتدرائية فيها، واقتدى أفتيميوس
الرابع بسلفه الصالح فكان مثال الوداعة والتقوى، وطاف الأبرشيات مرارًا واعظًا مرشدًا
مدبرًا.
وأهم أخباره أنه أيد ملاتيوس سيريغوس
Syrigos في موقفه
من مصنف بطرس موغيلة متروبوليت كِيِف في العقيدة الأرثوذكسية، فاستمسك بالأبيلكيسيس في
سر
الاستحالة وامتنع عن القول بالمطهر، واشترك مع أخوته البطاركة الثلاثة سنة ١٦٤٣ في قبول
مصنف
موغيلة بعد هذا التنقيح.
٧١ ومن أخباره أيضًا أنه وَكَل تثقيف ابن أخته الذي أصبح فيما بعد البطريرك نوفيطوس
إلى الأب اليسوعي أيرونيموس قيروط، وذلك في السنة نفسها التي أكد فيها موقفه من بعض نقاط
الاختلاف بين العقيدتين الكاثوليكية والأرثوذكسية.
٧٢
الكثلكة تنحصر في الموارنة
وكانت كنيسة رومة قد بدأت منذ السنة ١٦٢٧ تعمل في أوساط اليعاقبة والأرمن والأرثوذكسيين
في حلب لتدخلهم في طاعة البابا، فوكلت أمر اجتذابهم إلى الآباء الكبوشيين أولًا ثم إلى
الآباء
اليسوعيين والكرمليين.
٧٣ وكانت الكثلكة آنئذٍ لا تزال محصورة في الأوساط المارونية دون سواها.
٧٤ وتذرع الآباء المبشرون بالتطبيب وبالوعظ الفردي والإقناع السري، ثم لجئوا إلى
المدرسة والتعليم ليبثوا في صدور الأحداث تعاليم رومة وموقفها من الأرثوذكسيين وغيرهم،
٧٥ ثم استغلوا القحط والجوع والفقر ونفوذ فرنسة للغاية نفسها.
٧٦
وجاء في تقرير وضعه الأب يوحنا أميو
Jean Amieu اليسوعي
في السنة ١٦٥٠ أن هنالك مجالًا لتثبيت أواصر «الصداقة» مع بطريرك الروم الذي «يدعي أنه
بطريرك
أنطاكية»، وأن سلف هذا البطريرك تُوفي كاثوليكيًّا، وأنه يظن أن بعض رهبان الروم دسوا
له
السم؛ لأنه جهر بطاعته للبابا. وجاء أيضًا أن أفتيميوس الرابع أكد لهذا الأب اليسوعي
أنه
يعترف بالبابا ويدين له بالطاعة، ولكنه لا يجرؤ أن يجهر بذلك خشية أن يحل به ما حلَّ
بسلفه،
٧٧ ويلاحظ هنا أن رواية السم ضعيفة ينقصها شيء كثير من العدالة والضبط، وبالتالي
فإنه لا يجوز إثباتها والقول بها. ويلاحظ كذلك أن الأب أميو نفسه لم يرَ في أفتيميوس
الرابع
سوى صديق مصادق، وأن أفتيميوس الرابع نفسه جهر في السنة ١٦٤٣ بتمسكه بالعقيدة الأرثوذكسية،
كما سبق وأشرنا. بيد أنه لا بدَّ من الإشارة هنا إلى تساهل هذا البطريرك في أمر المدرسة
التي
أنشأها الآباء اليسوعيون في دمشق، وإلى سيطرة هؤلاء على عقول الأحداث وما نشأ عن ذلك
من
استعداد في بعض الأوساط الأرثوذكسية للدخول في طاعة رومة في الربع الأول من القرن الثامن
عشر.