البطريرك مكاريوس الثالث
البطريرك مكاريوس الثالث (١٦٤٨–١٦٧٢)
ومرض أفتيميوس مرضة شديدة وأثخنته وأوهنته، فاجتمع الإكليروس حوله وعملوا له زيتًا مقدسًا واستشاروه في أمر خلفه، فقال: «إن كنتم تريدون إصلاح أموركم وتوفيق أحوالكم فلا تجعلوا غير مطران حلب بطريركًا عليكم.» فكتب الإكليروس بذلك إلى مكاريوس متروبوليت حلب وعرضوا الكتابة على البطريرك فعلَّم عليها بيده، ووجهوا بها ساعيًا وحثوه على السير، ووصل الساعي إلى حلب، ولكنه لم يجد مطرانها؛ لأنه كان فرَّ من جور واليها قره حسن باشا والتجأ إلى المعرة وكلس. وما فتئ الساعي يسعى حتى اتصل بمكاريوس وسلمه الرسالة، فاعتذر ولم يحضر، فاغتاظ البطريرك وهدد بالقطع. فقام مكاريوس إلى الشام يرافقه ابنه الشماس بولس، ولدى وصولهما إلى حماة التقيا بساعٍ ثالث يحمل خبر انتقال أفتيميوس في الحادي عشر من تشرين الأول سنة ١٦٤٧، وإلحاح الأعيان بوجوب الإسراع إلى دمشق لتسلم عكاز الرعاية، وتدارك ما قد ينجم عن التأجيل والتأخير من اختلاف في الرأي وتفرق في الكلمة.
جولة بطريركية رعائية (١٦٤٨-١٦٤٩)
ولما كانت الديون قد تراكمت على الكرسي تقرر أن يخرج مكاريوس ويطوف في أبرشيات الكرسي الأنطاكي لتفقد شئون الرعية وجمع التبرعات والحسنات. وبعد أن زار العذراء في صيدنايا تبركًا والتماسًا عاد إلى دمشق. وفي السادس من تموز سنة ١٦٤٨ خرج منها إلى الديماس وعيتا والقرعون ومشغرة وكفر ملكي فصيدا، وخرج من صيدا إلى عبرا ووادي الليمون وبرتي وكفر بيت وكفر حتا وبسري وعنبال. ثم زار الأمير ملحم بن معن في بعقلين وعاد إلى عنبال وغريفة والمزرعة وعين قنية وعماطور وباتر ونيحا، ثم بعذران والخريبة والمعاصر وبتلون والفريديس والباروك وعين زحلتا وبصين وبريح وعين وزيه والسمقانية ودير القمر والشويفات. وقدس في الشويفات الأحد الثالث عشر بعد العنصرة. وانتقل إلى بيروت في الحادي والعشرين من آب، وخرج منها في الحادي والعشرين من أيلول، وصعد إلى بكفيا والمحيدثة، وقدَّس في كنيستها نهار الأحد الأول من لوقا، وزار دير مار إلياس والشوير وبسكنتا وقدس في كنيستها، وقام منها إلى كفر عقاب فكرَّس كنيستها بعد تهدم هيكلها وقدس فيها. وعاد إلى بيروت في السادس عشر من تشرين الأول، وفي الثامن عشر منه أقلع بحرًا إلى طرابلس يرافقه يواصف متروبوليت بيروت، فاستقبله في ميناء طرابلس يواكيم مطرانها وجميع المسيحيين فصلى ثم قدس.
وزار كفتين في التاسع عشر من تشرين الثاني وقدَّس فيها وشرطن فيها الخوري إلياس المرمريتي مطرانًا على صُوْر وصيدا وسماه أرميا. وفي العشرين من الشهر نفسه قام إلى دير القديس يعقوب المقطع وقدس فيه عيد دخول السيدة إلى الهيكل. ثم زار دير البلمند وقلحات وفيع وبطرام المشهورة بنساخها، ثم دير سيدة الرأس وبدبا وأميون المشهورة بعلمائها وأقام فيها أسبوعًا، وخرج منها إلى كفر عقا وكوسبا ودير حماطورة ودير مار جرجس وقرية كفر قاهل فدير مار إلياس النهر فالبلمند فدير الناطور، ثم أنفة وحامات وسيدة النورية والبرج، وعاد إلى طرابلس وقدس عيد الميلاد والغطاس (١٦٤٩).
ثم خرج إلى البترون وعبرين وكفر حلدا والكفور حيث أعشاش النسور، وفيها اصطادوا له نسرًا فاستخرج دهنه، ثم قام إلى دوما وتولا «قرية المقدم علي»، ومنها إلى بخعاز وغرزوز وشيخان وجبيل وغزير. وعاد إلى طرابلس وخرج منها نهار الخميس من الجمعة الثانية من الصوم، وتوجه إلى بقرزلا وعرقة وجبرائيل «ذات الكنيسة اللطيفة التي يخرج من تحت مائدة هيكلها ماء تجري في وسطها إلى خارجها تبري المرضى.» ثم قام إلى خنيقة ورحبة وبقي فيها أسبوعين وخرج منها عياث وعين يعقوب وبزبينا «وكانوا خرابًا».
وفي يوم الإثنين من الجمعة الخامسة من الصوم ذهب إلى السيسنية والبويضة وصافيتا وقدَّس فيها في كنيسة مار ميخائيل «المعظمة» في البرج، ثم ذهب إلى تنورين ومرمريتا والحصن وتفرج على قلعتها «نجمة الصبح» وقام منها إلى عناز، وقدس أحد الشعانين في مار جرجس الحميرة، ويوم الإثنين الكبير ذهب إلى رباح وافيون.
وفي الحادي والعشرين من آذار سنة ١٦٤٩ دخل حماة وعيَّد فيها عيد الفصح. وفي الخامس والعشرين من نيسان شرطن الخوري عطا الله الآمدي مطرانًا على آمد وما يليها وسماه ثيودوسيوس، وذلك «بحسب استيهاله واختيار ورضا أهلها وإرسالهم إياه.» وكان خبر الاختلاف بين متروفانس متروبوليت حلب وبين رعيته قد فشا وتفشى. وكان البطريرك قد قطعه ثم حرمه، فلما وصل البطريرك إلى حماة قصده متروفانس وطلب عفوه وكتب «تمسكًا بخط يده وحلف عن الخمر والمسكر وعن سائر ما نقل عنه»، واستغفر عما صدر منه، فباركه البطريرك وحله وصفح عنه. وقام البطريرك إلى حلب وأقام فيها إلى أن هدأ الهياج، ثم خرج منها يوم عيد دخول المسيح إلى الهيكل، ووصل إلى دمشق في الحادي عشر من شباط سنة ١٦٥٠.
مكاريوس ومشكلة الجحود
بيروت وبعلبك والزبداني (١٦٥٠-١٦٥١)
السفر إلى بلاد المسيحيين (١٦٥٢–١٦٥٩)
وفي اليوم الخامس من آب سنة ١٦٥٢ خرج مكاريوس من أنطاكية قاصدًا القسطنطينية، ووصل إلى الإسكندرونة ليلة عيد التجلي، فاستقبله القبارصة وحضر الأغربنية في كنيستهم. وعند الأيصوذن دخل الكهنة وأخذوا الكيرون و«داروا في الأيصوذن حسب عادتهم مصلين: أيها النور البهي.» وقدس البطريرك قداس السحر ثم خرج إلى باياس وقدس فيها الأحد الثامن بعد العنصرة، وبلغ القسطنطينية في العشرين من تشرين الثاني وزار كنائسها وآثارها القديمة.
وفي السابع من كانون الثاني سنة ١٦٥٣ خرج من القسطنطينية إلى ياسي عاصمة البغدان وأقام فيها تسعة أشهر ضيفًا على باسيلي بك. وكانت الحرب قد اندلعت بين البغدان والقوزاق فلم يوفق البطريرك لنيل ما تمنى، فذهب إلى طرغشتة عاصمة الفلاخ الصيفية وأقام فيها نصف سنة ضيفًا على أميرها متَّى. ثم قام إلى كِيِف عاصمة القوزاق ومنها إلى موسكو، فاستقبله القيصر ألكسيوس ميخائيلوفيتش بكل ترحاب واحترام وساعده كل المساعدة في احتياجاته، فعاد إلى رعيته في السنة ١٦٥٩ ووفى قسمًا كبيرًا من الديون التي كانت على الكرسي.
يوداص الثاني وقطعه (١٦٥٩)
ولما وصل مكاريوس إلى حمص خرج أثناسيوس لاستقباله، فضمه البطريرك إلى حاشيته وأخذه معه إلى دمشق وعاتبه في الطريق وذكر له قبائحه واحدة واحدة، فأنكر أثناسيوس وتململ. ولدى دخول البطريرك إلى دمشق في أول تموز وفي خمسة عشر ألف غرش، وقدم للباشا ولبقية الأكابر ما قيمته ثلاثة آلاف غرش.
المجد لله دائمًا: مكاريوس برحمة الله البطريرك الأنطاكي وسائر المشرق، أنه لما كان بتاريخ نهار الأحد ثامن وعشرين شهر آب سنة ٧١٦٧ لكون العالم (١٦٥٩)، الموافق أول شهر ذي الحجة الحرام سنة ١٠٦٩ للهجرة الإسلامية صار مجمع مقدس بحضور الحقير الواضع خطي وعلامتي أعلاه وأدناه، وبحضور رؤساء كهنة أبرشية النورية الأنطاكية الواضعين خطوطهم أدناه بمدينة دمشق الشام في كنيسة القديس نقولاوس، وكان إجماعهم ودعواهم على أثناسيوس مطران حمص بأنه جا إلى دمشق وتوطأ كرسي البطريركية بغير أمر البطريرك وبغير شورهم ورضاهم، وأنه قدس في كنيسة البطريركية ولبس بدلته خارجًا في النرتكس، وأنه شرطن قسوس وشمامسة بغير إذن صاحب الكرسي، وأنه وقف في الكاتدرا التي لا يصعد عليها غير البطرك، وأنه حمل على إخوته رؤساء الكهنة بالافتراء، وأنه زوج زيجات حرام في المدينة والبر وحلل ذلك بقبض الدراهم. وبعد إثبات ذلك وجهه واحدة فواحدة بحضور المجمع المقدس وكهنة البلد ووجوه الإكليروس وأعيان الشعب، وأيضًا أنه مضى إلى دير صيدنايا وطلع إلى الكرسي وقدس بغير إجازة بعد أن أرسلوا له الكهنة والإكليروس وأعيان الشعب وأنهوه عن ذلك فلم ينتهي. وقد ظهرت عليه قبل ذلك قبائح كثيرة مدونة في دفاتر عليه وثبتت عليه في وجهه.
فبموجب ذلك قد حكمت عليه أنا الحقير مكاريوس البطريرك الأنطاكي حالًا بموجب ما تأمر الشريعة المسيحية بأمر الرحمان والسلطان أن هذا الرجل المدعو أثناسيوس المذكور فيكون مقطوعًا من سائر درجات الكهنوت، وليس له تصرف في قدَّاس ولا في غيره، ولا أن يضع بطرشيل في عنقه، وإن تعدى ما حددناه فيكون محرومًا مفروزًا من مجد الآب والابن والروح القدس ومن المجامع المقدسة إلى أن يرجع ويتوب ويخلص نفسه وذمته مما اختلسه لنفسه من البطريركية والكنيسة والوقف والقوانين من الأحياء والأموات.
وعلى هذا الاصطاتيكون وقد فصَلناه من مجمعنا المقدس المحرر في اليوم الأحد ثامن وعشرين شهر آب المبارك لشهور سنة ٧١٦٧ للعالم الموافق للهجرة الإسلامية سنة ١٠٦٩، وبالله التوفيق.
طبخ الميرون (١٦٦٠)
وقلَّ الميرون المقدس الذي طبخه يواكيم السادس البطريرك الأنطاكي ولم يبقَ منه سوى زجاجة واحدة، فكتب مكاريوس أنواع الأدوية والعقاقير في دفتر وأمر بجمعها. وأرسل إلى مصر لاستحضار دهن البلسم. وسجد الأرشدياكون بولس لوالده البطريرك واستمد البركة وشرع في إعداد المواد اللازمة، ثم دقها في الهاون وجعلها خمس طبخات، ووضع كل طبخة في ورقة كبيرة وكتب عليها اسمها وحفظها حتى جمعة الشعانين.
-
وهذه أجزاء الطبخة الأولى: دار شيشعان وهو نوار؛ أي زهر القندول، مائة وعشرون درهمًا
وعود سليخة حمرا ستون درهمًا، وحماما ياقوتية ستون درهمًا، وأصول السوسن ثلاثون درهمًا،
وقصب الذريرة ثلاثون درهمًا. ثم إننا رضَّينا منها ما وجب رضُّه كما يعيَّن في الكتاب،
وتنقع بماء مقدس وخمر عتيقة بمقدار ما يغمرها، وأزود بأصبعين أو ثلاثة في وعاء نظيف إلى
عشية أحد الشعانين لتطبخ في الغد. ففي نسخة الأصل يعين جزءًا واحدًا؛ أي مثلًا من زهر
القندول أربعون درهمًا، فنحن جعلناه ثلاث مثاله؛ أي مائة وعشرون درهمًا، ومثل ذلك من
غيره. وعلى هذا فَقِسْ، وسيأتي ذكر بقية الطبخات بعد هذا.
وفي يوم الجمعة قبل سبت العازار قام البطريرك ورؤساء الكهنة والكهنة بعد صلاة السَّحَر إلى كنيسة مار نقولاوس، فصلُّوا على الموقد وعلى الأجيازموس والموقدين القائمين في وسط الكنيسة الموجهين نحو الشرق، ووضعوا على الموقدين ماعونين نحاسيين كبيرين مبيضين. وصباح الإثنين العظيم وضع البطريرك حوائج الطبخة الأولى في الماعون الكبير وأفرغ عليها ثمانية وعشرين رطلًا من الزيت الصافي وخمرًا عتيقًا وماء مقدسة. وكان كلما وضع جزءًا من الأجزاء يترنم ويقول على اسم الآب والابن والروح القدس إله واحد. ثم وضع ورق الغار وورق الآس وورق الحصلبان وكمشة من الحصلبان الذكر فالخمر العتيق والماء المقدسة. ثم تناول سيدنا البطريرك ثلاثة عيدان وثلاثة أعواد من القنب وثلاث شمعات مشتعلة ووضعهم في الموقد، وبلَّ جانبًا من الحطب بماء مقدسة سخنة، وألهب النار وجلس أحد الكهنة مقابل الموقد يوقد ويبلَّ الحطب بالماء السخنة ويوقده قليلًا قليلًا، وكان يحرك الزيت بمغرفة من الخشب ويضيف شيئًا من الماء السخنة. وكان البطريرك لابسًا بطرشيله والأموفوريون وكذلك رؤساء الكهنة، ولبس الكهنة كلٌّ بطرشيله والشمامسة زنانيرهم، والجميع مكشوفو الرءوس يرنمون الرسائل والنبوات والمزامير، والشمامسة يروِّحون بالمراوح.
- بيان أجزاء الطبخة الثانية: من الميرون المقدس: قُسط مُر جيد ستون درهم، وورد أحمر عراقي أو جوري منزوع الأقماع ستون درهم، وصندل مقاصيري ستون درهم، ولادن وبخور جاوري وزنجيل وقرفة القرنفل وعيدانه من كل واحد ستون درهم، وقسط يابس ثلاثون درهم. يُرضُّ الجميع ويبالغ في رضِّ الصندل، ويصب عليها من الماء المقدس ما يغمرها. ونقعناه من ظهر يوم الإثنين العظيم إلى سَحَر الثلاثاء، ثم إننا جبناه ووضعناه على الزيت الذي طبخ بالأمس، وأوقد البطريرك النار كما ذكرنا أولًا والتحريك عمال وكان يزداد إذا احتاج قليلًا من الماء المقدس. وطبخ أربع ساعات زمانية، ثم نزلناه وركنَّاه إلى العصر حتى برد وصفيناه، ورؤساء الكهنة والكهنة يصلُّون والشمامسة بالمراوح يتبادلون إلى النهاية. وكنا قد نقعنا حوائج الطبخة الثالثة من سحَر هذا اليوم، وأتينا بها ووضعناها فوق الزيت المصفى وأوقد البطريرك النار ثانيًا.
- بيان أجزاء الطبخة الثالثة: زرنب ستون درهمًا، وقشور السليخة الحمراء المختارة أحد وعشرون درهم، وجوز طِيب خمسة عشر درهم، وسنبل الطيب العصافيري الجيد ثلاثون درهم، وقرنفل جيد عشرون درهم، وبسباسة ثلاثون درهم. وطبخناها من عصر الثلاثاء إلى العشا، فنزلناه عن المستوقد إلى أن برد وصفيناه سحَر الأربعاء كالعادة، وعزلنا الإفادة ناحية بعضها على بعض، وكنا قد دقينا أجزاء الطبخة الرابعة من يوم الثلاثاء.
- بيان صفة الطبخة الرابعة: دار صيني طيب عالٍ أو قرنفل ثلاثون درهم، مُر أحمر جيد عربي ستون درهم، عود هندي خالص وهو بخور العود ثلاثون درهمًا، زعفران شعري عراقي جيد ثلاثون درهم. ثم رضَّينا منها ما وجب رضُّه وصبينا عليها من الماء ما غمرها وزيادة ونقعناها ليلة الأربعاء في ماء مقدس أيضًا إلى سحَر الأربعاء، ووضعناها فوق الزيت المطبوخ ثلاث مرات، وطبخناها بنار لينة كالعادة من سحَر إلى الظهر، والطقس الأول عمَّال من القراءة والمراوح وغير ذلك، ونزَّلناه عن النار إلى أن برد، وصفيناه وعزلنا الإفادة على بعضها بعض، ثم جمعنا أجزاء الطبخة الخامسة.
- بيان صفة الطبخة الخامسة: الاصطراك الجيد الأحمر الفلكي ماية وعشرون درهم وضعناها في الزيت المطبوخ مع ثلاثة أرطال عسل منزوع الرغوة وماء مقدس أيضًا. ووضعناه في الزيت على النار بعد ظهر يوم الأربعاء إلى المسا حتى ذهبت منه رطوبة الماء جميعها وهديت عنه البقبقة بالكلية وطابت رائحته، وعلامة تجربة ذلك هو أن الحكيم الذي كان يدبر هذا العمل جاب فتيلة قطن وغطها في الزيت المطبوخ وقدمها للشمعة فلم تطشطش، فعلمنا حينئذٍ أن الرطوبة قد ذهبت. ثم نزلناه عن النار، وفي أثناء ذلك كنا قد دقينا أجزاء الطبخة السادسة.
-
بيان صفة الطبخة السادسة: دار صيني؛ أي القرفة، مائة وثمانون درهمًا، ومن سنبل الطيب
الجيد العصافيري ستون درهم، ومن قشور السليخة الحمراء الجيدة ثلاثون درهم، ومن البسباسة
أربعة وعشرون درهمًا، ومن العود الهندي القافلي خمسون درهم. وسحقنا الجميع ونخلناهم في
كريشة حرير، ووضعهم البطريرك في الزيت المطبوخ ودافهم به. ثم أضاف الحكيم دهن البلسان
وكان نحو من مائة وخمسون درهم في وعاء من نحاس على نار حتى ذاب، وأضاف معه أربعة عشر
مثقالًا من المسك الخالص المسحوق ومن العنبر الجيد أيضًا إلى أن اختلط في بعضه بعض، وحصة
من الميرون القديم ووضعه البطريرك على الزيت المطبوخ أيضًا، وحرك الجميع وغطيناه إلى
الغد.
وفي هذه الليلة ظهر سر برهان عظيم من بعض الأيقونات التي على باب هيكل هذه الكنيسة؛ وذلك أنهم من أول الليل نضحوا حيل كان يزرب منهم كساقية وانذهلنا. وضحوة نهار الخميس حضر البطرك وبدأ يعي الميرون في أواعي الزجاج الجدد ولم يكن وضع فيهم شيء، والجميع مكشوفو الروس مترنمين بالطروباريات: الرب يرعاني فلا يعوزني شيء، وغير ذلك، وعزلناهم على حدة.
عودة إلى بلاد المسيحيين (١٦٦٦–١٦٦٩)
وتولى نيقون في السنة ١٦٣٢ رئاسة كنيسة موسكو وتوابعها، فحضَّ المؤمنين على العمل الصالح والاستمساك بالإنجيل وقوانين الرسل وقرارات المجامع المسكونية، وقال باستقلال الكنيسة عن الدولة. ثم ذهب إلى أبعد من هذا فأجاز للبطريرك التدخل في شئون الدولة بشكل غير مباشر لما لشئون الدولة من علاقة مع الدين وخلاص النفوس. ونسبة الكهنوت للدولة في نظره كنسبة النفس للجسد والشمس للقمر. وحاول نيقون الانتقال من القول إلى الفعل فاصطدم بمقاومة القيصر ألكسيوس ميخائيلوفيتش، وأدت المشادة بين هذين الكبيرين إلى تدخل البطاركة. وتفصيل ذلك أن القيصر وجَّه إلى البطاركة خمسة وعشرين سؤالًا يستفتيهم في أمر نيقون وموقفه من السلطات الزمنية، فاتخذ المجمع القسطنطيني المقدس قرارًا قضى بتكليف بائيسيوس البطريرك الإسكندري ومكاريوس البطريرك الأنطاكي القيام إلى موسكو لمعالجة الموقف.
النظم والقوانين
ويقول مكاريوس: إن لكل بطريرك مديحًا غير مديح الآخر، وإن مديح بطريرك أنطاكية هو هكذا: «سنينًا كثيرة يمنحك الرب الإله أيها الكلي الغبطة والجزيل القداسة سيدنا ومعلمنا أب الآباء وراعي الرعاة وريس الرؤساء وثالث الاثنا عشر رسولًا، الأب السيد البطريرك كير فلان بطريرك مدينة الله العظمى أنطاكية، وكافة النواحي الثغرية وساير البلاد الشامية وكل الأقاليم الكرجية وجميع الأقطار الشرقية، سيدنا ومولانا فلان لكيما يحرسك الرب الإله سنينًا كثيرة أيها السيد في الارتقاء والرفعة الإلهية بغير مرض ولا سقم ناجيًا من الأسواء، معافًى سنينًا جزيلة مكرمًا ممدوحًا معتوقًا من ساير أفعال الشياطين متغالبًا وظافرًا بأعداه المنظورين وغير المنظورين، والله تعالى لأجل صلواتك وطلباتك المغبوطة والجزيلة قداستها يخلص ويشدد كافة المطارنة المحروسين من الله والأساقفة المحبين لله، والكهنة في الرهبان الروحانيين والقسوس الموقرين والإكليروس المكرمين والشمامسة وذوي الحسب والأراخنة والأكابر المنتخبين، وساير الشعب الأرثوذكسيين شعب المسيح محفوظين سنينًا عديدة، ثبت الله الأمانة المستقيمة إلى الأبد، آمين آمين آمين.»
ويوجب البطريرك الهتاف بعد هذا بالعبارة: «اسبولا أتي ذسبوطا» ثلاث مرات وسجود القارئ للبطريرك وتقبيل يمينه ثم السجود له ثانية فالرجوع، «فطرح الذوكسا» وجعلها استيخونات بين الخوروسين كل استيخن في خورس دفعة واحدة فقط، ثم إكمال التاسعة والمكارزمي كالعادة.
وتدل أخبار هذا البطريرك على أن متروفانس ترأس أبرشية حلب وأرميا أبرشية صور وصيدا ونيوفيطوس أبرشية اللاذقية وملاتيوس أبرشية طرابلس، وثيوفانس أبرشية آمد وغريغوريوس أبرشية حوران، وأثناسيوس أبرشية حمص، وملاتيوس أبرشية حماة، وفيلبوس أبرشية بيروت، وجبرائيل أبرشية باياس حتى السنة ١٦٤٤، وأنطونيوس أبرشية بعلبك، ونيقولاوس أبرشية عكار، وجراسيموس أبرشية الزبداني، ولاونديوس أبرشية صيدنايا، ومكاريوس أبرشية أرضروم.
انتقاء الكهنة والإكليروس
وتفيد الآثار التي خلفها مكاريوس وابنه بولس أن المبادرة في انتقاء الكهنة خدمة الرعية كانت بيد الشعب، فلم يكن البطريرك أو المطران يرسم كاهنًا إلا بموافقة من كان يخدم من الشعب، وكان المرشح لهذه الرتبة يقدم صكًّا من قومه يشهدون له فيه بالسيرة الصالحة والتقوى واستقامة الإيمان والعلم الكافي، ويتعهدون له بالطاعة والدخل اللازم لمعيشته. وكان الكاهن يُنتقى في غالب الأحيان من أبناء الوجهاء والأعيان تشريفًا له ولأسرته، وكان بيته يعتبر بيت الطائفة وديوانها، فيه يجتمعون أعيانها، ومنه تصدر القرارات في الملمات والظروف الاستثنائية، وكان المطران أو البطريرك يجهز الكاهن لدى رسامته ببيان يذكر فيه اسم الكنيسة التي ارتسم فيها واسم الكنيسة التي ارتسم لخدمتها ووجوب تقديم الطاعة له والاحترام، وكان هذا البيان يدعى ستاتيكونًا يتلوه الكاهن في كنيسته لدى وصوله إليها وتسلمه الرعاية فيها، وقضت التقاليد الموروثة ببقاء هذا الكاهن في القرية التي رسم لها وعليها وبعدم عزله قبل محاكمته بموجب الناموس والقوانين المقدسة.
أما المبادرة في انتقاء الإكليروس فإنها كانت في يد البطريرك أو مطران الأبرشية، فقد يلاحظ هذا السيد أن أحد الشبان يداوم على حضور الصلوات ويشترك فيها بالقراءة والترتيل، فيتثبت من رصانته وتقواه ويقربه ويرغبه بالكهنوت، فإذا ما وثق من رغبة أكيدة عُني بأمر تعليمه إما بذاته أو بواسطة من يعتمد عليه، ثم رسمه أناغنوسطًا وألبسه الصاية السوداء والقلنسوة الصغيرة، ويظل هو حرًّا في أمر البقاء في الخدمة أو تركها.
وقد يتميز أحد الوجهاء من أبناء الطائفة بالتنزه عما يُعاب وبصون العرض من الدنس وبعفة اليد واللسان والاندفاع في سبيل الكنيسة، فيمنحه البطريرك أو مطران الأبرشية لقب شماس الكنيسة فيزداد هو بهذا اللقب وجاهة وكرامة. وقد يسعى البعض لنيل هذا الشرف رغبة بما يناله من أجر وثواب. وكان الشمامسة نوعين: شمامسة قلاية وشمامسة بيت وأعمال. وكان على شمامسة القلاية أن يعيشوا فيها ويقوموا ببعض الخدمات الإدارية والكنسية لابسين الثوب حافظين العفاف. وكان بإمكان هؤلاء أن يخلعوا الثوب ويتزوجوا زواجًا ناموسيًّا قبل ترقيتهم إلى رتبة شماس إنجيلي. أما شمامسة البيوت والأعمال فإنهم كانوا يزاولون صناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم العادية كسائر أفراد الشعب، ولا يأتون إلى الكنيسة إلا للاشتراك بالصلوات والاحتفالات الدينية.
ولم يذكر بولس بن مكاريوس في أخبار الزيارة الرعائية التي قام بها والده سنة ١٦٤٨ من الأديرة في سورية سوى دير صيدنايا ودير مار جرجس الحميرة. وذكر ديري مار تقلا ومار سركيس في جوار معلولة، ولكنه لم يذكر أن والده قدس فيهما. وليس هنالك أي ذكر لدير مار يعقوب قارة، وجاء في أخبار هذه الرحلة أن البطريرك زار دير السيدة كفتين ودير مار يعقوب دده ودير السيدة في البلمند ودير سيدة الرأس ودير مار إلياس شويا (الشوير)، وأنه قدَّس فيها جميعها. وجاء أيضًا أن البطريرك زار دير سيدة حماطورة ودير سيدة النورية ودير مار إلياس كفر قاهل، ولكنه لم يرد ذكر لإقامة القداس فيها، وأغفل الشماس بولس ذكر مار يوحنا الشوير ومار سمعان كفر عقاب، ولعل السبب في إهمال ذكر بعض الأديار وفي عدم إقامة القداس في غيرها أنها كانت قد أهملت فأمست غير لائقة بزيارة البطريرك أو بإقامة القداس فيها. والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن الاضطرابات وقلة الأمن وشدة الفقر كانت قد زعزعت الحياة الرهبانية في معظم هذه الأديار، وأن الديرين الوحيدين اللذين نالا شيئًا من العناية كانا دير صيدنايا ودير البلمند. ولا يخفى أن الأول كان ملجأ الدمشقيين المسيحيين والبطريرك والكهنة في أثناء الضيق والاضطراب وقبلة أنظار الأرثوذكسيين في جميع أنحاء الكرسي الأنطاكي؛ لما اشتهرت به سيدته من الحماية والمعونة، وأن الثاني كان ملجأ الطرابلسيين وقد رعاه بعنايته يواكيم متروبوليت طرابلس فجدد بناءه في السنة ١٦٠٣.
المدارس الإكليريكية
ولم يكن هنالك مدارس إكليريكية عالية، وأمست قلايات المطارنة والبطريرك أفضل المدارس لرجال الإكليروس والكهنوت، فكان الأناغنوسطس القائم يدرس في مدرسة الطائفة التابعة لها، فيقرأ الأسفار المقدسة وتفاسيرها المعربة عن اليونانية ويُعنَى عناية خاصة بمواعظ القديسين يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير، ثم يعكف على تفهم كتاب المنطق ليوحنا الدمشقي أو غيره، ويتفهم عرض هذا القديس لقضايا الإيمان القويم فيجده في كتاب «المائة مقالة». وكان عليه أن يلم باللغة اليونانية قراءة وكتابة وباللغة العربية، وأن يجيد كتابتها، وأن يتعلم الطب ويمارسه لخير الرعية. ولكي ينال الحظوة والترقية في درجات الكهنوت كان عليه أن يكون سالمًا من كل عاهة بلا عيب، جميلَ المناقب حلو الشمائل رخيم الصوت يجيد الترتيل باليونانية والعربية ليسبح الله في كنيسته ويذكر أمجاده بين المؤمنين، وإذا ما توفرت فيه هذه الشروط أو معظمها وأعظمها رقِّي إلى درجة شمَّاس إنجيلي، ثم إلى درجة رئيس الشمامسة؛ أي أرشدياكون.
انتقاء الأساقفة
ويتضح من أخبار الأساقفة الذين تمَّت سيامتهم في هذا القرن السابع عشر أن عددًا كبيرًا منهم جاءوا من صفوف الكهنة المترملين فكانوا عاديين بعملهم وفضائلهم، وكان بعضهم غير لائق لتسنم العرش الأسقفي. ونخص بالذكر من هؤلاء أثناسيوس متروبوليت حمص ونسيبه متروفانس متروبوليت حلب. وكانت المبادرة في انتقاء الأساقفة بيد البطريرك والشعب، فإما أن يختار البطريرك مرشحًا ويتصل بأعيان الأبرشية التي يريده أسقفًا عليها أو أن يتقدم الأعيان من البطريرك بمرشح يريدونه أسقفًا عليهم، وكان لا بد من اتفاق الطرفين على المرشح، وقد يكون هذا المرشح كاهنًا مترملًا، وقد يكون راهبًا من رهبان القلايات أو الأديار المهمة في الكرسي الأنطاكي أو في فلسطين أو قبرص أو إحدى الجزر اليونانية أو أي بلد أرثوذكسي آخر. ويلوح لنا أن الكلمة الأولى والأخيرة في انتقاء المرشح كانت للبطريرك نفسه، وأنه كان لا بدَّ من اشتراك البطريرك في الرسامة متعاونًا في ذلك مع بعض الأساقفة كما قضت شروط الشرطونية في جميع الكنائس، وكان لا بدَّ من إصدار براكسيس بالسيامة يتضمن ذكر الرسامة وتاريخها، والمذبح الذي تمت عليه، والمذبح الذي أُجريت لأجله.
انتخاب البطريرك
والبطريرك في عُرف الكنائس الشرقية هو خليفة الرسل الأطهار ورئيس الكنيسة المحلية، وهو أيضًا رئيس العشيرة بكاملها؛ أي زعيم الطائفة التي يرأس، كما يدل على ذلك معنى اللقب نفسه وكما تؤكد المراجع التاريخية. وكان البطريرك أيضًا أسقف كنيسة مدينة أنطاكية نفسها، فكان لا بدَّ والحالة هذه من اشتراك أبناء مدينة أنطاكية في انتخاب البطريرك الجديد، ولا بدَّ من موافقة أعيان الطائفة جمعاء. وبانتقال المركز البطريركي من أنطاكية إلى دمشق أصبح البطريرك الأنطاكي أسقف أنطاكية وأسقف دمشق أيضًا.
ولم يجرِ أي انتخاب بطريركي أنطاكي بدون اشتراك المطارنة أصحاب الأبرشيات الخاضعة لأنطاكية، فهؤلاء هم الذين نصَّبوا البطريرك الجديد في عرشه، وهم الذين سلموه عكَّاز الرعاية، وهم الذين تولوا سيامته أسقفًا على الكتدرا البطريركية إذا كان كاهنًا أو شماسًا.
سر الاعتراف
مكاريوس والتعاليم البروتستنتية
- الرأس الأول: قولهم عن الأسرار الطاهرة بأنها بعد تقديم الكاهن لها على المذبح وقوله عليها الكلام الجوهري بأنها تصير شبه جسد المسيح ودمه، وليس هي بالحقيقية جسده ودمه. واعلم أن الإنجيلية الأربعة كل واحد منهم أخبر بإلهام الروح القدس بعض عجائب المسيح وجزء من وصاياه. وأما عن هذه الأسرار المقدسة فإنهم كلهم أخبروا عنها بإفصاح، وأنه قال عن الخبز والخمر الذي قدمه لهم بأن هما جسده ودمه الخاصيان بالحقيقة، فكيف يكون شبه جسده، فالقائلين هذا الكلام قد كذبوا وكذبوا إنجيل سيدنا يسوع المسيح، وكذبهم فهو تلقين الشيطان وهو ظاهر مثل الشمس.
- الرأس الثاني: وقالوا بأن الخبز والخمر في تمام الذبيحة ليس ينتقلان ولا يستحيلان من جوهرهما الخاصي. فاعلم أن السيد المسيح لم يقطع لحمًا من جسده، ولا أخرج منه دمًا وأعطاه لتلاميذه، لكنه قدم لهم خبزًا وخمرًا وقال لهم بأن هذا هو جسدي وهذا هو دمي، فليخزوا إذن القائلين عن هذه الأسرار بأنها شبه جسده ودمه.
- الرأس الثالث: ثم ذكروا هؤلاء المخالفين أن عمل القداسات ليس فيه منفعة للأحياء والأموات. فاعلم بأن الآباء القديسين أمرونا بأن نذكر الأحياء والأموات في كل صلاة وقداس، وجعلوا قداسات أيام السبوت كلها لأجل نياح الراقدين، وقد أمرنا بذلك ديونيسيوس قاضي العلماء وباسيليوس الكبير وغريغوريوس الثاولوغوس ويوحنا فم الذهب وأثناسيوس الكبير، فمن فعلها كان تابعًا لهؤلاء القديسين، والذي ينكرها فهو من الأراطقة المخالفين.
- الرأس الرابع: ثم قالوا هؤلاء الأراطقة بأن من يتناول الأسرار المقدسة ليس يتناوله بتمامه حقيقًا. فاعلم بأن قد تقلدنا بأن الكاهن يتناول سائر ما قدمه ذلك اليوم، والعلماني الذي يتناول من الأسرار جزءًا يسيرًا فإن هما قد تناولا جسد المسيح ودمه بتمامه وليس جزءًا منه، ومن يتناول شيء يسير من جسد المسيح ودمه يتناول المسيح بتمامه كمثل من ينظر وجهه في المرآة ينظر جسده وصورته بتمامه، وكذلك إذا قطع تلك المرآة فإنه ينظر في قطعة منها صورته بتمامها. والكاهن يقول قبل تناول الأسرار نفصل ونقسم حمل الله تقسيمًا ونأكل منه كل حين وهو غير منتقصًا.
- الرأس الخامس: ثم إن هؤلاء الأراطقة ينكرون سائر الأصوام المفروضة علينا من الله. فاعلم يا هذا بأن أول وصية أمر الله بها لأبينا آدم قوله: من هذا كُلْ ومن هذا لا تأكل. فمن ها هنا أبان فريضة الصوم. وموسى صام أربعين يومًا وإيليا صام أربعين يومًا ودانيال صام ثلاثة سوابيع. ثم سيدنا يسوع المسيح اعتمد وصعد إلى الجبل وصام أربعين يومًا. وعلمنا بأن كل معتمد يجب عليه في كل سنة بأن يصوم أربعين يومًا، وهكذا رسله القديسين بعد صعوده إلى السماوات عملوا مجمع مقدس في أوروشليم ووضعوا فيه قوانين كثيرة مشهورة، ومن جملتها أمروا المسيحيين بأن يصوموا في كل أسبوع يومي الأربعاء والجمعة، وأن يصوموا الصيام الكبير في كل سنة مثلما صام سيدنا يسوع المسيح. وكذلك الآباء القديسين وضعوا في المجامع المقدسة قوانين كثيرة شرعت لنا الأصوام المقدسة، وهكذا قلدوا أولاد البيعة الأرثوذكسيين جيل بعد جيل أن يحفظوا ذلك إلى انقضاء العالم.
- الرأس السادس: ثم إن هؤلاء الأراطقة يقولون أن لا يجب تكريم القديسين؛ لأنهم لا ينفعون أحدًا من الذين يكرمونهم أصلًا بالتجائه وتضرعه إليهم. فاعلم يا هذا بأنه إذا كان تكريم القديسين ليس هو بواجب فلماذا كرمهم الله تعالى في العتيقة وصنع على أيديهم المعجزات العظيمة، وقال عن داود اعضد مدينة أوروشليم لأجلي ولأجل داود عبدي، وكيف لا يجب إكرامهم وهم أحباء المسيح وورثاؤه؟ وكيف لا ننشئ هياكل لله باسمهم ونقرب النذور لهم ونكثر التوسل إليهم، ولا سيما سيدتنا العذراء والدة الإله مريم رجاء الذين ليس لهم رجاء.
- الرأس السابع: ثم إن هؤلاء الأراطقة يحاربون الأيقونات المقدسة ويدعونها أصنام. فاعلم بأن سيدنا يسوع المسيح شمس العدل استبانت صورة وجهه المقدسة بألوان من الأصباغ على السبنية التي أرسلها أبجر ملك الرها وظهر منها عجائب لا تُرام ولا تحصى. وأيضًا بعد صعود السيد المسيح عمل لوقا أيقونة سيدنا يسوع المسيح ثم أيقونتين الرسولين بطرس وبولص، ثم زوق ثلاث أيقونات على اسم سيدتنا والدة الإله. وبعد تكميلهم ذهب إلى عند والدة الإله؛ لأنها كانت بعد بالحياة وأخبرها بما فعله وطلب إليها أن تمضي معه وتشاهدهم وتباركهم، فذهبت وحين نظرت تبسمت ثم باركتهم وقالت: النعمة التي خرجت مني وكانت فيَّ تكون عليهم وفيهم. وإكرام الصورة واصل إلى عنصرها الأول كما قال القديس باسيليوس الكبير. والآباء القديسين أصحاب المجمع السابع المسكوني قد افرزوا كل من لا يسجد للأيقونات المقدسة، وأحرموا الذين يزعمون أن المسيحيين يؤلهونها.
- الرأس الثامن: ويقولون هؤلاء الأراطقة بأنه لا يجب أن يكون في الكنيسة طغمة الكهنوت. فاعلم بأن الكنيسة تدعى سماء أرضية، وكما أنه في السموات طغمات الملائكة تسعة يخدمون الله ويسبحونه، فهكذا في كنيسة المسيح التي على الأرض طغمات الكنيسة المقدسة يخدمون الله ويمنحون نعمة الكهنوت، وهم منصوبين بأمر الله وينيلون المواهب للمؤمنين، والقديس باسيليوس يقول في قداسه اذكر يا رب الكهنة خدام المسيح وكل طغمات الكهنوت.
- الرأس التاسع: وقال أيضًا هؤلاء الأراطقة بأن ليس يجب أن يكون في الكنيسة أسقفًا. فاعلم أن درجة الأساقفة ضرورية ولازمة في البيعة الأرثوذكسية لأجل تدبير المسيحيين؛ لأن الأسقف تفسيره المشرف والراعي للرعية، والسيد المسيح يقول عن نفسه: أنا هو الراعي الصالح، وهو الذي قبل آلامه سام يعقوب الرسول ابن يوسف وجعله أول أسقف على أوروشليم، وهو الذي بعد قيامته المقدسة قال لبطرس: ارعَ خرافي! وبولص الرسول يقول: تيقظوا لأنفسكم وللرعية الذي أقامكم الله عليها أساقفة!
- الرأس العاشر: وقالوا هؤلاء الأراطقة بأن كنيسة المسيح قد أخطت وما أصابت بحيث إنها أفرضت ووضعت قوانين لا يجب حفظها. اعلم بأن بيعة المسيح الكاثوليكية لم تخطئ أصلًا، وهي منظورة دائمًا على الأرض وعادمة للضلالة، وهي أساس الحق وعمده ومعها المسيح إلى انقضاء العالم، وفيها البارقليط وثابت معها إلى الأبد. وهو الذي ألهم ونطق على ألسن الرسل الإلهيين والآباء القديسين بأنهم وضعوا فيها نواميس والقوانين والسنن والفرائض. ولم يخطوا بذلك لكنهم أصابوا، وكانت جميع أقوالهم بالشريعة والحقيقة والطريقة. والقديس باسيليوس الكبير يقول في قداسه نحو الرب: وأيضًا نطلب منك يا رب أن تذكر كنيستك المقدسة الجامعة من أقصى المسكونة إلى أقصاها التي اصطنعتها بدم مسيحك الكرم وسلِّمها وثبت هذا البيت المقدس إلى انقضاء الدهر.
- الرأس الحادي عشر: وقالوا هؤلاء بأن أسرار الكنيسة السبعة ليس هم حقيقة. فاعلم بأن الأنبياء والرسل تكلموا فيهم وذكروا عن سبعة أرواح الله، وبعضهم دعاهم مواهب وبعضهم نعم. وبالحقيقة إنهم سبعة مواهب؛ العماد والميرون والأسرار المقدسة والاعتراف والزيت المقدس للمرضى وإكليل الزواج والكهنوت.
- الرأس الثاني عشر: ثم إن هؤلاء الأراطقة لم يعتقدوا بتحقيق في الكتب المقدسة كلها. فاعلم بأن الكتب المقدسة هي الأساس إلى أمانتنا، وليعلم هؤلاء المخالفين أننا نقبل كافة الكتب المقدسة الإلهية التي ذكرها في مجامع البيعة الأرثوذكسية وفي سائر الكتب التي للآباء القديسين، ومنها الأبوكاليبسيس ورسالة يعقوب أخو الرب وطوبيا ويوديت وسفر حكمة سليمان وسفر الجامعة وباروخ النبي والمكابيين، فجميعهم نقبلهم ونقرؤهم في الكنيسة المقدسة الطاهرة الأرثوذكسية.
- الرأس الثالث عشر: ثم إن هؤلاء الأراطقة يشنعون عنا لأجل أننا متمسكون بتقليدات الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة المقدم ذكرها. اعلم أن هذه الرءوس المقدم ذكرها قد تسلمناها من الرسل الإلهيين والآباء القديسين، ولمعرفتنا بأنها اعتقادات صالحة محقة اعتقدنا فيها اعتقادًا كليًّا من صميم القلب وبصدق اللسان، وليخزوا القائلين كذبًا عن كنيستنا الطاهرة المقدسة أنها تمسكت باعتقادات رومية فلتخرس ألسنتهم. ونحن حين وكدنا الحق كتبناه بخط يدنا وختمناه بمدينة دمشق المحروسة، أنا الفقير ماكاريوس بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى في اليوم العشرون من شهر تشرين الأول سنة ١٦٧١ مسيحية، الموافق لسنين أبونا آدم سبعة آلاف ومائة وثمانين وللهجرة ألف واثنين وثمانين. ونحن بالله نستعين له المجد سرمدًا، المجد لله دائمًا ماكاريوس برحمة الله تعالى البطريرك الأنطاكي وسائر المشرق.
وهذا الاعتقاد المفسر بلسان سيدنا البطريرك فهو اعتقادنا نحن جماعة الروم وشهرتُ به أنا الحقير غريغوريوس باسم مطران بصرى وحوران، وأنا الحقير يواكيم مطران حمص أقر وأعترف بهذا الاعتقاد، وأنا الخوري يوحنا بن طاشات وأنا أيضًا الخوري يوسف بن صيدح وأنا الخوري عبد العزيز هلال وأنا الخوري مخاييل علم وأنا الخوري مخاييل نقاش، أقر وأعترف بهذا الاعتقاد. أقر وأعترف بهذا الاعتقاد بقلبي وفمي أنا الحقير في الكهنة الخوري يوحنا المكنى بابن الذيب وأنا الخوري جرجس أقر وأعترف بهذا الاعتقاد بقلبي وفمي ونيتي وأنا القسيس موسى وأنا القسيس يوسف.
- الرأس الثاني: من أجل الرهبنة وشروطها ونذورها وقالوا هؤلاء المخالفين بأن الشيطان قد أبدعها. فاعلم أن قبل مجيء سيدنا يسوع المسيح استساروا بهذه السيرة إيلياس النبي ويوحنا المعمدان، وحين حضر سيدنا يسوع المسيح فأراد أن يثبت هذه العادة الصالحة فقال: من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني.
- الرأس الثالث: وقالوا هؤلاء المخالفين بأن ليس لأحد من البطاركة ورؤساء الكهنة المعظمين سلطة بأن يمنح لأحد المسيحيين استغفارات لخطاياه وتكون نافعة للأحياء والأموات الذين فعلوا جنايات وعليهم قوانين. فاعلم بأن ربنا له المجد في أماكن كثيرة قال لرسله القديسين: كل ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، ومهما حللتموه على الأرض يكون محلولًا في السماء، وثم إنه بعد قيامته نفخ في وجه تلاميذه وقال لهم اقبلوا الروح القدس أن تركتم لقوم خطاياهم تترك لهم ومن أمسكتموها عليهم فلتمسك.
- الرأس الرابع: ثم قالوا هؤلاء المخالفين بأن الله وضع على الناس وصايا ثقيلة لا يقدرون على فعلها، وأنه لا يساعدهم بنعمته ومعونته الكافية. والجواب قال: تعالوا إليَّ أيها المتعبين والثقيلين الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نِيري فإنه صالح وحملي خفيف.
- الرأس الخامس: وقالوا هؤلاء المخالفين أن المسيح ليس مات عن جميع الناس، بل عن بعض منهم فقط؛ لأنه لم يريد خلاص الكل. فاعلم بأن هذا الكلام مخالف للشريعة المسيحية؛ لأن بولص الرسول يقول: لما كانوا جميع الناس خطأة مات المسيح عنهم ليخلصهم، وقال هو تعالى اسمه ما أتيت لأدعو الصادقين، بل الخطأة إلى التوبة.
- الرأس السادس: وقالوا هؤلاء المخالفين بأن زيارة الأماكن المقدسة باطلة. فكيف أمر الله موسى بأن يأمر بني إسرائيل بأن يزورا أوروشليم؟ وكيف كان رسل المسيح يطوفون المسكونة ويعودون إلى أوروشليم ويسجدون فيها؟ وأكثر القديسين المعظمين ذهبوا إلى هذه الأماكن المقدسة وسجدوا بها وحظوا بنعمة الروح القدس.
- الرأس السابع: وذكروا هؤلاء المخالفين بأن الزيجة مسامح بها للرهبان والأساقفة وليس عليهم بذلك خطية. فاعلم بأن كل هؤلاء الأساقفة والرهبان قبل أن يلبسوا الأسكيم الملائكي كانوا قد نذروا على نفوسهم باختيارهم من غير إكراه ولا اغتصاب بأنهم قد أوقفوا أجسادهم هياكلًا لله، ثم إن رسل المسيح والآباء القديسين جميعهم أمروا الأساقفة والرهبان بعدم الزيجة واستعمال العفة والطهارة.
- الرأس الثامن: ثم قال هؤلاء الأراطقة بأنه ليس يجوز للمسيحيين بأن يصلوا في كنائسهم بألفاظ غريبة لا يعرفها أهل البلاد، فاعلم بأن الرسل القديسين تكلموا في سائر اللغات وخلفوا لنا بأن نصلي بأفضلها، وأن الشعب تتقدس مسامعه بتلاوة هذه الألفاظ الطاهرة إذا سمعوها الملائكة يحضروا والشياطين يهربون من قوتها، ولأجل ذلك نستعمل اللسان اليوناني والسرياني في كنائسنا ومنازلنا.
ومهما شرحناه في هذه الدروس فهو من اعتقادنا القويم رأيه ووكدنا حقه بخط يدنا وختمناه في مدينة دمشق المحروسة في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الثاني سنة ١٦٧١ مسيحية، الموافق لسنين أبونا آدم سنة ٧١٨٠، المجد لله دائمًا ماكاريوس برحمة الله تعالى البطريرك الأنطاكي وسائر المشرق، هكذا آمنت أنا الحقير غريغوريوس مطران بصرى وحوران، وأقر أنا المطران يواكيم بهذه الأمانة.
أمولوغية دوسيثيوس أو رسالة البطاركة (١٦٧٢)
- القضية الأولى: نؤمن بإله واحد حق ضابط الكل لا حدَّ له آب وابن وروح قُدُس، آب غير مولود وابن مولود من الآب قبل كل الدهور ومساوٍ له في الجوهر، وروح قُدُس منبثق من الآب ومساوٍ للآب والابن في الجوهر. وهذه الأقانيم الثلاثة نسميها ثالوثًا أقدس في جوهر واحد تباركه البرايا بأسرها في كل حين وتمجده وتسجد له.
- القضية الثانية: نؤمن بأن الأسفار الإلهية موحًى بها من الله؛ ولذلك يجب علينا أن نثق بها غير مرتابين، ونصدقها دائمًا على حسب ما فسرتها وسلمتها لنا الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية. نعم إن أصحاب البدع الرجسة يقبلون هم أيضًا الأسفار الإلهية، ولكنهم يحرفون فيها الكلمات عن مواضعها بادعاء ترادف الكلمات والتأويل والسفسطة بمقتضى حكم العقل والحكمة البشرية، خالطين فيما لا خلط فيه ومتلاعبين فيما لا يباح التلاعب فيه. فلو صح ذلك وانفرد كل واحد بالرأي لما كانت كنيسة المسيح الجامعة حاصلة، مع تمادي الأيام إلى يومنا هذا، على وحدة الرأي من جهة الإيمان والثبات الدائم بدون تزعزع في اعتقاد واحد، ولما كانت الكنيسة عمودَ الحق وقاعدته ولا خالية من الدنس والعيب، بل كانت تنشق بالبدع إلى فرق شتى فتصبح مجتمع أشرار خبثاء، وهو ما صارت كنائس الهراطقة والحال ظاهرة بلا إشكال. وهؤلاء مع كونهم قد تعلَّموا من الكنيسة الجامعة فإنهم يرفضونها عن خبث ورداءة. أما نحن فإننا نعتقد أن شهادة الكنيسة الجامعة ليست أقل من شهادة الأسفار الإلهية؛ لأن مبدعها واحد هو الروح القدس. وإذا كان مصدر شهادة الكنيسة؛ أي التقليد الشريف وشهادة الأسفار الإلهية واحدًا فلا مشاحة في أن تعليمها أيضًا واحد. ثم إنه إذا تكلم إنسان أيًّا كان من عنده فمن الممكن أن يخطئ ويَضل ويُضل، أما الكنيسة الجامعة فإذ كانت لم تتكلم قط ولا تتكلم أبدًا من تلقاء نفسها، بل إنها تكلمت وتتكلم من الروح القدس «الذي يغني المعلِّم أيضًا إلى الدهر»، فلا يمكن أصلًا أن تخطئ أو تضل أو تُضل، بل هي متفقة مع الكتاب الإلهي، وهي ثقة على الدوام فيما تعلِّمه.
- القضية الثالثة: نؤمن بأن الله الفائق الصلاح منذ الأزل قد اختار البعض فعينهم للمجد ورفض آخرين
فسلمهم للدينونة، ولكنه لم يشأ تبرير الأولين ولا دينونة الآخرين على بسيط الحال
وبدون علة؛ فإن ذلك لا يليق بالله جلَّ شأنه أبي الكل الذي ليس عنده محاباة الوجوه،
إن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (تيموثاوس ٢: ٤)، بل نظر أن الأولين
يستعملون حريتهم حسنًا والآخرين رديئًا، فأنال أولئك ما عيَّنهم له وقضى على هؤلاء.
ونحن إنما نفهم باستعمال الحرية أن النعمة الإلهية المنيرة التي ندعوها إعدادية
الموهوبة بفرط الصلاح الإلهي نورًا للموجودين في الظلام الذين يريدون أن ينصاعوا لها؛
لأنها إنما تنفع من يريد لا من لا يريد، وأن يرتضوا بما توصي هي به مما هو ضروري
للخلاص، نقول إن هذه النعمة تمنحهم نعمة خصوصية تساعدهم وتقويهم وتجعلهم ثابتين في
محبة الله؛ أي فيما يريد الله أن يفعلوه من الخير مما فرضته النعمة الإعدادية،
وتكملهم وتبررهم وتجعلهم معينين للخير بسابق التحديد. أما الذين لا يريدون أن ينصاعوا
للنعمة ويرتضوا بها ومن ثَمَّ لا يعملون بما يريد الله أن يفعلوه، بل يستخدمون الحرية
التي نالوها من الله لاستعمالها طوعيًّا في فعل الخير ويستعملونها في الحركات
الشيطانية، فهؤلاء يدفع الله إلى الدينونة الأبدية.
أما ما يقوله الهراطقة من أن الله تعالى يسبق فيحدد البعض للخلاص والبعض للدينونة بقطع النظر عن أعمال كل منهم، فإننا نعتبره قولًا شنيعًا مردودًا دنسًا جدًّا، فلو كان ذلك صحيحًا لنا قضت الأسفار الإلهية بعضها بعضًا؛ لأنها هي تعلم أن المؤمن يخلص بالأعمال، وأن الله تعالى إنما هو السبب بمنحه النعمة المنيرة قبل الأعمال لكي توضح للإنسان حقيقة الإلهيات، وتعلِّمه أن ينصاع لها إن شاء، ويفعل الخير وما هو مرضي عند الله فينال الخلاص، فالطاعة لله أو عدم الطاعة له لا تقتضيان إرادة الإنسان أو عدم إرادته. أَوَليس هوسًا بل جنونًا الزعم بأن الإرادة الإلهية هي علة للأعمال تفعل عفوًا أو بدون داعٍ؟ أَوَلا يكون هذا الزعم وشاية بحق الله جلَّ شأنه، وتظلمًا وتجديفًا عليه تعالى، فإننا نعترف بأن الله بريء من الشر يريد خلاص الجميع على السواء، وأنه لعدله يسمح بدينونة للذين ضلوا بسوء إرادتهم وصلابة قلوبهم وعدم توبتهم خطاة دنسين، فلا نزعم البتة بكون الله القائل إنه يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب سببًا للعذاب الأبدي وينبوع قساوة وعدم تحنن ومقت للبشر، معاذ الله أن نؤمن بمثل ذلك أو يتبادر فهمنا إليه ما دمنا غير فاقدي الشعور، وإننا نوثق الذين يقولون مثل ذلك ويعتقدون به بالجرم الأبدي ونعترف بأنهم أقبح كل الكافرين.
- القضية الرابعة: نؤمن بأن الله المثلث الأقانيم الآب والابن والروح القدس هو خالق كل ما يُرى وكل
ما لا يُرى، ونعني بما لا يُرى القوات الملائكية وكل النفوس الناطقة والشياطين، على
أنه من المعلوم أن الله لم يخلقهم شياطين، بل هم من تلقاء إرادتهم أمسوا كذلك.
وبما يرى نعني السماء وكل ما تحتها، ولما كان الخالق — سبحانه وتعالى — كلي الصلاح بالطبع صنع كل ما صنعه حسنًا جدًّا، ولا يمكن أن يكون خالق الشر أصلًا، فإن رأينا في الإنسان أو الشيطان شرًّا ما؛ أي خطيئة حادثة على خلاف الإرادة الإلهية فيكون ذلك صادرًا إما عن نفس الإنسان أو نفس الشيطان، فإنه لا شر في الطبيعة مطلقًا، وهي قاعدة صادقة ثابتة أن الله ليس بخالق الشر، وبالتالي فلا يحق أن يحكم على الله بخلق الشر.
- القضية الخامسة: نؤمن بأن كل المخلوقات منظورة كانت أم غير منظورة تسوسها العناية الإلهية، فالشرور كيفما كانت يسبق الله فيعرف ويسمح بحدوثها، ولكنها لا تحدث عن عناية له؛ إذ ليس هو خالقها، ولكنه عَملًا بصلاحه الإلهي يحولها أحيانًا بعد حدوثها إلى شيء أفضل على قدر طاقة البشر؛ ولذا فإنه يفرض علينا والحالة هذه أن نحمل العناية الإلهية لا أن نبحث في أحكامها المكنونة وغير المعلنة لنا البتة، بل كل ما سلمتناه الأسفار الإلهية عن هذه العناية الإلهية يجب علينا أن نبحث فيه بطيب خاطر وسلامة ضمير؛ لأنه يجدي نفعًا للحياة الأبدية. وبالتالي فإنه يجب أن نقبل المعاني الأولية على الله — سبحانه وتعالى — بدون شك ولا ارتياب فيها.
- القضية السادسة: نؤمن بأن الإنسان الأوَّل المخلوق من الله في الفردوس سقط بغواية الحية وخالف وصية الله، فنتجت الخطيئة الجدية بالتسلسل، فلم يولد أحد بدون أن يكون حاملًا على عاتقه هذا العبء ويشعر بعواقب هذه الخطيئة في هذا الدهر. وبقولنا عبئًا وعواقب لا نعني الخطيئة كالكفر والتجديف والقتل والعداوة وما شاكل ذلك مما يضاد مشيئة الله لحدوثه لا حدوثًا طبيعيًّا، بل عن خبث إرادة، فإن كثيرين لم يكونوا قد ارتكبوا ما أشبه تلك الزلات كالأجداد والأنبياء وغيرهم وكثيرين لا يحصون عددًا ممن عاشوا في شريعة الظل شريعة الحق مثل يوحنا السابق الإلهي، ولا سيما مريم أم كلمة الله الدائمة، بل بقولنا عبئًا وعواقب نعني اقتراب الشر منا، وكل ما نال الإنسان بالمعصية من قِبل العدل الإلهي قصاصًا له كعرق التعب والضيقات والأمراض الجسدية وأمخاض الولادة والعيشة بالشقاء والأتعاب في دار الغربة هذه، وأخيرًا الموت الجسدي.
- القضية السابعة: نؤمن بأن ربنا يسوع المسيح ابن الله قد احتمل الإخلاء؛ أعني أنه قبل في أقنومه الخاص البُشرة؛ إذ حُبل به من الروح القدس في بطن الدائمة البتولية مريم، وتأنس وولد دون أن يسبب وجعًا أو مخاضًا بمن صارت أمه بالجسد أو أن ينزع بُتوليتها. وأنه تألم وقُبر وقام بمجد في اليوم الثالث على ما في الكتب وصعد إلى السماء وحُبس عن يمين الله الآب، ونحن ننتظر مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات.
- القضية الثامنة: نؤمن بأن ربنا يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد، وأنه بذل نفسه فداء عن الكل وأجرى بدمه الخاص المصالحة بين الله والناس، وأنه يعتني بخاصته فهو المعزي والكفارة عن خطايانا، ونعترف أيضًا بأن القديسين هم شفعاء في صلواتهم وتوسلاتهم إلى الرب، ولا سيما أُم كلمة الله الكلية الطهارة والملائكة القديسين الذي نعتبرهم شفعاء لنا والرسل والأنبياء والشهداء والأبرار، وكل الذين مجَّدهم الله جلَّ جلاله لكونهم خدَّامًا أمناء له، ونحصي في مصافهم رؤساء الكهنة والكهنة أيضًا لكونهم أشخاصًا دأبهم المثول أمام المذبح الإلهي، وكذلك الرجال الصديقون المختارون بفضائلهم؛ وذلك لأننا نتعلم من الأقوال الإلهية أن نصلي بعضنا من أجل بعض، وأن صلاة الصديق تُقتدر كثيرًا، وأن الله يستجيب للقديسين أكثر مما يستجيب للمنغمسين في الخطايا، ونعترف أيضًا بأن القديسين لا يكونون وسطاء وشفعاء وهم في دار الغربة هذه فقط، بل بعد الموت أيضًا وخاصة متى تخلصوا من المرآة فصاروا يشاهدون عيانًا الثالوث الأقدس الذي بنوره غير المحدود تنجلي لأذهانهم معرفة شئوننا. لأننا كما لا نرتاب بأن الأنبياء وهم بالأجساد يعلمون الأمور السماوية، وبه يوحون إلى الناس المستقبلات، كذلك لا نشك بأن الملائكة أيضًا ومن أصبحوا كالملائكة من القديسين يعلمون أمورنا بواسطة ذلك النور الإلهي الذي لا حدَّ له، بل بالأحرى نؤمن نحن بذلك ونعترف به من دون أدنى ارتياب.
- القضية التاسعة: نؤمن بأن لا أحد يخلص بدون إيمان، والإيمان في عرفنا هو الاعتقاد القويم بالله ولا بإلهيات، فهذا الإيمان عندما يفعل بالمحبة؛ أي بالوصايا الإلهية، يبررنا لدى المسيح، وبدونه لا يمكن أن نسترضي الله.
- القضية العاشرة: نؤمن بأن الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية الأرثوذكسية التي تَعلمنا أن نؤمن بها
تضم في أحضانها كل المؤمنين بالمسيح عمومًا؛ أي الموجودين في دار الغربة هذه ولم
ينتقلوا بعد إلى الوطن السماوي. فبعض الهراطقة يتوهمون أننا نخلط بين الكنيسة التي في
دار الغربة هذه والتي في الوطن؛ وذلك لأن أعضاءهما هم خراف لله رئيس الرعاة، وأنهم
يتقدسون بالروح القدس الواحد. ولكن زعمهم هذا لا محل له وهو غير ممكن، فالأُولى من
الكنيستين لا يزال تجاهد إلى الآن وهي في الطريق، والثانية قد حازت الظفر ونالت
الجائزة واستقرت في الوطن، ولما كان غير ممكن للإنسان المائت أن يكون رأسًا أبديًّا
لهذه الكنيسة الجامعة كان من الواضح أن رأسها هو ربنا يسوع المسيح نفسه القابض بيمينه
على إدارتها ومدبرها بالآباء القديسين، ومن ثم جعل الروح القدس لكل كنيسة على حدة من
الكنائس التي يحق أن تدعى كنائس، وهي مؤلفة من أعضاء حقيقيين مدبرين ورعاة هم رؤساء
على وجه الحقيقة لا المجاز ينظرون إلى رأس خلاصنا مكملة وإليه وحده يعزون إتمام الفعل
المختص بالرئيس. إن الهراطقة قد أضافوا إلى بِدَعهم الشنيعة اعتقادهم بأن الكاهن
ورئيس الكهنة هما واحد لا فرق بينهما، وأنه يمكن على ذلك أن يُستغنى بالأول عن
الثاني، وأن الكنيسة تُساس بواسطة بعض الكهنة فقط، وأن كاهنًا يمكنه أن يشرطن كاهنًا،
وأن عددًا من الكهنة يشرطنون رئيس كهنة.
وعن خبث يزعمون متشدقين بأن الكنيسة الشرقية تشاركهم بهذا الاعتقاد، أما نحن فاستنادًا إلى رأي الكنيسة الشرقية منذ القديم نعترف بأن رتبة رئيس الكهنة هي بهذا المقدار ضرورية للكنيسة، حتى إنه بدونه لا يمكن وجود كنيسة ولا وجود مسيحي أو تسميته بذلك، فإن رئيس الكهنة بصفته خليفة للرسل وبنواله على التسلسل من الرب بوضع الأيدي واستدعاء الروح القدس موهبة الحل والربط الممنوحة لهم، إنما هو صورة لله حية على الأرض وبمساهمته كمال فعل الروح القدس هو مصدر لجميع أسرار الكنيسة الجامعة التي بها ننال الخلاص، فأصبح وجوده في الكنيسة والحالة هذه ضروريًّا بمقدار ما التنفس ضروري للإنسان والشمس للعالم؛ ولذلك حق لقوم أن يقولوا في مديح رتبة رئيس أنه كما يعتبر الله في كنيسة الأبكار السماوية والشمس في العالم، كذلك يعتبر كل رئيس كهنة في كنيسته على حد سوى؛ لأن الرعية تتلألأ به وتزهر وتصير هيكلًا لله.
ومن الواضح أن سر الأسقفية العظيم ودرجتها يمنحان بالخلافة إلى يومنا هذا، فإن الرب بقوله إنه سيكون معنا إلى الأبد، مع كونه معنا على طرق لنعمته وإحساناته غير هذه متنوعة، إنما يقصد أنه يختصنا بذاته ويكون معنا بواسطة شرطونية الأسقفية، وأنه يتحد بنا بواسطة الأسرار المقدسة التي يتممها بواسطة الروح ويرأس حفلتها الأسقف الذي لا يدع أن نسقط في الهرطقة. ولذا قال يوحنا الدمشقي في رسالته الرابعة إلى أهالي أفريقية إن الأساقفة عمومًا قد ائتمنوا على الكنيسة بأسرها، وأن كليمنضوس أول أساقفة رومة وأفذويوس أسقف أنطاكية ومرقس أسقف الإسكندرية يعترف بكونهم خلفاء بطرس، والقديس أندراوس أقام استاخيس خليفة له في كرسي القسطنطينية، وفي أوروشليم المدينة العظمى المقدسة أقام السيد له المجد يعقوب خليفة وبعد يعقوب قام أسقف آخر ثم آخر وهكذا حتى يومنا هذا. وعلى ذلك دعا في رسالته إلى بابيانوس كل الأساقفة خلفاء للرسل، وأفسابيوس الملقب بمفيلس يشهد بخلافة الأساقفة للرسل وبكون منزلتهم وسلطانهم رسوليين، ويشهد بذلك الآباء القديسون أيضًا عمومًا الذين لا حاجة إلى تعدادهم، وتؤكدها العادة الجارية منذ القديم في الكنيسة الجامعة.
ومن الواضح أيضًا أن درجة الأسقف تمتاز عن درجة الكاهن البسيط، فإن الكاهن يُشرطَن من الأسقف، وأما هذا فلا يُشرطن من الكاهن، بل اتباعًا للقانون الرسولي يشرطن من رئيسي كهنة أو ثلاثة، والكاهن ينتخب من الأسقف، وأما رئيس الكهنة فلا ينتخب من الكهنة؛ أي القسوس، ولا من ذوي المناصب والرتب المدنية ولو امتازوا بالفضيلة، بل من مجمع الكنيسة الكبرى التي في الإقليم الواقعة فيه المدينة المراد إقامة أسقف لها أو على الأقل من مجمع الأبرشية التي يقام لها الأسقف، فإن حدث أحيانًا أن تنتخب مدينة ما أسقفًا فلا يتم ذلك بمجرد انتخابها؛ لأن الانتخاب يعرض إذ ذاك على المجمع، فإذا رأى الانتخاب قانونيًّا يشرطن المنتخب بوضع أيدي الأساقفة واستدعاء الروح القدس عليه، وإلا فينتخب المجمع من يشاء فيُشرطَن ويرقَّى إلى درجة الأسقفية، ثم إن الكاهن يحفظ في نفسه فقط سلطان الكهنوت ونعمته التي حصل عليها، وأما رئيس الكهنة فيهبها لغيره أيضًا، ومن نال من رئيس الكهنة رتبة الكهنوت فيحق له أن يتمم سر المعمودية المقدسة وصلاة الزيت المقدس والذبيحة غير الدموية، ومناولة الشعب جسد ربنا يسوع المسيح ودمه الأقدسين، ومسح المعمدين بالميرون المقدس وتكليل الذين يتزوجون زواجًا شرعيًّا من الحسني العبادة والصلاة من أجل المرضى، ومن أجل خلاص كل الناس وإقبالهم إلى معرفته، وخاصة من أجل ترك وغفران خطايا الحسني العبادة من أحياء وأموات. وإن امتاز بالخبرة والفضيلة فبعد أن يأخذ السلطان عن الأسقف يسوغ له أن يصلح من يقصده من المؤمنين ويقودهم إلى سبيل الفوز بالملكوت السماوي، ويقام واعظًا في البيعة المقدسة. أما رئيس الكهنة فعلاوةً على تتميمه كل ما يتممه الكاهن؛ لأنه مصدر للأسرار الإلهية ومواهب للروح القدس كما تقدم القول، يحق له وحده أن يصنع الميرون المقدس، وله وحده يحق أن يشرطن ويمنح الرتب والدرجات الكنسية، وله وحده يحق على وجه خاص ومن باب أولى أن يربط ويحل، وحكمه حسن القبول عند الله حسب قول الرب وتعليم الإنجيل المقدس، وهو يناضل عن الإيمان المستقيم ويطرد المخالفين من حظيرة الكنيسة كوثنيين وعشَّارين ويرشق الهراطقة بالحرم والأناثيما ويبذل نفسه عن الخراف. ومما تقدم يتضح لنا جليًّا الفرق بين الكاهن البسيط ورئيس الكهنة، وعدم مقدرة كل كهنة العالم على رعاية كنيسة الله وتدبيرها بدون رئيس كهنة.
وقد أحسن أحد الآباء بقوله إنه ليس بأمر هين أن نجد هرطوقيًّا حكيمًا عاقلًا، فإن الهراطقة بتركهم الكنيسة تركهم الروح القدس فلم يبقَ عندهم حكمة ولا نور، بل ظلام وصلابة قلب, ولولا ذلك لما اعترضوا على أوضح الأمور التي منها سر الأسقفية العظيم حقًّا, وقد علمتنا عنه وأثبتته وأكدته لنا الأسفار الإلهية وكل التواريخ الكنسية والآباء القديسون في مؤلفاتهم، ولا تزال الكنيسة الجامعة تتعاطاه وتعترف به.
- القضية الحادية عشرة: نؤمن بأن أعضاء الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية إنما هم المؤمنون كلهم، الذين يعتقدون اعتقادًا لا يُخامره ريب بإيمان مخلصنا يسوع المسيح الذي لا عيب فيه. وهذا الإيمان قد أعلنه المسيح نفسه والرسل الأطهار والمجامع المسكونية المقدسة، ولئن كان بعضهم قد سقط تحت طائلة خطايا متنوعة؛ لأن مثل هؤلاء لو لم يكونوا أعضاء للكنيسة لما كانت الكنيسة تحكم عليهم. والآن فإذا كانت الكنيسة تحكم عليهم وتدعوهم إلى التوبة والندامة، وتقودهم إلى اتباع الوصايا الخلاصية، فإنهم لعدم قنوطهم وقطع رجائهم ولمثابرتهم على الاعتصام بإيمان الكنيسة الجامعة القويم مع كونهم مدنسين بالخطايا لا يزالون أعضاء للكنيسة الجامعة وهكذا تعرفهم هي.
- القضية الثانية عشرة: نؤمن بأن الكنيسة الجامعة إنما تتعلم من الروح القدس، فإنه هو المعزي الحقيقي الذي يرسله المسيح من عند الآب ليعلم الحق ويطرد الظلام عن أذهان المؤمنين، وتعليمه يزين الكنيسة بواسطة آباء الكنيسة الجامعة القديسين ورؤسائها، فإنه كما أن الأسفار الإلهية بأسرها هي كلام الروح القدس، وهكذا تدعى لا لأن الروح القدس نطق بها رأسًا، بل بواسطة الرسل والأنبياء، كذلك الكنيسة تتعلم من الروح القدس المحيي، وذلك بواسطة الآباء القديسين ومعلمي الكنيسة الذين من المقرر أن دستورهم هو المجامع المسكونية المقدسة، ولا أزال أكرر ذلك مرارًا كثيرة. ولذلك قد اقتنعنا بأن الكنيسة الجامعة لا يمكن أن تخطئ أو تضل أو تؤثر حينًا ما الكذب على الصدق، بل نقر معترفين بصدق أقوالها وصحتها لا محالة، فإن الروح القدس الذي يفصل دائمًا بواسطة الآباء القديسين والرؤساء الخادمين بأمانة يقي الكنيسة من كل ضلال.
- القضية الثالثة عشرة: نؤمن بأن الإنسان لا يبرر بمجرد الإيمان، بل بالإيمان المقرون بالمحبة؛ أي بالإيمان والأعمال. وأما الزعم بأن الإيمان الخالي من الأعمال يتم به تبريرنا بالمسيح فنبلغ الخلاص، فمثل هذا الأمر نعتبره بعيدًا عن كل صحة في الاعتقاد وحسن العبادة، فلو كان الإيمان على هذه الصفة لكان شائعًا لكل الناس وكان الكل يخلصون، وهذا كذب محض. فنحن نؤمن بأننا لا بالإيمان وحده نبرر بالمسيح، بل بالإيمان المقرون بالأعمال. وهذه الأعمال ليست بشهود تثبت ميلنا، بل هي أثمار قائمة بذاتها وبها الإيمان يأخذ صورة عمله ظاهرة، لينال كل واحد من المؤمنين حسب الوعد الإلهي ما يقتضيه عمله، وهو في الجسد خيرًا كان أم شرًّا.
- القضية الرابعة عشرة: نؤمن أن الإنسان قد تهور بعصيانه فماثل البهائم وأشبهها؛ أي إنه شوه صورته وسقط من رتبة الكمال وعدم التألم، ولكنه لم يجرد عن الطبيعة والفاعلية اللتين نالهما من الله الكلي الصلاح؛ لأنه لو تجرد منهما لم يكن بعد ناطقًا، بل لم يكن إنسانًا. ولذا نؤمن بأنه حائز على تلك التي بها خُلق وعلى فاعليتها، وهي الحرية حية فعالة إلى درجة أنه يقدر بطبيعته أن يختار الخير ويكره الشر ويهرب منه. فلا يليق بنا والحالة هذه أن نزعم أن الطبيعة الصالحة المخلوقة من الله الكلي الصلاح هي عادمة الفاعلية الصالحة؛ لأننا بزعمنا هذا نعتقد بأن الطبيعة رديئة، فإن فاعلية طبيعة الإنسان تكون على ذلك معلقة، وأما طبيعة الخالق فلا، ولئن اختلفت الطريقة. أما كون الإنسان يستطيع أن يعمل الخير من تلقاء طبيعته الذاتية فإن السيد له المجد أشار إلى ذلك بقوله: إن الوثنيين أيضًا يحبون الذين يحبونهم، وبولس الرسول علَّم بذلك في رسالته إلى رومة (١: ١٩) وفي مواضع أخرى حيث قال: إن الأمم الذين ليس لهم ناموس يعملون بالطبيعة بما في الناموس، فيتضح من ذلك أن الخير الذي يعمله الإنسان لا يمكن أن يكون خطيئة؛ لأن الخير لا يمكن أن يكون شرًّا. على أن الخير عندما يجري بمجرد الطبيعة ويغدو بتعاطيه جسديًّا لا روحيًّا لا يفيده شيئًا، وهو مجرد بدون إيمان لأجل الخلاص، ولا يفضي بالإنسان إلى الدينونة؛ لأن الخير إن كان خيرًا فحاشا أن يكون مصدرًا للشر. وهذا الخير عند الذين أعيدت ولادتهم بالنعمة يجعل من يفعله بالنعمة كاملًا أهلًا للخلاص. فالإنسان إذن يستطيع قبل إعادة ولادته أن يميل بطبيعته إلى الخير، وأن يختار ويفعل الخير الأدبي، ولكنه بعد إعادة ولادته فلِكي يعمل الخير الروحي، وإنما نسمي أعمالًا روحية أعمال المؤمن المسببة الخلاص المفعولة بنعمة خارقة الطبيعة، يلزمه أن تسبق وتدركه النعمة كما قلنا آنفًا في كلامنا عن سابق التحديد بحيث لا يستطيع الإنسان من تلقاء نفسه أن يعمل عملًا يكون به أهلًا للحياة المسيحية، ولكنه يستطيع على إرادة الرضوخ للنعمة أو عدم إرادة ذلك.
- القضية الخامسة عشرة: نؤمن بأن الأسرار الإنجيلية في الكنيسة إنما هي سبعة، وأن عددها في الكنيسة لا
ينقص عن ذلك ولا يزيد، وما خالف هذا العدد في الأسرار هو بدعة هوس شنيعة. وهذه
الأسرار السبعة قد اشترعها نفسه كسائر عقائد إيمان الكنيسة، فإن المعمودية المقدسة قد
فرضها الرب بقوله: اذهبوا وتلمِذوا كل الأمم معمِّدين إياهم باسم الآب والابن والروح
القدس (متَّى ٢٨: ١٩). وبقوله: من آمن واعتمد يخلص ومن لم يؤمن يُدان (مرقس
١٦: ١٦).
وسر الكهنوت سلمه بقوله: اصنعوا هذا لذكري (لوقا ٢٢: ١٩)، وقوله: كل ما تربطونه أو تحلونه على الأرض يكون مربوطًا أو محلولًا في السماء. (متى ١٨: ١٨).
وسر الذبيحة الأفخارستية الغير الدموية فقد سلمنا إياه بقوله: خذوا كلوا هذا هو جسدي، واشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد (متى٢٦: ٢٦–٢٨)، وبقوله: إن لم تأكلوا جسد ابن البشر وتشربوا دمه فلا حياة لكم في أنفسكم (يوحنا ٦: ٥٣).
وسر الزواج سلمه بذكره ما قيل عنه في العهد القديم بقوله تثبيتًا لذلك: ما جمعه الله فلا يفرقه إنسان (متى ١٩: ٦). وبولس الرسول يدعوه سرًّا عظيمً (أفسس ٣٢: ٥).
وسر التوبة الذي حليفه سر الاعتراف سلمه لنا بقوله: من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت (يوحنا ٢٠: ٢٣)، وقوله: إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون (لوقا ١٣: ٣).
وسر الزيجة المقدس المعروف باليونانية بأفشيليون قد ورد ذكره في مرقس البشير (٦: ١٣)، وأثبته يعقوب أخو الرب في رسالته جليًّا (٥: ١٤ و١٥).
أما الأسرار فهي مؤلفة من شيئين طبيعي وخارق الطبيعة، وليست هي علامات بسيطة لمواعيد الله، بل نعترف بأنها أثر للنعمة نافذة بالضرورة ومؤثرة فيمن يتلقن معرفة الأسرار. ونرفض الزعم بأن كمال السر يقتضي تناول المادة الطبيعية، ونعتبر ذلك غريبًا عن التعليم المسيحي؛ لأنه مناقض لسر الأفخارستية الذي سن بما قاله المخلص نفسه وتقدس باستدعاء الروح القدس، فكملت به استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وهذا الكمال يتقدم على التناول؛ لأنه لو لم تكن الاستحالة كاملة قبل التناول لما كان من أساء في التناول يأكل ويشرب دينونة لنفسه متناولًا خبزًا وخمرًا بسيطين، فبتناوله إياهما بدون استحقاق إنما يأكل ويشرب دينونة لنفسه، فالسر إذن يكمل لا حين التناول بل قبله. وكذلك نرفض الزعم بأن السر يخسر كماله بتناوله بقلة إيمان وننبذ ذلك نبذ قذارة ورجاسة؛ فإن الهراطقة الذين بعد رفضهم بدعهم وانضمامهم إلى الكنيسة الجامعة تقبلهم الكنيسة مع عدم كمال إيمانهم تعتبر معموديتهم كاملة، بحيث لا تعيد معموديتهم متى كمل إيمانهم.
- القضية السادسة عشرة: نؤمن بأن المعمودية المقدسة المأمور بها من الله التي تتم باسم الثالوث الأقدس هي
من أعظم الضروريات، فإنه ليس أحد يستطيع أن يخلص بدونها حسب قول الرب: «إن لم يولد
أحد من الماء والروح فلا يقدر أن يدخل ملكوت السماوات» (يوحنا ٣: ٥). وهي على ذلك
ضرورية للأطفال أيضًا؛ لأنهم هم أيضًا تحت طائلة الخطية الجدية وبدون المعمودية لا
يمكنهم أن ينالوا المغفرة عنها. والرب تأكيدًا لذلك لم يستعمل التقييد في كلامه في
ذلك، بل الإطلاق والتعميم قائلًا: من لم يولد، أعني كل الذين يدخلون بعد مجيء مخلصنا
المسيح إلى ملكوت السماوات، يجب أن يولدوا ثانية. فإن كان الأطفال بشرًا وكانوا
محتاجين إلى الخلاص فإنهم محتاجون إلى المعمودية أيضًا، ومن لا يتعمد منهم فهو لعدم
نواله المغفرة عن الخطيئة الجدية لا يزال تحت قصاص الخطيئة الأبدي اللازم عنها؛ وعلى
التالي لا خلاص له بدون المعمودية. ومن ثم كان من باب الضرورة أن يعمدوا. وقد ورد عن
خلاص الأطفال قول متَّى البشير: «ومن لا يعتمد لا يخلص.» فمن الضروري على ذلك تعميد
الأطفال. وقد ورد أيضًا في أعمال الرسل (١٦: ٣٣) قوله: إن البيوت برمتها كانت تعتمد؛
أي بأطفالها. وقد شهد بذلك الآباء القديسون شهادة صريحة، منهم ديونيسوس في مؤلفه
المعنون «في الرئاسة الكهنوتية» ويوستينوس في المطلب السادس والخمسين حيث يقول صريحًا
عن الأطفال إنهم يستحقون ما يترتب على سر المعمودية من الخيرات بإيمان مقدميهم إلى
المعمودية، وأفغوستينوس يقول: «إن من التقليدات الرسولية أن يخلص الأولاد
بالمعمودية.» وفي موضع آخر يقول: «إن الكنيسة تجعل للأطفال أرجل الغير لكي يأتوا
إليها، وقلوب الغير لكي يؤمنوا، وألسنة الغير لكي يعدوا.» ويقول أيضًا: «إن الأم
الكنيسة تمنح أولئك قلوب أمهات.»
وسر المعمودية إنما يجري بالمواد بالماء الصافي لا بسائل آخر، ويتم على يد كاهن. وعند الضرورة القصوى يجوز أن يتم على يد إنسان غيره علماني شرط أن يكون أرثوذكسيًّا قاصدًا الغاية الملائمة لجوهر المعمودية المقدسة.
أما فوائد المعمودية فهي بالإجمال هذه؛ أولًا: مغفرة الخطيئة الجدية وكل ما يكون قد ارتكبه المعتمد من الخطايا. ثانيًا: النجاة من العقاب الأبدي الذي يكون مقتضيًا به عليه إما بسبب الخطيئة الجدية أو الخطايا المميتة التي يكون قد ارتكبها. ثالثًا: منح غبطة الخلود؛ لأن المعمودية تبرر الإنسان من الخطايا السالفة وتجعله هيكلًا لله فلا يُسمح لنا والحالة هذه بأن نقول إن الخطايا التي يكون الإنسان قد ارتكبها قبل المعمودية لا تحل كلها، بل تلبث ولكنها لا تقوى، فإن هذا الزعم مفعم من معظم الكفر وهو منافٍ لحسن العبادة على خط مستقيم. بل نقول إن كلَّ خطيئة سبقت المعمودية أو ارتكبها الإنسان قبلها تضمحل بها وتعتبر كأنها لم تكن أو لم تحدث؛ لأن الرمزين الدالين على سر المعمودية وكل العبارات المقبولة التي تدل على كل منهما تجعل السر كاملًا وتشير إلى كمال التطهير.
ثم إن أسماء المعمودية أيضًا تُظهر وتوضح ذلك، فإن كانت معمودية بالروح والنار فمن الواضح أن التطهير للجميع يكون كاملًا؛ لأن الروح يطهر تطهيرًا كاملًا، وإن كان نور فالظلام ينحل وإن كان إعادة ولادة فالقديم يزول، وليس هذا القديم إلا الخطايا. وإن كان المعتمد ينزع الإنسان العتيق فيكون بذلك قد خلع الخطيئة أيضًا. وإن كان يلبس المسيح فيكون قد أصبح بالفعل بواسطة المعمودية بلا خطيئة؛ لأن الله بعيد عن الخطاة، وبولس الرسول يعلِّم بأجلى بيان قائلًا: لأنه كما أنه بمعصية إنسان واحد جُعل الكثيرون خطاة؛ كذلك بطاعة واحد يُجعل الكثيرون أبرارًا. فإن كنا أبرارًا فنحن معتقون من الخطيئة؛ لأنه من المستحيل اجتماع الحياة والموت، وإن كان المسيح قد مات حقًّا فالمغفرة بالروح هي أيضًا حقيقية. فمن ثم يتضح أن كل الأطفال الراقدين بعد تعميدهم يخلصون لا محالة؛ لأنهم قد أعدُّوا لذلك من ذي قبل بموت المسيح، فإن عري الأطفال من كل خطيئة من الخطيئة العمومية تخلصهم بواسطة الحميم الإلهي من الخطايا الخاصة لتعذر ارتكابهم شيئًا منها، وهم لا إرادة لهم فعلًا، فلا ريب بأنهم يخلصون. ثم إن للمعمودية تأثيرًا لا يُمحى، فإن من اعتمد مرة معمودية صحيحة لا يمكن أن تعاد معموديته ثانية ولو ارتكب خطايا لا يُحصى عددها، بل لو اتصل إلى جحود الإيمان نفسه، فإنه إن أراد إذ ذاك الرجوع إلى الرب لنال بواسطة الندامة التبني الذي يكون قد أضاعه.
- القضية السابعة عشرة: نؤمن بأن سر الأفخارستية الكلي قدسه الذي جعلناه فيما تقدم رابعًا في تعداد
الأسرار هو ذاك السر بعينه سلمه الرب في الليلة التي فيها أسلم نفسه فداء عن حياة
العالم، فإنه أخذ حينئذٍ الخبز وبارك وأعطى تلاميذه الرسل القديسين قائلًا: «خذوا
كلوا هذا هو جسدي»، وأخذ الكأس وشكر وقال: «اشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي
يهرق عنكم لمغفرة الخطايا» (متى ٢٦: ٢٦-٢٧). ونؤمن أنه في تكميل هذا السر يحضر ربنا
يسوع المسيح لا على وجه رمزي أو على سبيل التشخيص أو بفرط نعمة كما يحضر في باقي
الأسرار، وأنه لا يحضر حضورًا مجردًا كما قال بعض الآباء عن حضوره في سر المعمودية،
ولا على سبيل الامتزاج بحيث يتحد لاهوت الكلمة بخبز الأفخارستية أقنوميًّا كما يعتقد
أتباع لوثيروس عن جهل وغرور، بل حضورًا حقيقيًّا فعليًّا، حتى إنه بعد تقديس الخبز
والخمر ينقلب ويستحيل ويغدو. أما الخبز فنفس جسد الرب المولود في بيت لحم من الدائمة
بُتُوليتها مريم والمعتمد في الأردن والمتألم والمدفون والناهض من بين الأموات
والصاعد إلى السماء والجالس عن يمين الآب، والمزمع أن يأتي على سحب السماء. وأما
الخمر فيستحيل ويغدو نفس دم الرب الحقيقي الذي أُريق عن حياة العالم على عود
الصليب.
ونؤمن أيضًا أنه بعد تقديس الخبز والخمر لا يبقى جوهرهما المادي، بل يغدوان نفس جسد الرب ودمه تحت هيئة الخبز والخمر.
ونؤمن أيضًا بأن جسد الرب ودمه الطاهرين يناولان ويدخلان في أفواه ومعد المشتركين فيهما سواء حسنت عبادتهم أم ساءَت، غير أنهما يَمنحان مَن يتناولهما عن حسن عبادة واستحقاق مغفرة الخطايا والحياة الأبدية، ومن يتناولهما عن سوء عبادة وغير استحقاق فدينونة وعذابًا أبديًّا.
ونؤمن أيضًا بأن جسد الرب ودمه يجزآن ويفصلان، ولكن ذلك يجري عليهما على سبيل العرض العارض للخبز والخمر اللذين نظن بأنهما منظوران وملموسان، غير أنهما يلبثان بنفسهما غير منقطعين ولا مقسمين البتة؛ ولذلك تقول الكنيسة الجامعة: «يفصل ويجزأ حمل الله الذي يفصل ولا ينقسم الذي يؤكل دائمًا ولا يفرغ أبدًا، ولكنه يقدس المشتركين باستحقاق.»
ونؤمن أيضًا بأن كل جزء وقطعة من الخبز والخمر المستحيلين مهما كان صغيرًا ليس هو بجزء من جسد الرب ودمه، بل هو كل السيد المسيح بجملته هو بنفسه ولاهوته إلهًا تامًّا وإنسانًا تامًّا. ومن ثم فبإقامته قداديس عديدة في ساعة واحدة في المسكونة كلها لا يكون أجساد متعددة للمسيح، بل يحضر المسيح نفسه الواحد حضورًا حقيقيًّا فعليًّا، ويكون كِلا جسده ودمه واحدًا في كل كنائس المؤمنين المتفرقة الأماكن. ولا نقصد بكلامنا هذا أن جسد السيد الموجود في السماوات ينزل ويحل على المذابح، بل إن خبز التقدمة المقدم في كل الكنائس المتفرقة الأماكن يستحيل ويتبدل بعد التقديس فيصير نفس جسده الذي في السماوات؛ لأن جسد الرب في كل الأماكن المتعددة هو واحد لا متعدد؛ ولذلك كان هذا السر عجيبًا، ويدعى عجيبًا، وإنما يدرك بالإيمان لا بسفسطات الحكمة البشرية التي ديانتنا الحسنة العبادة والمسلمة من الله ترفض ميلها الباطل الناشئ عن جهل وغباوة إلى استطلاع الأمور الإلهية والتنقيب عنها بنور العقل البشري.
ونؤمن أيضًا بوجوب تكريم جسد الرب ودمه الذين في سر الأفخارستية مزيد الإكرام، وأن نسجد لهما سجود عبادة، فإن السجود للرب ولجسد ودم الرب واحد. ونؤمن بأنه ذبيحة حقيقية تكفيرية تقرَّب عن كل المسيحيين الحسني العبادة الأحياء والأموات، ومن أجل منفعة الجميع كما ورد في صلوات هذا السر المسلَّمة من الرسل إلى الكنيسة عن أمر الرب الصادر لهم.
ونؤمن أيضًا بأن الخبز المقدس المحفوظ في مستودعات الهياكل لمناولة المشرفين على الموت بعد تقديسه وقبل تناوله هو أيضًا نفس جسد الرب الحقيقي، لا يفرق عنه أصلًا بحيث يغدو بعد التقديس وقبل مناولته وحال تناوله وبعد تناوله نفس جسد الرب الحقيقي بكل الوجوه.
وبحسب اعتقادنا لا نعني بكلمة استحالة الكيفية التي بها ينقلب الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه؛ فإن ذلك يتعذر إدراكه أصلًا على الجميع ما عدا الله تعالى وينسب إلى المعتقدين به الجهل والكفر. بل إنما نعني بها أن الخبز والخمر بعد تقديسهما يتحولان إلى جسد الرب ودمه لا على وجه الرسم ولا على سبيل التشخيص، ولا بفرط النعمة ولا بشركة لاهوت الله الوحيد أو حضوره فقط، ولا بطريق العرض؛ أي عرض الخبز والخمر يغدوا عرضًا لجسد المسيح ودمه على سبيل التحويل أو التبديل، بل يغدو حقيقة وفعلًا وجوهريًّا، أما الخبز فنفس جسد الرب، وأما الخمر فنفس دمه كما تقدم.
ونؤمن أيضًا بأن سرَّ الأفخارستية المقدس إنما يتم على يد كاهن حسن العبادة مُشرطنًا قد مُنح درجة الكهنوت من أسقف قانوني حسن العبادة على مقتضى تعليم الكنيسة الرسولية، فهذا رأي الكنيسة الجامعة واعترافها الصادق وتقليدها القديم جدًّا في هذا السر أيضًا على وجه الإيجاز. ولا يجب أن يشوَّه مطلقًا على أي وجه كان من قِبل حسني العبادة عن رغبة في الأحداث وميل إلى بدع الهراطقة الرجسة وانتحالها، بل يجب أن يحفظ التقليد المفروض المسلَّم سالمًا ثابتًا غير متزعزع؛ لأن الكنيسة الجامعة ترفض وتحرم كل من يُخالفه.
- القضية الثامنة عشرة: نؤمن بأن نفوس الراقدين هي إما في الراحة أو في العذاب بمقتضى عمل كل منهم، فإنها
بعد انفصالها عن الأجساد تنتقل في الحال إما للفرح والسرور وإما للحزن وتنفس الزفرات.
ومن المقرر أن لا الفوز يكون إذ ذاك كاملًا ولا الدينونة، فإن كل واحد ينال ما يستحقه
بفعله من الجزاء كاملًا بعد القيامة العامة حين تتحد النفس بالجسد الذي سلكت وهي فيه
سلوكها الحسن أو الردي.
أما الذين فسدوا بخطايا مميتة ولم يرقدوا على اليأس، بل نادمين في حال حياتهم وهم في الأجساد بعد، ولكنهم لم يلحقوا أن يأتوا بشيء من ثمار التوبة كذرف العبرات والسهر في الصلوات والحزن وتعزية الفقراء، وأخيرًا إظهار المحبة لله وللقريب بالفعل، فنؤمن أن نفوس هؤلاء أيضًا تذهب إلى الجحيم حيث تكابد القصاص عما ارتكبته من الخطايا، ولكنها تشعر بمستقبل النجاة منه. ونؤمن أيضًا بأن هذه النفوس تخلص بفرط الصلاح الإلهي بواسطة صلوات الكهنة والصدقات التي يعملها أقارب المتوفى من أجله، ولا سيما الذبيحة الغير الدموية التي تقدمها الكنيسة الجامعة الرسولية خصوصًا عنه وذلك بطلب أقاربه وعمومًا عن الجميع كل يوم. ومن المعلوم أن زمن النجاة غير معلوم عندنا، ولكننا نعلم ونؤمن أن عتق مثل هذه النفوس من عذاباتها يكون قبل القيامة والدينونة العامة جاهلين تعيين وقته.
هل يباح لكل من المسيحيين عمومًا أن يقرأ الكتاب المقدس؟
كلا؛ لأننا نعرف أن الكتاب المقدس بجملته موحًى به من الله ومفيد، وهو بهذا المقدار ضروري بحد نفسه حتى إنه بدونه لا يستطيع الإنسان أن يحسن عبادته على وجه ما، ولكننا لا نرى أن الجميع يمكنهم قراءته بسهولة قراءة تفيدهم، بل الذين بالبحث اللائق يتعمقون في معاني الروح ويعرفون كيف يبحث في الكتاب المقدس، وكيف يقرأ بوجه الإجمال؛ ومن ثم كان من المسموح لكل إنسان حسن العبادة أن يسمع تعليم الكتاب المقدس لكي يؤمن بالقلب للبر ويعترف بالفم للخلاص، ولكنه يحظر عليه أن يقرأ بعض مواضع من الكتاب المقدس، لا سيما العهد العتيق للأسباب السابق ذكرها وما أشبهها. وتوصية عديمي الخبرة بعدم قراءة كل الكتاب المقدس هي موازية تمامًا لتوصية الأطفال بعدم اتخاذ قوت قوي.
هل الكتاب المقدس واضح المعنى لكل من يقرؤه من المسيحيين؟
لو كان الكتاب المقدس واضح المعنى لكل من يقرؤه من المسيحيين لما كان الرب له المجد سمح بالبحث عنه للراغبين في نوال الخلاص، ولكان باطلًا قول بولس الرسول: إن موهبة التعليم قد جعلت في الكنيسة، ولما قال بطرس الرسول عن رسائل بولس الرسول: إن فيها ما يعسر فهمه، فيتضح جليًّا أن من المعاني ما هو عويص وسام جدًّا، وأن البحث فيه يختص برجال متألهي الألباب وذوي علم قانون لإدراكه على وجه الحقيقة ولمعرفته معرفة صحيحة وفهمه فهمًا مطابقًا لكل فحاويه ولمقصد مبدعه الروح القدس. وبناء على ذلك فإن الذين قد أعيدت ولادتهم وإن كانوا معتصمين بالإيمان بالثالوث الأقدس وعاملين ومعترفين بتجسد ابن الله وآلامه، وقيامته وصعوده إلى السماء وما قيل عن تجديد الكون والدينونة مما لم يحجم كثيرون منهم عن احتمال الموت لأجلها لا يلزمهم، بل يتعذر عليهم أن يعرفوا تلك الأمور أيضًا التي إنما كشفها الروح القدس للذين تمرنوا بالحكمة وتروضوا بالقداسة.
كيف يجب أن نعتقد بالأيقونات المقدسة وبالسجود للقديسين؟
لما كان القديسون كما قلنا في القضية الثامنة شفعاء — وهكذا تعتبرهم الكنيسة الجامعة — صح لنا أن نقول: إننا نكرمهم كأصفياء لله مبتهلين من أجلنا إلى إله الكل، ونحن نكرمهم على نوعين؛ الواحد: ندعوه فرط العبودية وهو تكريم أم كلمة الله، فإن والدة الإله وإن تكن أَمة للإله الواحد فهي أمه لولادتها أحد أقانيم الثالوث بالجسد، وعلى ذلك تسبح كفائقة على كل الملائكة والقديسين بغير قياس، ومن ثم نقدم لها سجود فرط عبودية. والثاني: إكرام مجرد عبودية نقدمه ساجدين للملائكة والرسل والأنبياء والشهداء وكل القديسين عمومًا.
وكذلك نسجد لعود الصليب المحيي الكريم الذي تألم عليه مخلصنا لخلاص العالم، وكذلك لرسم الصليب المحيي، ولمذود بيت لحم الذي به خلصنا من البهيمية، ولموضع الجلجلة والقبر المقدس المانح الحياة ولسائر المزارات المقدسة والأناجيل الشريفة والأواني المقدسة التي بها تتم الذبيحة غير الدموية. ونكرم أيضًا القديسين مبجلين إياهم بتذكارات سنوية وأعياد حافلة عامة وبناء هياكل شريفة وتقديم نذور إلهية. ونسجد أيضًا ونكرِّم ونقبِّل أيقونة ربنا يسوع المسيح ووالدة الإله الفائقة القداسة وكل القديسين، بل أيقونات الملائكة القديسين أيضًا مصورين إياهم على هيئة ظهورهم لبعض الأجداد والأنبياء، ونصور كذلك الروح القدس على هيئة حمامة كما ظهر.
فإن قال البعض عنا إننا نعبد أوثانًا بسجودنا للقديسين وصورهم وباقي ما ذُكر آنفًا، فإننا نعتبر قولهم إفكًا وبهتانًا؛ لأننا إنما نعبد الله المثلث الأقانيم لا سواه. أما القديسون فإننا نكرمهم لسببين؛ الأول: نسبتهم إلى الله؛ لأننا من أجله نكرمهم. والثاني: نسبتهم إلى أنفسهم؛ لأنهم صور لله حية، وتكريمنا لهم بالنسبة لأنفسهم يُدعى تكريم عبودية كما تقدم. أما تكريمنا الأيقونات المقدسة فهو تكريم إضافي يتجه إلى الأصل الذي تمثله الأيقونة، فإن من يسجد للأيقونة إنما يسجد للأصل الذي تمثله، وشرف الأيقونة ومن تمثله واحد لا يتميز وذلك كما يكون شرف السفير الملوكي ومن يرسمه.
أما ما يتمسك به مثل هؤلاء من آيات الكتاب المقدس لإثبات رأيهم بأن اتخاذ الأيقونات وتكريمها أحداث فلا يجديهم نفعًا كما يرغبون، بل بالأحرى يظهر ملائمًا لنا، فنحن لدى قراءتنا الكتاب المقدس نبحث عن الوقت والشخص وعن المثل والمرادف والسبب، فنرى أن الله الأحد تارة يقول: «لا تصنع لك تمثالًا ولا صنمًا ولا تسجد لهما ولا تعبدهما.» وأخرى يأمر بصنع شاروبيم، وعند معاينتنا ثيرانًا وأسودًا في الهيكل ولا نتعصب في فهم معناها، فإنه لا إيمان في التعصب، بل نعتبر الزمان وباقي ما يلزم اعتباره فنفوز بصحة المعنى والرأي، فقوله: لا تصنع لك صنمًا ولا تمثالًا هو في اعتقادنا مرادف تمامًا لقوله: لا تسجد لآلهة غريبة؛ أعني لا تعبد الأوثان. ومن ثم جرت العادة في الكنيسة من عهد الرسل بالسجود للأيقونات المقدسة سجودًا نسبيًّا يكون محفوظًا به سجود العبادة لله وحده. وكلام الله غير متناقض. وإذ كانت الوصية إنما تتعلق بعبادة الأوثان فإنك ترى أنه قد صُنع قديمًا شاروبيم وكذلك صور؛ أي تماثيل للملائكة تمثلهم على هيئة ظهورهم، وكانت تُكرَّم ويُسجد لها.
ومن يذكرهم الأضداد من القديسين مدعين أنهم قالوا: إنه لا يسمح بالسجود للأيقونات فإنهم بالأحرى يعضدون معتقدنا، فإن القديسين المنوه عنهم أطلقوا كلامهم في نضالهم على المقدمين للأيقونات سجود عبادة الذين أحضروا صور أقربائهم المتوفين لتعليقها في الكنائس فأوجبوا عليهم الأناثيما لا على السجود الصحيح للقديسين وللأيقونات وللصليب الكريم وباقي ما تقدم ذكره، ولا سيما وأن الذين ذكروا وجاهروا في مؤلفاتهم بوجود الأيقونات المقدسة في الكنيسة وبالسجود لها من عهد الرسل هم كثيرون، وقد شاركهم في ذلك فيما بعد المجمع السابع المسكوني المقدس الذي أشهر كل أحداث للهراطقة في ذلك خازيًا ممقوتًا.
ولما كان هذا المجمع المقدس قد أَفْهَمَنَا صريحًا كيف يجب أن نسجد للأيقونات المقدسة، وأوضح كل ما سبق ذكره آنفًا وأوجب الأناثيما على الذين يسجدون للأيقونات سجود عبادة أو ينسبون إلى الأرثوذكسيين عبادة الأوثان بسجودهم للأيقونات، فإننا نوجب نحن أيضًا مع الأناثيما على الذين يسجدون لقديس أو ملاك أو أيقونة أو صليب أو عظم قديس أو إناء مقدس أو إنجيل أو شيء آخر مما في السماء فوق وما في الأرض وفي البحر سجود عبادة، ونقدم سجود عبادة لله وحده المثلث الأقانيم ونوجب الأناثيما على الذين يزعمون أن السجود للأيقونات هو عبادة لها فلا يسجدون لها ولا يكرمون الصليب والقديسين كما قلدتنا الكنيسة.
ونحن نسجد للقديسين وللأيقونات على المنوال الذي تقدم الكلام عنه ونصورها لزينة الهياكل، ولكي تكون أسفارًا للأغبياء وموضوع قدوة لهم بفضائل القديسين، وذكرى وواسطة لنمو شغفهم بهم وتنبيههم إلى السجود للرب دائمًا كسيد وآب، وللقديسين كعبيد له ومساعدين وشفعاء لنا.
على أن الهراطقة يقبحون نفس صلاة الحسني العبادة إلى الله، ولا نعلم كيف يخصونها بالنساك فقط. أما نحن فنعترف ونقر بأن الصلاة هي مناجاة الله وطلب للخيرات الملائمة التي نرجو نوالها منه تعالى، والارتقاء بالعقل نحو الله واتجاه الفكر نحوه تعالى عن حسن عبادة، وطلب السماويات وعون للنفس المقدسة وعبادة مكرسة لله وعلامة توبة ورجاء وطيد لا ريب فيه. وهي تتم إما بالعقل فقط أو بالعقل والصوت معًا، ويعتبر فيها صلاح الله ورحمته وعدم استحقاق الطالب المصلي وشكره وموعد خضوعنا لله في المستقبل. وهي تتضمن إيمانًا ورجاءً وثباتًا وحفظًا للوصايا ولا سيما السماويات، ولها ثمار كثيرة لا حاجة إلى تعدادها، وتقام على التواتر بالانتصاب وبإحناء الركب، ومنفعتها عظيمة جدًّا حتى إنها تعتبر قُوتًا وحياة للنفس. وكل ذلك يستنتج من الكتاب المقدس واضحًا، حتى إن من يطلب برهانًا عليه يشبه الجاهل أو الأعمى الذي يحاول إنكار وجود نور الشمس في رابعة النهار.
وأما الهراطقة فإذا أرادوا أن لا يدعوا شيئًا مما أوصى به المسيح بدون تهشيم تطاولوا على الصلاة أيضًا، ولكنهم لا يخجلون من أن يسيئوا العبادة قاصدين بذلك أن يجعلوا البسطاء يبغضونهم ويعتبرونهم كدنسين ومحدثين، ولا يطيقون أن يتعلموا منهم عقائد الإيمان الحسن القويم. فإن خصمنا الشيطان حكيم في الشر وبصير في الأباطيل ولذلك لا يحلو لأتباعه، ومنهم هؤلاء الهراطقة خاصة، أن يحسنوا العبادة بمقدار ما يتوقون، ويهتمون بأن يتهوروا في هوات الشرور ويتهشمون في أماكن لا يفتقدها الرب.
والآن فلنسألهم ما هي صلوات الرهبان على زعمهم؟ فإن قالوا مثبتين إن الرهبان إنما يفعلون من تلقاء أنفسهم أمورًا غريبة لا تتلاءم وديانة المسيحيين القويمة ننضم إلى رأيهم فلا نعتبر الرهبان رهبانًا، بل لا نعتبرهم مسيحيين أيضًا. ولكن إذا كان الرهبان يذيعون مجد الله وعجائبه في الارتقاء العقلي ويعظمونه على الدوام بلا انقطاع، وفي كل حين على قدر الطاقة البشرية، وذلك بأناشيد التسبيح والتمجيد المتواصلة تارة مرتلين بعض آيات الكتاب وطورًا مقتبسين التسابيح منه، فيصدعون ناطقين بما يوافقه؛ نقر ونعترف أنهم بذلك يعملون عملًا رسوليًّا ونبويًّا وبالأحرى ربانيًّا.
وعلى ذلك فنحن أيضًا بترتيلنا في كتاب «المعزي» و«التريودي» و«المناون»، لا نعمل عملًا غير لائق بمسيحيين؛ لأن مثل هذه الكتب تتكلم عن اللاهوت كلامًا إجماليًّا ومفصَّلًا، ونرتل بها تسابيح منها ما هو مقتطف من «الكتاب المقدس» بقصد أن تكون عباراته العبارات الملائمة المؤمنين أكثر ملاءمة وأسهل فهمًا. ولكي يتضح جليًّا أننا نرتِّل دائمًا محاوي «الكتاب المقدس» نردف كل طروبارية مما نرتل بآية استيخن من «الكتاب المقدس». وإذا كنا نرتل ونقرأ ما لثيقارا من الصلوات وما وضعه غيره من الآباء القدماء فليقل لنا المضادون أي تجديف وأي شيء مناقض لحسن العبادة أتى به هؤلاء؛ حتى ننبذه ونرفضه معهم.
فإن اقتصر الهراطقة على القول إن مواصلة الصلاة بدون انقطاع مضر بهم وبنا فليخاصموا المسيح، وقد قال مثل القاضي الظالم في وجوب مواصلة الصلاة وعلمنا أن نسهر ونصلي لكي ننجو من الضيقات ونتمكن من الوقوف أمام ابن البشر، وليخاصموا أيضًا الرسول لِمَا قاله في الإصحاح الخامس عشر من رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي وفي مواضع أخرى كثيرة غيره، وإني أدع زعماء الكنيسة الجامعة الإلهيين من عهد المسيح إلى عهدنا يتكلمون، فإنه يكفي الأضداد خزيًا بمتابعة ومواصلة الأجداد والرسل والأنبياء للصلاة.
ولما كانت أعمال الرهبان بمثابة أعمال الرسل والأنبياء، بل بمثابة أعمال الآباء القديسين وأجداد المسيح أنفسهم، كان من الواضح أن صلواتهم هي أثمار الروح القدس فاتح المواهب. أما ما أحدثه الهراطقة مجدفين فيما يتعلق بالله والإلهيات ومفسرين الكتاب المقدس على خلاف معانيه الصحيحة ومحرفين فيه فهو من سفسطات الشيطان واختراعاته.
ثم لا فائدة مما يقوله الهراطقة في أن لا يمكن الكنيسة أن تأمر بالأصوام والامتناع عن بعض المآكل بدون اضطرار ولا اغتصاب. فالكنيسة تقصد أمانة الجسد وكل أهوائه، وقد أحسنت جدًّا بأمرها بالصلاة والصوم اللذين صار الآباء القديسون قدوة لنا فيهما وبهما. ومع النعمة التي من العلى يضمحل خصمنا الشيطان وكل جنوده وقواته بسهولة ويتم الطريق الموضوع لحسني العبادة. ولما كانت الكنيسة الجامعة قد بَنَتْ آراءها في ذلك فهي لا تضطر ولا تكره أحدًا، بل تعزي وتنصح وتعلم تعاليم الكتاب المقدس وتقنع بقوة الروح القدس.
مكاريوس ورومة
ويختلف الباحثون من إخواننا الروم الكاثوليكيين في موقف مكاريوس من رومة وأسقفها، فيرى صديقنا المرحوم الخوري قسطنطين الباشا أن مكاريوس اعترف بسلطة رومة وقال قولها، ويجادله في ذلك صديق آخر هو المرحوم حبيب الزيات فيرى أن مكاريوس قال قول رومة واتحد معها، ثم عاد إلى الانشقاق وتُوفي غير كاثوليكي.
ولا حاجة إلى تفنيد هذه التعليمات التي تفتقر إلى التدعيم بالنصوص المعاصرة الكاملة العدالة والضبط. بيد أنه لا بدَّ من الإشارة إلى أن المسلمين لم يفرقوا في الاعتراف بأهل الذمة بين أرثوذكسي وكاثوليكي، بل أطلقوا هذا الاصطلاح الفقهي على جميع النصارى واليهود وعلى غيرهم أيضًا. ولا بدَّ كذلك من القول إن أقرب دول أوروبة إلى الدولة العثمانية آنئذٍ كانت دولة فرنسة «ابنة الكنيسة البكر»، وأبعدها وأشدها عداوة كانت روسية الأرثوذكسية.
- (١)
قال الأب ميخائيل نو اليسوعي في الفصل السابع من الجزء الرابع من الكتاب الذي ألَّفه بالعربية سنة ١٦٧٠ وعنوانه: «احتجاج كنيسة الروم على صحة إيمانها»، ردًّا على من يعترض فيقول إن البطاركة على خلاف مع البابا: «مَن الذي أخبرك عن رأي البطاركة وأفعالهم؟ وهل اعترفوا عندك بكل سر خفي؟ فقد سمعتُ وقرأتُ أن بعضهم بعدوا عن هذا الرأي الرَّدِي ورموا الطاعة للبابا على الطريق الممكن لهم.»
ونحن نقول إن شهادة الأب اليسوعي ميخائيل نو ناقصة في العدالة والضبط، وإنها ضرب من الدعاية قصد بها صاحبها اجتذاب القراء إلى طاعة رومة، وإنها غامضة مبهمة لا تذكر البطريرك مكاريوس ولا تعنيه.
- (٢)
أن رئيس الرسالة اليسوعية في الشام الأب يوحنا أميو قال في السنة ١٦٥٠: وبطريرك الروم المقيم هنا في دمشق الذي يلقب بالأنطاكي ليس متعذرًا اتحاده مع رومية نظير أسلافه، وهو رجل صالح يحسن الوعظ وإن لم يكن قد تعلم الفلسفة واللاهوت، وهو يحبنا؛ لأن آباءنا ساعدوه وشفوه من مرضه إذ كان مطرانًا على حلب، وعندما زار صيدا قابلني فيها أحسن القبول. ومن دأبه أن يعظ جماعته بأنه ينبغي أن نحب الإفرنج كأنهم إخوتنا في المسيح، ولا يجوز لنا أن نتجنبهم، وكان لكلامه هذا نتيجة حسنة عند الروم، وهكذا فعل في طرابلس حيث سمعت بذاتي وعظه في كنيستهم، فلو كان متعلمًا لكان أحسن.
ونحن نرى أن الأب قسطنطين تصرف في الترجمة فجاءت غير صالحة للاعتماد عليها، ومثال ذلك قوله بالعربية: «الذي يلقب بالأنطاكي.» والصحيح أن النص الإفرنسي يقول: «الذي يدَّعي أنه بطريرك أنطاكية!» وكذلك عبارة الأب قسطنطين: «ليس متعذرًا اتحاده مع رومية.» والأصل الإفرنسي ينص: «الذي يمكن جعله صديقًا لرومة!»٢٦ والواقع أنه ليس في هذا النص ما يخولنا القول إن مكاريوس كان «كاثوليكيًّا تمامًا» كما يريده الأب الباشا، وجل ما يجوز استنتاجه أن هذا البطريرك اعترف بفضل الرهبان عليه في حلب فلاطفهم، وأنه اعتبر الرومانيين الكاثوليكيين إخوة له في المسيح فلم يرضَ عن مقاطعتهم. - (٣)
أن رؤساء الرسالات الكاثوليكية في حلب قالوا: إنه إذ نظر هذا بطريرك الروم اضطر أن يقر أن الدين الحق هو مذهب الرومانيين أو الإفرنج؛ ولهذا دعا القنصل المذكور والمرسلين لحضور قداس حافل في كنيسته، ثم أعلن فيه لشعبه أن الإفرنج سالكون حقًّا الطريق المستقيم. ولما عرف أن القنصل عازم على السفر إلى رومية وفرنسة أرسل معه رسالة إلى البابا يعترف فيها بأنه هو الحبر الأعظم العام على الكنيسة الأرثوذكسية، وأنه سيبذل جهده في سبيل إخضاع طائفته كلها للكنيسة الرومانية.
وقد طُبعت في مدينة رومية في عهد مكاريوس الجزيل قدسه بطريرك أنطاكية من وجود وإحسان سيدنا البابا ألكسندروس السابع ذي الفضائل الكلية ثبَّت الله وجود إحسانه ونِعمه للأنام، وشيَّد معالي فضائله وفواضله للخاص والعام وأجزاه عن فعله بالجوائز الفاخرة بسمو المقام في الدنيا والآخرة، بتاريخ سنة ١٦٦٢ للتجسد الإلهي.
ويخلص الباشا إلى القول إنه ليس بعد نص هذه الشهادة أوضح دلالة أو أعلى مقامًا. وعندنا أنه لا يجوز قبول هذا النص أو رده ما دامت رسالة مكاريوس إلى البابا ضائعة لا نعلم ما جاء فيها.
مصنفات مكاريوس
وقد خلَّف هذا السعيد الذكر عدة مؤلفات، منها: (١) «سلسلة البطاركة الأنطاكيين». و(٢) «سيرة البطريرك نيقون الروسي وسياسته». و(٣) «سيرة البطريرك أفتيميوس الثالث». و(٤) «شرح الخبر عن ابتدا بدعة محاربي الأيقونات». و(٥) «الرد على الكلوينيين». و(٦) «عجائب العذراء». و(٧) «أخبار القديسين». و(٨) «أخبار المجامع المسكونية السبعة». و(٩) «التاريخ الرومي العجيب من عهد آدم إلى أيام قسطنطين». و(١٠) «الدر المنظوم في أخبار ملوك الروم من زمن قسطنطين إلى السلطان مراد الرابع». و(١١) كتاب «النحلة» وفيه أخبار متفرقة دينية وأدبية وتاريخية. و(١٢) كتاب «الكنوز في الأعياد السيدية». و(١٣) رحلته إلى روسية بقلم ابنه الشماس بولس.
ونقل بلفور الإنكليزي أخبار الرحلة إلى الإنكليزية ونشرها في مجلدين بين السنة ١٨٢٩ والسنة ١٨٣٦، ثم نقلها جرجي مرقس إلى الروسية في مجلدات خمسة وذلك بين السنة ١٨٩٦ والسنة ١٩٠٠. وقام الأب أنطون رباط اليسوعي فنشر رسالة مكاريوس في الرد على الكلوينيين في مجلة «المشرق» في السنة ١٩٠٤ تحت العنوان «الطوائف الشرقية وبدعة الكلوينيين». ثم نشر الخوري قسطنطين الباشا «نخبة» من رحلة البطريرك مكاريوس سنة ١٩١٢. وتولى في السنة ١٩١٣ الأب لاونديوس كلزي حياة البطريرك أفتيميوس كرمة فنشرها في أعداد مجلة «المسرة».
اطلب وصف صليب مكاريوس في مجلة «النعمة»: كانون الأول ١٩١٠، ص٣٩٦-٣٩٧.