وصول البروتستانت إلى الشرق واتساع الجبهة
أبرشية حلب (١٧٢٩–١٧٦٦)
خضوع حلب للكرسي القسطنطيني
البطريرك فيليمون (١٧٦٦-١٧٦٧)
مجمع دمشق (١٧٦٧)
القانون الأول: انتداب رئيس الكهنة يكون برأي المجمع وليس برأي البطريرك فقط. القانون الثاني: إذا اتفق وقدم عرض على رئيس كهنة فمن غير فحص المجمع لا يدان. القانون الثالث: في غياب البطريرك لا يصير وكيل في دمشق إلا بمعرفة المجمع؛ أي لا يصير وكيل للبطريرك رجل عامي. القانون الرابع: المختصين في كل الأبرشيات فليكونوا طائعين لرئيس كهنتهم كما ينبغي. القانون الخامس: السيمونيا لا توخذ في الشرطونيات. القانون السادس: ينبغي لكل رئيس كهنة أن يعمل وصية في متروكاته ويوهب الجزء الأكبر للكرسي. القانون السابع: حلل رياسة الكهنوت وفرش الأرض وطقم المطبخ فليبقوا للمطران بعد وفاة مطرانها؛ أي لمطران البلد والباقي يعطى للكرسي. القانون الثامن: عرض كنائسي يجب أن يصير بعلم المجمع وليس برأي واحد. القانون التاسع: بعد نياح البطريرك الأنطاكي الوقتي لا يصير بطريرك آخر بغير فحص المجمع؛ أي رؤساء كهنة الكرسي وإرادتهم وإذا صار فلا يقبل. القانون العاشر: البطريرك الموجود في الكرسي الأنطاكي ليس له أن يتنزل بإرادته فقط، بل بإرادة المجمع. القانون الحادي عشر: مدخول الكرسي ومصروفه جميعه يتحرر في دفتر بخوف الله وبضمير نقي ولا يصير فيه خلل.
التطواف الرعائي والوفاة (١٧٦٧)
كنيسة بيروت (١٧٦٧)
البطريرك دانيال (١٧٦٧–١٧٩١)
ووصل البطريرك الجديد إلى مركزه في دمشق في مطلع السنة ١٧٦٨ فزار الوزير وقدم له هدية فرحب به وأكرمه. وكان «قصير القامة واليد» شحيحًا ضنينًا قصير العنان قليل الخير متقاعسًا متراجعًا خافض الجناح متطامن النفس حريصًا يحب المال ويشره إلى كسبه. وأعظم من ذلك فإنه كان يدين بالفائدة فعرف ﺑ «البطريرك المرابي»، فشكاه الدمشقيون إلى صفرونيوس البطريرك المسكوني «فوقعت الشرور وقامت الضغون وتألفت الجمعيات.» وشكت دمشق بدورها من قلة الألفة وتقطعت أحزابًا وتفرقت في الرأي والهوى، فتدخل صفرونيوس في أواخر السنة ١٧٧٧.
كاتدرائية دمشق
وقام في جوار البطريركية آنئذٍ كنائس ثلاث: البرانية على اسم القديس كبريانوس والقديسة يوستينة، والجوانية وهي المريمية الكاتدرائية، والثالثة تحت الأرض على اسم القديس نقولاووس، وكان يدفن فيها البطاركة والمطارنة والكهنة قبل أن عادت مقبرة التل إلى ما كانت عليه.
فرنسة والكثلكة في الشرق
الروس والأرثوذكسية
وخطا الشعب الروسي في عهد بطرس الأكبر (١٦٨٩–١٧٢٥) خطوات واسعة في سبيل العمران، وتدرب الجيش على الطرق الحديثة. وكان البحر البلطي لا يزال في قبضة أسوج، والأسوج في يد الترك؛ فكان لا بد من مناوأة أسوج. وبعد حروب طويلة جاءت معاهدة نيستاد سنة ١٧٢١ فتنازلت أسوج لروسية عن ليفونية وأيثونية وأنجيرية وكريلية وغيرها. وأخذ الروس من الترك آزاق في السنة ١٦٩٦، ثم توقف تقدمهم لما نزل بجيشهم من هزيمة في السنة ١٧١١ عند نهر البروث، ولكن ما لبثت هذه الفترة أن انقضت وعادت روسية إلى مناوأة الترك طول القرن الثامن عشر بلا انقطاع.
وكان الشعب الروسي ولا يزال وديعًا مسالمًا في طبيعته لا يحب الاعتداء، ولكنه أرثوذكسي في الصميم لا يرى إلا الهدى، شديد التمسك بتقاليد الرسل وقرارات المجامع المسكونية فَخُور بتراث الآباء يأبى الضيم وتعصف في رأسه النخوة، فرافق النهضة العمرانية شعور بأن موسكو هي رومة الثالثة، وأنها حامية الدين القويم.
وفي منتصف القرن الثامن عشر تولَّى مصطفى الثالث عرش العثمانيين (١٧٥٧–١٧٧٣)، وكان مولعًا بالحروب. فلما رأى أن ازدياد نفوذ الروس في بولونية يتعاظم خشي على بلاده. ورأت ذلك أيضًا الحكومة الفرنسية بالنسبة لبلادها فوافقته على رأيه؛ ولذلك عزم الباب العالي على منازلة الروس. وقوَّى عنده هذا العزم أن الروس كانوا منذ السنة ١٧٦٥ يحرضون اليونان والبوشناق ونسور الجبل الأسود على الخروج على الدولة. وفي السنة ١٧٦٨ اشتد حَنَقُ الباب العالي؛ إذ دخلت الجنود الروسية أملاك الدولة أثناء مطاردتهم لبعض البولونيين الفارين من وجوههم وأحرقوا بلطة التابعة لخان القرم أحد ولاة الدولة، فأعلن الباب العالي الحرب على روسية في السادس من تشرين الأول سنة ١٧٦٨ لذلك، وبحجة الدفاع عن حرية البولونيين.
ولازم سوء الطالع الدولة العثمانية من أول نشوب الحرب، فلم تلبث أن انهزمت أمام الروس على نهر الدنيستر؛ فاحتلَّت روسية مولدافية (البغدان) والفلاخ وبسارابية والقرم. وفي خلال هذه المدة كان الأسطول الروسي ظافرًا في البحر فانتصر على أسطول العثمانيين في شزمى، ولولا ما أبداه القبودان حسن باشا الجزائرلي من الشجاعة لأحدق الخطر بالقسطنطينية نفسها. وما زالت الجيوش الروسية تَجِدُّ في الفتح حتى عبرت الدانوب واكتسحت بلغارية وهددت القسطنطينية من البر، فخشي الأتراك العاقبة وطلبوا الصلح في السنة ١٧٧٤.
الروس حماة المسيحيين (١٧٧٤)
وأبرم الروس مع الأتراك العثمانيين معاهدة كوجوك قينارجه في السنة ١٧٧٤، وهي أهم معاهدة عُقدت بين روسية والدولة العثمانية، وأول طور جدي في تاريخ المسألة الشرقية. ولم تنل روسية بهذه المعاهدة أملاكًا شاسعة؛ إذ كان ما أخذته قاصرًا على كنبورن وكرتش وآزاق والأقاليم المجاورة لها مما ثبت قدمها على شمال البحر الأسود، ولكنها نالت بها حقوقًا سياسية كبيرة كان لها شأن عظيم في المستقبل. فالدولة العثمانية قبلت في هذه المعاهدة أن تضمن لروسية حكومة عادلة وحرية دينية للرعايا المسيحيين، وجعلت لروسية الحق في المطالبة بحقوق هؤلاء الرعايا كلما رأت حاجة إلى ذلك.
إن الباب العالي يتعهد الدين المسيحي والكنائس المسيحية بحماية دائمة، ويسمح لوزير بلاط روسية أن يحتج متى شاء لصالح الكنيسة المشيدة في القسطنطينية المشار إليها في المادة الرابعة عشرة ولصالح من يخدم فيها.
وجاء في المادة الرابعة عشرة أنه يحق لبلاط روسية أن ينشئ بالإضافة إلى كنيسة السفارة كنيسة عمومية في ضواحي غلطة تدعى الكنيسة الروسية اليونانية. وفصلت المادتان السادسة عشرة والسابعة عشرة نوع الحماية الواجب تطبيقها في الأراضي، والجزر التي احتلتها الجيوش الروسية في أثناء الحرب ووعدت بالجلاء عنها.
اضطهاد الروم في بيروت ولبنان
اضطهاد النصارى في دمشق
معمودية اللاتين (١٧٥٥–١٧٧٤)
وقال الجميع قبل الانشقاق وبعده بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا. واعترف مجمع القسطنطينية الذي الْتَأم في السنة ١٤٨٤ بمعمودية اللاتين، واكتفى الآباء أعضاؤه بمسح اللاتينيين العائدين إلى حضن الكنيسة الأرثوذكسية بالميرون المقدس. وشك الآباء الروس في صحة معمودية اللاتين، وأوجب بعضهم تجديد التعميد، ولكن الآباء اليونانيين الذين اشتركوا في مجمع موسكو (١٦٦٦-١٦٦٧) أوجبوا الاعتدال والاكتفاء بمسحة الميرون.
وتابعت رومة هجومها فضاعفت هيرارخية أنطاكية وأنشأت كنيسة جديدة في الشرق، فلجأ البطاركة الشرقيون اليونانيون إلى الحرم واستعانوا بالسلطات العثمانية والقوة والعنف للصمود في وجه التيار الروماني، واعتبروا الفروقات الخمسة خروجًا كافيًا على التقاليد الموروثة لوصم رومة وأتباعها بالهرطقة، والتعيير بالهرطقة جر أصحابه إلى إعادة النظر في موقف الكنيسة الأرثوذكسية من معمودية اللاتين.
البطريرك أنثيميوس (١٧٩٢–١٨١٣)
وجاء أنثيميوس إلى قبرص مسقط رأسه ومنها إلى اللاذقية فطرابلس فبيروت فعكة، حيث قابل الجزار وأطلعه على نص البراءة السلطانية. ثم انطلق منها إلى دمشق فرضي المجمع الأنطاكي به؛ نظرًا لعلمه وفضله وتقواه، وقلَّده زمام البطريركية الأنطاكية، ورتَّب المجمع معاشًا قدره ألف غرش في السنة إلى البطريرك المستقيل دانيال المقيم في جزيرة صاقز.
البطريرك سيرافيم (١٨١٣–١٨٢٣)
الكتبة الكاثوليكيون
كنيسة صيدا (١٨١٨)
وبلغ أمر هذا الفرمان وهذه الرسائل مسامع أعيان الروم الكاثوليك في عكة فاضطربوا. وكان الخوري سابا الكاتب مدير الرهبنة المخلصية آنئذٍ في عكة فاتصل بحاييم فتثبت من صحة الخبر، «وثاني يوم أخبر الكتَّاب والطائفة فراجعوا المعلِّم حاييم واستعملوا ساير وسايل التذلل والخضوع، وذكَّروا حاييم بضعف طائفة الكاثوليك، وبأنها منذ القدم مختصة به وبوالده وبعيلتهم، ولكن جميع هذا ما أفاد.»
قدوة النواب المتشرعين نايب محروسة صيدا حالًا السيد محمد سعيد أفندي زِيد فضله وافتخار العلماء الكرام المأذون بالإفتاء، أفندي زِيد علمه وفرع الشجرة الزكية قيمقام نقيب السادات والأشراف أفندي زِيد شرفه وقدوة الأماثل والأقران متسلمنا فيها حالًا الحاج سليمان أفندي زِيد قدره.
بعد السلام التام المنهي إليكم قبل تاريخه، حضر لطرفنا مطران الذميين القاطنين بناحية عكار بالوكالة عن قدوة الملة المسيحية البطريق سيرافيم بطريق طائفة الروم الأنطاكي المقيم بدمشق الشام خُتمت عواقبه بالخير، وقرر على مسامعنا بأن البطريق المرقوم منصوب بطريق من قِبل الدولة العلية والسدة الخاقانية صانها رب البرية على طائفة الذميين الروم الكاينين بأنطاكية وطرابلوس الشام، والشام وصيدا، وأن ساير كنائس طائفة الروم وأوقافها تحت نظارة المسفور بموجب براءة سلطانية، وأعرض لدينا صورة البراءة ممضية.
وادَّعى أن كنيسة الروم الكائنة في صيدا فهي تحت تصرفه وتحت نظارته، وأن الذميين الكاثوليكيين المقيمين بصيدا واضعين يدهم على الكنيسة المذكورة فضولًا من غير مساغٍ شرعي ولا أمر سلطاني، والتمس استردادها ورفع يدهم عنها، فاقتضى أن أحضرنا الذميين الكاثوليكيين القاطنين بصيدا، وهم إبراهيم الزهار وإبراهيم سركيس ويعقوب الزهار وقسطنطين عكاري وإلياس الكركجي وحنا دبانه وجبران بولاد وحنا زكار وساير وجوه طايفة الكاثوليكيين. ورفعنا استماع دعواهم إلى حاكم الشريعة الغراء قاضي محروسة عكة حالًا افتخار القضاة والحكام السيد محمد أبو الهدى أفندي التاجي زِيد مجده، بحضور أمير الأمراء كبير الكبراء الفخام ذي القدر والاحترام صاحب العز والاحتشام كتخدانا ولدنا السيد عبد الله باشا دام إقباله. وصارت المرافعة بينهما، وطلب المطران المسفور رفع يد الكاثوليكيين عن الكنيسة المذكورة، فأجابوا أن الكنيسة هذه بالأصل كنيستان إحداهما إلى طائفة الروم والثانية إلى طائفة السريان الذميين، ومن بعد انقراض السريان من قديم الزمان رفعوا الحائط الذي كان بين الكنيستين لأجل التوسع وصارت الكنيسة واحدة، وأن الحصة التي تخص طائفة الروم لم يزالوا واضعين يدهم عليها، والذي تخص طائفة السريان الكاثوليكيين واضعين اليد عليها وهي بأيديهم. وأن طلب البطريق المرقوم إلى الكنيسة جميعها فهو بغير حق. فطلب منهم حاكم الشرع بينةً على إثبات مدَّعاهم وأحضروا بيِّنتهم إلى مجلس الشرع.
البطريرك مثوديوس (١٨٢٣–١٨٥٠)
ومضى سيرافيم مستقبلًا وجه البقاء في السنة ١٨٢٣ وانتقل إلى دار القرار في دمشق ودفن فيها. وأجمع الأساقفة والأعيان على قسطنديوس رئيس أساقفة سيناء وكتبوا إلى الكنيسة العظمى القسطنطينية ينتدبونه بطريركًا على أنطاكية. ولكن قسطنديوس تمنَّع وأعرض فنصَّب المجمع القسطنطيني مثوديوس متروبوليت أنقيرة بطريركًا على أنطاكية وسائر المشرق.
الدولة تعترف بالأرمن الكاثوليك (١٨٢٨)
وشمل برنامج رومة إدخال الأرمن في الطاعة منذ أوائل القرن السابع عشر، فانشقوا على أنفسهم انشقاق الروم، وتنادوا واختلفت كلمتهم وتشعبت آراؤهم. وانتظم الكاثوليكيون منهم كنيسة مستقلة وأقاموا منذ السنة ١٧٤٠ بطريركًا عليهم. ولكن الدولة ظلَّت تعتبرهم خاضعين في أمورهم الدينية وأحوالهم الشخصية للبطريرك الغريغوري القسطنطيني. واستحكم الشقاق بينهم واشتد الاضطهاد، ولا سيما في السنوات ١٦٩٩ و١٧٠٢ و١٧٥٩ و١٧٨٢.
ممارسة الحقوق المكتسبة (١٨٢٨–١٨٣٤)
براءة باسيليوس (١٨٣٤)
إن أروتين قدم عريضة مختومة أبان فيها أن الروم الملكيين القاطنين في محروسة مصر المتعلقين به ليس لهم رئيس يتصرف بشئونهم، وأن المطران الراهب باسيليوس كفؤ للقيام بمهام الرئاسة، وأنه يحدد خمسة آلاف أخشاية محصول رئاسته المطلوبة، وأن أروتين قدم خمسة آلاف وفوقها عشرة آلاف أخشاية. وأنه ابتداء من اليوم الحادي والعشرين من تشرين الأول سنة ١٨٣٤ تبدأ رئاسة باسيليوس على الروم الكاثوليك في مصر.
وأوجب السلطان بعد هذا على الكاثوليكيين التابعين لرئاسة باسيليوس أن يراجعوه «بالأمور المتعلقة بعاداتهم وألا يتجاوزوا كلامه الذي بالطريقة وألا يتعدوا ذلك.» وأوجب السلطان أيضًا ألا يحول حائل دون تلاوة الإنجيل في بيت المطران المذكور، وألا يعترض أحد على توليع القناديل ووضع الصور والكراسي والتبخير ومسك العكاز، وأن يمتنع الضباط والميرميرانات وطائفة أهل العرف عن تعجيز هؤلاء واستدرار المال منهم بوجهٍ غير شرعي «وأن لا يرفعوا صوتهم عليهم بإعلان الكفر.»
مجمع طرابلس (١٨٣٦)
مثوديوس في مصر (١٨٣٧–١٨٤٠)
وأرسل البطريرك القسطنطيني الفرمان السلطاني إلى مثوديوس البطريرك الأنطاكي، فهبَّ هذا لساعته يطالب بالتنفيذ. ولما كان الفرمان السلطاني موجهًا إلى محمد علي باشا عزيز مصر، وكان مكسيموس آنئذٍ في وادي النيل يتفقد شئون رعيته طلب مثوديوس إلى محمد شريف باشا حكمدار الأيالات الشامية أن يأذن له بالسفر إلى مصر لمقابلة العزيز والتحدث إليه في أمر الفرمان الجديد، فأجاب الحكمدار الطلب. وقام البطريرك من دمشق في صيف السنة ١٨٣٧ إلى طرابلس ومنها إلى أهدان لمقابلة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا وقائد جيوشه. وأصغى السر عسكر المصري إلى ما قاله البطريرك الأنطاكي، ثم أجاب أنه لا يريد التدخل في المسائل الدينية الطائفية، ولكنه مستعد لعرض الشكوى أمام والده في مصر. ورجع مثوديوس إلى طرابلس يرافقه زخريا مطران عكار، وقاما منها إلى بيروت وجمعا الأموال اللازمة وأبحرا إلى الإسكندرية فوصلا إليها في أوائل أيلول، ورفعا أمرهما إلى العزيز وتُلي الفرمان السلطاني على مسامعه فأمر بتنفيذه وتسجيله في المحكمة الشرعية.
مكسيموس رئيس مرخَّص (١٨٣٧)
إن الراهب المسمى كرابيد بطريرك الكاثوليك الذين في إسلامبول وتوابعها قدم لدى سدتي السنية عرضحالًا مختومًا، يذكر فيه أنه قد لزم تعيين مرخص على جميع الروم الملكيين الكاثوليكيين الموجودين في أبرشيات أنطاكية والإسكندرية والقدس الشريف الداخلين تحت بطريركية الكاثوليك. وأن قدوة مختار الملة المسيحية المسمى مكسيموس مظلوم المتروبوليت ختمت عواقبه بالخير الحامل براءتي هذه الهمايونية، حيث إنه مقتدر على رؤية أمور المرخصية وإدارتها، فاستدعى أن يعطى له براءة سنية مع درج الشروط فيها بتوجيه لمرخصية المذبورة إلى المتروبوليت مكسيموس المذكور بشرط تقديم مقدار من الدراهم إلى الخزينة العامرة على وجه الهدية، فهذا هو مضمون العرضحال المقدم ذكره.
فبعد المراجعة في القيود تبين أنه من مقتضيات الشروط المدرجة في براءتي العلية الشأن التي بيد البطريرك المرسوم، أنه إذا لزم تعيين مرخص للمحلات الداخلة تحت ملل هذه البطريركية حسب المقتضى على موجب عاداتهم، ووضع رسم الهدية على قدر تحمُّله واستدعى أن تعطى له براءة مجددة، فتسلم الهدية المعينة نقدًا إلى الخزينة العامرة وتعطى له براءة شريفة مجددة مع درج الشروط فيها. وقد عيَّن هو على المرخصية المرقومة في هذه المرة خمسة عشر ألف عثماني على وجه الهدية، وأعطي له البيان من محلها بتسليم الهدية المذكورة نقدًا إلى الخزينة العامرة؛ فأصدرت براءتي هذه الهمايونية على موجب فرماني العالي الشأن المبرز قبلًا.
وقد أمرت بأن المتروبوليت مكسيموس مظلوم حاملها يدبر مرخصية جميع الكاثوليكيين الذين في بطريركيات أنطاكية وإسكندرية والقدس الشريف، وأن الطائفة الذمية الكبار والصغار والقسوس والرهبان والرجال والنساء الذين على المذهب الكاثوليكي الموجودين في المحلات التابعة لمرخصيته يلزم أن يعرِفوه رئيسًا مرخصًا عليهم ويراجعوه في الأمور المتعلقة بعاداتهم، ولا يتجاوزوا كلامه الذي في محله، ولا يحدث منهم قصور في طاعته.
ثم لا أحد يتعارض المتروبوليت المذكور في بيته ولا في سائر البيوت عن قراءة الإنجيل وإجراء اعتقاده، ولا أحد يقول: أنتم أيها الكاثوليكيون تجرون في بيوتكم اعتقادكم وتقرءون الإنجيل وتعلقون القناديل وتضعون كراسي وتصاوير وستارات وتبخرون بالمباخر وتمسكون العكاكيز بأيديكم، فلا يتعارضهم أحد في شيء من اعتقادهم جميعها. ولا يُصنع لهم تعللًا وتعجيزًا لأجل جلب المال من طرف الميرميرانات ولا من قبل الضباط كافة، ولا من جهة أهل العرف جميعًا، فلا يصير عليهم أدنى تعدٍّ بغير حق مخالف الشرع الشريف.
والذين يموتون من المطارنة والقسوس والرهبان والقسيسات وغيرهم مهما أوصوا به إلى الفقراء، أو لكنائسهم أو لبطريركهم، تكون وصيتهم نافدة مقبولة ولا تصير من أحد مداخلة بها بوجه من الوجوه، بل تكمل على موجب اعتقادهم وقاعدتهم وبشهود جماعة كاثوليكيين من طائفتهم تُسمع دعاويهم شرعًا.
ولا أحد من المتقدمين يتعارض قائلًا للمرخص أرسل هذا القسيس الفلاني بهذا الوجه أو بذاك، ولا يصير جبر أو تعدٍّ بهذا الشأن أصلًا.
وإذا اقتضى للمتروبوليت المذكور أن يحضر إلى الآستانة لأجل مصلحة، فالقسيس والراهب الذي يوكله عوضًا عن ذاته لا أحد يمانعه أو يتعرض له من طرف أهل العرف ولا من غيرهم بوجه من الوجوه قطعًا. ولا يقول أحد للمرخص المذكور أنا أتبعك جبرًا لأجل خدمتك؛ إذ لا رخصة لأحد بذلك.
والأشياء المختصة بالمتروبوليت المذكور أو بكنائسه متى بلغت إلى الأساكل أو إلى الأبواب فليس لأحد أن يطلب عليها شيئًا من كمرك أو باج أصلًا.
وإذا اقتضى للمرخص أن يرسل من قِبله إنسانًا لجمع ميرياته ومحاصيله من أهالي القرى والأمكنة الأخرى فليعطَ لهم دليل في الطرقات. ومباح لهم أن يغيروا ملابسهم، وأن يتقلدوا الأسلحة الحربية لأجل تحصين ذواتهم من الأشقياء. وليس لأحد من طائفة أهل العرف أو من الحكام أن يعترضهم لأجل جلب المال أو عوائد أو هدايا أو بنوع من الأنواع بتة، ولا يطالبهم أحد بشيء بخلاف الشرع الشريف أصلًا.
ولا تسمع دعوى على المتروبوليت المذكور ولا على قسوسه ولا على المختصين به إلا في ديواني الهمايوني في آستانة دار السعادة لا في مكان آخر قطعًا.
وإذا اقتضى أن يحبس بإذن الشرع الشريف أحد من الرهبان أو من القسوس أو من الراهبات فلا يكن ذلك عند الضابط، ولا يقدر بدون رضاه أن يحوشه هو، بل إن المتروبوليت يمسكه ويحبسه عنده، ثم لا يجبر الذي على الإسلام أصلًا بدون رضاء.
والأشياء الحاصلة للمتروبوليت لأجل مأكولاته من كرومه وأرزاقه، وكذلك الآتية إليه باسم التصديق من حلو أو دهان وعسل وغير ذلك، فوكلاء الكمارك وجماعتهم الذين في الأساكل والأبواب لا يتعارضونهم بالمنع عن الإدخال ولا بطلب شيء برسم كمرك البتة. والحذر من المخالفة! وهكذا مهما يكون مختصًّا بكنائسهم وأديرتهم من كروم وبساتين وطواحين وقرى ومزارع ومراعي وأراضي وغيرها، ونظيرها أوقاف كنائسهم من بيوت ودكاكين وأملاك وموجودات وأشجار مثمرة وحيوانات مع سائر مأكولهم، فليكن في ضبطهم وتصرفهم المطلق، ولهم فيه دستور العمل من دون أن يتداخل به أحد أصلًا.
ثم إن الكنائس مع الأديرة المختصة بالطائفة المذكورة لا يتعارض أمرًا من أمورها أحد من طائفة أهل العرف بتفتيش لأجل بيولردي أو غيره، ولا يحدث لهم بذلك ممانعة أو تجريم، بل تكون كنائسهم وأديرتهم في ضبطهم وتصرفهم.
وبدون إذن المتروبوليت المذكور ومعرفته لا أحد من قسوسه يعقد زواجًا لا يكون جائزًا في اعتقادهم ومذهبهم. ومن حيث إن الطلاق والزواج بامرأة أخرى عدا الامرأة الحية ليس جائزين عندهم، فلا يعطى لأحد منهم رخصة بذلك أصلًا، بل إذا حدث أمر مغاير لمذهبهم فالذين باشروه يتأدبون حالًا بالقصاص حسبما يستحقون. وإذا أراد البعض من الطائفة المذكورة أن يعقد زواجًا عند طائفة أخرى فلا يعقدوه له. ولا أحد من ذوي الاقتدار يغصب أحدًا من القسوس مع عقد زواج لأحد بخلاف اعتقادهم. ثم إذا حدث منازعة فيما بين البعض من الكاثوليكيين، إما لعقد زواج أو لأمر من الأمور كافة أو من الاختصاصات جميعها فليحضر المتخاصمون أمام المتروبوليت المذكور أو أمام الذين يعينهم لأجل رؤية الدعاوي مثل ما يقتضي الحال. وإذا لزم أن يحلف يمينًا لأحد هؤلاء فيحلفه في الكنيسة على موجب اعتقادهم.
وإذا اتفق البعض من الطائفة المذكورة لأجل مقتضى أغراضهم أن يرفعوا الدعوى إلى القضاة أو إلى الحكام، فلا أحد من طرف القضاة أو الحكام يتعارض أو يتداخل فيها، وإن فعل أحد بالخلاف فيُجرم.
وإذا مات أحد في حالة مخالفة مذهبهم وأراد القسوس أن لا يتعاطوا دفنه لأجل مقتضى مذهبهم فلا أحد من القضاة، ولا من الحكام ولا من الضباط ولا من ذوي المقدرة، يجبر القسوس برفع ذلك الميت ودفنه أو يصنع بهذا الشأن أدنى تعدٍّ.
والتعميرات والترميمات التي تُقتضى لكنائسهم وأديرتهم فيأذن الشرع الشريف أن تعمَّر وترمم من غير أن يصير من طرف أحد أدنى تداخل.
وإذا كان لأحد دين فليحذر من أن يتعارض بسببه حوائج الكنيسة أو الأديرة حتى ولا بطريق الاسترهان، وإن كان أحد يتجاسر على أخذ شيء من ذلك يرد حالًا بمعرفة الشرع.
والذي يموت من القسوس أو القسيسات بلا وارث فالمتروبوليت المذكور كبطريرك يستولي على ما يكون للميت، مهما كان من موجودات ودواب وغير ذلك، لجهة الميري له من دون أن يتداخل بذلك أحد من طرف بيت المال أو القسام أو المتولين أو الشوباصية أو يضع يده على ماله أو نقوده أو شيء من سائر مخلفاته.
ولتؤدِّ الطائفة المذكورة ما عليهم لمتربوليتهم في كل سنة رسوم ميرية وصدقات وسائر المرسومات البطريركية تمامًا ولا تصير في ذلك مرادة من أحد.
وإذا تقدم أعراض من الباشاوات أو القضاة أو النواب في سوء حال المرخص المذكور أو قسوسه أو في عزل أحد منهم أو نفيه، فالشكوى التي تصدر في حق أحد منهم لا تُقبل دون الفحص الكامل والوقوف على صحة الأمر، وبغير ذلك لا يصغَ إلى كلام أحد أصلًا. وفي فرضية إذا صدر فرمان أو أمر شريف بتاريخ مقدم أو مؤخر لا يُعتبر ولا يعمل به في مكانه.
ويكونون جميعًا مرخصًا بإجراء عقائدهم في كنائسهم وأديرتهم وأمكنة زيارتهم المعلومة، ولا تحصل في ذلك ممانعة البتة من طرف أهل العرف، ولا من جهة غيرهم لا في دفن موتاهم ولا في قراءتهم خلوًّا من معارضة أحد لهم بذلك.
وإذا كان في هذه البراءة اعتراف واضح بما كان يعانيه بعض رجال الدين المسيحيين من تضييق وضغط، فإن فيها أيضًا محاولة رسمية لحمايتهم من ذلك، ففيها ترخيص بتعمير الكنائس وترميمها وحرية الملبس وإظهار شعائر السلطة الدينية وحرية التوصية وصلاحية النظر في الدعاوي ومنع القضاة والحكام عن التدخل في أحكام الأساقفة، فالبراءة من هذه الناحية تبشر بعهد جديد وإصلاح شامل، وهي من حيث علاقة الروم الكاثوليكيين بالروم الأرثوذكسيين تؤذن بالاستقلال التام.
السلطان يبرم وينقض
مكسيموس بطريرك مستقل (١٨٤٨)
أن الرؤساء المرخصين القائمين على تدبير أمور الكلدان والسريان والموارنة يستمرون في طاعة بطريرك الكاثوليكيين في الآستانة. أما طائفة الملكيين فإنهم في حالة خصوصية؛ لأن بطريركهم قائم بهم بالفعل والعملية منذ القديم.» وبما أنه لم يعطَ براءة بهذه الصفة، وبما أن مجلس الأحكام العدلية رأى أن الضرورة تقضي بإعطائه براءة بذلك؛ فإن السلطان أصدر أمره الهمايوني «في هذا الخصوص، وتعلقت إرادته السنية الملوكية بإجراء ما اقتضى.
ولذلك فإنه أعطى مكسيموس مظلوم براءته الهمايونية متضمنة بطريركيته على الروم الملكيين الكاثوليكيين الموجودين في أنطاكية وإسكندرية والقدس الشريف وسائر الممالك المحروسة، وعلى هؤلاء كبارًا وصغارًا أن يعرفوه بطريركًا عليهم ويراجعوه في الأمور المتعلقة بعاداتهم ولا يتجاوزوا كلامه الذي في محله ولا يبدوا قصورًا في طاعتهم له.
البروتستانت
البطريرك الأوروشليمي ينقبض ويقبح (١٨٢٣)
وداعات يونس كينغ
وخرج بلينيوس ويونس من القدس في السنة ١٨٢٥ واستقرا في بيروت وجعلاها مركز أعمالهما. وعكف يونس كينغ على درس العربية والسريانية فلازمه أسعد الشدياق لقاء أجر معين. وتُوفي بلينيوس فيسك في خريف السنة ١٨٢٥ ودفن في بيروت.
موقف الموارنة والكاثوليك
البطريرك مثوديوس والمرسلون (١٨٢٧)
البطريرك مثوديوس وترميم الكنائس
مدرسة البلمند الإكليريكية (١٨٣٣–١٨٤٢)
مثوديوس يستجدي الروس (١٨٤٢)
وتخوَّف مثوديوس من اتساع الجبهة ومن لجوء الكاثوليكيين والبروتستانت إلى المدرسة والتعليم في أعمالهم التبشيرية، ولم يرَ في مدرسة الأقمار الثلاثة التي حضَّ على إنشائها في بيروت ما يكفي لدرء الخطر المداهم، فاتصل بالأوساط الروسية ورماهم بآماله، فأشاروا عليه بإرسال مطران إلى روسية يطوف بلدانها لجمع ما يلزم لترميم الأديرة والكنائس وإنشاء المدارس وإعداد الكتب وطبعها.
فأوفد مثوديوس في السنة ١٨٤٢ نيوفيطوس متروبوليت بعلبك لهذه الغاية، وزوده بالتعليمات اللازمة وحمَّله بيانًا بطريركيًّا أنطاكيًّا بواقع الحال، وأرسل البطريرك مع نيوفيطوس كلًّا من الأب الأرشمندريت صفرونيوس والأب الراهب أنثيموس وكاتم أسراره السيد يوحنا باباندوبولو.
أزمة في كنيسة حاصبيا (١٨٤٤-١٨٤٥)
المجد لله دائمًا: مثوديوس البطريرك الأنطاكي برحمة الله تعالى. النعمة والبركة تشملان ابنتنا الروحية المحبوبة بالرب هيلانة زوجة ولدنا الروحي المحبوب بالرب الشيخ يوسف غره (الكفير). فحيث إن ابنتنا المذكورة قد قيل عنها إنه بادي منها كلام غير لايق، وإنه كان حصل بسببها منع في رجوع رَجلها إلى الكنيسة؛ ولهذا السبب تغلظ خاطرنا عليها وما أشبه ذلك، فالآن حيث إن رَجلها ولدنا المذكور قد رجع إلى أحضان أمه الحنونة التي هي كنيستنا الشرقية الأرثوذكسية المقدسة المستقيمة الرأي، وابنتنا المذكورة هيلانة قد قدمت التوبة الحقيقية بصفاوة النية فلتكون مباركة هي ورجلها أيضًا معها من الآب والابن والروح القدس ومنا نحن أيضًا، ويكون أولادها كذلك مباركين وأعمال يدها وجميع تصرفاتها المرضية لعزته تعالى، ونعمته تعالى مع بركاتنا وأدعيتنا تكون شاملة إياها، وإلى رجلها وأولادها وكل من يلوذ فيها، آمين.
أصابع الإنكليز
فاتصل ميخائيل مشاقة بالأمير أحمد ابن الأمير سعد الدين الشهابي وفاتحه كلامًا في موضوع بروتستانت حاصبيا في التاسع عشر من كانون الأول سنة ١٨٤٤، فأجاب الأمير أحمد أنه مسلم لا «يعنيه اختلاف مذاهب النصارى»، وأنه يؤثر باطنًا البروتستانت على غيرهم؛ لأنهم أقرب في الطاعة، ولكنه مُكرَه على طاعة أولياء أمره، وأنه لو تظاهر بحماية البروتستانت لشكا خصومه أمره إلى الوزراء بواسطة جنرال المسكوب. فرأى ريتشارد وود أن يكتب إلى سعيد بك جنبلاط في أمر البروتستانت ويحضه على حمايتهم في حاصبيا بواسطة أعيان الدروز فيها، ومن هنا قول المعلم بطرس البستاني في رسالة له حررها في حاصبيا في ٢٤ حزيران سنة١٨٤٤ أنه «قبل تاريخه بيوم كان قد ذهب الشيخ أمين شمس وأخوه إلى الدار، وأروا المكتوب الذي جاءهم من الشيخ سعيد جنبلاط وعاتبوه بما أظهره لنحو أبو بشارة وجمهورنا، فأجاب الأمير أنه إن شاء الله ما عاد يصدر منه مثل هذا الشيء.»
رأي المعلم بطرس البستاني (١٨٤٥)
أن ترك أهالي حاصبيا ينتج منه شرور كثيرة:
(١) أنه يكون ثقلة واضطهاد شديد على الذين يرجعون من أهالي بلدهم، وربما يصير خطر على حياة البعض منهم. (٢) إذا تركناهم في هذه الحال يصيرون من أشد أعداء طريقتنا وينسبون خراب بيوتهم إلينا، وهذا مما يكون سببًا لسد الباب علينا ليس في جهات حاصبيا فقط، بل في هذه الجهات أيضًا. (٣) أنه ينقطع عند الأكثرين من أهالي البلاد رجا إعطاء الحرية لأن يكونوا بروتستانت. (٤) إذا رجع هؤلاء إلى محلاتهم مذلولين يتحقق لدى الأضداد والأحباب أيضًا أن الدولة تضاد امتداد البروتستانت في هذه البلاد. (٥) أن المحلات الموجودة فيها بعض أناس منَّا تقوى شوكتها علينا، وربما أنهم يفتحون علينا أبوابًا جديدة حتى يصوروا عند الدولة وبقية أضدادنا، وربما عند أحبابنا، بأننا منشئون مفاسد في البلاد ويمنعون الناس الذين تحت سلطانهم عن مبايعتنا ومخالطتنا، ونرجع إلى الحال القديم وتقوى شوكة الإكليروس على رعاياها. (٦) أن الذين يريدون أن يتبعوا الحق أو الذين هم قريبون إلى الحق إذا أرادوا أن يتظاهروا فيه في أماكنهم تقوم عليهم أهالي بلدهم ويعملون بهم ما عمله أهالي حاصبيا بهؤلاء الفقراء المساكين. (٧) حيث إن حاصبيا هي على نوع ما منتظر الجميع أصحابًا وأعداءً، فإذا رأوا انتهاءها على هذه الحال يجعلون يهزون روسهم علينا ويقولون: إيه إيه قد رأت أعيننا! (٨) أن الناس في حاصبيا إذا سمعوا بتركنا لهؤلاء وعدم السؤال عنهم من أحد الأرجح أنهم يهجمون على بيوت هؤلاء وبيوت الباقين هناك ويؤذونهم في مالهم وحالهم. ولكن إذا افتكروا أن مادتهم للآن ممسوكة ولو أن فكرهم وهميًّا، فإن الوهم يمنعهم نوعًا عن إتمام كل مقاصدهم الردية. (٩) إذا فشا هذا الخبر هناك وأراد أصحاب الأعيال من هؤلاء أن يأتوا بعيالهم إليهم أو أراد الباقون هناك أن يرحلوا من البلد يتعرضهم أهاليها خوفًا من رحيل البعض من أقاربهم وأعيالهم معهم، وهذا عندهم مضر لهم ديانة ودنيا. (١٠) متى انقطع حبل الرجا فإن الذين باقون هناك كقسطة المجدلاني وغيره ربما يموت الفكر من عقولهم ولا يعودوا أن يترجوا إمكان تمذهبهم بمذهب البروتستانت هناك، وهكذا يتلاشى هذا الفكر بالكلية ويتركون العادة الحميدة في اجتماع سرًّا للصلوات والقراءة معًا، وناهيك أن أضدادهم يبالغون في منعهم عن ذلك. (١١) إن الذين ماسكون في حبل الباقين هناك مثل المشايخ وبعض الأمراء متى تحققوا لديهم ذلك يخافون ولا يعودون يتجاسرون على حمايتهم وصيانتهم من أعدائهم كما يفعلون الآن حتى ولا يعودون يقبلونهم في بيوتهم. (١٢) متى رأوا ذلك يحرقوا الكتب التي هناك وربما يختلسون الحوايج. (١٣) متى رأت الدولة ذلك ربما أن والي الشام يرسل بطلبهم باجتهاد أو أن والي بيروت يطردهم من كل ولايته.
والنتيجة أن الشرور الناتجة من ذلك هي كثيرة، فمنها ما أراها ومنها ما يراها الناس الفطِنون. هذا وإني لا أرى شرًّا من حفظهم، وإذا وُجد شيء من ذلك فلا يكون بالنسبة إلى الشرور الناتجة من عكسه شيئًا. وأنا أعلم أن الخسائر التي صارت بسببهم هي كثيرة؛ ولهذا لا يسوغ لنا أن ننسى كل تلك الخسائر لأجل ما نضيفه إليها من خسارة جزئية، وأنا أظن الناس المسيحيين إذا طلبت منهم المساعدة لهؤلاء الفقراء المضطهدين فلا يحبسون إحسان رأفتهم عنهم؛ لأني أحقق أن محبة الإحسان في كنايس البروتستانت إذا لم تكن أعظم منها في بقية الكنائس فإنها تكون بالأقل مثلها.
والتدبير الذي يظهر لي الآن أنه الأوفق هو: (١) أن يعطى كم غرش للمحتاجين منهم على سبيل الإحسان لكي يبعثوها إلى أعيالهم الذي يعرون جوعًا. (٢) أن شاهين غبريل يخدم عند أحد الأمراء أو المشايخ في هذه البلاد، والأحسن أن يخدم عند الشيخ سعيد جنبلاط. (٣) أن شاهين أبو بركات وناصيف الريس يسكنوا في نيحا تحت نظر الشيخ سعيد ويتعاطيا أمر البيع والشرا. (٤) أن يوسف بندر ونقولا عيد ونقولا حصلب يدقون بارود في عبيه أو بحمدون. (٥) أن إلياس غبريل يتعاطى صناعة الصياغة في عبيه أو بيروت. (٦) أن جريس الريس وأخوه منصور يتعاطى السكافة في كفر متَّى أو غير مكان بالقرب من عبيه. (٧) أن نقولا أبو ناعسة وأولاده يكونون في نيحا أساكفة. (٨) أن فارس الدبغي يبقى في عمله أو يفتح مدرسة في إحدى ضياع الجبل، وإذا وجد أحد بعد هؤلاء يكون تدبيره كتدبيرهم وكل منهم يجتهد على جلب عياله أو يبقيهم هناك حسب إرادته. وإذا تعذر تدبير أحد منهم على الطريقة المذكورة فربما يوجد البعض من المشن يريده أن يخدم في بيته، وأنا أظن أنه لأجل نفوذ هذا التدبير لا يلزم أكثر من ألفين غرش التي أنا مستعد أن أجمعها وأساعد فيها من مالي على قدر استطاعتي.
فأرجوكم ثم أرجوكم لا تسدوا آذانكم عن صراخ هؤلاء الفقراء المساكين ولا تحبسوا أحشا رأفتكم عنهم بعد أن عملتم معروفًا جزيلًا وخيرًا وفيًّا، وأترجاكم أن تنظروا بعين الرحمة إلى ضيقتهم الحاضرة وتفرجوا منها عنهم على قدر إمكانكم، ولأجل تقدمة ما يجب عليَّ لهؤلاء أنا تجاسرت بتقديم أعراضي إليكم لكي تفحصوا ما فيه، وعلى كل حال كل شيء راجع لخاطركم. طالب دعاكم بطرس البستاني.
الأمطوش الأنطاكي في موسكو (١٨٤٨)
وكان فيلارتيوس صاحب التعليم المسيحي المطول ومحب الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة مطرانًا على موسكو، فلما طلب مثوديوس البطريرك الأنطاكي المساعدة في السنة ١٨٤٢ هب فيلارتيوس للعمل وتلبية النداء، فاستأذن المجمع الروسي المقدس بأن تعطى كنيسة الصعود والقديس أيباتيوس في موسكو الواقعة بالقرب من الكرملين للكرسي البطريركي الأنطاكي، فأقر المجمع ذلك ورفعه إلى القيصر فحاز القبول في ٢٢ كانون الأول سنة ١٨٤٨. وفي السنة التالية سلِّمت الكنيسة المشار إليها مع جميع موجوداتها وما يخصها من الأراضي المجاورة إلى الكرسي البطريركي الأنطاكي لبناء أمطوش بطريركي في موسكو. واشترع المجمع الروسي المقدس أن تُستعمل إيرادات هذا الأمطوش لأجل تهذيب الإكليروس والشعب الأنطاكي.
البطاركة والبابا (١٨٤٨)
Charon, C., op. cit., 162–177.