غريغوريوس الرابع
وفاة ملاتيوس الثاني
وفي مساء الأربعاء الخامس والعشرين من كانون الثاني سنة ١٩٠٦ شعر ملاتيوس الثاني بتوعُّك بسيط فأفاد حاشيته بذلك وأخذ بعض الأدوية، ثم استدعى أحد الأطباء فأسعفه ببعض العلاجات. وفي صباح الخميس تساءل أفراد الحاشية عن صحته فقيل: إنه لم يزل راقدًا، وكان الوقت ضحًى فاستغربوا هذا الرقاد وتقدموا إليه فلم يَفُهْ ببنت شفة، وكانت علامات التنفس شديدة، فاستدعوا الأطباء، فقرروا أنه مصاب بسكتة دماغية شديدة الوطأة عظيمة الخطر. وعقد المجلس البطريركي المختلط جلسة فوق العادة برئاسة أثناسيوس (أبي شعر) متروبوليت أداسيس فقرر وجوب إعلام الوالي والسادة المطارنة القريبين من دمشق، وأرسل الوالي طبيبين ثم جاء بنفسه وشاهد البطريرك بحالة الخطر الشديد.
وبعد ساعة فاضت روحه بين يدي الأطباء ونودي بوفاته، فعقد قوميسيون الطائفة المختلط جلسة ثانية وقرر إخبار جميع أساقفة الكرسي الأنطاكي والنائب البطريركي في مدينة أنطاكية. وأسرع الشمامسة فغسلوه بالزيت والخمر وألبسوه بدلة رئاسة الكهنوت ونقلوه إلى صحن الكنيسة الكاتدرائية ووضعوه ضمن عرش مكلل بالزهور والرياحين، وأحاط به الكهنة والشمامسة يقرءون الأناجيل ويرنمون الزبور، وبقي هذا الترتيب متواصلًا ليلًا نهارًا إلى حين دفنه.
وقُبيل ظهر الجمعة في السابع والعشرين من كانون الثاني حمل البرق رسالة من مطراني حمص وحماة تفيد وصولهما إلى دمشق في المساء، فعقد القوميسيون المختلط جلسة ثالثة وقرر الاحتفال بمأتم البطريرك يوم السبت في الثامن والعشرين وابتداء من الساعة العاشرة قبل الظهر.
وتوافد القوم على الدار البطريركية للتعزية وفي مقدمتهم كثير من الرؤساء الروحيين، وأظهر الوفد الماروني من شعائر الحب والإخاء ما أوجب الشكر والثناء، فقد قال هذا الوفد: «حضرنا بالنيابة عن كل الطائفة المارونية لا لتعزيتكم، بل لمشاركتكم بالحزن، فنحن بالمصاب سواء؛ لأن كل ما يَسُرُّ الطائفة الأرثوذكسية يَسُرُّ الطائفة المارونية، وكل ما يسوءها يسوءنا، وهذه شعائر الموارنة في جميع الأقطار.»
وعند الساعة العاشرة من قبل ظهر السبت غصَّتِ الكنيسة الكاتدرائية بالقوم على اختلاف الطبقات، وكانت لجنة القوميسيون المختلط تستقبل الوفود، فأقبل الوالي والمشير وقناصل الدول والرؤساء الروحيون وممثلو الجمعيات والوجوه والأعيان. وقام بصلاة الجناز كلٌّ من أثناسيوس متروبوليت حمص وغريغوريوس متروبوليت حماة، وبولس متروبوليت لنبان وجراسيموس متروبوليت بيروت وجرمانوس متروبوليت زحلة، وعدد من الكهنة والشمامسة. وتولى التأبين متروبوليت بيروت. ثم حُمل الفقيد على أكف المطارنة وسِير به إلى دار الكنيسة وأُودع اللحد بصحن الدار.
صدى الوفاة في القسطنطينية والإسكندرية
وحرَّر بعض أعيان الطائفة الأرثوذكسية في أبرشية ترسيس وأدنة عرائض إلى المجمع الأنطاكي المقدس، وطالبوا بإجراء الانتخاب البطريركي الجديد على القاعدة القديمة لإعادة السلام إلى أحضان الكنيسة، وأرسلوا نسخًا عن عرائضهم إلى بطاركة القسطنطينية والإسكندرية وأوروشليم، فكتب البطريرك الإسكندري إلى زميله القسطنطيني يأسف لخروج الكرسي الأنطاكي عن جادة الصواب، ويقترح إعادة النظر في المشكلة الأنطاكية وتمهيد السبيل لإعادة المطارنة المبعدين إلى كراسيهم وإشراكهم في انتخاب البطريرك الأنطاكي الجديد. ولكن السينودس القسطنطيني المقدس آثر عدم التدخل؛ خشية تفاقم الشقاق واتساعه.
الترشيح
وفي العشرين من نيسان سنة ١٩٠٦ الْتَأَم المجمع الأنطاكي المقدس لجلسة الترشيح القانوني، فجرى الترشيح بكل هدوء وسكينة وحاز كل السادة المطارنة أصواتًا. ولكن أثناسيوس متروبوليت حمص فاز بالأكثرية، ونال غريغوريوس متروبوليت طرابلس أربعة أصوات، والباقون أقل من ذلك. ونظم ضبط الترشيح ونُقل إلى والي سورية ليعرضه على المراجع الإيجابية. وقبلت هذه المراجع قائمة الترشيح بكاملها، فاعتبرت كل مطران من مطارنة الكرسي الأنطاكي أهلًا للمنصب البطريركي.
غريغوريوس بطريرك أنطاكية
قرر المجمع الأنطاكي المقدس بانتخاب السيد غريغوريوس حداد مطران طرابلس بطريركًا لأنطاكية وسائر المشرق، الجلسة الثامنة: باسم الإله المثلَّث الأقانيم غير المنقسم قد الْتأمنا نحن مطارنة الكرسي الرسولي الأنطاكي المقدس في كنيسة دمشق الكاتدرائية المحمية، التي على اسم نياح سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم. وبناءً على ما تقرَّر في الجلسات السابقة شرعنا في الانتداب قانونيًّا، وفي وسطنا أيقونة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الطاهرة، لإيجاد شخص فيه الأهلية واللياقة وانتخابه لضبط زمام الكرسي الرسولي البطريركي الأنطاكي المقدس والقيام بمهامه روحيًّا وزمنيًّا، فوضعنا أولًا اسم أخينا السيد غريغوريوس مطران حماة، ثانيًا اسم أخينا السيد غريغوريوس مطران طرابلس، وثالثًا اسم أخينا السيد جراسيموس مطران بيروت، الموقرين الذين أُدرجت أسماؤهم في هذا السجل البطريركي الشريف لبيان دائم وإيضاح ثابت. وبعد التضرع والابتهال إلى إلهنا العظيم واستمداد نعمة روحه القدوس وإعطائنا انتدابنا السري القانوني وقع الانتخاب على أخينا السيد غريغوريوس مطران طرابلس الوقور، باتفاق الأصوات، وهو أعطى صوته إلى السيد جراسيموس مطران بيروت الوقور، فقدمنا للإله الضابط الكل الشكر القلبي على ذلك. تحريرًا في اليوم الخامس من شهر حزيران المبارك سنة ألف وتسعمائة وست للميلاد ١٩٠٦ في دمشق.
وكان أثناسيوس متروبوليت حمص قد أعلن عدم رغبته في الدخول في مصفِّ المنتخَبين بفتح الخاء. وأخذ متروبوليت لبنان نَصَّ القرار وتلاه على مسمع الجمهور خارج الكنيسة، فعلت أصواتهم بالاستحسان. ثم انتصب أثناسيوس متروبوليت حمص مناظر غريغوريوس فهنَّأ مناظره بانتخابه بطريركًا وهنَّأ نفسه والسادة المطارنة وعموم الطائفة بالسيد الجليل، «سائلًا الله — جل جلاله — أن يرعاه بعين عنايته ويوفِّقه لأن يرعى الطائفة، وأن يمنحه حكمة التدبير.» وعندئذٍ ألقى البطريرك المنتخب كلمة استهلها بالقول: «إن راعيًا لغنم أبيه وصغيرًا في إخوته أتى قديمًا إلى منصب عالٍ في شعبه، أنا الراعي الفقير الذي شرفته النعمة الإلهية واختصته ثقة إخوته به ودالة أبنائه عليه، فرفعته إلى المقام السامي في هيئة الكرسي الأنطاكي، فيحمد الله على نعمته ويشكر إخوته السادة الأجلاء، ويدعو لأبنائه بالرب ضارعًا إلى الله تعالى الذي منه كل قوة ومعونة ليؤهله معهم لحسن القيام بالواجب لنيل جميل المكافأة من الديان العادل.»
وهو غنطوس بن جرجس بن غنطوس الحداد، ولد في غرة تموز سنة ١٨٥٩ في قرية عبية وترعرع فيها. وضعه والداه في مدرسة عبية الأميريكية فورد من معين العلم زلالًا وبرز على أقرانه ومال من صبوته إلى الزهد والتأمل، فأيد الله نيته ودفعه إلى يد غفرائيل متروبوليت بيروت ولبنان في العاشر من أيار سنة ١٨٧٢، فتثقف عليه في كل بر وفضيلة وحظي من جانب رضاه بما لم يحظَ به أحد قبله، فألحقه بمدرسته الإكليريكية. وفي الرابع والعشرين من كانون الأول سنة ١٨٧٥ اتخذه كاتبًا له فانبثقت أشعة نشاطه وبان سمو آرائه. وفي التاسع عشر من شهر كانون الأول سنة ١٨٧٧ ألبسه معلمه الأسكيم الرهباني في دير سيدة النورية، ثم سامه شماسًا في التاسع والعشرين من آب سنة ١٨٧٩، وأناط به مهام عديدة؛ منها: إنشاء جريدة الهدية، ومنها أيضًا نيابة رئاسة جمعية القديس بولس، ومنها وقوفه على طبع كتاب «البوق الإنجيلي».
حفلة التنصيب
وتبلغ غريغوريوس صدور الإرادة السنية بالتصديق على انتخابه بطريركًا لأنطاكية وسائر المشرق في السادس من آب سنة ١٩٠٦، فتقرر الاحتفال بتنصيبه يوم الأحد في الثالث عشر من الشهر نفسه.
وفي السابعة والنصف صباحًا قُرعت الأجراس فتوارد المدعوون إلى دار البطريركية، وفي طليعتهم ممثلو الحكومة وقناصل الدول والوجهاء والأعيان ووفود الأبرشيات.
وخرج البطريرك بموكبه إلى الكنيسة الكاتدرائية المريمية لابسًا بدلته العادية؛ الجبة والصليب والشمسة والقلنسوة باللاطية، فمشى أمامه القسواسة ثم حملة الشموع والمراوح والصليب المقدس، ثم المرتلون يرتلون الأرمس التاسع للشعانين: «الله الرب ظهر لنا!» ثم مشى الكهنة والأرشمندريتيون ببدلاتهم الكهنوتية، ثم الأساقفة ثم رؤساء الأساقفة ثم المطارنة؛ غريغوريوس حماة وأثناسيوس أداسيس وأرسانيوس اللاذقية وبولس جبيل والبترون وجراسيموس بيروت وباسيليوس عكار، وألكسندروس ترسيس وجرمانوس سلفكياس، ثم الشمامسة يحملون الذيكاريات والتريكاريات والمباخر، ثم حامل الشمعدان البطريركي، ثم البطريرك المنتخب ووراءه أصحاب المقامات الرسمية.
إن المجمع الأنطاكي المقدس ومصف الإكليروس الموقر وجماعة الشعب الأرثوذكسي المبارك قد انتخبوا غبطتكم باتفاق الرأي بطريركًا على مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق بإلهام الله، وهم يدعونكم بواسطة الابن الحقير إلى هذا الكرسي الأنطاكي البطريركي المقدس المؤسس من هامتي الرسل بطرس وبولس الإلهيين، فارتقوا إذن إليه أيها السيد الكلي الغبطة وزينوه عمرًا مديدًا كما زينه أسلافكم الرسل الأطهار وأغناطيوس المتوشح بالله وأفستاثيوس الكبير وملاتيوس الشريف، وسائر الذين تقلدوا زمام هذا الكرسي المقدس بخوف الله.
وبعد هذا تقدم غريغوريوس متروبوليت حماة الأول سيامة بين المطارنة وسلم البطريرك عصا الرعاية قائلًا: «الله معك يا مبارك الرب، تشجع وتقوَّ بالرب، وكن أمينًا في الخدمة التي اختارك لها الله إلهك، وارعَ بخوف الله وأمانة ونشاط الرعية المفتداة بالدم الكريم في مراعي الخلاص، وأورِدْها ينابيع الحياة الإلهية حافظًا الإيمان وساهرًا في الصلاة مُحِبًّا لله ولشعبه المختار ومُعَلِّمًا الجميعَ وصايا الرب وحقوقه صائرًا مثالًا في كل عدل، وخذ بيمينك هذه العصا القويمة لتكون لك نحو الجهال والمتمردين للتأديب ونحو العقلاء والراضخين للرعاية والعناية.»
إن خطارة المنصب بالنسبة إلى حقارتنا تزيدنا شعورًا بضعفنا واحتياجنا إلى نعمة القدير، ونتقدم لإتمام رغبة إخوتنا بالرب الكلي طهرهم وأبنائنا الأحباء بالروح القدس بارتقائنا إلى هذا الكرسي الرسولي المقدس معاهدين أن نبذل جهد القدرة للقيام بأمانة ونشاط بواجبات المنصب الذي عهد إلينا، ثابتين ومحافظين على الناموس الإلهي والترتيبات الشريفة ونفوس الرعية وحقوق الله حتى النهاية، شاكرين لإخوتنا الكلي طهرهم انتخابهم لنا على ما بنا من الضِّعة وبنينا الأعزَّاء ثقتهم بنا على ما بنا من الضعف، مستمدين جميعنا العون الإلهي والمساعدة الأخوية والطاعة البنوية للبلوغ إلى غاية رضا الذي يدين كل الخليقة، فنظهر جميعنا أهلًا للدعوة التي دعتنا لميراث ملكوت السماوات.
ثم وقف جراسيموس متروبوليت بيروت في الكرسي المقابل للكرسي البطريركي وأجاب غبطته على خطابه بخطاب ناب فيه عن هيئات الإكليروس والشعب بتهنئة غبطته، فوصف سرور البيعة الأنطاكية براعي رعاتها، وأظهر ما علقته عليه من الآمال وما انتظرته من حكمته وحزمه.
غريغوريوس الأب الأقدس الطوباوي والجزيل الاحترام بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسورية والعربية وكيليكية والبلاد الكرجية وما بين النهرين وسائر المشرق، أبو الآباء وراعي الرعاة ورئيس الرؤساء ثالث عشر الرسل القديسين الأطهار أبونا ورئيس رعاتنا لتكن سنوه عديدة.
رسائل الجلوس
بعد الديباجة: نبدي أننا نتبع ترتيبًا شريفًا وعريقًا في القدم يوجب على رؤساء الكنائس المقدسة المستقلة الروحيين أن يُعلموا بعضهم بعضًا بالحوادث المهمة التي تحدث حينًا فحينًا في كنائسهم، وأن يرسلوا الرسائل السلامية بيانًا مخصوصًا لارتقائهم على منصة الرئاسة في تلك الكنيسة، فنتقدم برغبة فوادية لنُعلِم كلي قداستكم أنه بعد انتقال سلفنا السعيد الذكر ملاتيوس إلى الرب في أواخر شهر كانون الثاني للسنة الحالية اجتمعت الهيئة الانتخابية، وهي مؤلفة من مطارنة الكرسي الأنطاكي الرسولي المقدس الجزيل طهرهم ومن الذوات نواب الشعب المحفوظ من الله، فأتمت كل المعاملات التمهيدية للانتخاب بحسب الأصول المرعية في اجتماعاتها القانونية تحت رئاسة القائمقام البطريركي السيد أثناسيوس مطران حمص الكلي الاحترام. وفي اليوم الخامس من شهر حزيران سنة ١٩٠٦ اجتمع المجمع الأنطاكي المقدس المؤلَّف من جميع مطارنة الكرسي الرسولي في كنيسة نياح سيدتنا والدة الإله الكاتدرائية في دمشق تحت رئاسة القائمقام البطريركي المشار إليه. وبتمام الحرية وبإرشاد نعمة الروح الكلي قدسه مبدأ كل عمل مقدس وجه أنظاره إلى ضعفنا بانتخاب حقارتنا باتفاق تام وبرأي واحد بطريركًا لمدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق.
وبعد أن صدق جلالة متبوعنا الأعظم صاحب الشوكة والاقتدار سلطاننا الأفخم على انتخابنا القانوني الذي جرى بالصورة المبينة، وأعلن رضاه الملوكاني العالي بإرادته السنية الصادرة في ٥ آب سنة ١٩٠٦، تم يوم أمس الأحد الواقع ثالث عشر شهر آب الجاري ارتقاؤنا على حسب الأصول المرتبة ترتيبًا إلى الكرسي الرسولي البطريركي الأنطاكي المقدس في الكنيسة الكاتدرائية المشار إليها في مدينة دمشق.
ولما كان من أقدس اهتماماتنا أن نحافظ على رباط الاتحاد والمحبة في المسيح غير منقطع تبادر بتحريرنا هذا الأخوي، الذي به نعرف كلي قداستكم الوقورة والمشتهاة ما تقدم، ونصافحكم بشوق روحي ومقدس ونقبِّلكم القبلة الفؤادية بالمسيح.
على أننا باستلامنا سكان السفينة المؤسسة من الله سفينة أنطاكية المقدسة نلتهب بغيرة حارة ورغبة واحدة فقط في كيف يمكننا بمعونة الله أن ندبر السفينة المحفوظة تدبيرًا نافعًا ومرضيًا لله، ونقودها بسلام لإتمام إرادة الرب الصالحة والكاملة، وأن نتبع خطوات راعي الرعاة العظيم لنأتي بشعب الرب الخاص المسلم بعهدتنا إلى مراعي نعمة الإنجيل وينابيع الخلاص كما يريد الله، غير أنه سيكون من أقدس وأحلى واجباتنا هذا الواجب؛ أي أن نجتهد في أن نحافظ على الربط المقدسة مع قداستكم الوقورة ربط المحبة والسلام، ونقدم صلوات وتضرعات من أجل أن تكون خدمتكم وخدمتنا مثمرة في كرم الرب لمجد اسمه الفائق التمجيد. ومن ثَمَّ نرغب من تقوى قداستكم الشيء ذاته؛ أي أن نتمتع بمثل ما ذكر وننال منكم الرسائل المتتابعة تعزيزًا وتقوية لربط المحبة الأخوية بيننا التي هي كمال الناموس وأسمى وصايا المسيح مخلصنا وفادينا، ولتوثيق عرى السلام المعطاة الطوبى لصانعيه من فم مخلصنا.
أيها الأخ المحبوب بالمسيح جدًّا الكلي الغبطة والقداسة بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق، ومساهم حقارتنا في خدمة الأسرار الإلهية المشوق إليه كثيرًا، كيريوس غريغوريوس، بعد مصافحة غبطتكم الجليلة أخويًّا بالرب يحلو لدنيا جدًّا أن نخاطبكم بما يأتي:
إن رابوع البطريركيات الشريف المؤلف من كنائس الله الشرقية المقدسة كان دائمًا بنعمة الله وبملء التقوى قاطعًا كلمة الحق باستقامة، ومرتبطًا بعرى المحبة الأخوية والاتفاق والمعاضدة ارتباطًا لا ينفصم كما كان متحدًا بالرأي، فتوطدت بذلك وحدته وأصبح معسكرًا قويًّا يؤيده التكاتف على المصالح المشتركة العائدة لخلاص وصيانة ذويه والقريبين منه، فضلًا عما يتأتى عنها من الإرشاد والمساعدة للبعيدين. وبما أن هذا الرابوع يكرِّز برب واحد وإله واحد ومعمودية واحدة، فكانت أيضًا رغائبه مشتركة وكذلك مقاصده المقدسة والشريفة التي بها يرشد إلى الخلاص، ويعمل على البنيان وبكل غيرة حافظ على ثوب الوحدة والاتفاق في الرأي الذي نسجته يد علوية وعملت على صيانته من كل خرق. فالمجد لله الكلي الصلاح ورئيس السلام، فإنه بمسرته المقدسة وبنعمته تمكَّن رباط المحبة القوي من أن يبعد النفرة التي دخلت حيث لم يكن لها محل، وأعاد ثانية القريبين والأنسباء إلى قرابتهم ونسبتهم السابقة التي ولدتها الفطرة والدعوة المشتركة، كما شهد بذلك التاريخ القديم والتقليد على ممر الدهور، فكان ذلك كله لتعزيتنا المشتركة وخلاصنا وفرحنا، فعسى أن لا تعود البتة النفرة والانقسام اللذين لا محل لهما وقد تولد لنا عنهما حزن عظيم جدًّا.
فعليه ونحن بملء الفرح على إعادة العلائق الحبيبة نتقدم بالحبور والشوق بناء على قرار مجمعي، ونبادر لمجاوبتكم الجواب اللازم على التحرير الأخوي الذي من مدة أرسلته إلينا غبطتكم الجليلة، وبه بحسب العادة الجليلة والحسنة أخبرتنا عن انتدابها وارتقائها السعيد إلى كرسي مدينة الله، ونصافحكم مصافحة أخوية بابتهاج القلب ونهنئكم من صميم الفؤاد على انتخابكم، وبنوع خصوصي نظره فرحنا؛ إذ نرى في شخص غبطتكم الوقور رئيس كهنة هذيذة بالإلهيات دومًا يحافظ على عقائد حسن العبادة بكل دقة، ويسوس الرعية بغيرة وحنكة، وقد اضطرمت في فواده الغيرة على رعاية الرعية التقية المؤتمن عليها وقيادتها إلى ما يرضيه تعالى. كنا نرى فيكم أيضًا أخًا كلي الكرامة يحتسب من أقداس، وأحلى اهتماماته الغيرة في سبيل المحافظة على الربط الحبية الشريفة بيننا التي منها تتأتى الفوائد والبنيان والخلاص لكل منا على حدة ولمجموعنا سوية.
وإذ نلتمس أخويًّا العون العلوي لغبطتكم والتأييد في رغائبكم ومقاصدكم المخلصة والمرضية لله، نؤكد لكم أننا لا نفتر عن رفع أكفِّ الضراعة بحرارة لدى مؤسس الكنيسة ومدبرها السماوي من أجلكم، ومن أجل رعيتكم التقية، وبكل شوق وبعين الاعتبار نقبل دائمًا كل ما تكاتبنا به أخوتكم وتعلنه لنا. وبكل نشاط نقدم لكم مساعدتنا الأخوية في كل ما تحتاجون إليه وتطلبونه منا في سبيل الخير.
وعليه نكرر مصافحتنا القلبية لغبطتكم الجليلة بقبلة أخوية، ونقدم تحياتنا الأخوية من أجل جميع رؤساء كهنة الكرسي الكلي طهرهم، الذين أخذنا رسالتهم المشتركة من مدة، أيضًا بعين الاعتبار والإكرام ولا نزال بملء المحبة الأخوية. أخوكم المشتاق والمحب لكم بالمسيح يواكيم بطريرك القسطنطينية.
زخريا يمين البطريرك
ولمس غريغوريوس مواهب شمَّاسه زخريا زخريا في الإدارة والسياسة، وتثبت من إخلاصه وتعلقه بشخصه، فجعل باكورة أعماله البطريركية ترقية هذا الشماس المخلص الأمين إلى درجة القسوسية. فأقام في الخامس عشر من آب سنة ١٩٠٦؛ أي بعد تنصيبه بيومين، قدَّاسًا حبريًّا لمناسبة عيد انتقال السيدة والدة الإله عاونه فيه كلٌّ من أرسانيوس متروبوليت اللاذقية وجراسيموس متروبوليت بيروت، وفي أثنائه سام زخريا قَسًّا.
شغور الكراسي
وفقدت أبرشية صور وصيدا راعيها ميصائيل في السابع من تموز سنة ١٩٠٦ في حاصبيا إثر أمراض نزلت على جسمه اللطيف فأنهكته، وكانت هذه الأسقام مصحوبة بصنوف الآلام والأوجاع، فكان يقابلها برحابة صدر وثبات جنان ملقيًا اتكاله على رحمة المولى.
وكانت أبرشيته أرضروم لا تزال مترملة منذ وفاة قسطنديوس، كما سبق وأشرنا، وكان على غريغوريوس أيضًا أن ينظر في أمور روم حوران وأبرشية بصرى التي لم ترَ راعيًا منذ استعفاء يوايكيوس (الحايك) المنتخب مطرانًا عليها في السنة ١٩٠٠.
رائد غريغوريوس وخطته
واتخذ البطريرك الأنطاكي الجديد شعارًا له الآية السادسة والعشرين من سفر الأحبار (لاويين) من الفصل العشرين: «وكونا لي قديسين؛ لأني قدوس أنا الرب وقد فرزتكم من الأمم لتكونوا لي.» وكان يردد مرارًا الآية الخامسة والعشرين من الإصحاح العاشر من بشارة متى: «وحسب التلميذ أن يكون كمعلمه.»
وقال — طيَّب الله ثراه: إن القداسة تقتضي إماتة أعضائنا التي على الأرض؛ لنكون نحن أحياءً في الجسد كمن لا أجسام لهم، فنخدم بكل أمانة ذاك الذي لا جسم له وهو محبة وقد أظهر محبته لنا «ببذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية»، وأن نتشرف كأبناء النور بكل الصلاح والعدل والحق؛ «ليرى الناس أعمالنا الصالحة، ويمجدوا أبانا الذي في السماوات»، وأن تكون العدالة قائمة في أعمالنا والرحمة والرأفة لا تبرحان من أمام عيوننا، لنقطع ما يلزم قطعه من أسباب الفساد، وننعش ما يلزم إنعاشه من وسائل الإرضاء لله حبًّا بالله، وأن نتخذ الطرائق المناسبة لنشر حقائق إيماننا بين أبنائنا اعترافًا بنعمة الله العظمى علينا.
ولما كان الإكليروس من الشعب وللشعب وكان الاثنان يؤلفان الجسم الذي رأسه يسوع المسيح الحي على الدوام كان اختيار الإكليروس من أفاضل الشعب أمرًا ضروريًّا، وهذا الأمر يتطلب من المتقدمين والوجهاء حسن تربية أبنائهم على ما يلائم هذه الدعوة الشريفة والمنزلة العلية. ولما كان الكهنوت عندنا لا يورث وبابه مفتوح لكل ذي ميل؛ كان لنا أن ننتظر من أبنائنا ذوي الكفاءة واللياقة الإقبال عليه والسعي في سبيله لنيل ما يترتب عليه من رضا الله تعالى وخلاص النفوس وطيب الأحدوثة وتخليد الذكر.
وقال رحمه الله: وليعلم الشعب المبارك والإكليروس الموقر أن حياتنا الدينية بهذه الأيام الأخيرة هي بنت سنين لا تزيد عن العشرة فيها عرفت الرعية صوت راعيها وفهمت لغته، فنحن نسير في سبيل الواجب للملة كابن عشر سنين فلا نقصر عن إبراز الخطوات بين صفوف المواطنين السائرين في طريق الحياة على نغم نشيد السلام، ويشهد لنا بذلك قلة مشاكلنا مع مواطنينا سواء كانوا من المسيحيين أو من الملل الأخرى، كما تشهد أيضًا رغبتنا المستمرة في اقتلاع أشواك الخلاف، وفي غرس أصول المودة والائتلاف.
ونبذل الجهد في ترقية الشئون العلمية والأدبية بالمساعدة التي تمر من كفِّنا سراعًا إلى القائمين على المحرث الإلهي لتنعش الأرواح وتنهض الهمم وتقوى العزائم. والأمل وطيد بأن يتسنى لنا ولملتنا المحبوبة من وسائل الفَلاح ما يرسم الرسوم البديعة في حياة الملة بألوان زاهية وسلامة ذوق فائقة.
وهو ذا المطابع الأرثوذكسية التي كانت قد ابتدأت في خدمة شئون الملة منذ قرنين ونيِّف قد توفَّقنا لإعادتها في دار البطريركية، كما توفَّق السيد الأخ مطران حمص الكلي الوقار في إنشاء مطبعة وجريدة في حمص من خير الشعب ولأجل خدمته. وقد أقدمنا على طلب امتياز لمجلة الكنيسة الأنطاكية، فصدرت الأوامر السامية بتمكيننا من إصدارها، وقد سميناها «النعمة» لنشر حقائق الإيمان وبث روح المحبة وإحياء ميت الرجاء.
وتلك المدارس الداخلية التي أنشئت في دير سيدة البلمند في أوائل القرن التاسع عشر، وما أنشئ على أثرها من مثل مدرسة سوق الغرب ودير سيدة كفتين على عهديهما الأول والثاني، والمدرسة الإكليريكية في بيروت والمدرسة الإكليريكية المتجددة في دير سيدة البلمند شاهد عدل على سعي الرؤساء ومحبة الملة لبث روح العلم والفضيلة بين أبنائها، وقد أخذ سيادة الأخ مطران بيروت الكلي الوقار يجدُّ في سبيل إنشاء مدرسة عالية للملَّة حاملة اسم السلام، كما أن سيادة الأخ مطران حمص ينشئ عن قريب مدرسة داخلية في مقر كرسيه المقدس لسد جانب من حاجة الملة. وكل من السادة الأطهار يهتم في دائرته بشئون المدارس وبعضهم بالمياتم والمستشفيات وغيرها من المعالم الخيرية بمعاضدة رجال من الشعب.
وهذا الهلال الظاهر يبشِّر بأن نجاح الأمة سيكون يومًا ما بدرًا كاملًا، والمساعي المبذولة من جميع الرؤساء إنما هي لأجل حياة الشعب ولتسبيح رأس خلاصنا، فمن اللازم أن يستقبلها الشعب مهللًا ويعينها بسخاء.
مدرسة السلام
كلية حمص الأرثوذكسية (١٩١٠)
وعُني أثناسيوس متروبوليت حمص بإنشاء مدرسة أرثوذكسية عالية، فاستدعى في السنة ١٩٠٧ العالم المربي الأرثوذكسي جرجس همام الشويري واستشاره في أمور التعليم والبناء، ثم بدأ بجمع المال، فأقبل الحمصيون بما عُرفوا به من غَيرة وسخاء. وفي خريف السنة ١٩١٠ فتحت مدرسة حمص العالية أبوابها لقبول الطلاب، وتولى نيابة الرئاسة فيها الخوري عيسى أسعد وأشرف على إدارتها وتعليم الرياضيات العالية فيها جرجس همام الشويري. وكانت كنيسة موسكو قد أهدت كنيسة حمص جرسًا كبيرًا، فاعترضت بعض الأوساط الحمصية على استعماله فعلِّق بإرادة سلطانية سنية.
أبرشية ترسيس
بما أن كرسي أبرشية طرابلس المحروسة من الله قد فرغت بانتخاب سيادة راعيها الجليل السيد غريغوريوس الجزيل الشرف والاحترام، وارتقاء غبطته سدة بطريركية مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق بتاريخ ١٣ آب ١٩٠٦، وبقيت هذه الأبرشية بدون راعٍ، فقد اجتمعنا نحن مطارنة الكرسي البطريركي الأنطاكي الموقعين بذيله في مدينة دمشق بأمر وإجازة غبطته في الكنيسة البطريركية الكاتدرائية التي على اسم نياح سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم، وأعطينا أصواتنا القانونية لإيجاد شخص لائق ومستحق وانتخابه ليتقلد زمام أبرشية طرابلس ويرعى رعيتها من الأسماء الثلاثة التي أعطاها لنا غبطته المرشحين من كهنة وشعب عموم الأبرشية الموما إليها، وهم: السيد ألكسندروس مطران كيليكيا سابقًا، والسيد رفائيل أسقف بروكلن الكلي طهرهما، وقدس الأرشمندريتي زخريا راجي الجزيل بره. ولدى فتح بطاقات الانتخاب التي قدَّمها كلٌّ مِنَّا بيده بعد إقامة الصلاة المفروضة واستمداد نعمة الروح الكلي قدسه وقع الانتخاب باتفاق الأصوات على السيد ألكسندروس طحان مطران كيليكيا سابقًا الجزيل طهره، فسميناه مطرانًا قانونيًّا على أبرشية طرابلس المحفوظة من الله. وإيضاحًا لذلك كله سطِّر هذا العمل المجمعي في هذا السجل البطريركي موقعًا عليه بإمضاواتنا وأختامنا بالأصالة والوكالة. تحريرًا في اليوم الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني سنة ألف وتسعمائة وثمانٍ ١٩٠٨.
زخريا متروبوليت بصرى
إنه بناءً على خلو أبرشية بصرى حوران وتوابعها من راعٍ قانوني بسبب استعفاء الأرشيمندريتي يوانيكيوس الحائك الجزيل بره المنتخب مطرانًا عليها بتاريخ ٢١ آذار سنة ١٩٠٠، فقد اجتمعنا نحن مطارنة الكرسي البطريركي الأنطاكي الموقعين بذيله في مدينة دمشق، بأمر وبإجازة غبطة السيد الجليل والراعي النبيل كيريوس كيريوس غريغوريوس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الجزيل الطوبى والاحترام في الكنيسة البطريركية الكاتدرائية التي على اسم نياح سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم. وأعطينا أصواتنا القانونية لإيجاد وانتخاب شخص من الثلاثة الأشخاص المرشحين؛ وهم: قدس الأرشيمندريتي كير زخريا راجي، وقدس الأرشيمندريتي كير أغناطيوس أبو الروس، وقدس القس أثناسيوس مطر الكلي بِرُّهم، وبعد إقامة الصلاة المفروضة واستمداد نعمة الروح الكلي قدسه فتحنا بطاقات الانتخاب التي أرسلها لغبطته سائر السادة المطارنة الغائبين في أبرشياتهم وقع الانتخاب بأكثرية الآراء على قدس الأرشيمندريتي زخريا راجي الكلي بِرُّه، فسمي مطرانًا قانونيًّا على أبرشية بصرى حوران وتوابعها المحفوظة من الله، وإيضاحًا لذلك كله سطر هذا العمل المجمعي في هذا السجل البطريركي موقعًا عليه بإمضاواتنا وأختامنا بالأصالة والنيابة.
قاضي الشرع وطلاق النصارى
وكان محمد طاهر أفندي نائب قضاء جسر شغور قد نظر في دعوى طلاق قائمة بين جرجس أندراوس من أهالي جسر شغور وبين زوجته ذيبة بنت فارس نقولا فرح من أهالي أريحا، فحكم بالطلاق وأصدر إعلامًا شرعيًّا بذلك مؤرخًا في ١٤ جمادى الآخرة سنة ١٣٢٦ ممهورًا بختمه مسجلًا لديه تحت نومرو الضبط ٤٢، صحيفة ١٤٤ ونمرو السجل صحيفة ٧٩، وتقاضى خرج إعلام قدره ١٢٠ غرشًا صاغًا.
الدستور العثماني والكنيسة
تجنيد النصارى (١٩٠٩)
وفي الحادي والعشرين من تشرين الأول سنة ١٩٠٩ استدعى والي ولاية سورية رؤساء الملل غير المسلمة لسماع تلاوة الفرمان السلطاني المؤذن بتجنيد أبناء مللهم للمرة الأولى، فقصد الرؤساء دار الحكومة فقوبلوا بالعطف، ثم نزل الوالي والنائب والمفتي والرؤساء الموما إليهم وبكباشي طابور الميدان وغيرهم من رجال الولاية إلى ساحة السراي، فسلَّم الوالي بكل إجلال الفرمان العالي لمكتوبجي الولاية فقبله وتلاه. ثم خطب الوالي مبينًا أهمية الموضوع ومهنئًا الملل غير المسلمة بحصولها على المساواة بالجندية العثمانية، ثم لفظ المفتي الدعاء المعتاد.
وفي صيف السنة ١٩١٠ تواردتِ الجنود من الآستانة وإزمير لتعزيز الحملة على جبل الدروز بقيادة سامي باشا، وكان بينهم عدد وافر من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة بعضهم من المشاة وبعضهم من المدافعين، فترددوا في كل أحد على الكنيسة في دمشق. وفي منتصف آب ورد أمر تلغرافي من نظارة الحربية إلى مركز الفيلق الخامس في دمشق يوجب السماح للجنود الأرثوذكسيين بالقيام بالواجبات الدينية لمناسبة عيد انتقال السيدة، وكانت صلاة العيد قد انقضت فأقيم قداس خصوصي يوم ثالث العيد باللغة اليونانية، وتقبل الكاهن اعترافاتهم وتقدموا أزواجًا إلى مناولة الأسرار الطاهرة، ثم تناولوا طعام الغداء على مائدة البطريرك.
المجمع الأنطاكي المقدس (١٩١٠)
وفي الثاني والعشرين من حزيران سنة ١٩١٠ وفي الساعة التاسعة قبل الظهر أمَّ الكاتدرائية المريمية كلٌّ من البطريرك والمطارنة أثناسيوس وغريغوريوس (حماة) وأرسانيوس وبولس وجراسيموس وباسيليوس واسطفانوس وألكسندروس وجرمانوس وملاتيوس (أميذس – ديار بكر) وزخريا وإيليا (صور وصيدا).
فبدأ غبطته
تبارك الله، والمجد لك يا إلهنا، وأيها الملك السماوي، والأرشدياكون (ميخائيل شحادة) قدوس الله وما يتلوها، والإعلان من غبطته ثم طروبارية العنصرة التي أعادها خورص اليمين بعد الذوكصا وقنداق العنصرة بعد الكانين من خورص الشمال. ثم قال غبطته: ارحمنا يا الله ثلاث طلبات والرابعة؛ لكي يرسل الرب الإله نعمة روحه القدوس على هيئة المجمع المقدس لتنيرها وترشدها وتهدي إلى ما يرضي الرب؛ لأنها ملتجئة إلى عظم غنى رحمته. ثم الإعلان: لأنك إله رحيم، والختم الصغير المختص بالعنصرة، وبصلوات آبائنا القديسين. ثم حضر البطريرك إلى أمام الإنجيل الطاهر الموضوع على قراية في الوسط فسجد وقبَّله ثم سجد ثانية ورجع إلى محله فوقف، فتقدم السادة كل بدوره فعل مثل ذلك ووقف في محله حتى انتهى الكل، وتدرعوا بإشارة الصليب وجلسوا.
وافتتح البطريرك الجلسة مرحبًا، وأشار إلى أنها المرة الأولى في تلك الآونة التي فيها اجتمع اثنا عشر مطرانًا والبطريرك في دمشق. ثم قال بعد البسملة: كما يضم الأخ إخوته الغائبين كذلك أضمكم إلى قلب يتحرك بحبكم يا رؤساء كهنة العلي ومطارنة الكرسي الأنطاكي المقدس. تبارك الله الذي جمعنا في هذه المرة الثانية إلى هذا المجمع الأنطاكي المقدس وجميعنا بالصحة والعافية؛ لكي نمجد بصوت متفق الروحَ القدس الذي نعمته اليوم جمعتنا وقدرته تقوينا للعمل المرضي لله في شعبه المبارك. ثم ذكر ما كان في غيابهم من غبطته من الأشغال واحدة فواحدة، وأنه سيقدم لهم أوراق كل مسألة على حدة، ولفت النظر إلى ترتيب برنامج للتعليم على قواعد المذهب الأرثوذكسي، وإلى ترجمة كتابي «أصول المحاكمات الكنائسية وتطبيقها»، وإلى مسألة الوصية والأحكام الكنائسية، وأن تكون مرعية، وإلى التعامل القديم الذي جرت عليه الكنائس في مصالح أبنائها، وإلى مسألة الأراضي التي تطلب محلوليتها لمجرد كون المقيدة على اسمه لم يترك وارثًا، مع أن مجرد القيد لا يجعل تلك الأملاك والأراضي مشتراة بمال المقيدة باسمه، بل هو أمر مشهور ومقرر لدى العموم، وفي المراكز الرسمية أن تلك الأموال أموال الوقف وقد تقيدت تلك الأراضي باسم الوقف أو باسم المتولي، كمتولٍ للوقف. ثم أرادت النظارة فأجرت قيدها على اسم المتولي، ويقال الآن إنه ليس له وارث، وأشار البطريرك أيضًا إلى ما كان في أيام الدستور من المشاغل الجديدة، وإلى ما نجم من المشاكل عن عدم فهم معنى الحرية، وخصص بيان ما كان يجري في حلب وزحلة وأرضروم وصور وصيدا، وتكلم أيضًا عن تأسيس المطبعة البطريركية ومجلتها «النعمة» وعن المباشرة بطبع الكتب الدينية اللازمة وعن حالة مدرسة البلمند الإكليريكية.
وتوالت الجلسات فكان من نتائجها رفع تقرير مجمعي إلى نظارة العدلية والمذاهب بشأن الوصية، وبشأن الامتيازات التي تمتَّعت بها ملة الروم، وأن هذه الملة واحدة لا تتجزأ، ونظر المجمع في شكوى الطائفة في حلب ودقق في الإجراءات التي اتخذها اسطفانوس مطران حلب، فثبتت نزاهته واستقامته. ولكن المجمع لمس في الوقت نفسه نفور الشعب من اسطفانوس وعدم استعداده للتعاون معه، وأعرب اسطفانوس عن استعداده للتضحية في سبيل المصلحة العامة، فاستعفى وقبل المجمع استعفاءه، وشكر المجمع لقداسة البطريرك المسكوني اهتمامه في قضية أرضروم وإرساله الشماس جرفاسيوس إكسرخوسًا. وكان اليونان من أبناء الملة في أبرشية ترسيس قد تقدموا إلى البطريرك المسكوني بطلب راجين تدخله مع المجمع الأنطاكي لتعيين أسقف يجيد اللغة اليونانية، فتقرر إرسال إيليا متروبوليت صور وصيدا إلى كيليكياس لدرس الحالة ورفع تقرير عنها.
واقترح متروبوليت طرابلس نقل مدرسة البلمند إلى دمشق لتكون تحت أنظار البطريرك، فاقترح متروبوليت بيروت نقلها إلى دير مار إلياس بيروت وجعلها تحت رعاية متروبوليت بيروت ومتروبوليت جبيل والبترون، وأن تبقى كما كانت مدرسة إكليريكية بطريركية.
الخطبة والزواج
- (١)
إذا كان الرجل والامرأة مقترنين عن اتفاق بينهما فقط ولم يكن بينهما مانع كنائسي وحضرا إلى بلادنا وهما متفقان ينصح لهما لأخذ بركة الإكليل المقدس وتعطى لهما بحسب الرسوم. وإن كانا غير متفقين فينصح لهما أن يتفقا ويقتبلا بركة الإكليل، فإن رفضا بعد النصيحة اقتبال بركة الإكليل سواء كان في الحالة الأولى أو الثانية فالكنيسة لا تعتبر قرانهما شرعيًّا ولا أولادهما شرعيين، وترفض كل دعوى زوجية وكل دعوى ومعاملة إرثية لهما.
- (٢)
إذا كان الرجل والامرأة مرتبطين مدنيًّا فقط ولا مانع كنائسي بينهما سواء كانا متفقين أو مختلفين فينصح لهما بقبول بركة الإكليل، فإذا لم يقبلا لا تأذن الكنيسة إذ ذاك لهما أو لأحدهما بزواج آخر.
- (٣)
إذا كان الرجل والامرأة مرتبطين مدنيًّا ونائلين بركة الإكليل من كاهن غير أرثوذكسي ولا مانع كنائسي بينهما فالكنيسة تجري معهما بحسب القوانين الكنيسة المرعية في هذا الباب.
البطريرك وحوران (١٩١١)
إصلاح ومصالحة
راشيا (١٩١١)
وقام غريغوريوس من ميمس إلى الكفير فلم يجتزِ المسافة إلا في ساعتين ونصف، وهي لا ينبغي لها فوق النصف الساعة؛ وذلك لكثرة المستقبلين من المسيحيين والدروز. ثم بارح الكفير إلى قرى عين عطا وشبعة وعين حرشة، وفي أثناء هذا الطواف أنشأ عدة مدارس وساعد الجمعيات الخيرية وبث شعور النهضة في قلوب أبنائه الطائعين.
وعصاري الإثنين في السابع من تشرين الثاني قدم إلى راشيا، فكان في طليعة الملاقين قائمقام القضاء وشرذمة من الجند فالرؤساء الروحيون بملابسهم الكهنوتية وأعلام الكنيسة. ولما بلغ ظاهر البلدة ورأى علم الصليب المقدس ترجَّل عن جواده وسار بين الجمع حتى بلغ كنيسة السيدة حيث أدى الفروض الدينية ثم شكر المولى وبارك، وزار دار الحكومة والمدارس الروسية وحضَّ التلامذة على الاجتهاد ونشط المعلمين على الخدمة.
البطريرك في زحلة
إنني أحب أبناء وطني من جميع المذاهب على السواء، ولا فرق بينهم عندي، ألستُ وإياهم أبناء أب واحد وأم واحدة؟! أوَلسنا جميعًا صنعة خالق واحد؟! أوَلسنا نسكن أرضًا واحدة، ونستنير بضوء شمس واحدة، ونستظل بسماء واحدة، وترف فوقنا راية واحدة هي راية الوطن العزيز؟! أوَلسنا نحن والمسلمون توحدنا جامعة الانتساب إلى أرض واحدة ووطن واحد؟! أوَلسنا معًا نعبد إلهًا واحدًا غير متجزئ.
بيروت
وأوفدت بيروت نخبة من وجهائها برئاسة متروبوليتها جراسيموس إلى زحلة لتحية البطريرك ودعوته لزيارة الثغر، فباركهم ورحَّب بهم. وكان هناك بانتظارهم أساقفة زحلة والمعلقة وحكام القضائين، فتبودِلت الخطب وشرب الجميع نخب الوفد البيروتي، وبارك البطريرك مودعيه في الحادي والعشرين من كانون الأول وركب القطار الخصوصي الذي أنفذه يوسف سرسق ليقل غبطته إلى بيروت. وبارك البطريرك في جديتا والمريجات وبحمدون وعالية وعاريا. وفي بعبدا أخذت سلام غبطته فرقة من الجند اللبناني واستقبله في محطتها كبار مأموري الحكومة، ولما بلغ القطار محطة الحدث استقبله تلامذة المدرسة الروسية بأناشيد رقيقة وأنغام فاتنة.
واحتشد في محطة بيروت جمهور من المرحبين لا يحصره العد جمعهم إليها علمهم بأقدار الرجال، ومشت عربات جمعيات الملة الأرثوذكسية فعربات السريان الكاثوليك، فالأرمن الكاثوليك فالموارنة فالروم الكاثوليك، فمجلس الملة الأرثوذكسية، فكوكبة من الفرسان فعربة نظمي بك قومندان الجندرمة في بيروت ومدير البوليس فعربة غبطة البطريرك فعربات السادة المطارنة، وتلتها سلسلة من العربات بلغت نحو المائتين والخمسين.
وقصد البطريرك الكنيسة الكاتدرائية فصلى وبارك ودعا. ورحَّب جراسيموس بغبطته ودعا للسلطان بالنصر وشكر المتصرف والوالي وقنصلي روسية واليونان، فرد البطريرك بخطاب بليغ حكيم.
لقد أمرني حضرة الرئيس أن أقول: إن غبطتكم فوق كل نعوت التعظيم والتبجيل؛ لأن أقل ما يقال في مرتبتكم السامية إنكم في كنيسة الله الأنطاكية السامية أبو الآباء وراعي الرعاة، وملايين أبناء الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة يفتخرون أنهم من أبنائكم ويدعون الله كما تدعوه الآن أن يطيل لنا في أيامكم ويملي الوطن العثماني بكم، آمين ثم آمين.
قصدت زيارتكم في هذا المعهد العلمي العظيم، وكنت أشاهد في طريقي ما كتبه أحد رجال الفضل على جدران الشوارع: «إلى العلم إلى العلم»، فقلت: ما أجمل الذهاب إلى بيت العلم! وقفت الآن لأفرح معكم بهذا المعهد الذي تتجلى فيه مواهبكم، وفيه يظهر ذكاؤكم الفطري، والعلم ينبوع، وكما أن الينبوع لا يميز بين الأيدي الممدودة إليه، بل يتدفق عليها جميعًا، هكذا العلم لا يميز بين طالبيه، بل يجري على كل طالب يمد إليه يدًا مفتوحة. والعلم نور والنور من بركات الخالق يشق على الجميع على السواء، ولكن لا يراه إلا الذي يفتح عينيه ويعودهما على استقبال النور.
بين الحدث وبعبدا
وقصد البطريرك مركز أبرشية جبيل والبترون فقام إلى قرية الحدث ودخل الكاتدرائية اللبنانية وصلَّى وبارك. وزار متصرف لبنان آنئذٍ يوسف باشا فحيته مفرزة من الجند وخفَّ لاستقباله عند باب سراي بعبدا كبار الموظفين. وجالس الباشا، ثم دعا البطريرك المتصرف إلى الغداء في قلاية الحدث، فاشترك في تناول الغداء مع المتصرف الأمير فايق شهاب ونسيب بك جنبلاط وحليم بك محاسبجي المتصرفية والأمير ألاي ملحم بك خوري وسعد الله بك الحويك نائب رئاسة مجلس الإدارة، وجرجس بك صفا رئيس دائرة الجزا وسليم أفندي باز وكيل المدعي العام وإلياس أفندي الشويري وجرجس أفندي تامر عضوا الروم في مجلس الإدارة وغيرهم. وقال المتصرف: «إنني لأول مرة قابلت بها غبطتكم بدمشق شعرت بعاطفة مخصوصة نحوكم، ورأيت بنفسي شغفًا بمبادئكم. ثم إنني أشاهدكم الآن بمسقط رأسكم لبنان بين فريق من مواطنيكم يقدرونكم معي حق قدركم فتمكَّنت بي تلك العاطفة بما تجلى من صفاتكم الطيبة. وبناء عليه فإني أشرب على ذكركم متمنيًا لكم إقبالًا مستمرًّا ولبنيكم سعادة كاملة بكم.»
وتناول غبطته الكأس وشرب نخب المتصرف وأطلق لقريحته العِنان فاستهل بالبيت:
وأخذ يتدفق كالسيل واصفًا لبنان وأهله وصفًا بديعًا، وتطرق إلى وصف حكامه فخصَّ دولة المتصرف بالذكر، مبينًا الثمرات التي جناها اللبنانيون من عدله في عهده.
منشور المحبة (١٩١٢)
برحمة الله تعالى غريغوريوس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق: بملء المحبة الأخوية نعتنق بالروح الإخوة الأحباء السادة مطارين كرسينا الأنطاكي المقدس، ونهدي البركة الرسولية والأدعية الفوادية إلى أبنائنا الأحباء مصف الإكليروس الموقر الجزيل البر والورع، والذوات الأفاضل والعلماء الأماثل والشيوخ المكرمين والتجار والصناع والفلاحين ولفيف الشعب الأرثوذكسي التابع لكرسينا البطريركي الرسولي، المقيم في مواطنه والمتغرب في الجهات الأخرى، سائلين للجميع حياة نقية سعيدة بمخافة الله ومزينة بعمل الصالحات واكتساح حلل الصحة والسلامة، فتفيض قلوبهم بالسرور وتنطق ألسنتهم بالحبور بألحان التسابيح والتماجيد، مبينين بجودة تصرفاتهم الدالة على خصوبة الثمر الروحي في حقول حياتهم المباركة انقيادهم بقوى النفوس والجسد إلى إتمام الوصية الصادرة من فم الرسول بولس الإلهي لهنائهم وكرامتهم: «اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة مرضية.» ا.ف ٥: ٢.
المحبة أيها الإخوة الأعزاء والأبناء المحبوبون هي الرباط الذي يربط السماء والأرض منذ البدء، فقد «خلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى، خلقهم وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض.» فما أعظم هذه المحبة التي جعلت الإنسان سيدًا للمبروءات المنظورة!
هذه المحبة العظيمة التي فاقت كل حد قد بدت بعدئذٍ بمظهر أعظم جدًّا كان لها مظهر الخلق رمزًا؛ وذلك أن الإنسان حينما سقط في هوة الخطيئة بالمعصية فاضت النعمة الفائقة كل عقل على قياس تلك الزلة الفائقة كل حد؛ لأنه «حيث كثرت الخطيئة هناك طفحت النعمة.» فجاء أولًا الوعد الإلهي أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، ومفاد هذا الوعد الشريف أنه سيولد بالجسد ابن الله الوحيد الذي بمحبته للبشر على الأرض ظهر وبين الناس تصرف لكي يعيد الجبلة البشرية إلى طهارتها الأولى ويسقط عنها حكومة الموت. وقد تم هذا الوعد العظيم بولادة المخلص ربنا يسوع المسيح من العذراء الطاهرة مريم ابنة يواكيم المتحدر من سلالة داود، فهذه المحبة هي التي أوصانا الرسول بولس أن نتخذها لنا مسلكًا لا نحيد عنه بقوله: «اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة مرضية.»
إن ما يوصينا الرسول به طي كلمة المحبة الوجيزة هو ما تضيق الصحف عن استيعابه لاحتوائه كل طهارة في قول وعمل ونية، فهو يستغرق في مضمونه كل تقوى وعفة ونزاهة وسيرة نقية، فنزرع بالبركات لنحصد بالبركات في هذا الدهر الخاص ونرث الملكوت السماوي الذي أعده لمختاريه. فماذا يا ترى نستطيع أن نخرجه من هذا الكنز المملوء بالنفائس التي لا غنى عنها وهو فوق ما يتسع الوقت لبيانه، إننا نكتفي بالقليل القريب التناول، ولا نقول الممتاز بثمنه؛ لأن محتويات هذا الكنز كلها لا تقدر.
المحبة التي وجه الرسول إليها مسلكنا هي التي ذكرها في رسائله مرارًا عديدة كقوله: «المحبة تبني»؛ أي إنها تنشر كلمة الخلاص في العالم وتزيد المؤمنين نموًّا في الصلاح، فإن التصرف بوداعة الحكمة الذي أُمرنا نحن المسيحيين أن نجعله قاعدة لأعمالنا الزمنية يولينا كرامة في عيون شركائنا في الوطنية والتابعية واللسان والمصالح المعاشية، فيبتني اعتبارنا على أساس راسخ ويزيدنا رسوخًا في إيماننا القويم، ونموًّا في العمل المرضي لله الذي به نحيا ونتحرك ونوجد.
وكقوله أيضًا: «المحبة تتأنى وترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء.» أي إن المحبة تستدعينا إلى الروية فيما يعرض لنا من الأفكار والأقوال والأعمال فلا نسارع إلى أفكار السوء «فإن فكر الحماقة خطيئة، ولا إلى الأقوال الملومة فإن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابًا يوم الدين؛ لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تدان»، ولا إلى أعمال السوء؛ لأنه تعالى «يجازي كل أحد نظير أعماله.» فهذا هو التأني الذي توجبه علينا المحبة وتجعله موصولًا «بالكمال في كل فكر»، فتبرز أقوالنا خالية من كل شائبة كما أوصانا الرسول بطرس قائلًا: «إن كان يتكلم أحد فكأقوال الله.» وتقع أعمالنا على مقتضى الطهارة حسب تعليم الرسول بولس بقوله: «وكل ما عملتم بقول أو فعل فاعملوا الكل باسم الرب يسوع شاكرين الله والآب به.» فبالسير على مقتضى ذلك كله تتوثق الثقة بينكم أنتم بعضًا لبعض وبينكم وبين الآخرين الذين تربطكم معهم الروابط العديدة، فلا يكون أثر للمماحكات الكلامية والمباحثات الغبية التي يحصل عنها الحسد الذي هو نخر للعظام. وبانتفاء تلك الأسباب يرى كل واحد نفسه وضيعًا فيقول مع النبي داود: «أنا دودة ولست إنسانًا عار للبشر ورذالة للشعب.» فلا يتفاخر بآبائه أو بجاهه ولا ينتفح بغناه ولا بعمله، ولا يقبح رغبة في التميز والانفراد بالسؤدد أو بصفاء الحياة، ولا يطلب ما لنفسه، بل يعمل بحسب الوصية القائلة: «لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو للآخرين أيضًا.» وباتخاذه هذا المنهاج سبيلًا لحياته يقدم نفسه في كل شيء قدوة للأعمال الحسنة متنقيًا من الفجور والشهوات العالمية، وعائشًا بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر. وهكذا يظهر التصاقه بالمحبة التي هي رباط الكمال وانصرافه بقوى نفسه وجسده إلى إتمام الوصية القائلة: «اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائجة مرضية.»
إن البشرى بالنعمة تستوجب الفرح، وأما نيل النعمة التي أتت بها البشرى فيطفح بها الفرح كله. فأية بشرى أعظم من أن المسيح أحبنا حتى أخذ صورة عبد صائرًا في شبه الناس! وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت؛ موت الصليب. وأي نعمة تُنال أعظم من أنه «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.» فاقتبل فادينا لأجلنا قربانًا وتمَّت بصلبه تقدمة الذبيحة لله، فصعد إلى السماء وأجلس بشرتنا في الميامن العلوية؛ لأنه «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة»، فكثرت لنا النعمة والسلام بمقتضى علم الله الآب السابق في تقديس الروح ورش دم يسوع المسيح، فلنفرح إذن أكمل فرح؛ لأن البشرى السارة بالخلاص قد حصلت، وها نحن نعيد تذكارها قائلين مع الرسول: «اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح وبذل نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة مرضية!»
ونحن نعلم أن السيد المسيح أعطى القربان للمؤمنين حياة جديدة للنفس والجسد قائلًا: «هذا هو الخبز الذي نزل من السماء، من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد.» فمن هذا يتضح أن من لم يتقدم إلى تناول جسد الرب الإله ودمه الثمينين فلا يأخذ القربان، ولا تكون له حياة في ذاته.
وقد حرم نفسه بنفسه من الاشتراك بالذبيحة لله التي هي رائحة مرضية، فليس هو بالحقيقة معيدًا، ولا منضمًّا بالروح إلى بنيان الكنيسة، وهذا ما لا نريده لأحد منكم، فلذلك نوصي من تأخر إلى هذه الساعة التي هي الحادية عشرة أن يسارع إلى اغتنام النعمة الفائقة كل حد بعظمة محبة الله المبذولة لكل من يؤمن لترتفع عنه الدينونة الرهيبة، فليتقدم إلى الاشتراك بالقربان الحقيقي؛ لأنه هو ذا وقت مقبول وأوان خلاص. وحينئذٍ يكون استقبال الفصح حقيقيًّا حينئذٍ يكون الهتاف حيًّا بالترنيمة الإلهية: «المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور.» حينئذٍ يكون هذا الهتاف بالفرح العظيم صاعدًا من أعماق الضمائر دلالة على اذدخار النفوس الغبطة الصادقة، ويكون «ذبيحة تسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه» تعالى، فيعطي للمتدربين بحسبها ثمر بر للسلام مع الجميع في القداسة التي بدونها لن يرى أحد الله.
أعاد الله عليكم هذا العيد السعيد والفصح المقدس المجيد أعوامًا كثيرة العدد وافرة الرغد زاهرة بأثواب الصحة والعافية وحلل الكرامة الضافية، وأنتم تحت راية الدولة العلية الأبدية القرار في حرز حريز من الخطوب والأضرار والأكدار، وألسنتكم كقلوبكم تدعو لها بدوام التأييد والسطوة والاقتدار وخفوق الأعلام في أعالي ذروات المجد والانتصار، وبأن تطول حياة جلالة المتبوع الأعظم والخاقان الأفخم السلطان ابن السلطان؛ السلطان محمد رشاد خان والأمجاد تخدم أعلامه الخافقة والسعادات تفيض على ممالكه الواسعة، وسيرتكم الرضية الهنية مثال لحسن الطاعة والإخلاص في التابعية. أخوكم بالمسيح والداعي لبنوتكم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق غريغوريوس في ٣ آذار سنة ١٩١٢ في بيروت.
طرابلس
هو الأب الذي يتنقل بين أبنائه يودعه ابن ويستقبله آخر، وسعيد هذا الوطن بهذه الألفة وهذا الاتحاد، وسعيدة طرابلس بمتصرف أظهر أنه ليس حاكمًا ولا سيدًا، بل ابنًا للوطن وأخًا محبًّا وعضوًا من هذا اللواء يفرح لفرحه ويُسَرُّ لسروره.
انضمام مطران السيران في حمص (١٩١٢)
وبينما كانت بيروت تفرح بأبي الآباء وراعي الرعاة ثالث عشر الرسل الأطهار كانت حمص تبتهج بقبول كيريوس بطرس أسقف صدد ورعيته في حضن الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة. ففي الرابع من آذار سنة ١٩١٢ اجتمع الشعب الأرثوذكسي في حمص بأسره في كنيسة الأربعين الكاتدرائية، وبعد ترتيل باصابنوي تحول أثناسيوس متروبوليت حمص عن الكاتدرا إلى الباب الملوكي، فلبس البطرشيل والأموفوريون ومشى إلى باب الكنيسة الغربي لقبول بطرس أسقف صدد على اليعاقبة مصحوبًا بكاهنين. فاتسم بطرس بالصليب المقدس وبات ينتظر دنو المتروبوليت، وكان مصف المرتلين يترنم بطروبارية الأربعين.
أيها الرب إله الحق انظر إلى عبدك الأسقف الآتي ليلتجئ إلى كنيستك المقدسة الأرثوذكسية ويكون محفوظًا تحت كنفها، رُدَّه من تيهه الأول إلى الإيمان الحقيقي بك، امنحه نعمة ليسير في سبيل وصاياك، لتكن ألحاظك ناظرة إليه برحمتك على الدوام وأذناك منصتتين لسماع صوت تضرعه. وهكذا فليصر معدودًا من رعيَّتك المختارة؛ لأن كل قوات السموات تسبحك وتمجدك أيها الآب والابن والروح القدس إلى دهر الداهرين، آمين.
دستور إيمان الأسقف بطرس: باسم الآب والابن والروح القدس، أنا الحقير بطرس برحمة الله أسقف صدد وتوابعها أرجو الكنيسة المقدسة الجامعة الأرثوذكسية محبة الله أن تقبلني في حظيرتها كأحد أولادها المؤمنين.
نحن (أي هو والشعب المنقاد لصوته) نقبل بتعليمها الجامع ونعد الكنيسة الأرثوذكسية بالطاعة القانونية، وأننا نترك نشوزنا السابق ونقصي كل هرطقة ولا سيما هرطقة أوطيخة؛ لأنه كان يعلِّم تعليمًا كاذبًا بقوله: «إن المسيح إلهنا له طبيعة واحدة.» وأما نحن فنؤمن ونعترف ونقر هكذا:
إن ربنا المولود من الآب قبل الدهور بحسب اللاهوت والمولود في آخر الأزمان من البتول القديسة مريم بحسب الناسوت هو واحد بعينه بطبيعتين ووجه واحد وأقنوم واحد، مسيح واحد وابن واحد ورب واحد وإله وإنسان واحد، وأيضًا نقول:
إننا نؤمن ونعترف ونقر أنه مساوٍ للآب في الجوهر بحسب اللاهوت، وهو نفسه مساوٍ لنا في الجوهر بحسب الناسوت، وهو واحد من الثالوث الأقدس الإله الكلمة الذي اتخذ من البتول القديسة مريم طبيعة بشرية، أعني نفسًا ناطقة عاقلة وجسدًا وصفات بشرية وفعلًا بشريًّا ومشيئة بشرية، ولما جعل متحدًا الإله الكلمة في أقنومه الطبيعة البشرية الكاملة مع الطبيعة الإلهية الكاملة صار إنسانًا ولم يزل إلهًا؛ إذ لم يبطل خواص الطبيعتين بالاتحاد ولم يضعف، بل كل واحدة من الطبيعتين حفظت خواصها؛ ولهذا فإن في المسيح يسوع ربنا طبيعتين صفتين فعلين ومشيئتين مستقرتين فيه بغير امتزاج ولا تغيير ولا انقسام ولا انفصال؛ ولهذا فالأقوال عن المسيح ربنا المكتوبة في الإنجيل ورسائل الرسل لا يجعل اللاهوتيون بينها تمييزًا، فإن الكنيسة تعلن بحق أن المسيح هو الإله الكامل نفسه، والإنسان الكامل نفسه حافظًا خواص كل من الطبيعتين سالمة، ونحن نؤمن ونعترف أن إلهنا يسوع المسيح الكائن إلهًا بالطبع والصائر إنسانًا بحسب الطبيعة هو الابن الوحيد المثنى في الطبيعة وليس بالأقنوم.
وأما عن السيدة مريم القديسة الدائمة البتولية فنحن نعترف أنها والدة الإله؛ لأنها ولدت بالحقيقة المسيح إلهنا.
ونقبل أيضًا بتلك المجامع المسكونية المقدسة التي لم تكن قبلًا مفروضة عندنا، وأسماؤها هذه: المجمع الرابع الخلقيدوني المنعقد على عهد مركيانوس الذي رفض تعليم أوطيخة ومن قال قوله بطبيعة واحدة في المسيح ربنا بعد الاتحاد، المجمع الخامس وهو ذاته المجمع القسطنطيني الثاني المنعقد على عهد يوستنيانوس، والذي أفرز ثيودوروس وتعليمه، المجمع السادس وهو ذاته المجمع القسطنطيني الثالث المنعقد على عهد قسطنطين (الرابع) الذي علم أن في المسيح إلهنا طبيعتين وفعلين ومشيئتين، إلا أن هاتين المشيئتين غير مخالفة إحداهما الأخرى، بل إن مشيئته الناسوتية لم تكن تخالف مشيئته الإلهية، بل بالأحرى كانت متفقة معها وخاضعة لها، المجمع السابع وهو ذاته المجمع النيقاوي الثاني المنعقد على عهد قسطنطين وإيريني الذي علم باستقامة السجود للأيقونات؛ أي للصور المقدسة سجودًا إكراميًّا، وأفرز أولئك الذين كانوا يجدفون على الكنيسة المقدسة بقولهم عنها إنها تسجد للأيقونات على مثال الوثنيين الذين يعبدون أصنامهم. ولكننا نحن أبناء الكنيسة نسجد لها لا سجود عبادة كما يجب على المخلوق أن يسجد لخالقه، بل سجود إكرام فقط كما نسجد لصليب المسيح وللإنجيل، ونقبل أيضًا قوانين المجامع السبعة المسكونية وقوانين المجامع المكانية ناظرين إليها نظرنا إلى مثال حسن الترتيب في كنائس الله المقدسة.
ونتعهد بأن نشترك فقط مع أولئك الذين تشترك معهم الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة، وكل الذين تعتبرهم خارجين عن الاشتراك نعتبرهم نحن أيضًا خارجين عن هذا الاشتراك. ونحن قد شرحنا في رسالتنا جلَّ ما هو محرر هنا، أما الآن فإني أشهد بهذا بشفتي أيضًا أمام هذا المذبح المقدس وأمامكم، ونؤمن أن رئيس الرعاة العظيم ربنا يسوع المسيح يبارك عملنا هذا، له المجد مع الآب والروح القدس إلى دهر الداهرين، آمين.
وبعد تلاوة هذا الصك دفعه بطرس ممضيًّا بخط يده إلى أثناسيوس ليُحفظ في الأوراق الكنائسية إلى ما شاء الله. فأخذ أثناسيوس الصك وقال: «تبارك الله الذي ينير كل إنسان وارد إلى العالم!» ثم وجه الأسئلة التالية إلى بطرس: هل تعتبر كل المجامع المسكونية السبعة؟ وهل تقبل بالعقائد والقوانين التي حددتها هذه المجامع؟ فأجاب بطرس: نعم أعتبرها وأعتقد بها. فسأل أثناسيوس: هل تعد أنك تكرم الأيقونات المقدسة المقبولة في الكنيسة الأرثوذكسية بحسب اعتقاد هذه الكنيسة معيدًا الإكرام المقدم لها إلى الصورة الأصلية المرسومة فيها؟ فأجاب بطرس: إني أعد أن أكرمها كما توصي بذلك الكنيسة الأرثوذكسية. فسأل أثناسيوس: هل تقبل بالقوانين الرسولية وسائر القوانين التي تحددت في المجامع السبعة المسكونية والتسعة المكانية وباقي التقاليد والترتيبات التي في الكنيسة الأرثوذكسية؟ فأجاب بطرس: نعم إني أقبل بها.
أيها السيد الإله الضابط الكل الواضع للخطأة طرائق التوبة الهادي الضالين إلى الصراط المستقيم كي لا يهلك أحد منهم، بل ليكون للجميع أن يقبلوا للخلاص، نشكرك لأنك آثرت عبدك الأسقف بطرس بنور معرفة حقك وجعلته أهلًا للالتجاء إلى كنيستك المقدسة الأرثوذكسية الجامعة، فأعطه أن يتحد بها بإخلاص وثابت عزم، أحصه مع رعيتك المختارة، اجعله إناءً طاهرًا ومسكنًا لروحك القدوس حتى إذا كان مستنيرًا به ومسترشدًا يحفظ بدون زيغ وصاياك الخلاصية، ويكون هكذا مستحقًّا لقبول خيراتك السماوية؛ لأنك أنت إله الرحمة والرأفة والمحبة للبشر والمريد لكل الناس أن يخلصوا، ولك نرسل المجد أيها الآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين، آمين.
الرب يسوع المسيح إلهنا الذي سلم الرسل مفاتيح ملكوت السماوات وأعطاهم لهم ولخلفائهم بعدهم سلطان ربط الخطايا للناس وحلها، فليغفر لك أيها الأخ الأسقف بطرس بواسطتي أنا رئيس الكهنة الغير المستحق وليحلك من عقال اليمين ومن كل خطاياك، وأنا بالسلطة المعطاة لي منه تعالى أجعلك متحدًا بالكنيسة الأرثوذكسية وآتي بك إلى مناولة الأسرار الإلهية الكنائسية، وأباركك باسم الآب والابن والروح القدس، آمين.
ثم بدأ المرتلون «بتون ذيسبوتين» وأخذ السيدان معًا كيرونًا ودخلا إلى الهيكل، فرشَّ أثناسيوس بطرس بالماء المقدس من الصينية المتضمنة ذخائر الأربعين أصحاب المقام، وبعدئذٍ تصافحا ولبسا حلل رئاسة الكهنوت وخدما الأسرار الإلهية معًا، وكان بطرس يعاون أثناسيوس في بعض الإعلانات. وبعد الاستحالة أشهر الأسقف اعترافه برئاسة البطريرك غريغوريوس الرابع.
روفائيل مطران حلب (١٩١٢)
وشغر كرسي حلب بعد استقالة استفانوس كما سبق وأشرنا، فرشَّح الحلبيون الأرشمندريت أنطونيوس مبيض من حمص والأرشمندريت باسيليوس صيداوي من دمشق والقس روفائيل نمر من زحلة، وقدموا بذلك مضبطة إلى البطريرك، فكتب راعي الرعاة في السابع عشر من تموز سنة ١٩١٢ إلى المطارنة أن ينتخبوا أحد الثلاثة ليسميه مطرانًا، وأمهلهم في ذلك خمسة عشر يومًا.
الدستور وامتيازات النصارى
وعلى أثر إعلان الدستور العثماني أثارت صحافة الآستانة وغيرها قضية امتيازات النصارى موجِبة إلغاءها عملًا بمبدأ المساواة بين جميع العثمانيين، فهب النواب المسيحيون يسعون للمحافظة على هذه الامتيازات مؤكدين أن الانقلاب السياسي لا يستدعي إلغاءها، وأن مصلحة المملكة تقضي بالمحافظة عليها. وأهم ما جاء في جرائد الآستانة في هذا الموضوع ما نشرته جريدة النيوغولوس اليونانية بقلم صاحبها ورئيس تحريرها ستافروس فوتيراس شيخ الصحفيين في العاصمة، وكان غطاس قندلفت مدير مدرسة البلمند ينقل هذه المقالات إلى العربية وينشرها في جريدة الحوادث الطرابلسية، فلما تمتْ نَشَرَها على حدة بعنوان: «امتيازات الجماعات المسيحية في المملكة العثمانية»، فجاءت سِفرًا ممتعًا فيه الخبر الشافي عن هذه الامتيازات وكيفية نشوئها، وسدَّتْ فراغًا في الخزانة المسيحية العربية.
رد على الماديين
الأدلة الغراء
وكان ضاهر خير الله الشويري اللبناني يستظهر على أصدقائه البروتستانتيين الشويريين، وبعضهم من أساتذة جامعة بيروت الأميريكية فيستعين بدليل العقل والنقل ليرد على آرائهم في العقيدة المسيحية، فأخرج في السنة ١٩١٢ كتابه «الأدلة الغرَّاء على سمو شأن مريم العذراء»، فنبَّه إلى ما وقع في ترجمة الكتاب المقدس البروتستانتية من التحريف في مواضع متعددة، وطارد موسهيم وأظهر تحامله، ودافع عن الطقوس مظهرًا «تلاعب الدكتور هرافي بورتر في الروايات»، واستشهد بأقوال السيد نفسه ليدحض زعم البروتستانت أن السيد له المجد يستاء من إكرام القديسين، ورد على الدعوى بأن الخلاص إنما هو بالإيمان فقط دون الأعمال، وأجاد في الكلام عن التقليد، وأنه كان معروفًا في الكنيسة منذ نشأتها، وأنه ضروري لتفسير النصوص الإلهية.
البطريرك والسلطان (١٩١٣)
- أولًا: تشتمل على جميع المراجعات بين البطريركية والحكومية بالشئون الخصوصية التي للبطريركية كانتخاب أعضاء مجلس الإدارة وأحوال التجنيد والنظر في الاعتداءات على الأوقاف. أما ما هو من خصائص القوميسيون الزمني فمعاملاته تتم من هيئته القانونية التي يتولى نيابة الرئاسة فيها ولدنا كير ميخائيل شحادة الجزيل بره بروتوسينجلوس كرسينا البطريركي المقدس في غيابكم ويحضر الجلسة التي تترأسونها. والشئون المستعجلة التي يخابركم بها القوميسيون للبحث بشأنها مع الحكومة تجرونها باتفاق الرأي مع تلك الهيئة الموقرة وما تلزم مطالعتنا فيه ترفعونه إليه، والمحكمة الروحية مستقلة في معاملاتها ونائب رئاستها ولدنا أول الكهنة فيليمون بشارة الجزيل الورع. وما يعرض من شئونها لسيادتكم تحولونه إليها، وأحكامها القانونية تجاز من طرف سيادتكم. وما يلزم إطلاعنا عليه ترفعونه إلينا أيضًا.
- ثانيًا: تنظرون في أمر الزيجات وترجعون فيما يلتبس أمره إلى المحكمة الروحية لمسئولية أعضائها أبنائنا كهنة الشعب بشأنها.
- ثالثًا: الشئون التي ترجع بها الأبرشيات المنضوية إلى كرسينا المقدس إلى منصتنا
الرسولية تشملها وكالتكم أيضًا، وما كان منها محتمل التأجيل تراجعوننا بشأنه، وما
كان الإسراع به واجبًا تتصرفون به بملء الحكمة وترفعون إلينا عن كل شيء بيانًا بما
توقع لنكون على بصيرة بالشئون ونكتب إليكم بما نستحسنه.
هذا ما نكلف أخوَّتكم أن تعتمدوه في شئون الوكالة عنا بمدة غيابنا نكتب لكم عنه رسميًّا. وقد ولجنا سيادة الأخ المطران زخريا مطران حوران الجليل بوكالة المدرسة الإكليريكية البلمندية العامرة وبالسيطرة على الأديرة البطريركية الشريفة يتفقدها وينظر في شئونها وحساباتها ويخابرنا بشأنها رأسًا، وسيادة الأخ المطران استفانوس الجليل يبقى له اسم النائب ويساعدكم في الشغل الذي ترونه. وكذلك لديكم ولدنا البروتوسينجيلوس كير ميخائيل شحادة للنيابة عنكم في ترؤس جلسات القوميسيون في غيابكم ووجوده معكم في الجلسات بحضوركم، وللاعتماد عليه في أشغال القرى الراجع أمرها لمقرنا البطريركي.
وولدنا الشماس كير فكتور أبو عسلي الجزيل بره يعتمد وكيلًا للخرج ولأشغال مصلحة الجند ونحوها من المراجعات في باب الحكومة السنية وللخدمة في الكنيسة شماسًا، وولدنا الشماس أندراوس معيقل الجزيل بره للخدمة في المطبعة البطريركية، وليكون مرتلًا في الكنيسة الكاتدرائية، وولدنا وكاتم سرنا أمين أفندي ظاهر خير الله لإدارة وإنشاء مجلة البطريركية الرسمية مجلة النعمة ولحسابها وكل شئونها.
فكونوا كما نعهد بكم في الحكمة والتقوى والروية والهمة والنشاط والاستقامة مثالًا للشركاء في الخدمة وقدوة للرعية، والمولى — سبحانه وتعالى — يأخذ بيدكم ويأجركم بأجمل مكافأة ويرينا وجهكم بخير وعافية، ونعمته الغزيرة فلتكن معنا وفيما بيننا، أخوكم في المسيح بطريرك أنطاكية وسائر المشرق غريغوريوس.٣٣
وفي فجر السبت تاسع شهر شباط سنة ١٩١٣ قام البطريرك والحاشية البطريركية إلى بيروت ومنها إلى ظهر الباخرة توفيقية، فشيَّعه الرجال الرسميون والوجهاء والإكليروس، وانضم إليه في بيروت ألكسندروس متروبوليت طرابلس ورَست السفينة في مياه إزمير فأقبلت من البر سفينة صغيرة تقل وفدًا حكوميًّا رسميًّا ووفدًا مِليًّا أرثوذكسيًّا، فدعا الوفدان البطريرك لزيارة إزمير، فلبى الدعوة وزار الوالي ثم كنيسة إزمير الكاتدرائية، فاستقبله عند مدخل الكنيسة خريسوستوموس متروبوليت إزمير وكهنته وشعبه، فدخل الكنيسة وصلَّى وبارك ثم عاد إلى الباخرة.
البطريرك الأنطاكي في جرائد روسية
البطريرك في روسية (١٩١٣)
وجاء في رسالة للبطريرك غريغوريوس وجَّهها إلى البروتوسينجيلوس ميخائيل شحادة في الثالث والعشرين من شباط سنة ١٩١٣ أنه وصل إلى مدينة بطرسبرج «على أجنحة الحب التي لا تتعب»، وأنه لاقاه جمع غفير من عِلية القوم في طليعتهم متروبوليت بطرسبرج ووكيل القيصر في المجمع المقدس، وأنه بعد صلاة الشكر في كنيسة دير إسكندر نفسكي توجَّه إلى كنيسة قبور القياصرة فقبل الصليب من يده القيصر ووالدته، وأنه بدأ بالتبريك واشترك معه متروبوليت العاصمة ومتروبوليت الصرب ومتروبوليت كيف. وأضاف البطريرك أنه سمع القداس الإلهي في اليوم التالي في كنيسة سيدة كازان الفخيمة، وأنه خرج بعد الظهر لإقامة الدعاء لابسًا حلة رئاسة الكهنوت والتاج والعكاز تقدمة القيصر، فاستقبله القيصر والقيصرتان وولي العهد، فافتتح الصلاة وقرأ الإنجيل باللغة العربية.
نكرم بأقنومك سلطان الكنيسة الأعلى
مقابلة القيصر
وقابل القيصر ضيفه البطريرك مقابلة الفسالسة البيزنطيين لبطاركة القسطنطينية، فلبس البطريرك المنذية والقيصر بزته الرسمية، ولدى دخول البطريرك نزل القيصر عن عرشه وانحنى أمامه فباركه البطريرك وقبَّله في كتفه. وأما القيصر فقبَّل رأس البطريرك أولًا ثم يده اليمنى، وبقي الاثنان واقفين. وبعد أن هنأ القيصر البطريرك بسلامة الوصول وسمع جوابه أجلسه على مقعد إلى جانب العرش، ثم صعد إلى عرشه وقال: «سمعت منذ زمان عن عزمك على المجيء إليَّ وتمنيت كثيرًا أن أراك، وإني لعارف برك وتقواك؛ فأرجو منك أن تتوسل إلى الله العلي وتصلي لأجلي.» فقال البطريرك: «إنني رجل خاطئ يا مولاي، ولكن فليعطك الرب مثل قلبك وحسب إيمانك ويتمم كل آمالك ويؤيد عرشك إلى الأبد.» فلما سمع القيصر هذا الجواب المتضمن كلام داود في مزاميره سرَّ وتخشَّع ونزل عن عرشه وقبَّل يمين البطريرك مرة ثانية.
اليوبيل
واحتفل في السادس من آذار سنة ١٩١٣ باليوبيل الملكي في كاتدرائية سيدة قازان، فارتدى البطريرك الحلة الأسقفية الذهبية التي أهداها إليه القيصر، وجلس البطريرك على منصة وإلى يمينه القيصر وأسرته، وإلى يساره جمهور الإكليروس، فبدأ بصلاة الدعاء باليونانية، ولكنه قرأ الإنجيل بالعربية.
الكنيسة الروسية والكنيسة المنحازة
وانتهز البطريرك فرصة وجوده في روسية لإزالة سوء التفاهم بين الفرقة الروسية المسماة المنحازة وبين الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، ولا سيما وأن الاختلاف بينهما كان في الترتيبات لا في العقائد، فالبركة مثلًا تُعطى عند الكنيسة المنحازة بأصبعين فقط إشارة إلى أن المسيح إله كامل وإنسان كامل.
ألكسي أسقف تخيفين
وكان المجمع الروسي المقدس قد أقر ترقية الأرشمندريت ألكسي إلى رتبة الأسقفية فطلب إلى البطريرك الأنطاكي أن يتولى السيامة، ففعل وسام ألكسي أسقفًا على تيخيفين. وفي السنة ١٩١٧ انهار في روسية عالم قديم ليحل مكانه عهد جديد، وكان الأسقف ألكسي قد أصبح أسقفًا على أمبورغ، فجُعل مساعدًا للقائمقام البطريركي في موسكو المتروبوليت سرجيوس ثم وكيل مطرانية نوفوغورود ثم متروبوليتًا على لينيغراد في السنة ١٩٣٣، فخدمها اثني عشر عامًا بنشاط رعائي نادر. وحين حاصر النازيون لينينغراد في أثناء الحرب العالمية الثانية حلَّت بها المصائب والنكبات، فكان السيد ألكسي أبًا رحومًا وبطلًا صنديدًا مجازفًا بحياته في سبيل الشعب، وتُوفي البطريرك سرجيوس في السنة ١٩٤٥، فانتخب المجمع الروسي المقدس السيد ألكسي متروبوليت لنينغراد خلفًا له.
ولا يزال هذا الحَبر الجليل الذي يرعى ملايين المؤمنين في روسية ويقودهم في طريق الخلاص يحن إلى كنيسة أنطاكية ويعتبر نفسه أخًا لأساقفتها. وكنيسة أنطاكية تغبط بدورها شقيقتها الكبرى كنيسة موسكو على ما يتحلى به حَبرها العظيم من حرارة في الإيمان واستقامة في الرأي وسعة في الاطلاع وحكمة في الإدارة. وقد طفحت مدة رئاسته بالجهود الإدارية المثمرة والأخوَّة الحقة والمساعي الصادقة في سبيل السلام العالمي، أمد الله بعمره سندًا للكنيسة في روسية وفي سائر أنحاء المسكونة.
الأوسمة
العودة
وودع البطريرك صاحبي الجلالة القيصر نقولا الثاني والقيصرة ألكسندرة في السادس عشر من نيسان وبرح بطرسبرج إلى دير اللافرا، فأعجب بنشاط رهبانه ثم زار أنطونيوس في جيتومر وانتقل منها إلى بيسكوف وتساروروس منتهيًا إلى نوفوغورود وبقي ألكسندروس متروبوليت طرابلس في بطرسبرج لشئون خصوصية.
دير مار إلياس الشوير
ولدى عودة البطريرك إلى كرسيه استقدم بضعة عشر راهبًا روسيًّا ووكل إليهم إدارة دير مار إلياس الشوير البطريركي، فأعجب نصارى المنطقة بورع هؤلاء الرهبان وزهدهم ووداعتهم ومحبتهم المسيحية الطاهرة ونشاطهم، ولكنهم عادوا فتركوا لبنان في السنة ١٩١٥ بسبب الحرب العالمية الأولى.
غريغوريوس والحرب (١٩١٤–١٩١٨)
وقُتل ولي عهد النمسة وقرينته في سيراجيفوا في الثامن والعشرين من حزيران سنة ١٩١٤، وبعد شهر أعلنت النمسة الحرب على صربية فجرَّت وراءها حربًا عالمية. وما طلع هلال تشرين الثاني سنة ١٩١٤ حتى أعلنت تركية انضمامها إلى الدول المركزية.
وطغى العنصر التركي في عاصمة الدولة العثمانية، واستأثر الثلاثة الكبار بالسلطة ومضوا يسعون بما لديهم من وسائل لصهر العناصر غير التركية ببوتقة تركية جديدة، فطاردوا طلاب اللامركزية من أبناء العرب، ولم يروا في المسيحيين مادة سهلة الاندماج فذبحوا الأرمن وجوعوا اللبنانيين. وطالت الحرب وقلَّتِ المواد الغذائية في ألمانية والنمسة فحصر الأتراك هذه المواد في كل مكان، ولا سيما في سهول سورية وصدروها إلى أوروبة الوسطى. وجاء الجراد في ربيع السنة ١٩١٥ فأكل الأخضر واليابس، فقلت المواد الغذائية في سورية ولبنان وارتفعت أسعارها، وأصدر جمال باشا أمرًا مشددًا بوجوب إبعاد المؤن والغلال والحاصلات والعربات والحيوانات وسائر مسببات النقل من الساحل إلى الداخلية خشية نزول العدو في الشواطئ، فأصبح الساحل بلا قوت! وطبع الثلاثة الكبار الملايين من «الورق التركي» وسعَّروا ليرتهم الورقية بمائة وثمانية غروش وأكرهوا الناس على قبولها، فابتدأت المضاربة بالورق، وسقط سعره فارتفعت الأسعار ارتفاعًا فاحشًا، وتفشَّتِ الأمراض في صفوف العساكر وأشدها هولًا حُمَّى التيفوس وانتشرت بين الأهلين. ثم جاء الجدري والهواء الأصفر فماتت العساكر بالعشرات وتركت جثثها في الأحراش والوديان، وهجر اللبنانيون تلالهم إلى البقاع والداخلية بالألوف فماتوا فيها.
وقرع اللبنانيون باب البطريركية في دمشق فرقت لهم كبد البطريرك ولان لهم فؤاده وحنَّت عليهم أضلاعه، وكان رحب الصدر بسيط الكف سخي النفس يخفُّ للمعروف ويهتز للعطاء، فتسخَّى وتندَّى وابتذل ماله بالإنفاق، ولم يفرق في عطائه بين مسلم أو درزي أو نصراني، فنفد ماله فاستدان، وما فتئ يأخذ دينًا ويُفيِّح عطاءً حتى بلغ ما اقترضه من المال لهذه الغاية النبيلة عشرين ألف ذهبية أو أكثر!
ولم يرَ جمال باشا وأعوانه أكرم من غريغوريوس أخلاقًا ولا أنبل فطرة ولا أطيب عنصرًا ولا أخلص جوهرًا، فاحترموه وسهلوا أموره، وبادلهم الإخلاص والاحترام، ولكنه لم يبذل لهم قياده، ولم يكن لهم مطواعًا لا يخالف لهم أمرًا ولا نهيًا. فإنه لما طغى حسن حسني رئيس شعبة أخذ العسكر في بيروت وتجبَّر وقاومه في ذلك جراسيموس متروبوليتها، وطلب الوالي عزمي بك عزل جراسيموس؛ أبى البطريرك وامتنع ونبذ الأمر وراء ظهره!
فيصل الأول (١٩٢٠)
وقُضي الأمر في طول كرم في التاسع عشر من أيلول سنة ١٩١٨، فأخلى الأتراك والألمان فلسطين الشمالية واعتزموا الدفاع عن دمشق وما يليها في جبهة تمتد من سمخ حتى شاطئ طبرية الجنوبي الشرقي فالحولة، ثم فوجئوا باحتلال سمخ في الرابع والعشرين من أيلول فأجلوا عن طبرية وعقدوا النية على الصمود وراء خط دفاعي يمتد من عين صوفر حتى الزبداني، مارًّا بقب إلياس وشتورا وتعنايل وعنجر، وفوضوا مصطفى كامل باشا بذلك. ولكن طائرات الإنكليز حلَّقت فوق رياق في التاسع والعشرين من أيلول سنة ١٩١٨، فأمطرت قنابلها على مستودعات الذخائر فلم تُبقِ منها ولم تذر. وتباطأ الإنكليز في احتلال دمشق وما يليها من الشمال ليفسحوا المجال لفيصل وركبه. ودخلت دمشق في حوزتهم في الثاني من تشرين الأول، فأوعزوا بالإبراق إلى بلدية بيروت لرفع «علم الشريف» فوق السرايا، مؤمِّلين بذلك كله مجابهة الإفرنسيين بالأمر الواقع أو محاولين الخروج من مأزق كانوا قد نسجوا خيوطه بأيديهم عندما تصنعوا للعرب في المودة وتملقوا الإفرنسيين قاطعين وعودًا للطرفين متعارضة متعاكسة أو غامضة تحتمل أكثر من تفسير واحد.
وقامت حكومة إفرنسية في الساحل وحكومة عربية في الداخل، وذهب الخلاف بينهما كل مذهب، وتعارضت أهواء السكان وتشعبت آراؤهم، ولا سيما وأن ولسن كان قد أعلن حق الشعوب في تقرير مصيرها ونبذ الاستعمار وطرقه وأساليبه، واستبدل ساسة الغرب الاستعمار بالانتداب وقالوا بحق تقرير المصير، واقترح ولسن إرسال لجنة تقف على رغائب السوريين واللبنانيين، فجاءت لجنة كنغ-كراين الأميريكية في صيف السنة ١٩١٩ وجابت البلاد طولًا وعرضًا، فأجمع السوريون على الاستقلال ولم يرضوا عن انتداب فرنسة، وجهر البطريرك بتأييد السوريين فيما ذهبوا إليه ووافقه في ذلك معظم أبناء طائفته، فدخل في عراك مع الإفرنسيين دام طويلًا! ثم دعا فيصل الوجهاء والأعيان إلى مؤتمر في دمشق في ربيع السنة ١٩٢٠، فنادوا باستقلال سورية بحدودها الطبيعية وبايعوا فيصلًا ملكًا عليها، فكان البطريرك في طليعة المبايعين. ثم جاءت معركة ميسلون في الثاني والعشرين من تمُّوز سنة ١٩٢٠ واضطر فيصل أن يبرح دمشق، فلم يعبأ البطريرك بما انطوى عليه نصر ميسلون، وكان كريم العهد ثابت العقد فحفظ لفيصل عهده وأبرَّ بيمينه فخرج لوداعه في أحرج الأوقات، ولعله انفرد بهذا الوداع فتميز به.
المجمع المقدس وأميريكة (١٩٢١–١٩٢٣)
وكان ما كان من أمر الثورة في روسية، فرأى المجمع الأنطاكي المقدس أن يقيم في الأميريكيتين الشمالية والجنوبية رئيسين روحيين يرعيان نفوس المهاجرين الأرثوذكسيين في تلك الأصقاع النائية، فانتخب في أول تشرين الأول من سنة ١٩٢١ ميخائيل شحادة أسقفًا على ريو دي جنيرو وسائر البرازيل، وانتخب في السابع من كانون الأول سنة ١٩٢٣ فيكتور يعقوب مطرانًا على أبرشية نيويورك.
ثيودوسيوس متروبوليت صيدا وصور (١٩٢٣)
وسافر إيليا (ديب) متروبوليت صور وصيدا إلى أميريكة الجنوبية في السنة ١٩١١ واستقر في تشيلي، فاجتمع المجمع الأنطاكي المقدس في دير مار إلياس الشوير وعالج شغور الكرسي في صور وصيدا، ونظر في أمر المرشحين الثلاثة؛ الأرشمندريت ثيودوسيوس أبو رجيلي والأرشمندريت بنيامين حداد والأرشمندريت يوسف أبي طبر، فانتخب الأرشمندريت ثيودوسيوس (أبو رجيلي) مطرانًا عل هذه الأبرشية، وصارت سيامته من يد البطريرك غريغوريوس في كنيسة الدير المذكور في الثلاثين من كانون الأول سنة ١٩٢٣.
وأنهى دروسه في السنة ١٩٥٠ فسامه غريغوريوس الرابع شماسًا إنجيليًّا. وفي السنة ١٩٠٨ أرسله البطريرك إلى ديار بكر لمساعدة متروبوليتها سلفستروس (درعوني)، فسافر إليها بدون تذمر على الرغم من بعدها وشظف العيش فيها. وبعد وفاة راعيها بقي وكيلًا عليها حتى انتخاب ملاتيوس (قطيني) سنة ١٩١٢ خلفًا لسلفسترس. وعاد إلى دمشق يجيد التركية التي أتقنها وهو في ديار بكر، فأرسله البطريرك غريغوريوس إلى مدرسة الجنس في القسطنطينية، فنال شهادتها ثم انتقل إلى كلية خالكي اللاهوتية، فقضى في هذه أربع سنوات أجاد في أثنائها اليونانية والعلوم اللاهوتية. وفي السنة ١٩١٥ سِيم قَسًّا فأرشمندريتًا، ثم عاد إلى دمشق واضعًا مواهبه النادرة ومقدرته في اللغات العربية واليونانية والتركية وإلمامه بالإنكليزية والسريانية تحت تصرف البطريرك غريغوريوس بصفة كاتم سر خصوصي لغبطته وممثلًا لدى السلطات.
ورعى السيد ثيودوسيوس أبرشية صور وصيدا بأمانة وطهر وإخلاص خمسًا وعشرين سنة. وفي السنة ١٩٤٨ خضع لقرار المجمع المقدس الذي اتُّخِذَ بالإجماع وقَبِل بعد رجاء وإلحاح شديدين نقله إلى أبرشية طرابلس، فكان فيها مثالًا للراعي الصالح الأمين المنقطع إلى عبادة ربه وخدمة الرعية.
وفي السابع عشر من حزيران سنة ١٩٥٨ انتقل المثلث الرحمات السعيد الذكر البطريك ألكسندروس الثالث إلى دار البقاء فخلا مكانه، فانتخب صاحب الترجمة قائمقامًا بطريركيًّا. وفي الرابع عشر من تشرين الثاني من السنة نفسها انتخب بالإجماع خليفة للرسولين بطرس وبولس وبطريركًا على أنطاكية باسم ثيودوسيوس السادس أمدَّ الله بعمره ونفعنا بعلمه ونزاهته وترفعه وبركة دعائه.
نيفون متروبوليت بعلبك وزحلة (١٩٢٥)
وانتقى البطريرك والمجمع المقدس خلفًا لجرمانوس متروبوليت سلفكياس الأرشمندريت نيفون (سابا وكيل مطرانية حماة) وذلك في التاسع من آذار سنة ١٩٢٥. وسِيم نيفون مطرانًا على يد البطريرك ويدي باسيليوس متروبوليت عكار وروفائيل متروبوليت حلب. ودخل السيد نيفون زحلة مركز أبرشيته يوم سيامته في الثالث والعشرين من شهر آذار.
وهو ابن الإكسرخوس حنا سابا وحنة زماريا، أبصر النور في السويدية (سلفكية أنطاكية) في ١٧ آذار سنة ١٨٩٠، ونذره والده لخدمة الكنيسة فارتدى الثوب الإكليريكي الابتدائي من أرسانيوس متروبوليت اللاذقية في ٢٦ تشرين الأول سنة ١٩٠٥، ثم التحق بمدرسة البلمند الإكليريكية وتخرج على أساتذتها غطاس قندلفت والأرشمندريتين إلياس أسطفان وغفرائيل كردوس. وفي السنة ١٩٠٩ سِيم شماسًا إنجيليًّا في اللاذقية، وأصبح في السنة ١٩١٤ أرشدياكون هذه الأبرشية. ونفى الأتراك أهله مع بعض سكان السويدية، وأُمر هو أن يكون بعيدًا عن البحر عشرين كيلومترًا، فكان بمعية باسيليوس متروبوليت عكار في حلبا. ثم جاء الإنكليز في السنة ١٩١٨ فأبعدوه إلى حلب مع قسطنطين يني والخوري عيسى أسعد وعمر الأتاسي. ثم عاد فعينه البطريرك وكيلًا لمطرانية حماة بسبب شيخوخة مطرانها، وترك في هذه الأبرشية مآثر قيِّمة يذكرها الحمويون مع الشكر وخصوصًا زمنَ ثورة جبل العلويين ومهاجرة اليونان من الأناضول.
أغناطيوس متروبوليت حماة (١٩٢٥)
وفي السادس والعشرين من شباط سنة ١٩٢٥ انتقل إلى الأخدار السماوية غريغوريوس (جبارة) متروبوليت حماة، فانتدب البطريرك غريغوريوس الرابع الأرشمندريت أغناطيوس (حريكة) وكيلًا بطريركيًّا للأبرشية المترملة. ولم يمضِ بضعة أشهر على تولي هذه المهمة حتى أجمعت كلمة أبناء الأبرشية على اختيار الوكيل البطريركي مطرانًا عليهم، فتم انتخابه في السادس من تموز من السنة نفسها، وجرت سيامته مطرانًا على حماة في الثالث عشر من الشهر نفسه.
وُلد صاحب الترجمة في ٦ آب سنة ١٨٩٤ من أبويه عبد الله حنا حريكة وزوجته فوتين إبراهيم جريج في قرية بترومين الكورة لبنان الشمالي، وتناول علومه الابتدائية في القرية أولًا ثم في المدرسة الروسية في أسكلة طرابلس بعهد مديرها خريستوفوروس عاقل. وفي سنة ١٩٠٦ أدخله المثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس إلى مدرسة البلمند. وفي سنة ١٩٠٩ حينما عادت العلاقات ودِّيَّة بين البطريركية المسكونية بعهد البطريرك يواكيم الثالث وبين البطريركية الأنطاكية كان صاحب الترجمة بين التلاميذ الثلاثة الذين أرسلهم البطريرك غريغوريوس إلى مدرسة خالكي اللاهوتية في الآستانة. وفي صيف سنة ١٩١٤ سِيم شماسًا إنجيليًّا في دير سيدة البلمند وعاد إلى مدرسته، وبينما هو في البحر أُعلنت الحرب العالمية الأولى وأغلقت مضايق الدردنيل، فحاول مع رفاقه أن يصلوا إلى إسطنبول بواسطة دده أغاج المينا البلغاري ثم بواسطة إزمير فلم يفلحوا، وهكذا بقي نحو ثلاثة أشهر يتجول بين أثينا وسلانيك وجبل أثوس انتظارًا لنهاية الحرب ولما تبيَّن له أنها ستطول عاد إلى لبنان وبقي بضعة أشهر في دير البلمند إلى أن دعاه سنة ١٩١٥ مطران حلب رفائيل ليتولى مديرية المدارس الملية هناك وليكون نائبًا أسقفيًّا، فلبى بأمر غبطة البطريرك وظل في حلب حتى نهاية سنة ١٩١٧. وفي سنة ١٩١٨ انتقلت البطريركية الأورشليمية بأمر القائد التركي جمال باشا من القدس إلى دمشق لاقتراب جيوش الحلفاء إليها فدعا البطريرك غريغوريوس صاحب الترجمة، وكان قد رقي إلى رتبة أرشمندريت، ليكون مضيفًا ومرافقًا للبطريرك الأوروشليمي داميانوس وأعضاء مجمعه. وفي أواخر تلك السنة انتدبه البطريرك غريغوريوس ليكون مفتشًا على دير مار جرجس الحميراء بعهد رئيسه الأرشمندريت أيصائيا عبود، واستطاع أثناء مهمته هذه أن أنقذ أملاك الدير وكانت قد حجزتها الحكومة التركية بحجة أنها أملاك محلولة.
وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى عيِّن رئيسًا لدير سيدة البلمند، فأعاد المدرسة التي كانت قد تعطَّلت أثناء الحرب، وبقي في هذه المهمة ثلاث سنوات إلى أن عيَّنه البطريرك غريغوريوس وكيلًا بطريركيًّا لأبرشية كيليكيا (مرسين) سنة ١٩٢١، فلم يسعه الذهاب إليها بسبب الحوادث بين الترك والإفرنسيين، وبقي في الإسكندرونة مع صديقه الأرشمندريت حنانيا كساب وأسسا هناك أول مطبعة وأول جريدة باسم الخليج في هذا اللواء. وفي سنة ١٩٢٤ دعاه البطريرك غريغوريوس إلى دمشق وولاه الوكالة البطريركية.
أبيفانيوس متروبوليت حمص (١٩٢٥)
وشغر أيضًا كرسي حمص بوفاة السعيد الذكر أثناسيوس (عطا الله)، فانتخب المجمع الأنطاكي المقدسة في الثامن والعشرين من آب سنة ١٩٢٥ أبيفانيوس (زائد) متروبوليتًا على حمص وتوابعها، وتأخرت شرطونيته بسبب ثورة جبل الدروز إلى صباح الخميس في أول كانون الثاني سنة ١٩٢٦ فتمَّت في كاتدرائية دمشق برئاسة البطريرك غريغوريوس.
هو خليل بن موسى يوسف الزائد ووردة الخوري سليمان من دير عطية سوريا. وُلد فيها في ٤ آب سنة ١٨٩٠، تلقى دروسه الأولى في المدرسة الروسية. وفي صيف سنة ١٩٠٤ بينما هو مع والده في الكنيسة المريمية في دمشق لفت إليه نظر المثلث الرحمة البطريرك ملاتيوس، فقال له: ألا تذهب يا بني إلى المدرسة الإكليريكية في دير البلمند فتتعلم وتصير مطرانًا! فلبى الدعوة. وبعد شهر وجَّهه غبطته إلى الدير المذكور فتلقى دروسه اللاهوتية هناك وكان من الناجحين الأولين. وفي سنة ١٩٠٩ وجهه المثلث الرحمة البطريرك غريغوريوس إلى موسكو. وبعد سنة ونصف أحرز شهادة التصوير الكنسي في دير القديس سرجيوس قرب موسكو وعاد إلى سوريا فسِيم شماسًا إنجيليًّا في ٢٤ أيلول سنة ١٩١١. وعاد إلى موسكو ليخدم في الأمطوش الأنطاكي هناك ويدرس الفنون الجميلة في أكاديمية موسكو. وفي سنة ١٩١٤ عاد إلى سوريا ثم تعذَّر عليه الرجوع إلى موسكو لإحراز شهادته بسبب نشوب الحرب الكبرى. وفي سنة ١٩١٨ رقَّاه البطريرك غريغوريوس إلى رتبة رئيس شمامسة وتعين مدرسًا للآداب العربية في المدرسة التجهيزية الأرثوذكسية في دمشق ومديرًا لمدارس الطائفة في الميدان، وكان وقتئذٍ يعمل في صفوف الوطنيين والأدباء ويحرر مع نخبة منهم «مجلة الرابطة الأدبية»، وفي أثناء ذلك انتخبه المجمع العلمي العربي في دمشق عضوًا في لجنته الفنية.
إيليا أسقف معاون لمتروبوليت بيروت (١٩٢٦)
ولد إيليا من أبوين تقيين أرثوذكسيين في سوق الغرب في أول حزيران حسابًا شرقيًّا في السنة ١٨٨١، والتحق في السنة ١٨٩٣ بمدرسة بيروت الإكليريكية، فرعاه راعيها غفرائيل برعايته وألبسه الأسكيم في السنة ١٨٩٤. ثم سامه جراسيموس شماسًا إنجيليًّا في السنة ١٩٠٧. وفي السنة ١٩٠٩ أصبح أرشدياكونًا لكرسي بيروت، وسافر في السنة ١٩١٣ إلى إسطنبول بمعية رئيسه جراسيموس فقابل معه السلطان محمد رشاد ونال جراسيموس العثماني الأول وإيليا المجيدي الثالث، فكان ذلك بدء سلسلة من الاعترافات بخدمات سيادته من الحكومات المحلية والأجنبية وَشَّحَتْ صدرَه فضاق لها على اتساعه ورحابته.
وفي الخامس من نيسان السنة ١٩٢٦ سيم أسقفًا معاونًا لمتروبوليت بيروت كما سبق وأشرنا. وبعد وفاة البطريرك غريغوريوس في أواخر السنة ١٩٢٨ رقي في الخامس عشر من آذار سنة ١٩٢٩ إلى رتبة أساقفة. وفي التاسع والعشرين من أيلول سنة ١٩٣٦ انتُخب متروبوليتًا لأبرشية بيروت وخلفًا لمعلمه جراسيموس وتمَّت سيامته في دمشق على يد الطيب الذكر البطريرك ألكسندروس.
غريغوريوس والانتداب الفرنسي (١٩٢٠–١٩٢٨)
وبدا من غريغوريوس في عهد فيصل ما أنكرته عليه سلطات الانتداب، فاستوحشت من ناحيته وخيل إليها منه الغدر، فأظلم الجو بين الطرفين وتباعدا. ورقب الآباء اليوسعيون الأمر وكلهم يقظة وشدة، فاستغلوا ظرف الانتداب ودفعوا بمن ائتمنوا من حملة شهاداتهم إلى أهم المراكز وأدقها، وحذا حذوهم العازاريون والإخوة الإفرنسيون، فكثر عدد الموظفين المسيحيين الغربيين في دوائر الانتداب والحكومات المحلية وقلَّ عدد الأرثوذكسيين، واستتب الأمر للإفرنسيين في البلاد. وعلى الرغم من هذا كله البطريرك فان أبرق يؤيد انتدابهم، ولكنهم ظلوا يرون فيه رجلًا بغيضًا.
ولم يجمع البطريرك «ذو الخلال» بين محاسن التصدق وحكمة التدبير (المالي) فتراكم الدَّين وضاق طوق وجهاء الطائفة في دمشق، وجرأت السلطات الإفرنسية بعض العناصر على البطريرك فشغبوا وشاغبوا، فابتعد البطريرك عن الشر والفتنة وقام إلى لبنان وأقام فيه، ثم أظلم بصره فاضطر أن يبقى في لبنان للمعالجة.
وفاته
وبينما كان يوشك أن يختم المجمع السادس الأخير في سوق الغرب أعمال استأثرت بالبطريرك رحمة الله وهو يقوم بواجباته الرئيسية دون تضجر أو ملل، وعلى الرغم من انحراف صحته وضعف بصره. ويروى أنه قال وهو يُحتضَر: «لقد صبرت حتى النهاية!» وكانت وفاته في الثاني عشر من كانون الأول سنة ١٩٢٨، فنقل جثمانه الطاهر بموكب نادر المثال إلى بيروت حيث عرض للتبرك، ثم نُقل إلى دمشق ودفن في مدافن البطاركة أمام الكاتدرائية المريمية.