بين القراءة والكتابة
مضت شهور لم أكتب فيها كلمة في الأدب، لأني كنت أقرأ! والقراءة والكتابة عندي نقيضان، وقد كنت — وما زلت — امرءًا يتعذر عليه، ولا يتأتى له، أن يجمع بينهما في فترة واحدة. ولكم أطلت الفكرة في ذلك فلم يفتح الله على بتعليل يستريح إليه العقل ويأنس له القلب. وما أظن بي إلا أن الله، جلت قدرته، قد خلقني على طراز «عربات الرش»! التي تتخذها مصلحة التنظيم — خزان ضخم يمتلىء ليفرغ، ويفرغ ليمتلىء! وكذلك أنا فيما أرى: أحس الفراغ في رأسي، وما أكثر ما أحس ذلك! فأسرع إلى الكتب ألتهم ما فيها وأحشو بها دماغي هذا الذي خلقه الله لى خلقة عربات الرش كما قلت! حتى إذا شعرت بالكظة، وضايقني الامتلاء، رفعت يدي عن ألوان هذا الغذاء وقمت عنه متثاقلا متثائبًا مشفقًا من التخمة، فلا ينجيني إلا أن أفتح الثقوب وأسح؟! وهكذا دواليك!
ولكم قلت لنفسي: أهذا الذي ركبه الله لك يا مازنى بين كتفيك رأس كرءوس الناس أم معدة أخرى؟! وأداة نظر وإدراك وتفكير هو أم مخزن يكتظ حينًا ويخلو أحيانًا تبعًا لانتقال الأحوال بك؟ والحق أقول إن الجواب يعيينى! وإذا لم أكن قد ركبت من الوهم شر الحمير! فإن الناس في الأكثر والأعم إنما يعالجون الكتابة لأن في رءوسهم فكرة أو خالجة، كائنة ما كانت، يبغون العبارة عنها والإفضاء بها، ولست أراني كذلك. ولقد يخيل إلى في بعض الأحايين أن في نفسي معنى معينًا، ويؤكد ذلك عندي ويقرر اعتقادي به، ما أحسه من جيشان الصدر واضطرابه، فأذهب ألتمس هذا المعنى أو الخاطر فإذا به قد تبخر! وإذا بي كابنى حين يجلس إلى جانبي ويحاول أن يقبض على الدخان الذي يتصاعد من سجارتى، وأنا أضحك من هذا الذي يحاوله، وألهو به، وأقول: إنه يجرب في عالم المحسوسات بعض ما أعانيه في عالم المعنويات! وكثيرًا ما يدفعني إلى الكتابة إحساس غامض إلا أنه من القوة بحيث لا يسعني مغالبته فأتناول القلم، وأنا كالمسحور، وكأن القلم هو الذي يثب إلى يدي، كما ينجذب الحديد إلى المغناطيس، وأسرع في الكتابة وأمضى فيها إلى غايتها المقدورة، شأني في ذلك شأن الذي يسير وهو نائم! ينهض من فراشه ويخطو، ويذهب هنا وههنا، ويتكلم أو يباشر بعض الأعمال، ولكن وعيه ليس تامّا، وإرادته لا دخل لها في شيء مما يصدر عنه.
وأحيانًا أفعل هذا: أسأل نفسي: «أفي رأسك شيء؟». وأعنى بالشيء ما له قيمة، لا أي شيء على الإطلاق، فتساورنى الشكوك فأنقر بأصبعي على جوانب رأسي كمن يريد أن يتبين من الرنين مبلغ الخلو! وربما أسفت لأنه لا أستطيع أن أتناول رأسي هذا وأن أقلبه بين كفى وأن أفعل به ما يفعل المرء حين يختبر البطيخ! ثم أقول: لا بأس! القلم حاضر والورق تحت عيني، فلأقم حد هذا على صفحة ذاك، ولأفتح ثقب هذه «الحنفية» ثم فلأنظر ماذا يقطر منها أو يسيل. أو لا يدير أحدنا صمام «الحنفية» أحيانًا ليرى أفيها أم ليس فيها ماء؟! نعم! وكذلك أمتحن نفسي من حين إلى حين كلما شككت وكبر في ظني أن رأسي قد أصبح فارغًا! ولا أفعل هذا، حين أفعله، إلا على سبيل الاختبار وطلبًا للاطمئنان لا رغبة في الكتابة ولا عن قصد إليها. حتى إذا وجدت القلم يجرى وألفيت مراعفه تقطر، قلت: الحمد لله! وأقصرت!
وقد أبدأ المقال معتمدًا شيئًا بعينه فيجرى القلم بخلافه! وشبيه بهذا أن تريد السفر إلى الإسكندرية فتحملك رجلاك إلى قطار يذهب بك إلى السويس! وأحسب ذلك إنما يكون كذلك لأن الكلام يفتح بعضه بعضًا، وقد يفتنك وأنت تكتب معنى يعن لك فيلهيك عما كنت فيه ويدفعك من طريقه إلى غير ما قصدت إليه. وقد تأخذ في كلام تحسبه هينًا فتتكاءدك الوعور وتتعاظمك العقبات فتميل عنه إلى ما هو ألين. ومن هنا كان آخر ما أكتبه هو العنوان! وكثيرًا ما أستخير الله في الكتابة على نية معقودة ثم أعدل في بعض الطريق عنها وأتحول إلى سواها، ويجيء الكلام متناولا طرفًا من هذا وأطرافًا من ذاك، ويعجزنى أن أختزل مضمونه في عنوان فأدع المقال بلا رأس وأقدمه هكذا إلى الأستاذ أمين بك الرافعي فيضع هو — جزاه الله عنى خيرًا — ما يوافقه من العناوين!
وأمري مع الكتب أغرب. كنت في أول عهدي بها — أي منذ عشرين سنة أو نحو ذلك — أذهب في أول كل شهر إلى واحد من باعتها فيتقدم إلى العامل سائلا عن حاجتي فأبينها له فيرفع رأسه إلى الرفوف ويدور حول نفسه وهو في مكانه ثم يلتفت إلى وعلى شفتيه — دون عينيه — ابتسامة جهل وغباء، ويهز لى رأسه آسفًا. فأنحيه عن الطريق وأمضى إلى الرفوف وأجيل عيني فيها وآخذ منها ما يروقني وأنصرف عن الحانوت بأثقل من حمل حمار! وأغرق فيها بقية الشهر إلى ما فوق الأذنين إن كان فوقها شيء يستحق الذكر! وكنت لا أتخطى عتبة البيت إلا متأبطًا كتابًا، ولا تمضي على ليلة إلا طلعت في بعضها قليلا أو كثيرًا. وكانت الكتب أنيسي في وحدتي وسميري في خلوتي، وكنت أستغني بها عن متع الحياة ولذات العيش وأقول: إنها «تدخل في متناول الحس، والعواطف والمدركات وكل ما له وجود في العقل»، وإنها توقظ الحواس الخامدة والمشاعر الراكدة وتملأ القلب وتشعر النفس كل ما تستطيع الطبيعة البشرية احتماله وكل ما له قدرة على تحريكها وابتعاثها، وتدرب المرء على الاستمتاع بتدبر عظمة الجلال والأبد والحق، وإنها تمثل ذلك للإحساس وتحضره للذهن وتكشف لنا عن وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم، وإنها تعين القلب على تعرف الهول والفزع والسرور واللذة وتخفق بالوهم على جناح الخيال وتفتنه بسحر عواطفه وخواطره، وإنها تسد النقص في تجارب المرء وتثير فيه تلك العواطف التي تجعل حوادث الحياة أشد تحريكًا لها وتجعله أشد استعدادًا لقبول المؤثرات على اختلاف أنواعها ودرجاتها، لأنه ليس بالإنسان حاجة إلى التجريب الشخصي لتتحرك فيه هذه العواطف بل حسبه «ظاهر» التجريب الذي تهيئه له الكتب. وإنما تستطيع الكتب أن تقوم مقام التجربة الشخصية الواقعة بما تمثل للمرء لأنه كل حقيقة واقعة يجب أن تمثل في الرأي قبل أن يتعرفها الذهن أو تؤثر فيها الإرادة، ومن أجل ذلك كان سواءً على المرء أن تؤثر فيه الحقيقة الواقعة بالذات أو يأتي التأثير من طريق آخر كالصور والرموز التي تمثل هذه الحقيقة، فإن في طاقة الإنسان أن يصور لنفسه ما ليس له وجود حتى يعود وكأن له جسمًا يحس ويلمس، فسيان عند الإنسان أن يؤثر فيه الشيء أو مثاله، لأنه يحرك فيه عوامل الفرح والحزن مثلا على كل حال، وسواء أكان الشيء حاضرًا أم ماثلا في الخيال بصورته، فإن الإنسان لا يسعه إلا أن يحس حركات الغضب والبغض والرحمة والقلق والفزع والحب والإجلال والعجب والشهرة. فكأن هذه الرموز هي اللسان المترجم — كما يقول هوريس — عن الحقائق.
كنت أقول مثل ذلك وأصدقه، وكأن مثلى كمثل أشعب الذي حكوا أن صبية هتفوا به وأثقلوا عليه فأراد أن يصرفهم عنه فقال لهم: إن في مكان كذا وليمة فاذهبوا إليها وأصيبوا منها … فلما مضوا عنه بدا له الأمر كأنه صحيح فذهب يعدو في أثرهم. وكما أن أشعب عاد بالخيبة والحسرة والسخر من نفسه كذلك انقلبت عن الكتب، فلا أنا أفدت شيئًا سوى قمع الشباب وإضاعة فرصته وإراقة مائه في تلك الصحراء العارية، ولا أنا فهمت الحياة كما ينبغي أن تفهم أو سددت نقصًا في تجاريبى أو استطعت أن أستغني «بظاهر» هذا التجريب عن التجريب الشخصي. وشر من ذلك أنى اطلعت من هذه الكتب على صورة أو صور للحياة ليس أكذب منها ولا أبعد! ولا نكران أنها أيقظت نفسي وفتحت عيني ونبهت حواسي وابتعثت مشاعري وجعلتني أشد تأثرًا بالحياة وتحركًا لها واستعدادًا لتلقى مؤثراتها، ولكن أليس معنى ذلك أنها جعلتني أتعس وأشقى مما كنت أكون لو ظللت أرتع في بحبوحة الجهل والغفلة والبلادة ولم أفز بهذه النعمة التي لم أعد بها غنيّا؟ ماذا يكون لو أخذنا كنوز هذه العقول ورمينا بها من حالق للرياح والمدر، كما أقول من قصيدة صنعتها بعد أن فطنت إلى ما أضعت من عمري؟
وما أحسبني بالغت، فقد مات «الفتى» المازني حقّا ولم يبق منه شيء، وإني لأمر الآن بالمكاتب فأشيح بوجهي عنها وأغمض عيني دونها، ويردنى الكتاب بكرهي فأتركه حيث يقع وأهمله الأسابيع والشهور. وإذا فتحته اكتفيت بأن أعبره تزجية للوقت، ولم أبال من أي موضع بدأت، وسيان عندي أن أقرأه من أوله إلى آخره، أو من آخره إلى أوله أو أن لا أقرأه. وقد تعاودني الحمى القديمة ويتأوبنى الحنين الماضي إلى الكتب، فأدافع نفسي عنها ما استطعت، فإن عجزت وغلبت على أمري طاوعتها على حذر وسايرتها متحفزًا، وذهبت أتخير لها الكتب وأنتقيها … ومهما يكن من الأمر فلست الآن ذلك الذي كان كأنما يعبد منها دمى وأصنامًا، وقد اغتنمت أول فرصة سنحت فبعتها جملة وتحريت بعد ذلك أن أزداد جهلا!
ولكن الزامر يموت وأصابعه تلعب! كما يقول المثل العامي، وللعادة حكم لا يقوى المرء في كل حين على مغالبته، والنفس لا تطاوع المرء دائمًا على ما يريدها عليه من الخمود والتبلد. وقد يزعج المرء أن يرى نفسه يقضى أيامه بطين الجسد وحده، أو بموتها على الأصح، فإن من الموت أن يستحيل الإنسان جثة خامدة المتقد لا ينقصها إلا الرمس. وما لا يصح سلوى ومتعة قد يصلح دواء، وعسير على من تعود أن يحس الحياة بأعصابه العارية أن يروض نفسه على التبلد ويخلد إلى الركود. فلا عجب إذا كنت أقبل على المطالعة حينا بعد حين.
•••
«أما أبو نواس فأمره غير هذا كله، لم يكن عذريا وما كان يستطيع أن يكون عذريا، وهو الرجل الذي شك في كل شيء ولم يؤمن إلا بالمجون واللذة يلتمسهما حيث يجدهما لا يتقيد في ذلك بحرج وجناح … ولم يكن عذريا ولم يكن يتكلف أن يكون عذريا وإنما كان يسخر من العرب ومما كان العرب يتكلفون. لم يكن يتكلف العذرية وإنما كان يهتم باللذة وبلذة غير التي كان يهيم بها عمر بن أبى ربيعة» … إلى أن يقول: «… إن أبا نواس يكرهك حين تقرأ غزله بالغلمان على أن تعجب بهذا الغزل رغم ما فيه من منافرة للطبع والخلق والدين … إلخ».
أما نحن فقد قلنا في المقدمة التي وضعناها للجزء الثاني من ديواننا: «فلا جرم كان الشاعر أحسن الناس وأعمقهم حكمة وأصحهم إدراكًا لخلال الخير وخصال الفضل — نقول للفضيلة والخير ولا نخشى أن يهز القراء رءوسهم إنكارًا، فإن الشعر أساسه صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي. ولست بواجد شعرًا إلا وفى مطاويه إدراك أخلاقي أدبي صحيح، وعلى قدر نصيب الشاعر من صحة هذا الإدراك الأدبى تكون قيمة شعره. ولا يتعجل القارئ فيحسب أنا نقصد إلى إظهار الإحساس الديني في الشعر فليس كلامنا على مادة الشعر بل على مصادره وينابيعه. ولا ينبغي كذلك أن يستخلص أن الشاعر يجب أن يكون صاحب مبدأ عملي لا يتحول عنه، فقد كان بيرنز الشاعر الإنجليزي وأبو نواس وامرؤ القيس متقلبي وجوه الحياة ومظاهرها ولكن نصيبهم مع ذلك من صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي عظيم. ولئن كان لهم معايب نؤاخذهم بها فقد أحالها الزمن هباء لا قيمة له ولا وزن، وأنت خليق أن تنظر إلى ما وراء ذلك. فإن أبا نواس أصح مبادئ وأنقى ضميرًا من البحتري على كثرة ما تقرؤه للأول مما يروع ويخجل، وكذلك امرؤ القيس أفطن إلى معاني الفضيلة وأعظم رجولة من أبى تمام وابن المعتز، ولم يكن الأعشى على حبه الخمر واستهتاره بها وتخلعه فيها بالرجل الناضب الفضيلة … إلخ»، إلى آخر ما قلنا يومئذ وكان ذلك في يناير سنة ١٩١٧، ولقد غبرت أعوام ثمانية فلم تزدنا إلا اقتناعًا بهذا الرأي الذي أشرنا إليه في ذلك الوقت إشارة من لا يحس أن المسألة تحتاج إلى إفاضة.
ولقد سقنا لك هاتين العبارتين من كلام الدكتور وكلامنا لتعرف مدى الخلاف بين الرأيين ولتدرك ما في المسألة من دقة وتعويص، لا يسع المرء حيالهما إلا أن يسأل الله السلامة.