متاعب الطريق
ليس أخطر من التعميم في الأحكام، ولا سيما إذا كان الأمر خارجا عن دائرة العلوم المضبوطة وخاصّا بما يختلف فيه الناس ويتباينون، ولكنا مع هذا نستطيع أن نستغني عن الاحتياط إلى مدى بعيد، وأن نأمن الخطأ إلى حد كبير حين نقول إن المرء حين يعشق، أي حين تستبد به الرغبة وتغطى به العاطفة، قل أن يفكر في الاحتمالات أو فرص النجاح، أو في ما له من الصفات والمؤهلات التي تعين على التوفيق أو تحول دونه أو في طبيعة المرأة التي فتنته واستولت على هواه. ذلك أن المرأة تقع من نفسه فيجيش صدره بالرغبة فيها وتضطرم نفسه عليها ويغيم كل ما عدا ذلك فلا يرى أو يسمع أو يحس إلا هذه العاطفة المتأججة التي تسد عليه كل فجاج النظر. وغير منكور أن في الناس من يسعه ضبط نفسه وقياس آماله إلى قوته وكبح عاطفته إذا تبين أنها موشكة أن تركض به بين الوعور … كما أن فيهم من يمضي على وجهه كالمعصوب العينين أو كالمخمور حتى ينتهي إلى غايته أو يقع دونها. ولكن هذا لا ينفى أن العاطفة تتملكه قبل التفكير، وهذا هو الذي نريد أن ننبه إليه لو أن الأمر محتاج إلى تنبيه.
والأديب شبيه بالعاشق، يعرض له الخاطر فيستهويه ويسحره ولا يجرى في باله في أول الأمر شئ من المصاعب والعوائق ولا يتمثل له سوى فكرته التي اكتظت بها شعاب نفسه، ولا ينظر إلا إلى الغاية دون المذاهب، ويشيع في كيانه الإحساس بالأثر الذي سيحدثه، وقد يتصور الأمر واقعًا ولا يندر أن يتوهم أنه ليس عليه إلا أن يتناول القلم فإذا به يجرى أسرع من خاطره، وإذا بالكتاب تتوالى فصوله وتتعاقب أبوابه. وتصف حروفه ويطبع ويغلف ويباع. ويقبل عليه الناس يلتهمونه وهم جذلون دهشون معجبون. وإذا بصاحبه قد طبق ذكره الخافقين وسار مسير الشمس في الشرق والغرب وخلد في الدنيا إلى ما شاء الله!!
يكبر كل هذا في وهمه لحظة تطول أو تقصر، ثم يهم بالعمل ويعالج أداءه فيتبين أن عليه أن ينضج الفكرة ويتقصى النظرة ويلم بهذا ويعرج على ذاك، ويستطرد هنا ويمضي إلى هناك، ويدخل شيئًا ويخرج خلافه … ثم أن يصب ذلك في قوالب ملائمة ينبغي أن يعنى بانتقائها، وأن يتوخى في الأداء ضرورات تقسره عليها طبيعة الخواطر أو المسائل — هذه تتطلب إيضاحًا وتلك لا معدي في سوقها عن تحرى القوة في العبارة أو اللين أو السهولة أو الجمال أو غير ذلك. وأحر به حين يكابد كل ذلك أن تفتر حرارته الأولى وأن يدب الملل في نفسه، وأن يضجره أن يضطر إلى أن يقطع الطريق خطوة خطوة، ويكتب الفكرة الرائعة الجليلة التي استغرقته وفتنته، كلمة كلمة. ويتناول منها جانبًا بعد جانب، وأن يعاني في أثناء ذلك مشقات التعبير ومتاعب الأداء، وأن يذعن لأحكام الضرورات، فلا يستعجل فيفسد الأمر عليه، بل يكر أحيانًا إلى ما كتب ويعيد فيه نظره ويجيل قلمه مرة وأخرى وثالثة إذا احتاج الأمر إلى ثانية أو ثالثة، ويصبر على برح ذلك وعنائه وتنغيصه وتغثيته يومًا وآخر، وأسبوعًا وثانيًا، وشهرًا وعاما وأكثر من عام أو أعوام إذا دعت الحال. وفى أثناء ذلك كم خالجة عزيزة يضطر أن ينزل عنها ويدعها مدفونة في طيات نفسه لعجزه عن العبارة عنها وتصويرها وإبرازها في الثوب الذي ينسجم عليها ويجلوها للقارئ كما هي في ذهنه أو لأن كلمة واحدة — واحدة لا أكثر — تنقصها لتستوفى حقها من التعبير الذي يكفل لها الوضوح أو الحياة؟ كم معنى يتركه ناقصًا أو غامضًا وهو «يحسه» تاما ويتصوره في ضميره كأجلى ما يكون؟
وما كل امرئ يدخل في مقدوره أن يحتمل هذا المضض كله. ومن الكتاب من لا يكاد يلتقي بأول صخرة في الطريق حتى ينكص راجعًا وهو يشعر بمرارة الخيبة بعد الغبطة التامة التي أفادته إياها الفكرة حينما نشأت، ويروح يطير من فكرة إلى أخرى ولا يكاد يصنع شيئًا لأن العوائق التي لم يقدرها تغلبه، والوعور التي لم يتوقعها تهيضه، والمشقات التي لم يفكر فيها تسئمه.
والأدب إلهام وفن. ولكل فن أدواته وآلاته. ولا بد فيه من الإحسان والتجويد، أي من الصبر وصحة النظر وسلامة الذوق وصدق السريرة وحسن الاستعداد. وما كان الصواب وصحة النظر ودقة الإحساس وحسن التخيل والقدرة على ذاك وغيره بمقصورة على الأدباء ولا هي بوقف عليهم، ولكن كم ممن تفيض خواطرهم بالخيالات الرائعة والآراء السديدة والإحساسات العميقة يستطيعون أن يبرزوا هذه ويحدثوا فيها صورًا ويجلوها للناس كما هي في نفوسهم؟!
الألفاظ، التي هي أدوات الكتابة موجودة، ولعل غير الأديب لها أحفظ وبها أعلم، وهي في طريق من شاء، غير أنها ليست كل ما يحتاج إليه المرء ليكون منه كاتب. كذلك الأصباغ والألوان حاضرة من شاء مد إليها يده وتناولها وصنع بها ما أحب، وهي مادة التصوير، ولكن من ذا الذي يحسب أنها كل ما ينقص المرء ليكون مصورًا؟ وكذلك لا يغنى العلم بالقواعد والأصول. وما عسى أن تكون قيمتها وحدها؟ هذا وجه يريد المصور أن يرسمه وينقل إلى اللوح ما يترقرق في صفحته من المعاني ويجول فيه من الأمواه، فكيف بذلك؟ كيف يجعل هذه الشفة ناطقة بالسخرية، أو تقويسة الذقن معبرة عن التصميم، أو لمعة العين شاهدة بسجاحة الخلق ورضا النفس؟ وكيف يشعرك ما يشعر به هو من السحر أو الدلال، أو القوة والجلال، ويفيدك ما أفاد من الأنس والغبطة والروح؟ أو كيف يجعلك حين تنظر إلى الصورة الحاكية تشتهى — مثله حين يجتلي الأصل — أن تغمض عينيك وتنقل نفسك إلى عالم آخر من الخيالات والخواطر والإحساسات؟
وما يقال عن المصور يقال مثله أو أكثر منه عن الكاتب أو الشاعر. والأمر في كلتا الحالتين يحتاج إلى فطرة مهيأة له أسبابها وذوق مؤازر وسليقة مناصرة وملكة معينة على حسن اختيار الرموز الكفيلة بإفراغ الخواطر في القوالب الملائمة، والقادرة على إحداث الصور المطلوبة في أذهان القراء. وعلى ذلك يكون المرء صانعًا لا أكثر إذا رزق الفن وحرم الإلهام — صانعًا كهذه الآلات التي تدور بلا روح وتخرج ألوانًا وضروبًا من الصور تعجب بصقلها ودقتها وإحكام صنعها ولا تحس أن يد إنسان حي أو قلبه وراءها.
وكم من الناس يفكرون فيما يقاسيه الأديب؟! أين ذاك الذي يطالع الكتاب أو الديوان ويعنى بأن يصور لنفسه الجهد الذي بذله صاحبه والغصص التي تكبدها وصبر عليها — جهد التفكير والأداء، وغصص النجاح والفشل على السواء؟ إنه لا يقدر ذلك إلا من عانى هذه المآزق وخاض غمراتها وذاق مرارتها. وشبيه بهذا أن يقف رجل من الأوساط العاديين أمام صورة يتأملها ويدير فيها عينه ويعجب بها أو لا يعجب، وهو لا يدري أنها ليست ألوانًا وأصباغًا مزجها المصور وزاوج بينها وساوقها، بل قطعة حية من نفسه إذا نظر إليها صاحبها كرت أمام عينه سلسلة طويلة من الألم واللذة والندم والغبطة والغيظ والكمد والسخط والرضا والأمل والخيبة ومن أسبابها ودواعيها المباشرة وغير المباشرة.
لى صديق مصور مخلص لفنه دعاني مرة إلى محله — وكان هذا منذ سنوات ثلاث — وقال: «إني أريد أن أرسمك لأني أتوسم في رأسك مادة صالحة لصورة لها قيمة فنية»؛ فشكرت له ذلك وقلت له إن عندي من الغرور ما هو فوق الكفاية ولم يكن ينقصني أن أعلم من فنان مثلك أن رأسي جدير بالتصوير … ثم جعلت أختلف إلى داره في الأوقات التي يعينها وأجلس إليه في كل يوم من هذه الأيام نحو نصف ساعة تتخللها فترات أستريح فيها من هذه الجلسة المتعبة. فكان ربما بدأ مرتاحًا إلى العمل مقبلا عليه مهتما، ثم لا يلبث أن تعتريه الكآبة ويعلو وجهه الوجوم فتتدلى يداه وينثني رأسه على صدره ثم يرفعه ويرسل زفرة غيظ من بين أسنانه المطبقة، ويعود كالذي يهم أن يتناول اللوح فيمزقه ويعمد إلى فيرمى رأسي بالكراسي والألواح ويطردنى رفسا بقدميه!!
وكنت أحاول أن أرد إليه ما يعزب عنه في هذه اللحظات من خلقه الوادع، وأقول له: إن هذا الذي تكابد ليس بغريب عنا معشر الكتاب، وربما كنا أسوأ من المصورين حالا وكان فننا أشق وأمر … فيقول: كلا! إنكم أيها الكتاب تستطيعون أن تسوقوا خواطركم ومعانيكم واحدًا في أثر واحد فإن أغفلتم معنى لسبب من الأسباب فقلما يفطن القارئ إلى ما أهملتم، وهل كان يدري قبل أن يقرأ كلامكم أنه كان في رءوسكم كذا وكذا فأردتم منه هذا واطرحتم ذاك؟ ولكن صورة الوجه على اللوح إما أن تكون حية ناطقة أو ميتة خامدة الروح، وليس يخفى موتها أو حياتها على الناظر إليها. وقلما يفوته التقصير في إنطاق الوجه وأداء المعاني المرتسمة على صفحته، وقد تدق بعض المعاني المكتوبة عن الأفهام لتعويصها أو غرابتها أو سموها أو لطفها ودقتها، ولكن شخصية الإنسان لا تخفى على الإنسان، وقد يعجزه أن يصفها ولكنه لا معدي له عن أن يحسها، والصورة كذلك. ومن هنا كانت أشق وكان الإخفاق أخلق بأن يكون أبين.
وأذكر أنى منذ أكثر من خمسة عشر عامًا قام بنفسي أن أضع كتابًا «ضخمًا» في فلسفة الشعر وأن أجعل هذا عملي الأدبي في حياتي وقلت لنفسي: حسبي به إذا رزقت التوفيق فيه. واستخرت الله في إمضاء الفكرة، ولم يكن يغيب عنى فدحها. فشرعت أعد لها العدة الكافية وأقرأ كل ما استطعت أن أقرأه مما له علاقة قريبة أو بعيدة بموضوعي … وقسمت الكتاب إلى أبوابه التي تنطوي تحتها أغراضه، وحصرت كل ما أريد أن يتفرع إليه … ثم لم تزل تقوم الموانع وتعترض الحوائل، ومضت على وعلى كتابي هذه. السنوات الخمس عشرة ولم أتجاوز إلى هذه الساعة المقدمة وفصلين أحدهما هو المدخل!!
ويظهر أنه ليس أعون على المثابرة والصبر من «خفة» الإحساس ومن أن يكون المرء بحيث لا تهتاج آماله أو مخاوفه إلى درجة من الألم والإلحاح لا تحتمل ولا يسع المرء معها رفقًا بنفسه وإبقاء عليها إلا أن يفرغ من الأمر الذي يعالجه ولو خسر في سبيل ذلك غايته. وأعنى أن يكون المرء هادئ النفس قليل الاكتراث قادرًا على الانتظار مطيقًا للصبر راضيًا عن نفسه مستعدّا للارتياح إلى كل ما عسى أن يشغله، يستوي عنده أن يكتب في الفلسفة أو يصف حوانيت الباعة، وأن يستكشف القطب الشمالي أو يهتدى إلى حانة تبيع الويسكي بأثمان زهيدة ومقادير كبيرة، ما دام هو الذي يفعل هذا أو ذاك وما دام رضاه عن نفسه لا يضعفه سبب من الأسباب. وليس من النادر أن يرزق هذا الضرب من الناس حظا من البساطة الطبيعية ترفعهم وتذري منهم. ولكن ما عسى صبر الذين تطغى بهم البواعث القوية وتلج بهم الأشواق الحادة والرغبات الجامحة وتدفعهم إلى محاولة الوثوب وتعجلهم ولا تدع لهم فرصة راحة يروضون فيها نفوسهم؟
ولعل هذا هو السبب في أن الأمة الإنجليزية لم تنبغ في شئ نبوغها في الشعر الذي يرجع في مرد أمره إلى الإرادة والعاطفة، وأن الأمة الفرنسية من «أفصح» الأمم. ذلك أن الشعر عبارة عن الإحساس الذي يعترف به المرء لنفسه ساعة الخلوة بها ويرمز له بما هو أقرب إلى الصورة التي هو عليها في نفس الشاعر. أما الفصاحة فإحساس كذلك ولكنه يصب في أذهان أخرى ويلقى إليها طلبًا لعطفها أو التماسًا للتأثير فيها أو نشدانًا لتحريكها وحفزها إلى العمل … ومن هنا كانت الأمة الفرنسية أضعف الأمم الكبرى شاعرية وأفصحها في الوقت ذاته إذ كانت أشدها غرورًا وأعظمها اعتدادًا بالنفس!