مجالسة الكتب ومجالسة الناس
كنت أهم بأن أكتب غير هذا المقال، وكانت الفكرة حاضرة، والورق مهيأ، والقلم مبريّا. ولكني أشرفت من النافذة فأخذت عيني صبيّا يلعب بالحصى ويهيل الرمال، وفى ناحية أخرى فتاتان تتحادثان وتتضاحكان … فقام بنفسي سؤال لم أستطع التملص منه على فرط ماجاهدت: ماذا يعبأ هؤلاء بما كتبت أو بما عسى أن أكتب؟! بل هبني جعلت الصبي والفتاتين موضوع مقالي وأدرته على ما أرى منهما ومنه! أيكترثن لى أو يحفلن بي وبما أسطر؟ كلا! ولعل أحرى بي أن أسأل: أيعود أحد منهم أصلح للحياة وأقدر عليها وأعرف بها من أجل أنى أجريت هذا القلم بكلمات فيه أو عنه وهو لو قرأها أو تليت عليه لما أحس أنه موضوعها؟! كلا أيضًا، ومع ذلك أباهى بما قرأت، وأعتز — على الأقل فيما بيني وبين نفسي — بما كتبت، وأفرح بالخالجة تدور في نفسي لحظة ويجيش بها صدري برهة، وقد أضعها في كفة وأضع الطبيعة كلها في كفة أخرى! وبعبارة أخرى: أغالى بالفن وأعدو به قدره ثم أنقلب بجزاء من يفعل ذلك!
أي شئ هذه الكتب؟ ستقول إنها عالم حافل بالمتع … وإنها لكذلك، ولكن أين ذلك الذي يسعه أن يزعمها العالم الوحيد؟! وهي ديوان قيد فيه السلف ما وسعهم أن يورثونا إياه من معارفهم وخواطرهم وتجاربهم، غير أن هذا ليس معناه أنها كل ما يمكن أن نعرف أو يخطر لنا أو نحسه أو نجربه. والحياة كتاب أوسع وأضخم من كل ما حوت المكاتب قديمها وحديثها، وليس ما على رفوفنا سوى صفحات قليلة من هذه الموسوعة الهائلة. ولقد عبر «هولاكو» على جسر من الكتب فلم تقف الدنيا ولم يثقل الزمن رجله، ومضت الحياة في طريقها كأن لم يحدث شئ ولم يفقد الناس هذه الكنوز، بل كأن لم يكتبها أحد ولم يضن فيها نفسه، ولم يخلق في تحبيرها أيامه، ولم يبل في إخراجها حياته! بل كأن لم يكن أصحابها قد خلقوا قط! وهل ما أخرج الكتاب من آثار أقلامهم هو كل ما كان يمكن أن يكتب؟! لا أظن أحدًا ممن يعاني الكتابة يذهب إلى أن بعض ما كتبوا ليس إلا بعض ما اضطرب في صدورهم وقد لا يكون خيره.
والكتاب الذين ظهروا في هذه الدنيا ليسوا كل من يحس ويفكر قرب تاجر يمسي ويصبح بين السلع جيدها ورديئها، والمساومات شريفها ووضيعها، والمكاسب حلالها وحرامها، هو أبعد مدى ذهن وأوسع مضطرب فكر من «كانْت» أو «كونت» أو من شئت غيرهما … ورب حمال يقضى عمره حانيًا ظهره للأثقال! هو أحس بالحياة والطبيعة من ابن الرومي … وقد تزدري أميّا جاهلا وهو — لو علمت — أحد طبعًا من المتنبي، ولكنه الغرور ولا أدرى ماذا أيضًا — فليس أبغض إلى من التقصى — يخيل لنا أن الحياة تعقم بأمثال من ظهروا ويظهرون فيها من الكتاب والشعراء والفلاسفة ومن إليهم! وكل هؤلاء الذين نعدهم «نكرات» يأتون إلى الدنيا ثم يخرجون منها ولا يخلفون وراءهم أثرًا أدبيّا والدنيا لا تنقص بذلك كما أنها لا تزيد بمن نعرف من أبنائها «المعارف»! والحياة كالأوقيانوس الأعظم لا يزيده صوب الغمام ولا ينقصه ما تأخذ منه! وهب الدنيا خلت ممن عليها من الناس، وصفرت من كل أصناف الخلق، فماذا إذن؟ لا شىء! تظل الأرض دائرة حول الشمس، ولا تكف الشمس عن إضاءتها كما تفعل الآن، إذ نحن عليها نروح ونجىء ونكد ونسعى ونشقى ونسعد ثم نموت! ونحن نموت أفرادًا وجيلا فجيلا أليس كذلك؟ ولا تعود الدنيا موجودة في نظرنا — لو أنه بقي لنا بعد الموت نظر — ونعود نحن فيها، أليس هذا هكذا أيضًا؟ فهب جيلنا كان آخر جيل، أفتظن أن الدنيا كلها تقضى نحبها من أجل أننا نحن قضينا نحبنا؟
إذن لا «تصوب» نظرك يا مازنى إلى هذه الحيوات الصغيرة الساذجة التي تبدو لعينيك إذ تطل من نافذتك ولا تبتسم إذ تجتلي مظاهرها كأنك تزدريها أو «ترثى» لأصحابها الذين لم يقرءوا ما قرأت ولم يعرفوا ما عرفت. فإنها حافلة بالمتع والعجائب كهذه الكتب التي تعنى بها ولا تكاد تحفل ما عداها ولعلها — لو بلوتها — أجدى عليك وأشرح لصدرك مما أضعت عمرك فيه.
وما من ريب في أنى لو كنت أصغر مما أنا اليوم بعشر سنوات أو خمس عشرة، لخرج المقال من يدي على غير ما يخرج الآن، ولكان الأرجح في الاحتمال أن أشيد بذكر الكتب والعكوف عليها والانقطاع لها والانصراف عن الدنيا من أجلها، ولكني لسوء حظها كبرت!! وبلوت من جرائرها ما أسخطنى عليها. وبحسبي من ذلك أن صارت مجالس الناس وأحاديثهم عندي غثة لا تكاد تساغ ولا تستمرأ، وأنى مضطر إلى أن أعالج نفسي لأطيقها وأصبر عليها ولا أقول لأستمتع بها. وليس ذلك لعزوف طبيعي عن الناس وكراهة لمخالطتهم ولكنها الكتب قبحها الله ردتني كالمترف الذي تؤذيه خشونة العيش!!
ألست قد عشت بين خير العقول وأخس النفوس، وألفت أن أتناول عصارة الأذهان وخلاصتها النقية الممحصة، واعتدت الصقل في سوقها والفن في عرضها وإبرازها؟ فما عسى الصبر إذن على أحاديث المجالس الخاوية المبتذلة؟!
كيف لمن يقضى الشطر الأكبر من أيامه ولياليه بين شعراء الدنيا وكتابها، بإطاقة المستوى الذي لا تكاد ترتفع عنه أحاديث المجالس؟! وما للكبر دخل في هذا ولا للغرور أصبع فيه ولا ظفر، وإنما هي العادة التي يقولون عنها إنها طبيعة ثانية. وما مثلى إلا كمثل الذي نشأ في بيئة أرستقراطية كما يسمونها ودرج على عاداتها وتقاليدها وآدابها، مثل هذا لا يحسن أن يعايش من هم من طبقة الخدم والطهاة أو العملة وباعة الأسواق. ولا شك في أنه يحادثهم أحيانًا ويحتك بهم قليلا ولكن هذه ليست معايشة، وأكثر ما يكون اتصاله بهم حين يصدر إلى واحد منهم أمرًا أو يبتاع سلعة أو يفعل ما هو من هذا بسبيل، ولو أنه جالس طائفة من هذه الطبقة لملها واستثقل وطأتها على كل صبره. والعكس صحيح أيضًا. وليس السبب أن هذا من طبقة عالية وذاك من طبقة واطية أو متوسطة، بل السبب فيما أظن هو أن من تتباين نشأتهم وتتباعد طبقاتهم تضيق بينهم الدائرة المشتركة، والأحاديث تدور على الأكثر في هذه الدائرة. ومن هنا لا يطرد الحديث في مجاريه العادية بين من ألفوا الكتابة والقراءة وبين سواد الناس. ذلك أن الكاتب اعتاد التفكير وإطالة النظر إلى المسائل من كل الجوانب التي يتفطن إليها ويسعه أن يحيط بها، وأن يعرضها مرتبة مبنيّا بعضها فوق بعض ويسوقها في عبارة يتخيرها لها … وليست الأحاديث كذلك؛ فهي متقطعة متوثبة سطحية في الأعم والأغلب، ولا يزال الناس ينتقلون في مجالسهم من موضوع إلى آخر ولا يتريثون هنا أو ههنا، فيكون الكاتب بين أمرين: أن يلزم الصمت. أو يثقل على جلسائه. ولا شك في أن غشيانه المجالس واختلافه إليها يصقله ويعده لها ويذلل له ما تقيمه عادته من العقبات وقد ينفعه ذلك ويحرك ذهنه ويطلقه من القيود التي تحفه بها مزاولة فنه. ولكنه لا شك أيضًا في أن روح الأحاديث هو التعاطف وأن تباعد ما بين الجلساء يضعف هذا التعاطف ويحيل المحضر موقرًا باحتمالات الملل والسآمة من الجانبين. والمرء لا يستطيع أن يسمو فوق مسعاه لأن استطاعة ذلك معناه أن المرء يسعه أن يحلق فوق نفسه وهو عين المستحيل. وأعلم أن «الماسونية» ليست بمقصورة على رجالها وأن لكل طبقة منها نصيبًا، وكما أنه لا يفهم رموز الماسوني حق فهمها إلا صنوه وقرينه كذلك لا يتم التفاهم إلا بين القرينين. على أن بعض الناس يذهبون إلى أنه لا خير في محادثة القرناء إذ كانوا خلقاء أن يعرفوا ما عساك تقول، وإنما يحلو الحديث ويجدي — كما تجدي الصداقة — بين المختلفين. وهذا صحيح ولكنه ليس كل الصواب لأن كون اثنين في مستوى واحد لا يستوجب التطابق بينهما. وهذه المدارس تلقن التلاميذ علومًا واحدة غير أن هذا لا يجعلهم أشباهًا ولا يحيلهم كالنسخ المتعددة من الكتاب الواحد! وقد يقرأ الكتاب رجلان ويخرج أحدهما بغير ما يخرج به صاحبه.
والكاتب يعنى بالفكرة قبل أن يعنى بوقعها، وهمه الأول جلاؤها وعرضها في أحسن حلاها وأقواها. ولا ريب في أنه وهو يكتب يجعل باله أيضًا إلى التأثير، ولكن هذا لا يشغل من نفسه الحيز الأكبر بل هو يأتي تبعًا لمعالجة الأداء. والحال على خلاف ذلك في الأحاديث فإن المرء لا يزال يدير عينه في وجوه الجلساء ليستشف منها الأثر الذي أحدثه كلامه. وما أشبه الكاتب بالممثل الذي يعنى بدوره ويصرف همه إلى القيام به ويخلى ذهنه، على قدر ما يسع إنسانًا أن يفعل ذلك، من التفكير في جمهور النظارة الذين يجعلونه قيد أبصارهم. أما حديث المجالس فقريب الشبه بالخطابة بل هو صورة مصغرة منها، والمرء لا ينفك كما أسلفنا يستنبئ الوجوه ويستخبر العيون ويحاول أن يتخذ منها مرايا يجتلي في صقالها وضاءة حديثه وبهجة كلامه، ومن ذا الذي لا يعنيه ما يند عن شفتيه ولا يبالي أين وقع ولا يكترث لكلامه أتلقفه الناس أم ذهب مع الريح ولم يلتفت له أحد؟ ولهذا لا يسع المرء إلا العناية بأمر جلسائه إلا مراقبة حالة نفوسهم فيرتفع معهم ويحلق إذا رآهم مطيقين للتحليق راغبين فيه مستعدين له ويهوى معهم إذا هوت بهم البلادة أو التعب أو الضجر أو غير ذلك.
وأتعس المجالس وأثقلها على نفس الأديب تلك التي تتألف من الأوساط أدعياء الثقافة. فيها يدور الحديث على الآداب والفنون ولكنه حديث منقول عن الصحف والمجلات يلوكون فيه ما تكتبه لهم. ويفسدونه إفسادًا لا سبيل إلى الصبر عليه. وعذرهم واضح وعذرك أوضح … فالموضوع الذي يردونه منك إليك لا يعنيهم كما يعنيك ولا يستمدون الباعث على طرقه من أعمق أعماق نفوسهم مثلك. وقد لا يدرون عنه إلا بعض ما التقطوه منك. وتشعر بالتقزز إذ ترى القوم يمزقون بأنيابهم خواطرك ومعانيك ويلقونها إليك خرقًا قذرة وتصدك الآداب العامة عن تنغيصهم، ويقضى ذلك على صدق السريرة ويذهب بالإخلاص ويغيض من جراء ذلك معين اللذاذة المستفادة من الاجتماع. ومن هذا الضرب أفراد يحفظون من الكتب أسماءها وأسماء مؤلفيها وبعض ما يقال عنها ويدورون بهذا على المجالس يعرضونه عليها كالإعلانات حتى لكأنها فهارس حية أو قوائم متنقلة!
وليس من النادر أن يكون الأدب أو العلم أو غير ذلك مما اشتهرت به من ذنوبك عند بعض الناس، فلا يكاد يغشى أحدهم مجلسًا لك أو يلتقي بك حتى يشرع في تنغيص متعك وتكدير صفوك. فإذا كان الشعر فنك أنحى على الفن كله وبسط لسانه فيه وسمى كل سخافة «خيال شاعر». وإذا مدحت شيئًا أو أظهرت ارتياحك إليه أو ولوعك به ذمه وسخر منه أو عرض بسوء رأيه فيه واحتقاره له — ولك ضمنا — إذا جبن عن التصريح … وهكذا يظل يطاردك ويتعقبك حتى يسود الدنيا في عينيك ويملأ نفسك نقمة على الحياة والناس إكراما له!
والأديب كالمغنى الذي يرسل صوته غير معتمد على آلة موسيقية تشبع أنغامه وتسد نقصها وتملأ فراغها، وقد ألف أن يجعل معوله على ما للعبارة وحدها من وقع، وليست كذلك الأحاديث التي تستمد جانبًا كبيرًا من قوتها أو حلاوتها أو بهجتها من المكان والاجتماع والجلساء وإشاراته ونظراته وصوته. ومن هنا يخطىء كثيرون ممن يبرزون في المجالس فيحسبون أنهم يستطيعون أن يظهروا في عالم الكتابة كما ظهروا في عالم المجالس ويتوهمون أن الوقع الذي يوفقون إليه في أسمارهم لا يخطئهم إذا تناولوا القلم وأجروه بدلا من اللسان.
وليس — أشق عندي على الأقل — ولا أشد إجهادًا للأديب من مجالس النساء! ماذا يقول لهن؟! في أي شئ يحادثهن؟! كيف يجعلهن يرتحن إلى حديثه ويتقى إملالهن؟! هن لا يكدن يحملن معهن غير ثيابهن وزينتهن وعجبهن وما يتصل بذلك من قريب أو بعيد، وهو لا يكاد يحمل معه سوى آرائه، فكيف السبيل إلى التوفيق بين هذه وتلك؟! ومجالسة الكتب تحيل المرء أشبه بها حتى ليعود وكأنما لا ينقصه إلا أن يغلف ويوضع على الرف بين أخوته!! وطول العهد بها يشيب النفس قبل إشابة الرأس، ويطفىء لمعة العين. ويعوق تدفق النشاط الجثماني، ويغرى بالسهوم والصمت، ويفعل ما هو شر من ذلك: يبعث على التعليق بالمثل العليا وصور الكمال ويشرب النفس حبها ويعلمها نشدانها … فإذا راح يضرب في غمرة الحياة تعثر ولقى في كل خطوة صدمة: كالذي يسلك طريقًا ومعه مصور لخلافه!