لولو …؟!
لولو؟! ما «لولو» هذا أو هذه؟ أهي فتاة حرة المقلد؟ أم طفل غرير مدلل؟ أم زهرة نضيرة؟ أم عصفور مغرد؟ أم أغنية شجية؟ إن في اللفظ ما يشعر «بالصغر» ويكر بالذاكرة إلى «الشباب» — إن كان قد ولى أوانه — وحسبك أن نطقه يتقاضاك زم الشفتين، وتكليف العينين ابتسامة الدعابة ولمعة الغبطة، وتجشيم الأسارير الإبراق، والنفس محاولة الإشراق، فماذا هو؟ لا أدرى!! ولعله كل ذلك، فما أعرف من اللغات إلا ما ليس فيه هذه. ولقد شببت عن الطوق «جدّا» وارتفعت عن كل حداثة ارتفاعًا أجلسني على ربوة الحياة حيث تنازع السحب الضياء. وأما الشباب وإيماض العيون وإشراق النفس فإني أنا القائل:
والنفس تهرم أحيانًا قبل الجسم، فتعود وكأن الزمان عمرها، وإن كانت بسنها صغيرة … وكلما أحس المرء دبيب الهرم زاد شعوره بالتبعات ووجد أن الحوادث لا تتوالى على روى واحد، وأن منطق الطبيعة غير منطقه، وأنه يدنو من مركز الدائرة وينأى عن محيطها ويشعر بالدنيا تدور حوله في صخب وضوضاء يزعجان تلك الخلية الضئيلة التي تسمى الحياة، ويرجانها، فيتمنى لو أنه استطاع أن يحول دون النمو. وأن يأخذ على الأيام متوجهها، وأن يبقى عمره طفلا يدور مع الحياة على محيطها.
ولكن الذي أدريه أن صديقًا لى، فيه شذوذ قلما أفهمه، قال لى عصر يوم في الإسكندرية «متى تعود إلى مصر؟». قلت «صباح غد». قال: «إذن قم بنا إلى ساحل البحر». قلت: «البحر ولا شك خير من جوف هذه المدينة، فلننهض إليه إذا شئت، ولكن إلى أي بقعة من ساحله نذهب؟». قال: «وما يعنيك من هذا؟ أو ليس كله ساحلا؟». فلم أشأ أن أثقل عليه فيضيق صدره ويسوء خلقه.
ونهضنا إلى الترام فركبناه وخليت بين صاحبي وبين سبيله حتى انتهينا إلى آخر موقف ينساب إليه الترام فانحدر بي إلى طريق لا يفضي إلى بحر ولا إلى صحراء!! وإنما يؤدى إلى درب بين الحقول تقطعه السيارات إلى أبى قير ويترقرق على محاذاته جدول صغير. ثم أخذ ينفض المكان بعينه كالذي ينقب عن مخبأ فيه وهو معبس محدق في الأرض يعد خطواته في هذا الطريق الذي ملنا إليه. ومعلوم أن الخواطر كالمطاط لا تشغل حيزًا واحدًا على الدوام فقد ترى الخاطر الضخم مضغوطًا في الذهن من فرط الزحام حتى ليعود كالذرة. وقد تنتفخ الخالجة الصغيرة وتملأ من الذهن كل فراغ يكون فيه. كذلك كان رأس صاحبنا خاليًا إلا من أمر واحد هو الذي ساقه وساقني معه إلى هذا المكان.
ولم أرد أن أزعج عصافير رأسه وأطيرها عنه فتركتها تسقسق له وخليته ينصت إليها، وسرت إلى جانبه صامتًا مخففًا الوطأة، وصرت أشفق عليه حتى من وقع قدميه. وكنا قد ملنا إلى جانب معشوشب من الطريق حسبته آثر المشى على حشائشه الندية لأن صوت الأقدام فيه أخفت ولكنا لم نكد نقطع منه بضع عشرة خطوة حتى وقف بغتة كالذي صده جدار وأومأ بسبابته إلى الأرض وهو يقول لنفسه: «هذا هو المكان بعينه». وارتمى على الأرض دون أن يكترث لى كأنه لا يراني أو كأني لست معه! فضقت ذرعا بهذا الحال، وأسفت على مسايرته، وما ذنبي حتى أتكلف الصبر على كل هذه الكتلة من الشذوذ؟ لقد أردت الرياضة ولكني أراني كالذي خرج ليدرس موضوعًا! غير أنى مع هذا كبحت نفسي عن مطاوعة السآمة والاستسلام للضجر، وأقنعتها بأن المروءة أن يحترم الإنسان إحساسًا — كائنًا ما كان — يستغرق النفس الاَدمية إلى هذا الحد، حد الذهول، ويستولى على كل جوانبها، ويملأ كل شعابها وينبض به كل عرق. وما يدريني؟ لعل هذا الإحساس، مهما يكن باعثه المباشر، ثمرة إحساسات عمر بأسره وحياة بكل ما انطوت عليه! ومع هذا، وعلى الرغم من ذلك هممت بأن أقف على كيانه المتداعي هذا وأقول له ساخرًا: «أعاشق أنت يا سيدي؟! إنها لساحرة تلك التي تستطيع أن تصنع هذا بمثلك؟!». ولكنه كان خاطرا كخطف البرق ما جاء حتى ذهب. فقعدت إلى جانبه وخلعت طربوشي وغطيت به وجهه!! فاستوى قاعدا وهو يقول: «إني أعرفك شيطانا! فلماذا أطرت أحلامي؟». فانحنيت له معتذرًا! فقهقه ضاحكا وكف فجأة وأطرق هنيهة ثم رفع رأسه وقال بلا تمهيد:
«لقد كان هذا المكان ساحرا وكانت أوراق الشجر والحشائش كالجديدة يومض فيها طلها تحت أشعة الشمس، وكان يخيل لى أنها «مستوردة» لا نابتة، وكانت من رقة النضارة في رأى العين بحيث كنت أشفق أن أطيل النظر إليها مخافة أن أذويها بإجالة الطرف فيها. وكانت الشمس، قوية وكان يقينا لفحها هذا السياج من النبات ومن خلفه هذه الخراف بأعيانها سوى أنها كانت مستلقية على الأرض لا تراعى، وكانت الفراشات لا تكف عن الطيران من هنا إلى هنا كأنما حماها صغرها تأثير الحرارة التي تذبل ما هو أكبر منها. وكان بساطنا هذه الأغصان الندية، والناس يمرون بنا ويديرون عيونهم فينا ثم يذهبون عنا ونحن في شغل عنهم وعن لحظاتهم بأحاديثنا و…».
«وماذا كنتم تقولون؟ أو لعله ينبغي أن أقول ماذا كنتما؟!».
فلم يلتفت إلى استدراكي وقال: «كانت لولو … فهذا اسمها عندي … ألا تعرفه؟».
«قد عرفته الآن!».
«… كالتي يفيض قلبها بشىء تحبس نفسها عن الإفضاء به. وكانت ربما أشاحت بوجهها عنى وأسندته إلى كفها وأرسلت لحظها في الفضاء غير ناظرة إلى شئ على التعيين، وتركتني أصب في مسمعها ما أهضب به وقد تجيبني أحيانًا ولكني كنت أقرأ في عينيها غير ما يجرى به لسانها، فكان بيننا حديث مسموع وآخر صامت، وكان الصامت أصدق الحديثين … نعم، فهي عجيبة في تناقضها عجيبة في ازدواج شخصيتها، لينة النظرة، جامدة الفم، رضية الخلق ساكنة الطائر، مكلومة الفؤاد هادئة المظهر تتناول كفها فلا تدري ألينة هي أم صلبة، وتتأمل محياها فتحس فيه الذائب والجامد، والسلس والوعر، والترف والخشونة، والحرارة والفتور والرغبة والزهد، والضعف المتناهي والقوة التي تغرى بقلة المبالاة وتدفع إلى عدم الاكتراث بما كان وهو كائن وما سيكون. ولقد استثارتنى رقة عينيها فأمسكت عن إتمام ما كنت قائلا كأنما كان الكلام يعوقني كالذي يخلع نعليه ويدعهما ويعدو حافيًا … وجذبتها إلى بغتة وإن كان لا شك في أنها كانت تتوقع ذلك وضممتها وطبعت على ثغرها قبلة. ولكنها ضمت شفتيها ولم تعاطنى التقبيل! وإن كانت عيناها قد ظلتا تلمعان بنور الابتسام، ثم مسحت بكفها على الحشائش وقالت: «لا ينبغي أن نظل هكذا جالسين فقم بنا نعد من حيث أتينا فقد أمسينا».
قلت: «دقائق أخرى!».
قالت: «بل يجب أن نعود أدراجنا».
قلت: «فقبلة ثانية أولا».
قالت: «حسبك واحدة» بلهجة من يكظم زفرة طويلة حارة.
«إني أخشى أن أرعبك إذا أنا كشفت لك عن حدة رغبتي في الاستسلام لعواطفى! كلا! لست بالفاترة التي تراها وإني لأحس أنه كان الأولى ألا أحيا بهذه المفاتن إذا لم يكن من حقي أن أتمتع بها. وهل وهبني الله إياها ليتمتع بها الناس دوني؟!».
«ومع ذلك ألحت أن نعود!!».
وأكب ينظر إلى الأرض برهة وجعل يقتلع الحشائش ويعبث بها ويقول: «ولها نظرة إنكار أو شك تلقى إليك بها بجانب عينيها، كلها تصديق وكلها تكذيب، كأنما علمتها الأيام أن تستريب ولا تطمئن إلى ما تسمع وأن تعد عبارات الحب والعطف ملقًا ودهانا، أو لهوًا وعبثا، ولكن شبابها يغريها بالركون إلى ما يدرك عقلها الذي نضج قبل الأوان أنه «ألفاظ ألفاظ» كما يقول هملت! فيالها من نفس ظامئة! ما أقسى الحياة التي تحمل زهرة ليس لها غير الحسن قوة، وما تنوء به الشجرة الضخمة!».
ثم التفت إلى فجأة وسألني: «وكم تظن عمرها يا صاحبي؟ إنها لا تزال في العقد الثاني من حياتها! فلشد ما أخشى أن تذبل هذه العين وأن تخلو من المعنى لحاظها! لقد جالستها ثلاث ساعات طوال لم تنطق في خلالها بما يملأ خمس دقائق! وشفتاها مع ذلك تهمان أبدا بالانفراج، ولكن شيئًا يطبقهما ويعيد ما يحاول أن ينفذ من بينهما، إلى صدرها فيعلو ويهبط وتظل الشفتان مطبقتين! ولقد قلت لها جادا: «هنا شئ يجثم على هذا الصدر»، فأدارت إلى بعض وجهها ونظرت إلى بمؤخر عينها وقالت واللمعة شائعة في العينين والتحجر مرتسم على الشفتين: «أي شئ؟». قلت: «لا أدرى! ولكن هنا شيئًا على التحقيق! وأراهن!». فهزت كتفيها كالاَسفة وقالت: «لا! أبدًا!!». فألحفت في المسألة وداورتها فلم يجدني ذلك ولم أفز بطائل، فليت لساني كان في فمها! إذن لنطقت عنها ولرفهت عن هذا الصدر المثقل بما لا تحسن العبارة عنه! وهل هو إلا الظمأ إلى الحب؟! هو ذاك على التحقيق … الظمأ إلى ما تحلوها عنه الدنيا وتحرم عليها أن ترد شرعته وتعب فيها كخلق الله: وماذا عسى أن يكون غير ذلك وهي فتاة غضة الإهاب تنأى بها ظروف لا حيلة لها فيها الآن على الأقل عن الزواج وتتقاضاها هذه الظروف عينها أن تبقى عفيفة محصنة؟ شبابها وجنسها يأمرانها أن تنشد الحب وأن تنشد به الحياة والنسل، والدنيا تأمرها أن ترفض هذا، وأن تخرس اللسان الذي يدعوها إليه، وتضع أصابعها في مسمعيها دون الصوت الذي يناجيها به: وأي لسان؟ وأي صوت؟ إنه لسان الجمال الذي يعيدنا جميعًا وصوت الحياة التي تسخرنا ولا ترحمنا ولا تعفينا ولو مقدار ثانية من الإذعان والامتثال. فكر في هذا ثم أنكر وهز رأسك بعد ذلك إذا استطعت».
«وتالله ما كان أقسانى عليها، وأعنفنى بها، وأقل ترفقي بهذا القلب الجديد، حين قلت لها وقد ساقني الحديث إلى ذلك: «إن في وسعك أن تستغنى عن زوج بل أنت لا معدي لك عن ذلك ولا خيار لك فيه، ولكنه ليس في مقدورك أن تستغنى عن رجل». ولقد لبثت بعد ذلك وقتًا أعتذر عن نفسي من هذه القسوة بالقول بأني أحسنت إليها بالعبارة عما في نفسها وبأن دللتها بكلامي هذا على مكان الجرح من قلبها ووضعت أصبعها عليه، ولكني أخشى جدّا أن أكون قد نكأته!».
– «وماذا كان جوابها؟».
– «لم تجب بشئ سوى نظرة طويلة إلى الفضاء! وماذا كنت تتوقع منها؟ أن تنكر أن لها جنسًا! ولقد خاصرتها وأنا أعود بها في هذا الطريق بعد أن انحدرت الشمس فلم تنح ذراعي عن خصرها ولم تتحرك لذلك شعرة واحدة في بدنها! فكأني كنت مطوقًا بذراعي الحي هذه دمية لا تستطيع أن تحس حراراته».
– «وماذا أنت منها الآن؟ إني أخشى …».
– «وماذا أنا منها؟ لا شئ على الخصوص! أحب أن أراها من حين إلى حين وأن أستشف نفسها وأطلع من عينيها على المغيب في ضميرها. وسم ذلك حبّا إن شئت، أو سمه لهوًا فما يعنيني كيف تصفه، وما أعرفني عبأت قط بهذه الألفاظ. ولكني لا أكتمك أنى أعطف عليها وأرثي لها وأحسبني إنما أعطف على نفسي في شخصها فإن بي منها مشايه. غير أن بيننا حوائل تتعاظم المجتاز، وجونًا عريضًا يعيي ساقي أن تتخطياه. وليتني أدرى كيف أحييها وأرد إليها روح الشباب الذى تقمعه الأيام قبل الأوان! ولكني كبرت واأسفاه. وفقدت أنفاسي حرارتها … والنساء عندي كتب تقرأ وموضوعات تدرس لا جمال يعشق. ولقد كنت في زماني شاعرًا أو شبهه، وكان للدنيا بنفسي حلاوة، ولكني أصفيت بعد أن نضب معين الشباب وعدت كما تقول يا صاحبي «كأني من دمائي أشرب».
قلت: «قم بنا عن هذا المكان فقد أوجعت رأسي وسودت الدنيا في عيني. تالله ما أجهلك بالدنيا وبصاحبتك»! قال: «لقد كان لا بد لى من مكاشفة صاحب بما في نفسي وقد فعلت، فاستحمقنى إذا شئت، ولكن خل رأيك لنفسك فما أحفله كيف يكون ما دمت أجهله».
ونهضنا نعود فسمعته يقول في بعض الطريق: «لقد كبرت». ولا أدرى كيف حدث منى هذا: ولكني رأيتني أبتسم وأدفع ذراعي حول خصره وأطوقه بها فانتفض مذعورا وصاح بي «أيها الشيطان اللعين».