المرأة واللغة
يقول شاعر قديم:
وبهذا البيت المفرد لخص وظيفة الجنسين في نظره أوجز تلخيص وأقر به إلى الصواب وأشبهه بالحق. ولكن القافية جنت على المرأة، وساعدها في جنايتها عليها وظلمها لها تعصب الرجل لجنسه. ولعله بعد لم يعد ما كانت عليه الحال في زمنه، أو لعله لم يقصد إلى المقابلة بين وظيفة الرجل في الحياة ووظيفة المرأة فيها وإنما أراد أن يؤكد عظم ما هو موكول إلى الرجل ويجسم خطره ومشقته ويبرزه في أقوى صورة بأن يرفع قبالته ظاهر ما تكون عليه المرأة من خلو البال وفراغ اليد والاطمئنان والتنعم بمجهود الرجل. وعسى أن يكون قد شكا وتضجر من حيث أراد أن يباهى ويفخر. غير أنه على أى وجه قلبت بيته وإلى أى تأويل أخرجته، قد ظلم المرأة وغمطها حقها وجنف في حكمه وقسا عليها فيه وليس قى مقدورنا أن ننصفها نحن من كل وجه بمقال واحد، ولكنا على هذا سنحاول أن نصف بعض ما قامت به في تكوين هذه اللغة وفى تمكين رصيفنا القديم من إرسال بيته هذا الدائر على الألسنة إلى يومنا الحاضر. وما إلى ذلك من سبيل بغير أن نرد عقربى الساعة بضع مئات أو آلاف من السنين علمها عند ربك، وأن نكر راجعين إلى تلك الأيام البعيدة التى كانت الجماعات الإنسانية فيها ساذجة. أيام كان مكتوبًا على الرجل أن يخرج للصيد والقنص، والقتال أيضًا كما يقول شاعرنا، وعلى المرأة أن تقيم في مكانها لتعد الطعام ولتغزل وتهيئ الجلود وتصنع الأوانى وتأتى بالماء وتبنى الأكواخ وترضع الأطفال وتقوم على تربيتهم بينما يغشى الرجل الأحراش والأدغال والغاب ويفترع الجبال وينحدر إلى الأنهار.
ولنفرض الاَن أن الحرب نائمة وأن الجماعة تزاول شتى أعمالها في أمن وسكون. في مثل هذه الأوقات يصبح الرجل فيحتمل أدواته كائنة ما كانت ويذهب إلى الماء لصيد الأسماك أو يصعد في الجبل أو يمضى إلى الغابة ليقنص الحيوان. وقد يخرج الرجال في طلب الصيد بأنواعه زرافات ولكنهم لا يلبثون بطبيعة الحالة أن يتفرقوا ويتشتتوا ولو قليلا، ويضطرهم ما هم فيه إلى الصمت أكثر الوقت لأنهم وهم يجوسون الأرض على الطريدة مكرهون أن يخففوا الوطء وأن يمنعوا الجلبة وأن يكتفوا حين يريدون التفاهم فيما بينهم باللمح والإشارة على الأكثر حتى لا يزعجوا الطير أو الحيوان فيفلت منهم وينجو. والمفاجأة هنا نصف الظفر ولا يكون الكر منجحًا إلا بتحريها، وقديما قال ابن الرومي:
ومن أجل هذا لا يحسن بهم أن يتلاغطوا كأنهم في سمر، فلا معدى لهم عن الصمت في غاراتهم ولو كانوا كردوسًا متلاصقًا ليصيبوا الغرة ويقعوا على الفريسة. وليس معنى ذلك أنهم لا يتكلمون قط بل معناه أنهم أكثر ما يكونون في صمت يتواصون به ويلزمونه حتى يقضوا وطرهم ما ساعفتهم القدرة على الصمت وأطاقوه لأن طبيعة المهمة تقتضى ذلك وتحتمه إلى حد كبير. أما قبل أن يبلغوا مكان الصيد فهم يتلاغطون ويتضاغون ويعربون ما استطاعوا عن آمالهم التي يرجون أن يبلغوها في يومهم وعما يقدرون لأنفسهم من اللذة والمتعة في السعى وراءها وعما يتوقعون من سرور نسائهم وصغارهم حين يعودون بأكف ملأى وعباب محشوة وقامات معتدلة ورءوس مرفوعة، وقد يصف بعضهم لبعض ما كان في يوم سابق، وربما تضاحكوا بواحد منهم عثر وانكب على وجهه وهو يعدو وراء الطريدة أو رفسته فخر إلى الأرض أو انكسر به غصن فهوى وتدحرج … وأما وهم عائدون فقد يغنون ويرقصون سرورًا بما أصابوا ويتحدثون بفعالهم — هذا بسرعته وذاك بإحكام رميته وذلك بجرأته ورابع بكثرة ما أصاب، وهكذا. حتى إذا بلغوا محلتهم ألقى كل منهم إلى المرأة وبه من الزهو ما يصده عن الكلام أو من التعب ما يغريه بالانصراف عنه والتماس الراحة. ولكنهم في أثناء الطرد والصيد يصمتون أكثر الوقت كما قدمنا. ولما كان الصيد يستغرق أكثر النهار فهم أكثر النهار قليلو الكلام!
وندعهم في صيدهم ونعود إلى المرأة. فإذا بها بين أترابها لا يضطرها عملها إلى الوحدة. فهى على الأغلب تباشره في جماعة منهن قليلة أوكثيرة وفى يد كل منهن عملها كائنًا ما كان وهن في أثناء ذلك لا تستريح ألسنتهن في حلوقهن ولا تنقطع عن الجرى، كعادة النساء في كل عصر ومصر. فإن النساء أكثر كلاما من الرجال. وقد يجلس إلى صاحبه وينقضى أكثر الوقت بينهما وكلاهما مطبق الفم. أما النساء فهذا هو المستحيل عليهن! ومتى جلست امرأتان في هذه الدنيا صامتتين؟ إن المرأة لا تصمت ولا تكف عن الكلام إلا إذا عجز لسانها عن الجرى وانقطعت أنفاسها لأن الكلام لا يكلفها نصبا عقليا، وإن الرجل منا ليشهد مجالس النساء فلا يسعه إلا أن يعجب لهن من أين يأتين بمادة الحديث! لقد كنت أعد نفسى في الرجال مهذارًا كثير الثرثرة فإذا بإحدى السيدات الفضليات تزعمنى صموتا!! وما أكثر الرجال الذين يشكون من متاعبهم العائلية عجزهم عن مواصلة الحديث الفارع وتقصيرهم فى واجب الثرثرة!
واللغة الكلامية إنما تتقرر وتصقل ألفاظها بالتكرار، وليس يكفى أن ينطق فرد بكلمة أو ينحتها ويستعملها مرة وإنما تشيع اللفظة ويعم استعمالها بتكرر الحاجة إليها وكثرة ترديدها من جراء ذلك. ولقد نحت جونسون الكاتب الإنجليزى المشهور مئات من الألفاظ من اللغة اللاتينية واستعملها في كتاباته وعدل بها عما يؤدى معناها من الكلمات الإنجليزية المستعملة وآثرها عليها لموافقتها لمزاجه ولما فيها من الطنطنة المرضية لذوقه.
ثم مات جونسون وذهب في سبيل من غبر، فدفنت ألفاظه التى نحتها معه ولف عليه وعليها كفن. ولم يعش بعده منها إلا النزر الذى سد حاجة وملأ فراغًا. وكم في لغتنا العربية مثلا من ألفاظ يخطئها الحصر لا تدور على الألسنة ولا تجرى بها الأقلام؟ كم يستعمل حتى أشد الناس حذلقة من هذه الألفاظ الميتة؟ ما حاجتنا إلى خمسمائة اسم للسيف أو صفة له على الأصح ونحن لا نكاد نذكر السيف؟ فموافقة اللفظ للحاجة وتكرر استعماله ولوكه مرة بعد أخرى، هذا هو الذى يذيع اللفظ ويشيع استعماله ويجعله مادة حية فى اللغة. وفضل النساء فى ذلك عظيم. هن الثرثارات اللائى يخدمن اللغة ويقررنها بالتداول ويشعنها فى الجماعة ويدرنها على ألسنتها ويثبتنها فى الذاكرة. يجىء إليهن الرجل بقنصه ويقص عليهن ما جرى له فى يومه وقلما يعيد القصة ولكن المرأة تحكيها لأترابها مائة مرة ومرة وعلى مائة صورة وصورة، تارة بإفاضة وأخرى بإيجاز وطورًا توشيها بأخيلتها الحسية وطورًا تطرزها بوصف هيئة الرجل وهو يلقى قصته، أو بنعت ما تقدره فيه من المزايا والصفات، وتخرج من ذلك وتستطرد إلى مائة موضوع اَخر قد يعيى الرجل أن يلمح الصلة التى تربط هذه المواضيع بالحكاية الأصلية. أضف إلى ذلك ما لا تفتأ تتحدث به عن عملها أو أعمالها هي وأكثرها في الأطوار الأولى من نشوء الجماعات الإنسانية صناعى أو أدخل فى باب الصناعة مما عداه. والأطفال؟ أليس يدع الرجل أمر تعليمهم الأول إلى المرأة؟ هى التي تغذى الطفل وتنشئه وتعلمه الكلام بما لا تنفك تصبه في أذنيه من عبارات لها معنى أو ليس لها معنى. وتفعم له ذاكرته بالمحصول الأول من اللغة، وتعد له أول ما يلزمه من الذخيرة في رحلة حياته. فليست المرأة فقط عاملا لا يستهان به في تقرير اللغة الكلامية وصقلها بل هي أيضًا أول معلم نتلقى هذه اللغة عنه ونحذقها منه.
ولا نريد أن نقف هنا أو نقتصر على هذا، بل نجاوزه ونقول إن المرأة من أكبر عوامل التوحيد في اللغات أو التشابه بينها. ذلك أن المرأة لم يكتب عليها الحرب والقتال كما يقول شاعرنا القديم. وإنما كتب ذلك على الرجال دونها. ولم يتصل بنا ولا قرأنا أن النساء في أى عصر كن يقاتلن إلى جانب الرجال ويتولين الحرب مثلهم. ولكنهن مع ذلك كتب عليهن السبى. يلتقى الجيشان ويقتتلان ما شاءا حتى يقهر أحدهما خصمه. وليس يندر ولا سيما في الحروب القديمة أن يعمل الظافر السيف أو ما يقوم مقامه من أدوات الطعن والضرب في أقفية المنهزمين وأن يتعقبهم إلى ديارهم وأن يقتل منهم حتى من يضعون السلاح ويسلمون. ولكنه ندر أن يقتل المنتصرون النساء وإنما يسبونهن ويحملونهن معهم في عودهم إلى محلاتهم في جملة ما يحملون من غنائم الحرب ويقتسمونهن اقتسام غيرهن من الأسلاب.
وقد كانت الحروب في الأزمنة السابقة أكثر وإن لم تكن على هذا أفتك أو أهول منها الاَن، وقل أن كانت تنتهى حرب بدون سبى. بل لعلنا لا نخطىء جدّا حين نقول إن الرغبة في السبى كانت من أكبر مثيرات الحروب وبواعثها.
فهل يحسب أحد أن الخود اللواتى كن يسبين في حروب آبائنا الأقدمين كانت تقطع ألسنتهن وتقتلع من أصولها أو توضع على أفواههن الكمائم؟ لسنا نظن أحدًا سيدعى ذلك أو يقول به. وكيف كان يحدث التفاهم بين المسبية ومن صارت من نصيبه؟ كان يستعصى ذلك فى أول أيام المعاشرة وكانت الإشارات والحركات وملامح الوجه ونظرات العين تغنى فى ذلك بعض الغناء ثم يعتاد كل منهما أن يقرن اللفظة التى يسمعها بالحركة أو الإشارة أو النظرة أو غير ذلك مما يصحبها ويفهم منها ما يستخلصه من اجتماع ذلك. فيزيد محفوظه ومحفوظها ويدخل فى لغتها ولغته الجديد من الألفاظ والأوضاع وطريقة التعبير يؤدى ذلك مع التكرار إلى التقارب من بعض النواحى بين اللغتين.
ولقد ذكرنا الحرب ولكنها لم تكن الوسيلة الوحيدة لإحداث هذا الاختلاط والتشابه بين اللغات. فقد كانت الهجرة كثيرة والخطف مستمرا، ولما كانت المرأة بطبيعتها أو بطبيعة وظيفتها أكثر كلامًا من الرجل وكان نطاق أحاديثها أوسع ومادتها أوفر وكان سبيها أعم لذلك كان من المعقول أن تكون المرأة صاحبة الفضل الأكبر فى بذر الألفاظ وما تنطوى عليه من الإحساسات والخواطر.
وحتى هنا لا نريد أن نقف. فإنه ليس يكفى أن تخترع اللفظة أو تنحتها أو تشتقها لما تمس الحاجة إلى العبارة عنه. فإن الاحتفاظ بهذه اللفظة الجديدة لازم للغة مثل اختراعها أو اشتقاقها. وليس تغنى اللغة وتبقى لها ثروتها إلا بهذا الاحتفاظ ولا أعون على ذلك من المرأة … ولا تنس أن كلامنا كله دائر على الماضي البعيد لا على الحاضر ولا الأمس القريب.
وكما أن المرأة كانت أحسن معاجم اللغة، كذلك كانت أداة المحافظة عليها وتوريثها الأجيال التالية. ذلك أن المرأة هى التى قامت بالصناعات اللازمة للإنسان بينما كان الرجل يتولى الصيد ويباشر الحرب. وهذه الصناعات بقيت على الأيام لأنها من ألزم اللوازم الأولية، وقد طرأ عليها تحوير كثير وتولدت منها أخرى وتعددت وتنوعت، ولكن الحقيقة بقيت دون أن يلحقها تغيير. وهذه الحقيقة هى أن المرأة هى مخترعة الصناعات الأولى. ومن غير المعقول كما أسلفنا أن تزاول المرأة أعمالها يوما بعد يوم دون أن يتحدر لسانها بالكلام على ما تفعل. بل المعقول والذى لا يقبل سواه هو أنها كانت تهضب بالكلام وتسح بلا انقطاع، وأنها سمت الأشياء أسماءها وأوجدت لها نعوتها وافتنت فى ذلك وما هو بسبيله إلى المدى الذى استطاعته. ولما كانت أعمالها مستمرة متوارثة فقد ثبت معها ما تعلق بها من الكلام وصار جزءًا أصليّا من اللغة وأتيحت له فرصة البقاء.
وقديمًا لاحظوا أن المرأة على فرط شغفها بالجديد وجريها وراءه وتعلقها به، أكثر «محافظة» من الرجل. ولعله ليس من الخطأ الشديد أن نقول إنها كالذاكرة للنوع. وحسبك أن تتأمل فضلها فى المحافظة على الأساطير والخرافات وأغانى الجماعة وأقاصيصها وحكاياتها. ومن من الرجال يحفظ مثل ما تحفظه المرأة من الأغاني والأساطير؟ إن القارئ خليق أن ينصف المرأة من هذه الوجهة إذا تفضل وذكر جلساته إلى إحدى العجائز في طفولته وصدر أيامه وإلحاحه عليها في أن تقص عليه بعض ما تحفظ من الأساطير والحكايات المروية عن العفاريت والمردة والوحولش وما إلى ذلك. وهى التى تغنى للطفل لينام أو ليكف عن البكاء أو ليهدأ وتسكن نفسه كما لا يحسن الرجل أن يفعل … ونحن الآن في عصر المطابع فلا يسعنا أن نقدر على وجه الدقة قيمة ذلك في العصور الخالية قبل أن توجد المطابع بل قبل أن يهتدى الإنسان إلى طريقة يكتب بها الكلام ويدونه … فى تلك العصور كانت المرأة هي ذاكرة الجماعة ومكتبتها وديوان أخبارها وأغانيها وآمالها وحكمها إن كان لها من ذلك شىء قليل أو كثير. وما زلنا إلى الاَن نرى المرأة أحفظ للأمثال وأشد إحاطة بها. وإذا تدبرنا ذلك كما ينبغى أن نتدبره أفيكون مخطئا من يقول إن المرأة كانت من أكبر العوامل في المحافظة على اللغة وفى صون ثروتها ومساعدتها على الاتساع والنمو تبعًا لذلك؟
هذا وجه أو وجوه مما كان للمرأة من الفضل على اللغة. ثم وجوه أخرى بعضها يسهل الغوص عليه والبعض يشق مطلبه ويعز مناله. ولسنا نستطيع أن نلم بكل أوجه البحث في مقال واحد، ولذلك نرجئ التتمة ولا سيما الفرق بين لغتي الرجل والمرأة، إلى فرصة أخرى.