المفعول المطلق
ليسمح لى القارئ أن أكون كما خلقنى الله، وأن أسوق إليه الكلام على طريقتى التى أوثرها والتى تلاثم مزاجى ولا تنافى ما بنيت عليه. وقد شاء ربك أن يخلقنى بعين لا تفتأ كلما وقعت على شىء تنثنى مرتدة إلى نفسى تدير فيها حملاقها مفتشة باحثة منقبة، ثم يهتف بى هاتف من ضمير الفؤاد أن هات «المسطرة»، فأمد إليها يدى وأذهب أقيس الأبعاد بين ما كنت وما أنا اليوم.
وقد اتفق لى أمس أن أذهب إلى «إدارة الجريدة» في شأن لى فجاءنى من وكلت إليه الإشراف على تحريرها في غيبتى يسألنى أن أراجع كلمة كتبها أحد الزملاء، فيها إشارة إلى اصطلاح نحوى … فلما كان الليل اَويت إلى فراشى وفى مرجوى أن يجيرنى النوم من أوصاب ما أعانيه فرأيت في منامى، وقلما أذكر أحلامى، كأنى بلمتى التى وخطها الشيب — قد عدت تلميذًا، وكان شيخ من أساتذتى، رحمه الله، يختبر الفرقة فى «المفعول المطلق» ولكن الأستاذ كان فيما بدا لى أشبه برئيس جلسة منه بمعلم صبيان، وكان كلامنا نحن التلاميذ «الكبار» أشبه بالخطب والمناقشات البرلمانية.
ثم أفقت من حلمى وابتسمت، فقد ذكرت بحلمى هذا الذى جره على زميلى، أستاذًا لى في التعليم الابتدائى أعياه أن يفهمنى «المفعول المطلق» ويوقفنى على «سره» ويحل لى «لغزه» … وكان كلما عرضت مناسبة، يقول لى «يا بن عبد القادر» — فأقول «نعم».
فيسألنى: ما هو «المفعول المطلق»؟
ولم يكن من عادتى أن أحمل شيئًا — وبخاصة هذا المفعول المطلق — على ظهر قلبى من كتب التعليم. فكنت أقف جامدًا، وفمى مفتوح وعينى إلى وجهه، ولسانى كأنما استل من حلقى، ويدى تغمز جارى الحافظ الذى لا يهمل حتى يهمس بالتعريف المطلوب فألقيه إليه وأهم بالجلوس وقد ظننت أنى نجوت … وكان يعرف أنى مجاج الأذن فيسألنى الإعادة فأتلعثم وألعن من أصبحت على وجوههم! وقد يتجاوز عن الإعادة ويقول «مثل» وهنا الطامة الكبرى!
«مثل»؟! وكيف آتيه بمثال! لما انتهيت منه إلى اليأس من فهمه؟! وكثيرًا ما كنت قبل ابتداء الدرس أتفق مع جار لى أبله على أن ينهض في أثرى ويجيب عنى إذا أعيانى سؤال غير منتظر فكان يبر بوعده ويفعل فيتحول إليه سخط المعلم، ويحل به وحده غضبه، فأدعهما وأقعد وأنجو بهذه الحيلة التي لم تكن تجوز إلا على هذا الجار المغفل!
مر ببالى هذا وما إليه من حوادث الصبا على عهد التلمذة، كما تمر أشرطة الصور المتحركة على عين الناظر، فقلت لنفسى — وأنا مستلق على فراشى — إن من حق المفعول المطلق أن يكون له هذا الشأن في صدر أيامى فقد كان له شأن ضخم في حداثة الدنيا أو من عليها من الآدميين. وكما أن آباءنا الأولين لم يعرفوه إلا بعد عصور لا يعلم طولها إلا الله، من معاناة أزم التعبير عما في نفوسهم كذلك أنت «يا ابن عبد القادر» لا عيب عليك إذا كابدت منه نصبًا.
والواقع أن هذا «المفعول المطلق» يمثل فى تاريخ النشوء اللغوى خطوة انتقال اتسع بعدها الأفق ورحب على أثرها المجال، وتفتحت أبواب التعبير المغلقة. واللغات — كما يعلم القارئ أو كما لا يعلم! — لم يجدها الإنسان تامة ناضجة مستوفية كل ما يحتاج إليه الرجل للعبارة عن مراده، وإنما نشأت على الأيام واتسعت شيئًا فشيئًا على قدر الحاجة وهى لا تزال إلى الاَن — وستظل — تنمو وترحب وتحيط بما كانت تقصر عنه أداتها. ومن شاء أن يقدر فضل المفعول المطلق على اللغة وعلى العقل الإنسانى أيضًا فليتصورها مجردة منه ولينظر إليها كيف تعود؟ أو إلى أى حد تضيق؟ وقد يتعذر تقدير ذلك على وجه الدقة لأننا الاَن ميراث واحد لها جميعًا. ولكن ما دلالة هذا؟ ولأى غرض نورده؟ دلالته القريبة أن الشعوب التي تتشابه لغاتها في هذا وغيره كانت قد اجتازت مرحلة البداوة وقضت أزمنة مديدة في ظل السلام قبل أن تتفرق ويذهب كل منها في ناحية وتكتسب كل لغة على أثر هذا التفرق شخصيتها وطابعها الذى تمتاز به، فنشات في كل شعب أجيال نحتت لنفسها ما تحتاج إليه من ألفاظ الحرب والمغامرة.
•••
دارت بنفسى هذه الخواطر وأنا راقد، وعينى تنظر من النافذة إلى القمر الذي ينام ضوءه اللين على صدري فمددت يدي، إلى المنضدة المجاورة وقد أنساني النظر إلى القمر أنى لم أعد أعنى بإعداد الورق والأقلام إلى جانبي قبل أن أنام وأنى انقطعت منذ سنين عن استيحاء بنات الليل واستلهام طيوف الظلماء، وأنه ردني عن ذاك وصرفني عنه من جعل حاجتي إلى هذه الزجاجات من الدواء.