الذكورة والأنوثة
١٠ فبراير …
… الناس في هذه الأيام آنق أزياء، وأنظف ثيابًا، وأبهج بزة منهم في أى عهد مضى. ولست أذكر أنى قبل خمسة وعشرين عامًا كنت أفنديّا يلبس طربوشا مبطنا بالخوص والحرير، أو يرتدى غير السترة الإستامبولية القديمة ذات الزرارين اللذين يجمعان طرفى بنيقتها على الرقبة والتى يبدو فيها المرء كأنه مربوط من عنقه … حتى الأحذية كانت أكثر ما تكون سوداء، ولم تكن الأقمصة الإفرنجية تتعدد ألوانها وكان الأغلب فيها أن تكون بيضاء لامعة قوراء، ولم يكن الشيوخ يعنون — على الأعم — بإحكام التفصيل ودقة انسجام القفطان أو الجبة على أبدانهم أو بتحرى أن يكون لون «الحزام» مجاوبًا لصبغة القفطان، أو بأن تكون لفة «الشال» على طربوش العمامة بارعة الشكل تخفى من الطربوش بقدر وتبدى منه بقدر.
أما النساء فكان زيهن إذا برزن إلى الشوارع يصد العين عن النظر، ولم يكن الواحد يدرى: أهى آدمية تلك الملفوفة في ملاءتها أم حشوها زف يبعثره الريح؟ فالآن صارت العين تتعب من النظر إلى مجالى الذوق حتى في الطرقات، ودع عنك المجتمعات والسهرات … نعم، لا فرق الاَن مثلا بين أزياء المحصنات وغيرهن، ولكن لا بأس، سيتميزن بغير الأزياء. وصحيح أن الرجال والنساء تقاربوا — حسن أيضًا ليس في الإمكان أبدع مما كان!
١١ فبراير …
… لا أدرى ممن سمعت؛ أو أين قرأت هذه العبارة، وهى أن الله سبحانه وتعالى وكل إلى ملك معين من ملائكته أن يسبح بحمده جل وعلا على أن أنعم على الرجال باللحى وعلى النساء بالشعر الطويل. والله وحده أعلم بصحة ذلك ولكنى أحسب الملك الموكول إليه هذا الواجب — إن صح الخبر — قد جدت على صوته نبرة تهكم لاذع … علينا نحن بنى آدم الفانين.
ومع ذلك لماذا؟ أمن أجل أن النساء يقصصن شعورهن ويتشبهن بالرجال في بعض أرديتهن، وأن الرجال يحلقن — معذرة! فسيختلط الأمر بكرهي وكرهكم — يحلقون شواربهم ولحاهم ويتخذون من الثياب ما لا يخلص الهواء بينه وبين الجسم — أمن أجل ذلك يكون الأمر مدعاة لنبرة سخر ترتفع من تسبيحة الشكر؟ إن الصحيح فسيولوجيا هو أن الآدمي خليط من عناصر الذكورة والأنوثة، وأن نسبة هذا الخليط لا معروفة ولا محدودة، وأن درجات التفاوت فيها كثيرة، وأن هذه العناصر يقوى بعضها أو يضعف على مدار الحياة … فلكل واحد من الذكور حظ ضئيل أو كبير من الأنوثة، ولكل أنثى نصيب كذلك من الذكورة، ومن هنا يكون الشاب الذى هو في رأي العين وفى إحساس النفس به وتقديرها لصفاته، أشبه بالأنثى، ومن هنا أيضًا النساء المترجلات أو اللواتى هن بالرجال أشبه وإليهم أقرب.
والمعضل الذى يعنينى أن أحله هو: هل فقد الرجال ما كان لهم فيما مضى من القدرة على اجتذاب المرأة والاستيلاء على هواها بما كان لهم من صفات طبيعية؟ أم أصبحت الرجولة التى كانت تجدى عليهم قديمًا في معركة الجنسية لا تنيلهم شيئًا الاَن؟ أم ضعف إحساس المرأة بهذه الصفات وانحط تقديرها للمزايا الجنسية الطبيعية؟ أو اجعل السؤال من الناحية الأخرى: شهدنا زمنا كانت فيه المرأة إذا بدا منها خنصرها من تحت الملاءة أو ما يماثلها ولمحته عين الرجل شهق وفهق وانتابته كالحمى، فالآن تبدو له نصف كاسية — أو نصف عارية — وما استتر من جثمانها فى حكم الظاهر من فرط الدقة فى جعل التفصيل كفيلا بعرض المحاسن وجلو المفاتن، ومع ذلك لا يكاد الرجل يزيد على الإعراب عن الإعجاب الفاتر، فهل تبرز المرأة الاَن على هذه الصورة المجلوة لأنها تحس أن صفات الرجولة فى الرجل قد ضعفت؟ أم هي بدأت تتجرد وتتزين شيئًا فشيئًا وسايرها هو في إحساسه بجلوتها فألف هذا التجرد والتزين درجة فدرجة فهي أبدا تعالج إن توقظ إحساسه بالجديد فالأجد وهو لا يكاد يألف جديدًا حتى يفتر عن إجابة ما يهيب به منه؟
١٢ فبراير …
… نسيت أمس الحرب العظمى وما أفقدت الرجال وكلفت جنسهم من خسارة فادحة في مادة الرجولة لا تعوض في الأجيال، وكيف احتاج الأمر أن يحل النساء محل الرجال وأن يملأن فراغهم في شتى الأعمال، وكيف أنمى ذلك صفات الذكورة فيهن، وكيف تحفظن بالمنزلة التي رقين إليها ولم ينزلن عنها، ثم انتقلت عدوى ذلك من الغرب إلى الشرق كالعادة.
مثال لتأثير الحرب … موافقة مجلس العموم الإنجليزى بسهولة وسرعة على تخويل المرأة حق النيابة عن الأمة كالرجل، وقد ظلت النساء في إنجلترا يجاهدن أعنف جهاد بضع عشرة سنة لينلن حق التصويت فقط! إلخ إلخ.