الإنسان مخلوق غير شريف
١٥ فبراير …
… يخيل لى أن الشرف والنزاهة وعفة اليد وسائر ما يجرى هذا المجرى، مما لم يركب في طبع الإنسان ولم يفطر عليه. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن الإنسان بطبعه مخلوق غير شريف!! والدليل حاضر. وهو هذه الآلاف من الأوامر والنواهى والأقاصيص وما إليها مما يقصد به الحث على هذه الفضائل ومجانبة أضدادها. ولو أن الإنسان كان كذلك بفطرته وكان الأغلب والأعم فيمن تلقى من الناس عفيفًا نزيها شريفًا لما احتاج الأمر إلى كل ما في هذه الكتب مما أشرنا إليه.
وكثيرًا ما خطر لى أن أسأل: لماذا اتفق أن تجد من يحضك على مزاولة هذه الفضائل وأخذك نفسك بها ولا تجد واحدًا يأمرك بخلافها مثلا، فيقول: إذا استطعت أن تسلب ما في يد غيرك فافعل! أو احذر أن تدع ما في جيوب الناس يبقى في جيوبهم ولا ينتقل إلى جيبك! إلخ إلخ! أليس ذلك لأن الأصل في الإنسان هو التطلع إلى غير ما له والرغبة في غصبه أو انتهابه أو الاحتيال على استلابه، فالحث عليه تحصيل حاصل؟
وأحسب أن من الأدلة على أن الأصل في الإنسان هو هذا أن في كل مصلحة كبيرة من المصالح — حكومية أو غير حكومية — نظامًا دقيقًا للمراجعة يضطر الناس إلى الأمانة أرادوا ذلك أم لم يريدوه، ويحول دون من تحدثه نفسه بالاختلاس. فأكثر الناس لا يختلسون لا لأنهم أشراف أمناء نزهاء، بل لأن السبيل مكتظة بالوعور والعاقبة غير مأمونة. ولست ممن يستطيعون أن يصدقوا أن هذا الصراف الفقير الذى لعله ترك بيته وعياله دون ما يكفى لقوتهم، يعف عن رضا بقسمته وقناعة بحاله، عن قبضة مما يدخل الخزانة التي هو قائم عليها وفى يده مفاتيحها.
ولولا الصعوبة وخوف التورط فيما لا يسهل الخروج منه لغش كل إنسان كل إنسان. ولكن من العسير أحيانًا أن تركب الترام إلى حيث تريد دون أن تنقد العامل ثمن التذكرة. وأشق من ذلك كثيرًا وأوخم عاقبة أن تسافر على قطار حديدى بلا تذكرة. وإنى أعترف أنى إذا كنت على شىء من الشرف والذمة والأمانة والنزاهة فليس ذلك لأنى خلقت متحليًا بهذه الفضائل، بل لأنه ينقصنى القدر الكافى من الجرأة والإقدام، أو بعبارة أخرى لأن نصيبى من الجبن فوق المتوسط … فليس لفضيلة فى أنى لا أنشل ما فى جيوب الناس إذا لاحت لعينى متضخمة بما فيها من أوراق النقد، ولكن لأنى أجد نشل الجيوب أشق على وأبعد مطلبًا من الكتابة باللغة اليونانية التي لا أعرفها. وكثيرًا ما تخايلنى التحف الثمينة في الحوانيت من وراء الألواح الزجاجية فأشتهى أن تكون لى بلا ثمن، وأتمنى لو استطعت أن أمد إليها يدى ثم أمضى في سراح ورواح وأمن واطمئنان. ولكن هذا الخاطر وحده! دع عنك الفعل نفسه، يحلل قواى ويفكك أعصابى حتى لأحس أن بى حاجة إلى من يأخذ بيدى ويعيننى على السير. وربما فكرت فيمن يزيفون ورق النقد ويتخذون ذلك حرفة ومتجرًا فيطير النوم من عينى ليالى عدة حول ما يقدمون عليه من المخاطر. وما أظن بى لو أنى كنت نشأت بين اللصوص والسراق، إلا أن جبنى كان قمينًا أن يؤدى إلى تنبيه الشرطة والحراس إلى ما أنوى حتى قبل الشروع فيه، لفرط ما أقدر أنه كان ينتابنى من الاضطراب.
والحقيقة أن خراب الذمة يتطلب سكونًا في النفس، وإن شئت فقل برودًا فى الطبع، وجرأة فى الجنان، وقدرة على الاحتيال، ومضاء فى العزيمة، وليس لى من ذلك كله نصيب. ولذلك ترانى إذا غشنى إنسان عفوًا أو عمدًا وأعطانى قطعة مزيفة من النقود لا أجرؤ — إذا فطنت إليها — أن أمد بها كفى إلى أحد على أنها صحيحة، بل أخفيها عندى أو أنتظر حتى أصير إلى طريق مهجور ثم أطوح بها بكل ما فى ساعدى من قوة كأنما أريد أن أجعل بينى وبينها أطول ما يمكن من المسافة. وآه لو مررت بشرطى وهى لا تزال فى جيبى! آه من الاضطراب الذى يصيبنى ويخيل لى أن عين الشرطى قد نفذت من الثياب إلى حيث القطعة المغشوشة وأنه يهم أن يعدو ورائى ليقبض على! وترانى حينذاك أسير وأتلفت وقد أضرب فى طريق غير طريقى لأتوارى عن هذه الأعين التي لا تمنعها كثافة الثياب أن تطلع على ما في الجيوب من مغشوش!
وحدث مرة أنى سمعت رجلا يباهى بأنه أنقد «جرسون» قهوة قطعة مزيفة من ذات الخمسة القروش دون أن يفطن إليها، فحسدته وتمنيت على الله أن يرزقنى بعض هذه الجرأة والثبات! وشر من ذلك وأدهى، وأدعى إلى الغيظ والسخط على النفس، أنى ما استطعت قط أن أدع أحدًا — تاجرًا أو صرافًا مثلا — يعطينى أكثر مما لى. وفى الناس من يستبضع ما شاء وينقد البائع الثمن ويتناول الباقى ويعده ويجده أكثر مما يستحق فيدفعه إلى جيبه في هدوء تام ويمضى عن الدكان دون أن يختلج حتى جفن عينه. مثل هذا أغبطه ولكن محاكاته عزيزة المنال مع الأسف! وتالله ما أحسن استقباله لما يجيئه به الحظ! ما أبرع ركوبه للمد في عباب حياته! ما أشد شكرانه لما يناله بغير كد أو تعب!
واتفق مرة أن كان في بيتى عمال يبنون حائطًا …، وكان صاحب البيت قد أنقد أحدهم الأجرة مقدمًا فاشتغل يومًا وانقطع أيامًا ثم عاد فسألته: أين كان؟ فقال وهو جذلان والله يا أفندى الحقيقة أنى بعد أن أخذت الأجرة من عمى … سهرت ليلتى تلك وشربت قليلا ومن حسن الحظ أنى أنقدت الخادم ورقة بنصف جنيه فرد لى ثلاثة وثمانين قرشًا ظنًا منه أنى أنقدته جنيها فحمدت الله الذى رزقنى من حيث لا أحتسب وأحييتها ليلة في أثر أخرى!
قلت: «نعم هذا حظ غريب، ولكن ألم تنازعك نفسك ولو لحظة أن تخبر الخادم المسكين أنه أعطاك خمسين قرشًا فوق مالك؟».
فحملق العامل في وجهى وصوب نظره فىّ وصعده ثم حول وجهه عنى والتفت إلى عمله دون أن ينبس بحرف. وما أشك في أنه كان أعمق ما يكون اقتناعًا بأنى مجنون، من العبث الكلام معه.
وقل أن تجد من يصارحك بفساد بذمته كما فعل هذا العامل. والناس في العادة أكثر ولعًا بالكلام على فساد ذمم سواهم. وكثيرًا ما يخيل لى إذ أحادث واحدًا من سواد الناس فى أمثال هذه الموضوعات أنى وإياه الرجلان الشريفان فى هذا الكوكب الحافل بالأنذال.