في الشعر الجاهلى
من أشق مباحث الأدب العربى، ذلك العهد الذى يسمونه «بالجاهلية» وإن كان ما أثره الرواة عنه وقالوا إنه انحدر إلينا منه، لا يختلف عن جنى غيره من العصور الإسلامية في شىء. فالروح واحدة، والنظرة إلى الحياة متفقة. والوجهة متحدة، والكلام مستقيم على أوزان وقواف غير مضطربة بين هذه العصور، وأسلوب التفكير نهج غير متعدد … حتى العبارة نفسها لا يكاد يعتورها تغير جوهرى. فما هو هذا العصر الجاهلى إذن؟ إنه عصر يعرفه الفقهاء ومن يبغون أن يقيموا حدّا بين الإسلام وما قبله … أما مؤرخ الأدب فمعذور إذا أنكر أن له سمة يتميز بها وينفرد، فالجاهلية التى انتهى إلينا ما روى من أخبارها وأيامها هي جاهلية دينية واجتماعية إذا شئت، ولكنها من حيث الأدب شئ آخر مختلف جدّا لا يسع الأديب إلا أن يقف حيالها مترددًا شاكا بل رافضًا كما فعل الأستاذ الدكتور طه حسين في كتابه «فى الشعر الجاهلى».
ولكل أدب آنفته الساذجة وحداثته المتعثرة كما لكل شىء آخر في هذه الحياة — يصدق هذا على الجماعات صدقه على الآحاد، وعلى العلوم والآداب وسائر ما ينشأ في دنيانا هذه … ولكن الأدب العربى ليس له أول يعرف ولا نشأة توصف إذ أقدم ما وقع إلينا منه — على قول الرواة — بشحم كلاه، إن صح هذا التعبير، ونعنى بذلك أن هذا القديم مستو بالغ أشده وأن الأطوار الأولى التي لا بد أن يكون الأدب قد تقلب فيها ومر بها، كغيره من آداب الشعوب الأخرى، حتى تناهى شبابه على النحو المأثور، نقول إن هذه الأطوار مفقودة ضائعة لا سبيل إلى العلم بها والوقوف عليها إلا تخيلا وإلا بالطبع فى التخيل على غرار ما حدث للاَداب الأخرى التي وقفنا على أصولها ونشأتها، وإلا بأن نرسم لأنفسنا خط التطور طبقًا للسنن الطبيعية. «فالشعر الجاهلى» وصف غير صادق لأن جاهلية الأدب مطوية مع الأزمان التى غبرت، وليس من المعقول، ولا من المقبول، أن يكون هذا الشعر المأثور أو ما قاله العرب لأنه شعر ناضج متساوق الأغراض مطرد النظام، فيه فن وصناعة، ثم هو بعد ذلك تعبير فيه خلط بين الأدب والدين.
وليس ثم ما يمنع أن يكون الشعر قد قيل قبل الإسلام، بل الذى يرفضه العقل هو ألا يكون الشعر قد قيل قبله، ولكن هل ما يعزى من الشعر إلى من عاشوا في العصر الجاهلي صحيح النسب غير ملزق بهم؟ وهل إذا سألت هذا الشعر عن نسبه ينتمي إليهم ويعتزى بهم أم ينطق تكوينه ومنحاه وأسلوبه بأنه دعى دخيل؟! هذان هما السؤالان اللذان يلقيهما كل أديب على نفسه. وقد تناولهما الدكتور طه حسين في كتابه «فى الشعر الجاهلى» وطرح السؤالين جميعًا وكان جوابه الرفض!
ولم يأخذنى الدكتور طه على غرة بهذا الكتاب فما أعرفنى قرأت شيئًا من أخبار هذه الجاهلية أو شعرها أو خطبها إلا نازعنى في أمره شك ضعيف أو قوى، وإلا حكت في صدرى منه أشياء كثيرة أو قليلة. وأشهد أن الدكتور كان بارعًا فى بسط رأيه وفى إبراز الشبهات التي تحوم حول هذا وتضعف الثقة بنسبته إلى الجاهليين، وفى تأكيدها أيضًا. ومن واجب كل متأدب أن يطلع على هذه الرسالة التي جاءت — على خلاف عادة الدكتور — خالية من كثير من حشوه المألوف. ونحسب أن لا خلاف في ضرورة هذا البحث مهما تكن النتيجة التى يخرج بها المرء، وأن من الحماقة أن نسترسل في الاستنامة إلى ما جاء في الكتب القديمة وإن كان كل شىء يدعو إلى الريب ويغرى بالنقد، وأن نوصد بأيدينا في وجوهنا أبواب التفكير مخافة أن يظن بنا العقوق والتمرد على ما خلف لنا السلف، أو مدفوعين إلى ذلك بحكم النزعة الإنسانية إلى التسليم، فما زال التصديق أمهل من البحث، والإقرار أيسر من النقد، والجمع أهون من الوزن وأمتع وألذ أيضًا. وما من أحد نزع إلى النقد إلا اضطر إلى أن ينبذ بعض ما يقع إليه وفى هذا الاطراح خسارة متوهمة.
والنقد مهمة قاسية، وما أكثر ما تكون بغيضة إلى القراء، ولكنا لا نعرف أحدا أحرى بالعطف وأحق بأن تلين له الأفئدة من الناقد، فهو لايجد — كالكيميائى — كل شىء حاضرا مهيأ فى معمله، وليس أمامه شىء من تلك الملاحظات المنظمة المدونة التى تغنى عن الشهود وتقوم مقام المعاينة بل عليه أن يفحص كل ما تقع عليه يده ليستجلى غوامضه ويمحص حقائقه إن كان ثم حقائق يمكن استخلاصها، وأن يخطو بحذر ويتوخى الاحتياط إذ كان العقل الإنسانى نزاعا إلى التساهل ميالا إلى تناول ما يتطلب الدقة، بغير احتفال أو تدبر. وما رأيت أحدا ينكر فائدة النقد ومزيته وضرورته ولكن الإقرار بذلك أسهل من المعاناة. وحسبك أن تفكر في القرون العديدة التى مضت وعصور المدنية التى انقضت قبل أن يظهر «فن» النقد في العالم حتى في عصرنا هذا لا يأمن المرء على الطالب أن يقع فى الأخطاء القديمة. لأن النقد يحيد بالمرء عن اتجاه الذهن فى العادة. وقد تعلم أن الميل المدنى هو التصديق والترديد حتى حين يختلف ما يتلقاه بالتصديق عما انتهى إليه من الآراء والملاحظات.
ألسنا فى حياتنا اليومية نتقبل بلا تمييز أو تمحيص ما يتأدى إلينا من الإشاعات والأنباء التي لا نعرف لها مذيعًا ولا ندرى ما مصدرها؟ وقد نشذ أحيانًا عن ذلك ونجنح إلى الشك والتنقيب عن أصل الخبر وقيمته ونحاول امتحانه، ولكن هذا لا يكون منا إلا بدافع من سبب خاص، أما إذا كان ما يتصل بنا غير مستحيل في ذاته ولا بعيد التصديق ولم يبلغنا ما ينقصه أو ينفيه فإنا نزدرده ونفرح به وقد نضيف إليه ونزيد عليه!
وقد لا يجهل القارئ أن المرء حين يلقى نفسه فى الماء تكون حركاته الطبيعية الأولى من شأنها أن تؤدى إلى الغرق. وأن السباحة معناها اعتياد المرء الامتناع عن هذه الحركات اللدنية والقيام بغيرها، وكذلك النقد ليس بالعادة الطبيعية وإنما هو شىء يكتسب.
وقد تخالف الدكتور طه إذا عز عليك التخلى عما درجت عليه، أو توافقه على كثير أو قليل مما يذهب إليه إذا آثرت التعويل على العقل والمنطق، ولكنك لا تستطيع على الحالين إلا أن تقدر جهده وإلا أن تقر بقيمة هذا البحث الطريف. وما من ريب فى أن الاكثرين يشق عليهم أن ينفضوا أيديهم مما عاشوا مطمئنين إليه، غير أن الشعر الجاهلى لا يصيبه شىء، فهو باق كما هو، لم يحرقه الدكتور ولا سواه من خلق الله وكل ما يجد أن نسبته تتغير أو تصحح. وما أحق ذلك بأن يكون رواية ممتعة. وإنها لكذلك فى كتاب الدكتور.
وهنا موضع التحرز: فلسنا نقول إن بحث الدكتور طه قاطع فى إثبات ما ذهب إليه وما نشايعه عليه من الرفض، ولكنا نقول إن حجته أقوى من حجة القدماء، وإن رسالته ليست أكثر من باب فتحه لطالب الأدب الجاهلى إذا أراد أن يصل إلى نتيجة يسكن إليها العقل، وإنها لم تخل من الماَخذ ولم تبرأ من السقاط وإن أولها خير من آخرها، وصدرها أمتن من عجزها … ذلك أنه لم يوفق فى التطبيق ولم يأت بشئ له قيمة، ولو زهيدة، حين أراد أن يتناول الشعر الجاهلي بالتفلية بعد أن مهد لذلك ببحث أسباب الانتحال ودواعيه.
ولا بأس من أمثلة تجلو للقارئ ما نريد.
يقول الدكتور في رسالته إن «امرأ القيس … يمنى وشعره قرشى اللغة لا فرق بينه وبين القراَن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام. ونحن نعلم … أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز، فكيف نظم الشاعر اليمنى شعره في لغة أهل الحجاز؟ بل في لغة قريش خاصة؟ سيقولون نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان وكان أبوه ملكا على بنى أسد وكانت أمه من بنى تغلب وكان مهلهل خاله، فليس غريبًا أن يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن، ولكنا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذى ينسب إلى امرئ القيس ونحن نشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منتحل.
وإذن فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس الذى نشك فيه!» … إلى أن يقول: «وأعجب من ذلك أنك لا تجد مطلقًا في شعر امرئ القيس لفظًا أو أسلوبًا أو نحوًا من أنحاء القول يدل على أنه يمنى، فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محوا تامّا ولم يظهر لها أثر ما في شعره؟ نظن أن أنصار القديم سيجدون كثيرًا من المشقة والعناء ليحلوا هذه المشكلة».
فامرؤ القيس يمنى، والشعر المعزو إلى امرئ القيس عدنانى اللغة قرشيها. وهذا حسن ولكن أحسن منه أن الدكتور حين تناول الأبيات المنسوبة إلى امرئ القيس رفض بعضها وقبل البعض الآخر — وان كانت كلها عدنانية قرشية!! رفض مثلا هذين البيتين:
وقبل هذا البيت الذى يتلوهما:
فلماذا؟ أهو يمنى اللغة دونهما؟ أفيه شىء يخالف لغة عدنان وقريش التى نزل بها القرآن من حيث اللفظ أو الإعراب وما يتصل بذلك من قواعد الكلام؟ أم وقعت المعجزة وبلغ من تأثر الشاعر بلغة عدنان أن محيت لغته اليمنية من نفسه محوًا تامّا في هذا البيت فقط؟!
وقد وقع الدكتور في مثل هذا الخطأ عينه لما تناول شعر عبيد وعلقمة وعمرو بن قميئة ومهلهل وابن حلزة وطرفة بن العبد إلخ إلخ وإن اختلفت القبائل.
وهو مع جنوحه إلى رفض القصص المنحولة يتقبل قصة الفرزدق وان كانت أشبه بالمنحول منها بأن تكون حقيقية، ونعنى بها زعمهم أنه خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصرة وانتهى إلى غدير فيه نساء. فقال ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جلجل … ثم انصرف فصاح النساء به: «يا صاحب البغلة»! وعزمن عليه إلا ما حدثهن بحديث دارة جلجل … قالوا فقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن قوله:
ومن سقاطه أنه يذكر «ابتذال» اللفظ، ويعنى أنه مأنوس غير حوشى، ويتكلم على المتانة والجزالة ويريد بهما حشو الكلام بالغريب الذى يحتاج المرء في فهمه إلى مراجعة معاجم اللغة. وهو ما لا يغتفر لرجل تذوق الأدب بله من يدرسه في الجامعة، ومن ذلك قوله عن قصيدة جليلة في رثاء كليب إنها شعر «لا ندرى أيستطيع شاعر أو شاعرة فى هذا العصر الحديث أن يأتى بأشد منه … سهولة ولينًا وابتذالا؟» والأبيات التي يشير إليها هى:
وهي أبيات ليست فيها ابتذال بالمعنى المفهوم. ومن نظرياته أن لغة الكلام عند العرب قبل الإسلام كانت وعرة حوشية!! انظر قوله: «فإن في قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيرًا على أقل الناس حظّا من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذى نحن فيه، وما هكذا كانت تتحدث العرب في منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن» فمن أدراك يا دكتور؟! ويالها من صورة معكوسة اللغة في ذهن الدكتور!!
وقد أطلنا جدّا والصحيفة لا تتسع للإفاضة. ولذلك نختم كلامنا بأن الباب الثالث من الكتاب أشبه بتخبط الطلبة منه بأبحاث الأساتذة. فليته استغنى عنه. وأن الدكتور ليحسن جدّا إلى نفسه إذا تحاشى الخروج من النقد العام الذي يسهل مع التحصيل، إلى النقد التطبيقي أو الدراسات الفردية.