نظرة أولى
كلمة في الأسلوب أولا …
لنا في الأسلوب رأى قديم يعرفه من يعرفنا، ذهبنا إليه في صدر حياتنا، وثبتنا عليه إلى يومنا هذا. ولسنا نتخذ من الثبات على رأى مفخرة، فإنه لا يخفى علينا أن هذا «قد» يكون مرده في بعض الأحيان إلى الإفلاس العقلي — إن صح هذا التعبير — أو إلى ضعف الخيال، أو غير ذلك مما أترك للقارئ استقصاءه إذا شاء، فقد علمتني الأيام أن أكون أرفق بنفسي من أن أرهقها أو أحمل عليها إكرامًا لسواد عيون القراء! ولماذا لا يتكلف القارئ شيئًا من النصب؟! ولله، فاعلم، معشر فقراء العقول، يفرح أحدهم أن يكون له رأى ما، فيضن به ويحرص عليه، ولسنا من هؤلاء فيما نرجو!
وسنبسط رأينا ونعيده بأوضح مما فعلناه قديمًا حين كنا نعتقد أن المسألة أدخل في باب البديهيات من أن تحتاج إلى إفاضة أو تحتمل إسهابًا، فنقول إن الغرض الأول من الكتابة على العموم هو الإفهام أو نقل الخاطر من رأس إلى رأس، والخالجة، كائنة ما كانت، من نفس إلى نفس. ومعلوم أن الألفاظ ليست هي المعاني وإنما هي رموز لها، تدل عليها وتشير إليها، كما تفعل إيماءات الخرس التي يتفهمون بها ونظراتهم وحركات وجوههم وأصواتهم القليلة التي يستطيعون إخراجها. ولو أن إشارات الخرس كثيرة كالألفاظ في اللغة، لوفت بكل غرض تعين عليه الألفاظ ولأغنت غناءها. وغير منكور أن الألفاظ مهما بلغت كثرتها، محصورة، وأن المعاني على خلاف ذلك لا آخر لها ولا نهاية، ومن هنا كان لا معدى عن العناية بانتقاء أشف الألفاظ عن المراد وأحكمها أداء للمقصود، وإلا كان الكلام لا خير فيه ولا طائل تحته، وماذا عسى أن تكون قيمة كلام يؤدى الغرض منه ولا يفهم منه قارئه أو سامعه إلا كما يرى المرء في الضباب الكثيف؟!
فالإبهام أو نقل الخالجة على العموم إلى نفس أخرى هو الغرض الأولى من الكتابة على وجه الاجمال … ولكن هذه ليست إلا درجة أولى فوقها أخرى يحاول من يسميهم الناس أدباء وشعراء أن يرقوا إليها، وهي طبقة الكتابة الفنية التي لا يكون المطلوب فيها مجرد الإفهام وإيلاج المعنى أو الخاطر ذهن القارئ بل التأثير. وكما أن الإنسان لم يكتف بالأصوات الكلامية وأبى إلا أن يغنى وأن يرفع عقيرته، حين يحس الحاجة إلى ذلك أو الرغبة فيه، بتواليف صوتية تطربه وتشجيه … وكما أنه لم يسعه أن يقنع من المساكن بما يقيه الشمس والرياح والأمطار والضوارى، ومن الثياب بما يعينه على احتمال الأجواء المختلفة ويستره، بعد أن أرهفت الحياة إحساسه ورققته، ومن الطعام بما يسد الرمق ويدفع غائلة الجوع ويؤتيه القوة، ومن المراكب على أنواعها بما فيه العون والكفاية فحسب … نقول كما أن الإنسان أبت له طبيعته التي ركبها فيه خالقه إلا أن يجاوز ما تطلبه الضرورة القصوى في طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه وفى كل شئ آخر، كذلك لم يطق صبرا على الاكتفاء من الكتابة بما تبلغ إليه من الأغراض الأولى، وطمع فيما هو أكثر من ذلك وبغى ما وراءه، فنشأ الأدب.
وليس من الضروري أن يكون المرء على جانب عظيم من الثقافة والتهذيب ليطلب الفن في حياته، فإن الإنسان حيوان فني، وإنك لتجد الرجل الأمي الكثيف للعقل «السميك» الوجه يضفر شعر حماره ويفرقه يرسله على صفحتي عنقه ويفضض له لجامه ويذهب سرجه ويركبه مترفقًا ويمشي به مختالا وينزل عنه ويسايره وينظر إليه باديًا من بعيد ومن قريب ويربته ويلاطفه ويمسح له وجهه، وقد تفيض نفسه سرورًا بمنظره فيقبله؟! ولو أنه كان لا يتخذه إلا مركبا يريحه من عناء السير وجهده، لما كلف نفسه أن يحليه ولما عنى بتجميل أدواته من سرج ولجام وغير ذلك، وبإراحته جهد طاقته، وبعلفه ما وسعه الإنفاق، فهي عاطفة فنية ملكت عليه قلبه واستولت على لبه، وكان مظهرها العناية بتجميل أتانه!
ولكن الحمير، والحمد لله، ليست كل ما يمكن أن يكون مظهرا لهذه العاطفة الفنية! وما يستطاع في عالم الحمير وأشباهها من أبناء أبينا الشيخ آدم رحمة الله عليه وغفرانه له يستطاع مثله في عوالم الكتابة والشعر والموسيقى والتصوير. وما منا إلا من يبغي أن يكون فنه أفعل باللب وأسحر للقلب وأملأ للعين وأوقع في النفس. ولكن الكتابة لا تكون فنية من تلقاء نفسها، وإنما تصير كذلك بما يحدثه المرء فيها من الصور، وما يوفق إليه من الإحسان والتجويد، ولا بد لذلك فيما نظن! من صحة النظر وسلامة الذوق وصدق السريرة والاستعداد. فإن الألفاظ موجودة، وهي ملقاة في طريقنا جميعًا وعلى طرَف كل قلم ولسان … ولو أن العبرة كانت بالألفاظ وحدها، وكان المعول على مقدار محصول المرء منها، لكان أكبر الأدباء هم جماعة اللغويين والحفاظ، ولكان ابن منظور والفيروزابادى مثلا شيخي أدباء العرب وشعرائهم. كذلك الموسيقى أصوات، وليس يعنى أحدًا أن يتوفر عليها ويحذقها ويمهر في توقيعها، وقد لا يعجزه أن يصنع بضعة ألحان قليلة أو كثيرة، ولكن ليس كل أحد بمستطيع أن يكون بيتهوفن أو فاجنر أو شوبان. والتصوير أيضًا أصباغ وألوان، أو قل — إن شئت — إن هذه هي مادته ووسائطه، ولكن العلم بها وبأصول الرسم وقواعده ليس حسب المرء ليكون مصورا حتى من الأوساط فضلا عن الفحول من أمثال روفائيل وتيتيان. وما لنا لا نسوق الأمثال مما هو ألصق بحياتنا اليومية؟ خذ صناعة النجارة مثلا وقل لى لماذا لا يستطيع كل نجار أن يكون ككل نجار؟ ما السر في أن واحدا يخرج قطعة تدخل السرور على كل نفس وتحب أن تتعلق بها وتتمهل عندها كل عين، على حين يخرج لك غيره ممن لا يقلون عنه علمًا بالصناعة ودربة عليها ما لا يروق ولا يعجب ولا يعدو أن يكون قطعة منجورة وأخشابًا بعضها إلى بعض والسلام؟ نريد أن نقول إن فن الكتابة، ككل فن، يتطلب استعدادًا طبيعيّا وأنه — ككل فن أيضًا — لا غنى عن الجمال فيه. وماذا يكون قولك في رجل يزعم أن سيغنيك ثم لا يسمعك إلا أصواتًا متنافرة أو ضوضاء منكرة؟ أو في آخر يقول لك هذه صورة فنية، فإذا نظرت إليها لم تلمح فيها ما يميزها عن النقل الفوتوغرافي؟ وكالنقل الفوتوغرافي الكتابة العادية التي لا يقصد منها إلا إلى الإفهام، وكالتصوير الفني لغة الأدب.
ولا يفهم أحد من كلامنا أننا نقصد إلى التكلف وإثقال الكلام بالحلى والزينة، فما يخطر لنا شئ من ذلك، وإنما نعنى أن الأدب فن، وأنه لا بد في كل فن من الإحسان والتجويد، ولكل امرئ طريقة هو لمؤثرها أو موفق إليها لإبراز المعنى في أحسن معرض، وليست المزية في التأنق والتحبير فإن للجمال العاطل أيضًا موقعًا حسنًا وروعة ونضرة، بل المزية في إبراز المعاني في أحسن حلاها كيفما كانت … وكل ميسر لما خلق له، فواحد يوشي الكلام ويطرزه، وثان يرسله غفلا، وثالث يدق لفظه ويشف حتى لتتخطاه العين كأنما يعرض لك المعاني في ظروف من النور، ورابع يفرغ خواطره في قوالب ملئت قوة وجمالا وهكذا. والإحسان في كل ذلك والقدرة عليه، ملكة لا تحصل بالمعاناة ولا تتهيأ بالدرس والتحصيل وإن كان هذا مما يقويها وينميها. ولا نطيل القول. فأيما رجل زعم نفسه كاتبًا أديبًا وخلا كلامه من عناصر الجمال فقل له لست به.
والآن، ما رأينا في أسلوب صديقنا الدكتور طه حسين؟! الحق أن هذا الموضوع يدق فيه الكلام! ولقد بدأت الكلام وفى عزمي أن أفيض في بيان رأي في الأسلوب، ولكني لم أكد أسود بضعة سطور حتى ألفيت نفسي أوجز وأوجز وأوصد كل باب موارب في طريقي وأضيق دائرة البحث، ثم إذا بي أسأل نفسي: ما رأيي! في أسلوب الدكتور؟! ولقد تقمصنى والله عفريت النقد! وإني لأحس أن عينيّ قد احمرتا، ويبلغ من إحساسي بذلك أو توهمي إياه أنى أهم بالتطلع إلى وجهي في المرآة! ولا أكتم القراء أنى صرت أؤمن بأن لكل منا شيطانًا، وأحسب شيطاني من أخبث الشياطين، فإنه يزج بي في مآزق لا أرضاها لنفسي لو كان الأمر لى … وإن على مكتبي لأكثر من خمسة عشر كتابًا أستطيع أن أتناولها بما شئت من النقد وأنا آمن أن ألقى أصحابها إذ كنت لا أعرفهم، ولكن شيطاني الخبيث ظل يخايلني بكتاب الدكتور حتى أخرجته من بين إخوانه وقلت له: «تعال يا هذا». وأخذت أقلب صفحاته كما يفعل المرء بالخروف يريد أن يشتريه لعيد الأضحى! والحق أقول إنه أعجبنى! وأنا ألقى الدكتور كل يوم وأحادثه أكثر مما أحادث نفسي. ولكم قلت لنفسي وهو لا يدري «لا يا شيخ! دع كتاب الدكتور إلى سواه، فإن للزمالة حقّا واجب الرعاية وستخجل أن تلقاه بوجهك هذا إن نقدته». ثم لا أكاد أخلو بنفسي حتى يهمس في أذني ذلك العفريت اللعين: إن الأدب فوق الصداقة والزمالة، وإن بروتوس كان يقول: «إني أحب قيصر ولكن رومية أحب إلى»، وإن لك كتابًا كما له كتاب فلينقده إذا أحب، وليس من شأن النقد الأدبي أن يفسد ما بين الصديقين. وهكذا حتى اقتنعت وتناولت القلم فكتب به الشيطان ما يأتي: «الدكتور طه حسين رجل أنيس المحضر ذكي الفؤاد جريء القلب، تعجبك منه صراحته وتقع من نفسك رجولته وأنفته، ويعلق بقلبك إخلاصه ووفاؤه، ويثقل عليك أحيانًا اعتداده بنفسه! ولما كان قد ألف أن يملى كتبه ورسائله ومقالاته، فإن كتبه وحديثه، حين يجد، في مستوى واحد، كائنا ما كان ذلك المستوى … فلست تفتقد في أحاديثه ما تجده في كتابته من الخصائص والشيات، ويندر في غيره مثل ذلك. ومن شأن الإملاء أن يحول دون مط الكلام وأن يجعل الجمل قصيرة فلا تطول مسافة ما بين أولها وآخرها، وأن يغرى بالتكرير والإعادة إلى حد ما، كما هو الشأن في الخطابة. ومن هنا كان أسلوب الدكتور طه خطابيّا، أو قل إن الصبغة الخطابية فيه أغلب من الصبغة الكتابية … وخصائص تلك ومميزاتها أوضح، فهو في الأغلب والأعم يوجه الخطاب إلى القارئ كما تفعل حين تحادث جليسًا لك، ويقصر جمله ويؤكد عباراته بالتكرير والإعادة ويلتمس التأثير من طريق ذلك، حتى وأنت تقرأ كلامه كأنما كان يهز قبضة يده حين بلغ هذه العبارة، ويومئ بأصبعه لما وصل إلى تلك إلى آخر ذلك.
«والخطابة فن مختلف جدّا عن فن الكتابة. وأحسب أنه لو كان الدكتور قد ألقى هذه الرسائل ولم يكتبها، لما جاءت إلا كما هي الآن. ومن شاء أن يكون منصفًا وأن يوفى كتابة الدكتور حقها ولا يعدو بها مكانها فلينظر إليها بهذه العين وليزنها بما توزن به الخطابة لا بما تقدر به الكتابة.
«إني ما كتبت فصلا إلا وأنا أعلم أنه شديد النقص محتاج إلى استئناف العناية به والنظر فيه، وأنا أقدر أن سيتاح لى من الوقت وفراغ البال ما يمكنني من استئناف تلك العناية وهذا النظر حتى إذا فرغت منه ونشرته «السياسة» عرضت لغيره في مثل هذه الحال العقلية التي عرضت له فيها معتزمًا أن أستأنف العناية به والنظر فيه مستحييًا أن أقدمه إلى الناس على ما فيه من نقص وحاجة إلى الإصلاح … والأيام تمضي والظروف تتعاقب، مختلفة متباينة أشد الاختلاف وأعظم التباين، ولكنها كانت تحول دائمًا بيني وبين ما كنت أريد من تجديد العناية واستئناف النظر، وأي الكتاب وأي الباحثين لا يشكو مثلى هذا في مثل هذه الأيام التي نعيش فيها؟».
وأما خلوها من مزايا الخطابة فلأنه لا يمليها على أنها خطب تلقى بل على أنها مقالات وفصول تقرأ، وإن كانت طبيعة اعتياد الإملاء تجعلها أقرب إلى الخطب منها إلى الرسائل. ومتى كان هذا هكذا فأي غرابة إذا قلنا إنها خالية مما لم يتحره فيها: أي من خصائص الخطب ومزاياها؟ وكما أن الخطب تفقد كثيرًا من قوتها وتأثيرها في نفوس الناس حين يقرءونها، كذلك مقالات الدكتور من عيوبها أن الناس يقرءونها ولا يسمعونه يلقيها؟
«ولا شك في أن أظهر عيب في مقالات الدكتور هو التكرار والحشو وما هو منهما بسبيل. وعندنا أن علة ذلك ليست فقط أنه يملى ولا يراجع ما يملى بل الأمر يرجع في اعتقادنا إلى سببين جوهريين، أولهما أن ما أصيب به في حياته من فقد بصره كان له تأثير لا نستطيع أن نقدر كل مداه، في الأسلوب الذي يتناول به موضوعاته، وفى طريقة العبارة عن معانيه وأغراضه. ولسنا نتحرج أن نذكر ذلك، فإنه أعرف بنا من أن يشك في عطفنا، بل نحن أعلى به عينًا وأسمى تقديرًا من أن نعتقد أن به حاجة إلى هذا العطف. وليس يخفى أن المرء إذا حيل بينه وبين المرئيات ضعف أثرها في نفسه، ولم تعد الكلمة الواحدة تغنى في إحضار الصورة المقصودة إلى ذهنه بالسرعة والقوة الكافيتين، فلا يسعه فيما نعتقد إلا الإسهاب ومحاولة الإحاطة ومعالجة الاستقصاء والتصفية.
«وثاني هذين السببين أنه أستاذ مدرس وقد طال عهده بذلك. والتعليم مهنة تعود المشتغل بها التبسط في الإيضاح والإطناب في الشرح، والتكرير أيضًا، بل تفعل ما هو شر من ذلك: وأعنى أنها تدفع المرء عن الأغوار والأعماق إلى السطوح. وبعبارة أجلى تضطر المدرس إلى أن يجتنب التعمق والغوص، وأن يكتفى — ما وسعه الاكتفاء — بما لا عسر في فهمه ولا عناء في تلقيه. وتلك آفة التدريس، ولولا أنى أعرف كلفه به وإقباله عليه وهشه له، لدعوت له الله أن يريحه منه كما أراحني».
قال المازني: وهنا صرف الله عنى السوء وأذهب عنى الشيطان فوضعت القلم وأنا أحمد الله أن لم يستكتبنى إلا هذا التحليل البريء.