قليل من الفلسفة؟!
نستأذن القراء الكرام في قليل من الفلسفة. ولهم علينا عهد الله ألا نعود إلى ذلك. لا لأن الفلسفة مما يعسر عليهم «هضمها» ولا لأن «الصحف السيارة لا تصلح لمثل هذا» كما يزعم صديقنا الدكتور طه حسين في مقدمة كتابه الذي مللته لكثرة ما ذكرته، بل لأني لا أحسن هذا الضرب من الكلام. وما لنا لا نتفلسف وقد تفلسف الدكتور؟ أترى ما تيسر له يعجزنا؟ ألا يدخل في طوقنا كما دخل في طوقه أن نسوق كلامًا يستحي القارئ أن يقول لا أفهمه؟ وما دام في الدنيا من يشق عليهم أن يعترفوا بالعجز عن فهم ما يزعمه أصحابه فلسفة، فإن الدنيا بخير يا سيدي ولنتفلسف فيها نحن أيضًا! وأحر بفلسفتنا أن ترضى القراء وأن تكسبنا ثناءهم حتى إذا لم يفهموها كما هو المنتظر! ذلك أنها دفاع عنهم فما أطيبنا والله! في سبيلهم نتجشم الغوص في درك اللجة الفلسفية، ومن أجلهم نقامس حيتانها المخوفة ونتعرض لأن يطبق علينا أحدها فكه الرهيب ويبتلعنا بكل ما تنطوي عليه من قدرة وحذلقة، أو لأن نغرق ونرسب في النهاية إلى جانب الدر الذي لا نعود به، وبين الحصى والطين والحجارة التي نرتطم فيها. ولن ينفعنا القراء حينئذ، وقانا الله شر خدمتهم!
ويغريني باعتساف الفلسفة ومحاولة الركض بين وعورها ما أشرت إليه في مقالي السابق وأسلفت عليه القول من زراية دكتورنا على القراء واعتباره إياهم غير أهل لأن يتكلف من أجلهم «التعمق في البحث والإلحاح في التحقيق العلمي إذ كانت الصحف السيارة لا تصلح لمثل هذا». لا يا صديقي الدكتور. عفوك! لو وسعك هذا الذي تقول إنك تجنبه لما أحجمت عنه ولا صدك الإشفاق على رءوس القراء والترفق بأدمغتهم. ولو كان في جعبتك ما هو أغلى وأثمن لما طويته عن العيون ولاحتلت وتلطفت وألححت في عرضه ولرفعته قبلنا من كل ناحية.
وليس الدكتور وحده هو الذي يفعل ذلك، فإننا جميعًا مع الأسف هذا الدكتور. وما منا إلا من يطيب له أن يدعى أنه قادر على خير مما يصنع. وكما أن الفقير يتظاهر بالثراء ويحب أن يوهم الناس أنه أغنى مما يدل عليه ملبسه ومسكنه وطعامه وسائر ما عسى أن يبدو لهم منه، ويستنكف أن يعترف بخصاصته ورقة حاله، كذلك نحن معاشر الكتاب: يزعم كل معدم منا أو من لا يملك إلا فكرة واحدة أنه غنى العقل، وربما أغرق في الدعوى فقال إنه مليونير! والناس في العادة لا يخفى عليهم الغنى المادي ولا يعنيهم أن يقفوا على حقيقة الدعوى فيه ونصيبها من الصحة … ومن هنا ترى المفلسين لا يزالون يكبحون جماح دعواهم ليجعلوها أقرب إلى العقل وأحرى بالتصديق، إذ كان لا يقبل ممن يمشي في أسمال بالية ويسكن كوخًا حقيرًا أن يقول: إن المال عندي قناطير مقنطرة، ولكنه لا يدفع السامعين إلى الإنكار والجزم بكذبه إذا ادعى أنه ادخر مائة جنيه. فإن مائة جنيه لا تنافى كل المنافاة ما عليه ظاهر حاله.
أما غنى العقل أو الفكر فما الحيلة في دعواه؟ ما طريقة حسابه والحكم عليه؟ إنه غنى يدعيه لا الكتاب والشعراء والعلماء وحدهم — ولو اقتصر الأمر عليهم لهان الخطب وسهل الوزن والتقدير — بل كل من له رأس بين كتفيه. وهبك عرفت ما في رأسه وأحصيته فقد بقي أن تعرف أهو من ماله الخاص أو ممن اقترضه من سواه أو مما يستربيه؟! فمجال الدعوى كما ترى واسع رحيب، والحدود هنا غير قائمة، وكل ذي دعوة يرى من الأوفق له أن يغض عن دعاوى سواه ليغضوا عنه وليتبادلوا الموافقة ويتقارضوا التأييد!
وليس من مسكين مغموط الحق غير جمهور القراء. نكتب لهم طلبًا لإعجابهم والتماسًا لثنائهم ونشدانًا للشهرة واستفاضة الصيت بينهم. وتأبى لنا طباعنا المنكرة إلا أن نجعل الاستخفاف بهم وسيلتنا إلى اكتساب ذلك: يعرض أحدنا على القراء بضاعة مزجاة فإذا عوتب أو نوقش اعتذر بالسوق وأنها لا تحتمل إلا الخسيس الرخيص من الأصناف، ويُصْفى ثان ويغدو كالدجاجة انقطع بيضها فيكبر عليه أن يقول فرغ رأسي، ويروح يقول إن الأرض غير صالحة للبذر ومن الحمق أن أحاول زرع أرض ظهرها صفوان، وقد علم أن العيب عيبه لا عيب التربة، وأن ما لا وجود له إلا في رأسه — إن كان فيه شئ — هو في حكم المعدوم، وأنه وجود لخاطر على الحقيقة إلا إذا ترجمه الجمهور عن صاحبه. ويجئ ثالث بكلام لا يكتبه بالقلم كما يكتب الناس، بل بالبرجل كما يقول صديقنا الأستاذ العقاد في وصف واحد من هؤلاء، فإذا قلت له إنك تكتب ما لا يفهم استشاط وسب الشمس والقمر وقال: إن منزلتي أن أكتب ومنزلتكم ألا تفهموا، إذ كنت أختلف عنكم في الحس وفي التفكير وفي الحكم على الأشياء، وأصدر فيما أكتب عن الإلهام الذي لا ينزل على العامة وأشباهها! وهكذا.
نعم، هذا هو دستور الفن الإلهي: قوى مطلقة تحكمها وتنظمها قوانين وبغير ذلك لا نستطيع، ولو فاضت أرواحنا من شدة التفكير، أن نعلل ما نلمحه من مظاهر التناقض في الحياة. وهذه الفقرة بعينها من مقدمة العقاد التي أعلن الدكتور طه أنه لم يفهمها، هي مفتاحي الذي سأديره فيما سأتناوله الآن. وإذا كان لكل شيخ طريقته الخاصة به فسأبدأ بحثي من حيث أريد أنا لا من هذه الرُّباوة العالية التي أشرف العقاد من قمتها على الحياة، وفى مرجوي أن آخذ بيد القارئ وأن أصعد معه درجة بعد درجة حتى نبلغ جميعًا هذه القمة.
بأيهما يحس الآدمي أولا: بنفسه أم بغيره؟ أظن أنه لا شك في أن أول ما يحس به المرء بعد أن يأتي إلى هذه الدنيا ويشعر بشئ فيها، هو نفسه. وفى وسع كل امرئ أن يتحقق من ذلك ويقطع الشك فيه باليقين وذلك بأن يلاحظ طفله لأول عهده بالحياة، فإن كل طفل يظل زمنًا غافلا عن كل ما يحيط به من الأشياء والناس، بل أبويه بل أمه أو ظئره. وظاهر أن إحساسه بوجود غيره لا يكون إلا على الأيام، أي شيئًا فشيئًا، ولا ينمو ويقوى إلا تبعًا لنمو إدراكه لما بينه وبين ما حوله من الناس والأشياء من الصلات.
ومعنى ذلك أن الإحساس بالنفس أو بالفردية سابق للإحساس بالغير وناشئ قبله. ولك أن تقول بعبارة أخرى إن الغرائز الاجتماعية مكتسبة إلى حد كبير. وليست كذلك الغريزة الفردية. أضف إلى ذلك أن الفرد وجد قبل النوع.
فالفردية هي السمة الأولى التي تبديها الحياة أو تبدو معها. وثم سمة أخرى لا خفاء بها هي أنه لا سبيل إلى الخلط بين اثنين وأن التطابق التام حتى بين التؤمين لا وجود له. وبعبارة أخرى، ليس في الحياة فردان يمكن أن تصفهما بأنهما مترادفان كما تصف بعض الألفاظ تساهلا في التعبير. نريد أن نقول إنه لا آخر للتنوع في صور الحياة. أي أن الحياة مطلقة الحرية في انتقال الصور التي تبدو فيها وتتشكل بها وأن سبيل الحياة أن تخرج أشكالا متنوعة وأنها لا تتقيد في ذلك بقالب معين ولا تلتزم فيه ما نلتزم نحن مثلا في الشعر أحيانًا من الوزن أو القافية.
ولا يتعجل القارئ فيعترض، فما نريد أن نذهب إلى أبعد من أن «الأصل» هو الحرية المطلقة في اختيار الصور والأشكال. ولو أن هذا لم يكن كذلك، أي لو أن الحياة مقيدة بصورة أو صور معينة لا تخرج عنها لكان تعاقب الأحياء تكرارًا سخيفًا لا معنى له. وتصور أن الناس مثلا يخلقون على طراز واحد لا يتغير ويصبون في قالب لا يتعدد! ألا يكون كل جيل في هذه الحالة صورة معادة لكل جيل سبقه؟! نعم بلا شك! وماذا يكون معنى هذا التكرار المستمر؟ لا معنى على الإطلاق وأحر بالحياة أن تكون إذن مسرفة سفيهة مملة. وما أحقها حينئذ بأن يحجر عليها من يستطيع؟!
كلا! ليس في الحياة إسراف ولا إملال لأنه لا تكرار هناك ولا إعادة. وكل فرد يخرج من يدي الحياة يكون الأصل فيه أنه نمط قائم بذاته مختلف عما عداه وحريتها في ذلك مطلقة لا نهاية لها ولا حد. ولكن — نعم «ولكن» — لا بد من القيد الذي تنتظم به الحرية وتصان من التبدد والانحلال المفضيين إلى العدم: وهذا القيد هو أن الناس لا يخلقون في هذه الأيام كما خلق أولهم من الطين مباشرة أو من المواد الأولية. وإنما يأتي الإنسان من إنسان مثله، وتخرج صورة الحياة الجديدة من صورة سابقة أي من أبوين. وهذا الجهاز الذي تمر به مادة المخلوق الجديد يطبعه بطابعه ويترك أثره فيه فيجيء الجديد مشابهًا للقديم. وإذا كان هذا هكذا فكل فرد يأتي إلى دنيانا يكون نتيجة عاملين: حرية الاختيار التي تتوخاها الحياة في صورها، والوراثة الناتجة من التناسل والتي ترمى إلى الاحتفاظ بالصورة القديمة وإلى إعادتها، وهذا هو علة الاختلاف من ناحية والتشابه من ناحية أخرى. والمسألة كما ترى بسيطة سهلة المساغ وليس فيها تعويض بل لا جديد فيها في الحقيقة ولا فلسفة!
وعسى من يسأل: ولكن ما علاقة هذا بالدكتور طه حسين وبما افتتحت به هذا المقال؟! وجوابنا أن العلاقة وثيقة والصلة متينة. ذلك أولا أن الدكتور قد شاء أن يتفلسف في كتابه فلم يبق لغيره عذر إذا لم يتفلسف! وثانيًا أننا أردنا أن نعلل هذه الظاهرة العجيبة: ونعنى بها تزلف المرء للجمهور وتظاهره بالاستخفاف به وبرأيه واستصغاره لقدره. فأردنا أن نقول بلسان الفلسفة إن من الدلائل القوية على أن الأصل أن الحياة مطلقة الحرية في أخذ صورها وتنويعها أن كل واحد منا يحب أن يرتفع عن المستوى العام بالحق أو بالباطل لأن التميز دليل على وفرة الحيوية وإربائها في المرء على النصيب العادي. وهذا التميز هو الدليل من جهة أخرى على تغلب الفردية أي قانون الحياة على الوراثة التي تحاول كما قلنا وكما تعلم أن تجعل الناس صورًا متطابقة. ومن الذي يرضى أن يكون صورة مكررة من سواه لا تختلف عنه في كثير أو قليل؟ من الذي لا يحب أن يسمو في نظر نفسه أو في نظر سواه، وهو المهم، عن هذا المستوى العام؟ وإنها لرغبة تنبئ عن احترام الحياة وتكشف عما بين قانونها والوراثة من التنازع. فإذا رأيتني أو رأيت سواي يتسامى عن منزلة الجماهير فاعذره فقد عرفت الداعي إلى ذلك والباعث عليه … واعلم أن «الجمهور» لفظ مرن يسعك في كل لحظة أن تضيقه وتوسعه، وأن تجعله كلما شئت يشمل كل الناس إلا «أنت وأنا».