القديم والجديد
من الأوهام الشائعة أن الناس مولعون بكل جديد، ومن الأمور التي يشكوها من يتنكبون الطرق المعبدة أن الناس لا يبادرون إلى متابعتهم حيثما يذهبون. فأي القولين أصدق؟ وبأيهما نأخذ؟
لقد أشرنا من قبل إلى أن سبيل الطبيعة أن تصل إلى غايتها من أهون سبيل، أي أنها تتوخى أسهل السبل وأقلها كلفة وأعظمها اقتصادًا. ولا بأس من أن نعود إلى ذلك بشئ من البيان يجلو غامضه ويحل مشكله. ولنضرب مثلين أحدهما من الإنسان وثانيهما من غيره. ولنبدأ بثانيهما فإنه أخف وأيسر إيضاحًا: تسقط الأمطار على الجبال أو سواها فينحدر الماء ويحتفر لنفسه مسيلا. فهل علم أحد أن هذا الماء الجاري آثر، منذ سال على وجه الأرض أن يخترق الصخور أو يعلوها وزهد في اللين الدمث الذي لايشق عليه أن ينساب فيه؟ كلا! ما علمنا على الماء من حماقة كهذه! فهو إذا صادفته أرض صخرية لم يتلبث عندها ريثما يحفر فيها مجراه بل راح يترقرق فوقها. وإذا اعترضته وعور ذاهبة في الجو لم يتجشم أن يعلوها ويطم فوقها إذا وجد مجازًا له عن يمينها أو شمالها. ودع هذا وتأمل الإنسان وسل نفسك: ما السر في أن المرء يصعب عليه أن يغير ما كوَّن لنفسه من العادات؟ أليس لأنها لا تتقاضاه من الجهد ما تكلفه مخالفتها؟ مثال ذلك أن تكون قد ألفت أن تسلك طريقًا معينًا بين بيتك وبين المكان الذي تزاول فيه عملك اليومي. فأنت كلما ذرت الشمس تكرر ما عملته في الصباح الماضي وتزايل بيتك وتقودك رجلاك وأنت لا تشعر إلى هذا الطريق المعين وتدبان بثقلك عليهما فيه كعادتهما في كل يوم. ومن المؤكد أن سلوك هذا الطريق لا يكلفك تنبها خاصّا أو تفكيرًا وأنك حين تمشى فيه وتمر به كل يوم لا يلفتك فيه شئ. شأنك في ذلك من بعض الوجوه كشأنك حين تأكل: تمتد يدك إلى اللقمة فتتناولها ثم ترتفع إلى فمك ومنه تهوى إلى جوفك. وليس ليدك عين ترى بها مكان فمك من وجهك. ولسنا نعلم أن يد المرء تخطيء وترتفع إلى الأنف، فقد اعتادت أن تحسن تقدير المسافة وأصبح الجهد اللازم لذلك يبذل بطريقة آلية … وكذلك رجلاك تحملانك في الطريق المألوف وتذهبان بك في منعطفاته دون أن تفكر أنت في شئ، ولكنك حين تسلك طريقا آخر غير الذي ألفته تلفي نفسك تستعمل عينيك وتجيلهما فيما هو أمامك وعن يمينك وشمالك، وقد تفكر في طوله أو قصره بالقياس إلى طريقك المعتاد، وفيما هو قائم على جانبيه من المساكن أو الأشجار وغير ذلك، وقد يعقد ذهنك مقارنات ومقايسات كثيرة ويجرك هذا إلى مواضيع شتى قد تشغلك النهار أو بعضه أو أكثر من ذلك، وهذا كله جهد لا تبذل شيئًا منه حين تأخذ في طريقك المألوف. وكذلك الحال، حين تتناول طعامك بغير اليد التي ألفت أن تتناوله بها.
ولم تكن الحياة نفسها تعجز عن أن تخلق الناس في أيامنا هذه كما خلقت أولهم وأسبقهم في الوجود، أعنى من طينة الأرض التي صيغ منها المخلوق الأول — كائنا ما كان هذا المخلوق — ولست أعنى بطينة الأرض وحلها، وإنما أعنى المواد الطبيعية الأولية. كما هو ظاهر بالبداهة. ولكن الحياة لا تفعل ذلك الآن، وقد كفت من زمان طويل لا يعرف حسابه إلا الله سبحانه وتعالى، عن إخراج المخلوقات على هذا النحو العتيق، وصرنا نخرج إلى الدنيا بطريقة التوالد، إذ كان خلق الإنسان بالتوالد أسهل من إعادة كل أدوار التطور الماضية، كلما أريد خلق إنسان. ولأن التوالد يتيح المرور بمختزل هذه الأدوار وبسرعة، فلا حاجة لتكلف المرور بها على نحو مطابق للأصل. وإذ كان هذا الكلام يحتاج إلى تفسير فليعلم القارئ — إذا كان ممن يجهل ذلك — أن المرء يعيد على صورة مصغرة مختزلة ما مرت به الإنسانية من أدوار النشوء. وللقارئ أن يصدق هذا أو لا يصدقه، فإن كانت الأولى فله منا الشكر الجزيل على الثقة بنا والاطمئنان إلينا، وإن كانت الثانية فلا ضير عليه أو علينا … ولن يمنع إنكاره أن الأمر كما نقول، والحال على ما نصف، ووقتنا وصدرنا أضيق من أن تتجشم إثبات ذلك له على حين يستطيع هو أن يريحنا بأن يقرأه في أكثر من كتاب واحد.
والآن فلننتقل إلى شئ آخر، وليحضر القارئ إلى ذهنه تلك الآلة الموسيقية التي يسمونها القانون. وهي آلة ذات أوتار كثيرة يحتاج الضارب عليها إلى أن يعيد إصلاح أوتارها كلما أراد أن ينتقل إلى «نغمة» مغايرة للنغمة الأولى ومن باب غير بابها. ولكنه لا يحتاج إلى إعداد أوتاره وتهيئتها من جديد إذا كان الانتقال بسيطا وفى موضع واحد أو مواضع قليلة من الصوت الذي يوقعه ولم يكن عاما شاملا. ونحسب هذا معروفًا مفهوما. وما منا إلا من رأى ذلك وشهده بعينيه. فصاحب القانون لا يغير شد الأوتار، ولا يكف عن التوقيع عليها ليعالجها من جديد، إذا كان الخروج عما هيأ له أوتاره جزئيا غير تام. وهو حين يحدث هذا الخروج الجزئي عما استعد له بآلته لا يتعبه هذا الخروج ولا يصدمه ولا يكلفه أو يكلف الأوتار فوق طاقته وطاقتها فيستمر العزف أو التوقيع كأن لم يحدث انتقال ما.
كذلك الناس حين يجيئهم واحد منهم بما هو أشبه بقديمهم الذي ساروا عليه وألفوه، لا يحسون أن جديدًا طرأ أو أنهم يحتاجون إلى أن يصلحوا نفوسهم ويهيئوها تهيئة خاصة لتلقى هذا الطارئ واستقباله. ولا يشعرون بدافع إلى المقاومة اتقاء لما يكلفهم اطراح ما اعتادوه من الجهد. ومن الأمثلة كتابات المنفلوطي رحمه الله. وهذه لم يكن فيها جديد، بل كلها مما شبوا وشابوا عليه. وكل ما في الأمر أنه جعل لكلامه طلاء أو لونًا لا يحيله عن أصله، ولا يخرجه عن تياره. وشبيه بذلك أن تستحدث ألوانًا جديدة في الملابس دون أن تغير الشهرة (المودة) في تفصيلها — فلا يصدم الناس منها شئ كبير، ولا يجعلهم على التردد في قبولها والإقبال عليها أنها مخالفة لما يجرى عليه العرف.
ولكن لنفرض أن حائكا سن لنا شهرة جديدة كل الجدة، كأن يرتد بنا إلى خمسين أو ستين سنة، ليحيى طرازًا كان شائعًا يومئذ، أو كأن يستحدث أسلوبًا تكون الأزرار من الخلف لا من الأمام أو تكون السترة أو ما يسمونه «الجاكتة» أشبه بالشملة. فهل يقبل الناس على تلقف هذا الطراز؟ كلا! يتحرجون في أول الأمر وينكرونه، ويظلون يتهيبونه زمنا طويلا أو قصيرًا على قدر بعده من مألوفها، حتى يتهيئوا لقبوله شيئًا فشيئًا، ويقتنعوا بصلاحه وجماله على الأيام، إن كان له نصيب من الجمال والصلاح. وهذا هو الذي يحدث حين يخرج كاتب أو شاعر على التقاليد والسنن، وينهج سبيلا غير التي ألفَ الناس أن ينهجها الكتاب، أو حين يأتي عالم أو فيلسوف برأي يقلب مانشأ الجمهور على اعتقاده.
ولماذا في ظنك كان أهل أوربا في القرون الوسطى يستنكرون أن يذهب أحد إلى أن الأرض دائرة، أو أنها ليست محور الوجود وقطب الكون، أو أن الشمس لا تدور حولها، بل هي التي تدور حول الشمس. ماذا كربهم من ذلك في حياتهم أو أفسدها عليهم حتى آذوا القائلين بما اعتقدوا من خلافه؟ لا شئ سوى أن الرأي الجديد كان خطوة في عكس الطريق الذي درجوا عليه، كما درج اَباؤهم، وكان من شدة المغايرة وفرط المعارضة لمألوفهم، بمثابة القول بأن الأنف مجعول لمضغ الطعام، والأذن للشم، والعين للسمع. والناس إنما يسهل عليهم الأخذ بالجديد إذا كان مقاربا لما اعتادوه وكان كأنه امتداد له ولم يكن مغايرًا في جوهره لآرائهم أو أذواقهم.
وقد قلت حين سقت مثل الحائك: «لنفرض أنه سن لنا شهرة جديدة كل الجدة، كأن يرتد بنا خمسين أو ستين سنة ليحيى طرازًا كان شائعًا يومئذ»، وأعنى بذلك أن القديم الذي مضى زمنه وانقضى عهده يكون في حكم الجديد، وله وقعه وصدمته حين يراد إحياؤه، لأنه يكون جديدًا في نظر من لم يألفوه، واعتبار من لم يدركوا زمنه، وعلى أن هذا فرض قائم على استحالة إذ كان إحياء القديم يتطلب أن تتوافر الأحوال والمقتضيات والحالات النفسية والفكرية التي عفى عليها الزمن وطوى صفحتها.
وبعد، فليس بصحيح أن الناس مولعون بكل جديد، وإنما الصحيح أنهم يقاومونه ويتهيئون له على الأيام، وأن جديد اليوم إذا كان صالحًا خليق أن يصبح مألوف الغد. ومن حق الجمهور علينا أن نحمد له ذلك، وأن نشكر الله عليه. إذ حقيق بالدنيا أن تنقلب بيمارستانًا ضخمًا، لو أن الناس فيها كانوا يبادرون إلى الأخذ بكل جديد، وإجابة كل مهيب، فليس كل جديد صالحا … والاتزان في الحياة ألزم وأجدى وأكفل، باطراد التقدم من طيش التعجل.