العمى والغريزة النوعية
(١) ليس الأعمى كالبصير
ليس الأعمى كالبصير. هذه، فيما نظن، قضية مبرمة. ولسنا نعنى أن أحدهما دون الآخر أو أفضل منه، فليس المقام مقام مفاضلة. ولكنما نعنى أنهما مختلفان … وهل يستوي أن يكون أو لا يكون للمرء في وجهه عينان؟ أليس لهذه الجارحة عمل يمتنع إذا تعطلت؟ ألا يحدث كف البصر تأثيرًا في مزاج الإنسان وفى تفكيره وإحساسه بالحياة والناس وغير ذلك مما لا يسعنا حصره؟ نعم. وإن الأمر لأوضح من أن يحتمل الخلاف. وسنتناول في هذا المقال وجهًا من وجوه الاختلاف الكثيرة لعل ذلك يجلو ما أشرنا إليه في الفصل السابق إنجازًا لوعدنا وإتمامًا لكلامنا.
الغريزة النوعية من أقوى غرائز الإنسان، ومظهرها الحب كما هو معروف، والحب — كما لا نحتاج أن نبين — هو أداة التنظيم الكبرى لحياة الناس، والقوة الدافعة إلى تحسين النوع والحيلولة دون انحطاطه. وليس هنا محل الكلام في الحب ولكن هنا موضع التنبيه إلى أن العين أداته الأولى، والنظر حاسة «اجتماعية» ليس أعون منها على الإحساس بالجمال ومضاعفة هذا الإحساس وتقويته.
ومن هنا عجب الناس لبشار بن برد كيف يعشق امرأة «معينة» وهو ضرير، فسألوه في ذلك، أو أحس هو أن الأمر يحتاج إلى إيضاح وتفسير، فذكره في شعره فكان مما قال:
وقد أحسن الاحتياط في قوله «أحيانًا» فما تستطيع الأذن أن تقوم مقام العين أو تسد اختلالها. ولقد صدق ابن الرومي حين قال:
ولكل منهما عمل. وتأمل بيتي بشار اللذين سقناهما لك، وانظر كيف روى عن الناس أنهم قالوا له إنه «يهذي» بمن لا يرى. وما أرى أصلح من هذا اللفظ ولا أحق بهذا الموضع. وهل هو إلا ضرب من الهذيان الصريح مهما أولته وكيفما خرجته؟ ولقد احتاج إلى أن يكرر الرد والاحتجاج لنفسه فقال:
وما نشك في أنها صورة ملتاثة. إن صح أن من الممكن أن تتمثل لضمير الأعمى صورة ما، أو يجاوز الأمر معه الإحساس العام. وعلى أي شئ تراه يقيس؟ ومن أي شئ يؤلف هذه الصورة؟ وقوله:
وقوله:
وقوله:
ولأمر ما عالج هذا المعنى في قصائد عدة ولم يجتزئ بالإشارة إليه مرة. والعين باب القلب كما يقول البحتري.
والجمال منظر ومعان وتعبير. والعين أقدر من السمع واللمس على إفادة الاستمتاع به. إذ كانت هي الطريق الأكبر للالتفات إليه والشعور به والإحاطة بمعانيه. ولأنها هي المعين على تأليف الصور الذهنية. وهي صور تتألف من أشتات أخرى علقت بالذاكرة وحصلت بالنظر. وبحسبك أن تقرأ قصيدة ابن الرومي في وحيد المغنية وكان بها مشغوفًا:
وقد أطلنا الاقتباس لأنا لا نعرف قصيدة أخرى في لغة العرب، وقد كدنا نقول أو في سواها من آداب الأمم الأخرى — هي أجمع من هذه لمعاني الحب والجمال، ولأن ابن الرومي تناول فيها المرئي والمسموع ولقد يذكر الكفيف الغصن والظبي وما إليهما مما يشبه به شعراء العرب، ولكن هذا منه لا يكون إلا تقليدًا وعلى السماع وبمقدار ما أشربت نفسه من روح اللغة وأساليب التعبير فيها، ومن غير أن يكون ذلك صادرًا عن صورة في الضمير وأي صورة في ظنك يمكن أن تكون قد حصلت في نفس بشار وهو يقول:
لا صورة على الإطلاق! وكل ما هنالك مما دفعه إلى هذا التشبيه هو نسيم الرياض المنعش الجسم المحيى للنفس. وقد يتناول المكفوف الصوت ووقعه، ولكن الهيئة والشكل يفوتانه، ولا يسعه أن يحضر بما يسمع ما يحضره البصير، ويتمثله من الصور، كما فعل ابن الرومي في وصفه لغناء وحيد. فقد تراه يتعلق بهيئتها، وسكون أوصالها إذا تغنى، واحتفاظها بجمال شكلها، فلا عين تجحظ كالوارمة، ولا وريد يدر ويمتلىء بالدم وينتفخ ويشوه شكل الجيد وانسجامه. وانظر كيف جعل لغنائها وَشيًا وَحلْيًا «مصوغًا» لا ساذجًا لم يعمل فيه الفن. وجعل الشعر «يختال» في هذا الحلى وكيف مثل لك فسحة الخلو وفراغ البال، بالقياس إلى ما صار إليه من أخذ الحب عليه بالإسداد، وذلك بقوله: «سد شيطان حبها كل فج»، وكيف نبه إلى ما يمليه النظر ويفيده من معاني الجمال بقوله: «ألها كل ساعة تجديد؟» وتشبيهه إياها بالعيش الذي لا يزال يعرض الغرائب.
وما لنا نقول إن بشارًا اضطر إلى أن يعلل عشقه للنساء بأعيانهن وتشبيبه بهن؟ ما بشار هذا؟ إنه ليس سوى فرد قد لا يصح اتخاذه قاعدة. ولكن تأمل أمثال الأمم وأساطيرها فإنها خلاصة صادقة لتجاريبها وغرائزها. ومن الأمثال التي نجدها في كل لغة أن الحب أعمى. نعم. ولقد صور القدماء «كوبيد» معصب العينين. وليس أحذق من هذا الطفل مع ذلك ولا أشد ساعدًا ولا أحكم، وكأنما أرادوا أن يقولوا إنه لا يرى ما لا يحب، بل أرادوا أن ينبهوا إلى أن كوبيد هذا كله عيون، ولولا ذلك ما عصبوها فلفتونا إليها ودلونا عليها. ولو شئنا لاجتزأنا بهذا من أساطير القدماء، ولكن بنا حاجة إلى أسطورة أخرى. تلك أن فينوس أو الزهرة كانت في بادئ الأمر ربة الربيع وبساتين الزهر، ثم جعلوها ربة الجمال. وفى ذلك ما لا يخفى من الشعور الباطني بالعلاقة القوية بين الحب والطبيعة في عيدها. وفى خرافاتهم أن الزهرة هذه مخلوقة من زبد البحر، ومن حقها أن تولد منه. فياما أفطن القدماء وأهدى غرائزهم! ذلك أن المحدود الذي يقاس طولا وعرضًا لا يروقنا، ولا يقع من نفوسنا، كما يستولى على هوانا، ويسحرنا ما تتدفق فيه الحياة. والجمال ليس شكلا فحسب، بل هو أيضًا تعبير ولحظة انتقال، كأنما يريد الشكل المتجلى أن يتدفق في أشكال أخرى. وكل ثبات أو تكويم أو ركوز أو حصر مفسدة، كما تحس ذلك من الأنف الضخم أو الظهر المحدوب. ومن هنا كان الإنسان أجمل ما في الطبيعة. ومن الوجوه ما يموج فيه تعبير النفس، أو حركة الفكر، حتى لتكاد تتخطى العين معارفه، وتخطئها ولا تراها.
والعيون نصف الجمال، وهي مدار السحر ومبعث الفتنة، لأنها أنطق الجوارح وأقدرها على التعبير، وليس من المصادفات أن ولع الشعراء بذكرها ورمزوا بها في كثير من الأحيان إلى الجمال وأطلقوا هذا الجزء على الكل، كما ترى مثلا من قول المتنبي:
فما يعنى الأحداق على وجه التخصيص، وإنما هو من قبيل ما ذكرنا وليس في وسع المكفوف أن يحس الجمال كما يحسه البصير أو يتأثر به مثله، لأنه ليس محرومًا من منظره وحده، بل من أكثر معانيه كذلك، ومما يتصل به عن قرب أو بعد، ومن الطبيعة أيضًا. وقد حجب عنه كل ما يمكن أن يقيس به. وأحر بألاّ يكون عنده فرق يذكر بين النساء، وأن تكون كل امرأة متسربة في الجنس، والإحساس بها إحساسًا جنسيّا عامّا، وأن تكون النساء كلهن كأنما أفرغن في قالب عام، وقيمهن واحدة من حيث التناسل، وألاّ تثير الغريزة النوعية إلا رغبة عامة في الأنثى. لا ترتقي (أي الرغبة) إلى درجة التمييز ولا تبلغ أسمى منازله لانعدام ما يعين عليه. وفى وسعنا أن نقول مع قليل من التجوز، إن الفرق بين المكفوف والبصير من هذه الناحية كالفرق بين الشعوب الساذجة التي لا تزال على الفطرة والشعوب التي ارتفعت عن هذا المستوى، وصار التميز الفردي فيها حادّا أو بارزًا مؤكدًا. تلك تكون الغريزة النوعية عندها عبارة عن رغبة عامة من الذكر في الأنثى ومن الأنثى في الذكر وهذه تتوخى التعيين والاختيار. وكذلك الكفيف تستوي عنده امرأة وامرأة، وهو إذا اختار وميز لا يكون ذلك مرجعه إلا إلى أسباب لا نخطىء جدّا، إذا قلنا إنها سطحية أو عارضة بعد أن لم يبق له من الأدوات سوى السمع واللمس، وما أقل غناءهما وأشد ضلالهما.
(٢) المرأة بين بشار وأبي العلاء
السمع واللمس — والشم أيضًا — كل ما للمكفوف من وسائط الإحساس بالجمال، وهي، كما بينا، أقل من النظر غناء، لأن العين هي الأداة الكبرى. وهي أنفس الجوارح وأوثق الحواس اتصالا بالعقل، حتى لترى أكثر المجازات في هذا الباب مستمدة من حركاتها وإحساساتها، والعقل عنها أفهم، وبها أقوى وأقدر، وما يسع الكفيف أن يفهم الجمال أو يتأثر به كالبصير. والمرأة عنده في الأعم أنثى يصبو جسد الرجل إلى جسدها، وأداة يرضى بها غريزته. وهو مهما بلغ من السمو يظل إحساسه بالمرأة أدنى إلى الطبيعة الحيوانية منه إلى المعاني النفسية. وسنورد لك أمثلة من شاعرين متباينين أشد التباين: بشار والمعرى. وكان أولهما حيوانًا والثاني إنسانًا.
وكان بشار إن فرغ من التشبيب بالنساء، أو على الأصح من وصف ما يشتاق إليه منهن ويطلبه عندهن من اللذات، لم يفرغ من ذكر فحولته، وَتَنَزِّيه، فهو أبدًا حيوان حين يذكر نفسه وحين يذكر المرأة. فمن ذلك ما حكوه من أنه علق امرأة وراسلها، يسألها أن تواصله. فقالت لرسوله: «أولك في وأنت أعمى لا تراني؟ فتعرف حسنى ومقداره؟ وأنت قبيح الوجه فلا حظ لى فيك؟ فليت شعرى لأي شئ تطلب وصال مثلى؟». فأدى الرسول الرسالة. فقال بشار عد إليها فقل لها — ونحن نمسك عن إيراد الأبيات لفرط ما فيها من الفحش، وحسب القارئ أن يعلم أنه أهمل كل ما يمكن أن يتفضل به الرجال، ولم ينظر إلا إلى الجانب الحيواني الصريح الذي يتساوى عنده الناس والبهائم، وأخلق بالبهائم أن ترجح على الإنسان من هذه الناحية. وحتى حين يتخيل حبيبته لا يخرج بها عن دائرة الحواس ومن ذلك قوله في عبدة:
والمرأة عنده أنثى تشتهى وتنال ولا تستعصى على الطالب:
وهو القائل أيضًا:
وكان يعمل بما يعلم، وحكايته مع أمامة مشهورة، قالوا كان يبعث بغلامه إليها فتتمنع. فلما أضجرها بإلحاحه عرفت زوجها، فقال لها أجيبيه وعديه أن يجيء إلى هنا، ففعلت، وجاء بشار مع امرأة أنفذتها إليه، فدخل وزوجها جالس وهو (بشار) لا يعلم فجعل بشار يحادثها ثم قال:
فأخذت يده ودفعتها إلى زوجها ففزع بشار ووثبَ!! ومن قوله:
وله رأى في شعر النساء يوافق تصويره لهن. قال: ما من شعر تقوله امرأة إلا وفيه سمة الخنوثة. ولبشار حكاية ليس أنم منها على انحصار الإحساس بالمرأة في الرغبة الحيوانية، وانتفاء الاهتمام بما وراء ذلك، والعجز عن إدراكه، ولكنا مع الأسف لا نستطيع أن نسوقها لشناعتها. فليبحث عنها من شاء في أخباره المبعثرة، أو فيما جمع له الأديب أحمد أفندي القرنى.
ونوجز فنقول: إن بشارًا لم يكن ينظر إلا إلى الأنوثة في المرأة والفحولة في الرجل، وإنه لم يعرفها سوى متاع يجس ويشم ويستمع إليه.
أما أبو العلاء فقد كان وقورًا محتشمًا متشائمًا، رافضًا للحياة مزدريًا للمرأة، وهي (أى المرأة) عنده لا تضمن عفتها، وأقل ما تجنيه، التبرج، ومن الواجب أن يداريها الرجل الذي يعايشها، ويسترضيها ويتقى غضبها ويراقبها، فكثيرًا ما تظهر الغيرة على بعلها، وتسود عيشه من أجل ذلك، بينما هي تسقى الخليل ريقها!
ويحول سخطه على الحياة، إليها، ويصب نقمته على رأسها، ويقلب ما يكبحه من اشتهاء نفسه لها ورغبة جسمه فيها، فيجعله تهالكا منها على اللذات، واستهتارًا في إرضاء الشهوات، ويسلبها كل ما عدا ذلك، ولا يراها إلا أداة نسل، ومطية شهوة ذلول، فهي عنده حية سامة.
وما فضل النساء؟ ولأي غاية يطلبن الرجل؟ أليس للنسل؟
وما النساء عنده إلا:
ولا يغرنك عكوفهن على المصلى:
والمغزل أولى بهن من القلم:
وليكن أخذهن التلاوة عن عجوز مهتمة:
وإذا احتاج الأمر لمعلم فينبغي أن لا تدنو الفتاة حتى ولا من رجل ضرير إلا أن يكون هرمًا همّا مرتعش اليدين أبيض اللمة.
وخير للشيخ الفقير أن يتزوج متنعمة، فإن الفقر والشيخوخة بابان إلى العظائم، والشيب مغتفر مع الغنى إذا كانت «قوى الرجل موفورة» وفي زوجة واحدة كفاية:
ويختم هذه النصائح بأنها من خبير مجرب شفيق:
والرجال لا يؤتمنون على النساء:
وإذا بلغ الغلام العاشرة فاحجب النساء عنه ولا تدخله عليهن فإنهن حبال غي بهن يضيع الشرف:
واضرب على المرأة فإن إرخاء العنان لها يغريها بركوب ما لا يحمد:
وأخف ما وصفها به أنها خيالات ولعبة:
وأنتقل الآن من شعره إلى نثره، ومن كلامه في الدنيا وأوصابها ومتاعبها إلى تخيله للآخرة ونعيمها الخالص الخالد. وتأمل وصفه للحور العين، وهن على ضربين: ضرب خلقه الله في الجنة لم يعرف غيرها، وضرب نقله الله من الدار العاجلة لما عمل من الأعمال الصالحة. وهو يجعل ابن القارح يلتقي باثنتين من الضرب الثاني، ويقبل على كل واحدة منهما يرتشف رضابها فيهيجه ذلك إلى ما به ويقول: «إن امرأ القيس لمسكين مسكين تحترق عظامه في السعير وأنا أتمثل بقوله:
فتستغرق إحداهما ضحكا، فيقول: مم تضحكين؟ فتقول فرحًا بتفضل الله! أتدري من أنا؟ … إني كنت في الدار العاجلة، أعرف بحمدونة وأسكن في باب العراق بحلب، وأبى صاحب رحى، وتزوجني رجل يبيع السقط، فطلقني لرائحة كرهها من في، وكنت من أقبح نساء حلب. فلما عرفت ذلك زهدت في الدنيا، وتوفرت على العبادة، وأكلت من مغزلى ومردنى، فصيرنى ذلك إلى ما ترى». وتقول الأخرى «إنني كنت توفيق السوداء، التي كانت تخدم في دار العلم ببغداد، على زمان أبى منصور محمد أبى على الخازن، وكنت أخرج الكتب إلى النساخ».
ودع ما في هذا الموقف من التهكم، واجعل بالك إلى إقباله الشديد على ترشف الرضاب، وشرهه في ذلك، وإلى صرخته «إن امرأ القيس لمسكين مسكين» وتكريره هذا اللفظ وما يشعرك به ذلك من تحرق الرجل، الذي يكبح نفسه، حتى إذا أمكنته الفرصة اندفع كالمنفجر. ولا تنس تعلقه بالرضاب ورائحة الفم واختصاصه ذلك بالذكر.
أما الحور التي خلقها الله في الجنة، ولا تعرف الدنيا، فتخرج لابن القارح من سفرجلة أو رمانة، جارية «حوراء عيناء» فيسجد لله إعظامًا. ويخطر في نفسه وهو ساجد أن تلك الجارية، على حسنها، ضاوية (نحيفة) فيرفع رأسه من السجود، وقد صار من ورائها ردف يضاهى كثبان «تل»!! عال فيهال من قدرة الله، ويقول: «يا رازق المشرقة سناها، ومبلغ السائلة مناها، والذي فعل ما أعجز وهال، ودعا إلى الحلم الجهال، أسألك أن تقصر بوص هذه الحورية». فيقال له أنت مخير في تكوين هذه الحورية كما تشاء، فيقتصر من ذلك على «الإرادة». وهنا أيضًا تهكم ولكنه مشوب بما لا يخلو من دلالة على التفات إلى الجسد، وإلى مواضع معينة منه، التفاتًا كان المعرى يزجر نفسه عنه في حياته احتشامًا ونقمة.
فهو يسىء بها الظن كبشار، ولايرى لها عفة يحفظها عليها دين أو تأديب، ولا يعتدها إلا ملهاة وغواية، ولا ينظر إلى ما وراء أنوثتها وخورها وضعفها، وإن كان مزاجه قد ذهب به مذهبًا خلاف مذهب بشار، والنظرتان متفقتان في النهاية، وصادرتان عن أصل واحد، وإن كانتا مرسلتين من نافذتين متباعدتين. وإنك لتحس مرارة الحرمان وألم الاضطرار إلى الكف عن التماس الملاذ، في شعر أبى العلاء، كما يطالعك من شعر بشار حيوانية التسور إلى اللذائذ الحسية. وهو فرق أوجده اختلاف المزاج وتفاوت العقل. والعمى في كلا الرجلين علة أولى. وقد كان أبو العلاء شديد الإحساس بعماه وإن له لهذا البيت:
وهو حسب المتأمل ولو لم يكن له غيره لكفى.