مقدمة
هطَلَت ثلوج الشتاء مبكرًا على أوروبا هذا العام، والبرودةُ تتخلَّل هواءَ الليل. في أعماق عقلِ إحدى إناث طيور أبي الحناء الصغيرة، ثَمة إحساسٌ دفينٌ بالغاية والعزيمة، كان مُبهَمًا من قبلُ لكنه صار يزدادُ قوة.
قضَت أُنثى أبي الحناء الأسابيعَ القليلة الماضية في التهامِ الحشرات والعناكب والديدان والتوت بكمياتٍ أكبرَ كثيرًا من المعتاد، مما أدَّى إلى زيادة وزنها إلى ضعف ما كان عليه حينما تمكَّن صغارها من الطيران في شهر أغسطس. تتركَّز غالبيةُ هذا الوزن الزائد في مستودعات الدهون التي ستستخدمها وَقودًا في رحلتها الشاقة التي توشك أن تُقدِم عليها.
تلك هي الهجرة الأولى التي تبتعِد فيها عن غابة التنوب بوسطِ السويد حيث عاشت مدةَ حياتها القصيرة، واعتنت بأفراخها الصغيرة منذ أشهرٍ قليلة. من حُسن حظها أنَّ الشتاء السابق لم يكن قارسًا جدًّا؛ إذ لم يكن نموُّها قد اكتمل قبل عام، ومِن ثمَّ لم تكن تتمتَّع بالقوة الكافية للقيام بمثلِ هذه الرحلة الطويلة. أما الآن وقد أدَّت مسئولياتها في الأمومة وصارت حرةً منها حتى الربيع التالي، فليس عليها التفكيرُ إلا في نفسها، وهي مستعدةٌ للفرار من الشتاء الذي يلوح في الأفق والاتجاه نحو الجنوب طلبًا لمناخٍ أدفأ.
مضَت ساعتان منذ غروب الشمس. وبدلًا من السكون في الليل، تقفز أنثى أبي الحناء في الظلام المنسدِل إلى طرَفِ غصنٍ قريب من أسفل الشجرة الضخمة التي بنَت فيها عُشها في الربيع. تهزُّ أنثى أبي الحناء جسمَها وتنفضه بسرعة على نحوٍ شديد الشبَه بما يفعل عَدَّاء الماراثون مُمدِّدًا عضلاته قبل السباق. صدرُها البرتقالي يلمع في ضوء القمر. أمسى ما بذلَتْه في بناء عُشِّها الذي يقع على بُعد بضع أقدام، والمختبئ جزئيًّا في لحاء جِذْع الشجرة المغطَّى بالطحالب من جهدٍ شاق وعناية، ذكرى خافتة.
ليست هي بالطائر الوحيد الذي يستعدُّ للهجرة؛ فالعديد غيرها من طيور أبي الحناء، ذكورًا وإناثًا، قد اتخذَت القرار بأن هذه الليلة مناسبةٌ لبدء رحلةِ هجرتها الطويلة نحو الجنوب. وعلى الأشجار المحيطة، تسمع أنثى أبي الحناء التغريدَ عاليًا وصاخبًا يُغطِّي على الأصوات المعتادة التي تَصدُر من كائنات الغابة التي تنشط في الليل. وكأنَّ الطيور تشعر بالحاجة إلى الإعلان عن مُغادرتها، وكأنها تُخبر الكائنات الأخرى التي تسكن الغابةَ أنَّ عليها التفكيرَ مَليًّا قبل أن تنويَ غزو منطقة الطيور المهاجرة في فترة غيابها وأعشاشها الفارغة. فطيور أبي الحناء تُخطط للعودة في فصل الربيع، لا ريب في ذلك.
قبل أن تُحلق الطيور في سماء الليل، تلتفتُ برأسها في عدة اتجاهات كي تتأكَّد من أمان الأفق. بدأ الليل يطول مع اقتراب الشتاء، وستُحلق الطيور عشرَ ساعات تقريبًا قبل أن تتمكنَ من الاستراحة مرة أخرى.
تنطلقُ الطيور في مسار باتجاه ١٩٥ درجة (١٥ درجةً نحو الغرب من اتجاه الجنوب المنشود). وعلى مدار الأيام القليلة القادمة، ستستمرُّ الطيور في التحليق نحو الاتجاه ذاتِه تقريبًا، وتقطع مسافةَ مائتي ميلٍ في اليوم حين تكونُ الظروف مُواتية. لا تعرف أنثى أبي الحناء ما ينتظرها في تلك الرحلة الطويلة ولا تعرف كم ستستغرق الرحلةُ من الوقت. إنها تعرف التضاريسَ التي تُحيط بغابة التنوب التي تسكن بها، لكنها بَعد بِضعة أميالٍ تُحلق فوق أراضٍ غريبة من البُحيرات والوديان والمدن يُنيرها ضوءُ القمر.
وفي مكانٍ ما على مقربةٍ من البحر الأبيض المتوسط، ستصل إلى وجهتها، وإن كانت لا تقصد موقعًا بعينِه، ولكنها ستتوقَّف عن الطيران حينما تصل إلى بقعةٍ تُناسبها، وتحفظ معالم المكان في ذاكرتها؛ كي تتمكنَ من العودة إليه في السنوات القادمة. وإذا كانت لديها القدرة، فستُحلِّق حتى تصل إلى سواحل الشمال الإفريقي. غير أنَّ هذه هي المرة الأولى التي تُهاجر فيها، وتتمثَّل أولويتها في الفرار من البرودة القارسة للشتاء الاسكندنافي.
تبدو أُنثانا غافلةً عن غيرها من طيورِ أبي الحناء المحيطة بها المحلِّقةً في الاتجاه ذاتِه تقريبًا، والتي قد قطع بعضُها هذه الرحلةَ عدة مرات من قبل. وبالرغم من قُدراتها الممتازة في الرؤية الليلية، فهي لا تبحث عن أي معالم — مثلما قد نفعل نحن البشرَ إن كنا نقوم برحلةٍ كتلك — ولا هي تتبع نمط النجوم في سماء الليل الصافية بالرجوع إلى خريطتها السماوية الداخلية، مثلما تفعل العديدُ من الطيور الأخرى التي تُهاجر في الليل. وبدلًا من هذا وذاك، هي تنعمُ بمهارةٍ كبيرة وبتطوُّرِها على مدار عدة ملايينَ من السنين، وهما ما تُعزى إليه قُدرتها على القيام بهذه الرحلة التي ستُصبح هجرةً سنوية في الخريف تقطع فيها نحوَ ألفَي ميل.
لا شك أنَّ الهجرة أمرٌ مألوف في مملكة الحيوان. ففي كلِّ شتاء على سبيل المثال، تضع أسماكُ السلمون بيضَها في أنهار شمال أوروبا وبحيراتها، وتترك البيضَ في تلك المياه، ثم تخرج الأسماكُ الصغيرة بعد الفقس وتتبع مسار النهر حتى تصل إلى البحر، ومنه إلى شمال المحيط الأطلسي حيث تنمو وتنضج، وبعد ثلاث سنوات، تعود تلك الأسماك لتتزاوجَ في تلك الأنهار والبحيرات التي فقسَت فيها نفسها. وفي فصل الخريف، تُهاجر الفراشات الملَكية آلافَ الأميال جنوبًا فتَعبُر رُقعة الولايات المتحدة بكاملها. بعد ذلك، تعود تلك الفراشات — أو نسلها (لأنها ستتكاثرُ في الطريق) — في فصل الربيع باتجاه الشمال إلى الأشجار نفسِها التي تشرنقَت فيها. إضافةً إلى ذلك، فالسلاحفُ الخضراء التي تفقس على شواطئ جزيرة أسينشين جنوب المحيط الأطلسي تسبح آلافَ الأميال في المحيط قبل أن تعود كلَّ ثلاث سنوات؛ كي تتزاوجَ على الشاطئ ذاتِه المليء بقِشر البيض الذي خرَجَت منه. لا تتوقف قائمةُ الكائنات المهاجرة عند هذا الحد؛ فالعديد من أنواع الطيور والحيتان ووُعول الرنَّة والكركند الشوكي والضفادع والسلمون وحتى النحل تقوم برحلاتٍ تصعب على أعظم المستكشِفين من البشر.
ظلَّت الكيفية التي تعرف بها الحيواناتُ طريقَها حول العالم لغزًا على مدار قرون. غير أننا نعرف الآن أنَّ تلك الحيوانات تستخدم مجموعةً من الطرق؛ فبعضها يستخدم نظامَ المِلاحة الشمسي خلال النهار ونظام الملاحة السماوي في الليل، وبعضها يحتفظ بمعالم الطريق في ذاكرته، بينما يعرف البعضُ الآخَر طريقه حول الكوكب من خلال «الشم». لكنَّ حاسة الملاحة الأكثرَ غرابة على الإطلاق هي تلك التي يمتلكُها طائرُ أبي الحناء الأوروبي؛ القدرة على تحديد اتجاه المجال المغناطيسي للأرض وقوته، وهي ما يُعرف باسم الاستقبال المغناطيسي. ورغم أننا نعرف الآن عددًا من الكائنات الأخرى التي تمتلك تلك القدرة، فإنَّ الكيفية التي يُحدد بها طائرُ أبي الحناء الأوروبي طريقَه في هذه الأرض هي أكثرُ ما يُهمنا في هذا النقاش.
إنَّ الآلية التي تُمكِّن طائرَ أبي الحناء من معرفة المسافة التي ينبغي أن يَطيرها والاتجاه الذي يسلكه؛ مشفَّرةٌ في الحمض النووي الذي يرثُه من أبوَيه. هذه القدرة متطورةٌ جدًّا وغير عادية، فهي أشبهُ ﺑ «حاسة سادسة» يستخدمها الطائرُ في تحديد مسار رحلته. فعلى غِرار العديد من الطيور الأخرى وحتى الحشرات والكائنات البحرية، يتمتَّع هذا الطائر بالقدرة على الإحساس بالمجال المغناطيسي الضعيف للأرض، واستنتاج المعلومات المتعلقة بالاتجاهات من هذا المجال عن طريق حاسة ملاحة متأصِّلة في تكوينه؛ ممَّا يستلزم في هذه الحالة نوعًا حديثًا من البوصلة الكيميائية.
تُعَد حاسةُ الاستقبال المغناطيسي أمرًا مُلغِزًا. ذلك أنَّ المجال المغناطيسي للأرض ضعيفٌ للغاية، فهو يتراوح ما بين ٣٠ إلى ٧٠ ميكروتسلا على السطح، وهي قوةٌ كافية لانحراف إبرة مغناطيس متوازنة بدقة، وينعدم فيها الاحتكاكُ تقريبًا، لكنها لا تُمثل سوى واحدٍ على مائة من قوة مغناطيس الثلاجة العادي. وهنا يَكمُن اللغز؛ لكي يتمكَّن حيوانٌ ما من تحديد المجال المغناطيسي للأرض، لا بد أنه يتأثر بتفاعلٍ كيميائي في منطقةٍ ما بجسمه؛ فتلك على أي حال هي الكيفيةُ التي تُحس بها كلُّ الكائنات الحية، بما فيها البشر، بأي إشارة خارجية. غير أنَّ كميةَ الطاقة التي يُوفِّرها تفاعلُ المجال المغناطيسي للأرض مع الجزيئات داخل الخلايا الحية أقلُّ من واحد على مليار من كمية الطاقة اللازمة لكسر رابطةٍ كيميائية أو لتكوينها. فكيف يمكن إذن لطائر أبي الحناء أن يُحس بالمجال المغناطيسي؟
تبقى الألغازُ مذهلة وإن كانت صغيرة؛ فثَمة احتمال قائم على الدوام بأنَّ حلَّها قد يؤدي إلى تحولٍ كبير في فهمنا للعالم. ففي القرن السادس عشر، على سبيل المثال، أدَّت تأملاتُ كوبرنيكوس بشأن مسألةٍ ثانوية نِسبيًّا فيما يتعلق بهندسة النموذج البطلمي القائلِ بمركزية الأرض في المجموعة الشمسية، إلى تحويل مركز جاذبية الكون بأكمله بعيدًا عن الجنس البشري. وأدَّى اهتمامُ داروين بالتوزيع الجغرافي لأنواع الحيوانات، وبالسبب الغامض في أنَّ الأنواع التي تعيش على الجزر المعزولة مثل طيور الشرشوريات والطيور المحاكية، غالبًا ما تختلف عن مَثيلاتها في الأماكن الأخرى بصفات خاصة، إلى اقتراح نظرية التطور. ولنا أيضًا في عالِم الفيزياء الألماني ماكس بلانك مثالٌ آخر، حين تمكَّن من حلِّ لغز إشعاع الجسم الأسود، فيما يتعلق بكيفية انبعاث الحرارة من الأجسام الدافئة؛ مما قاده إلى اقتراح أن الطاقة تُوجَد في كُتَلٍ منفصلة تُسمى «الكموم»، فنَتج عن ذلك ميلادُ نظرية الكم عام ١٩٠٠. فهل يمكن أن يُؤدِّيَ حلُّ اللغز المتمثلِ في كيفية معرفة الطيور لطريقها حول العالم إلى ثورةٍ في علم الأحياء؟ بالرغم مما قد يبدو في ذلك من الغرابة، فالجواب هو: نعم.
واقعٌ طيفي خفي
إذا أجريتَ اليوم استطلاعَ رأيٍ غيرَ رسمي بين العلماء وسألتَهم عمَّا يرون أنها النظرية العِلمية الأنجح والأهم والأكثر تأثيرًا في تاريخ العلوم كلِّه، فستتوقَّف الإجابات على تخصصِ مَن يُجيب عن السؤال وما إن كان متخصصًا في الفيزياء أم في علوم الحياة. فمُعظم علماء الأحياء يرَون أنَّ نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي التي وضعها داروين هي أعمقُ فكرة تشكَّلَت على الإطلاق. غير أنَّ علماء الفيزياء سيُحاجُّون على الأرجح بأنَّ علم ميكانيكا الكمِّ هو ما ينبغي أن يحظى بالصدارة؛ فهو الأساسُ الذي يستند إليه الجزءُ الأكبر من علوم الفيزياء والكيمياء بالرغم من كل شيء، وهو يُقدِّم لنا صورةً مكتملة بدرجةٍ لافتة عن وحدات البناء التي يتألَّف منها الكونُ بأكمله. الحق أنه لولا القوةُ التفسيرية لذلك العلم، لغاب عنا قدرٌ كبير من فهمنا الحاليِّ للكون وآلياته.
لا بد أنَّ الغالبية العُظمى قد سمعت عن «ميكانيكا الكم»، حتى إننا نجد في الثقافة الشعبية تلك الفكرةَ القائلة بأنها مجالٌ علمي محيِّر وصعبٌ لا يفهمه إلا قلةٌ قليلة من البشر الأذكياء. لكن الواقع أنَّ ميكانيكا الكم تُشكل جزءًا من حياتنا منذ أوائل القرن العشرين. تَشكَّل هذا العلمُ في منتصف عشرينيَّات القرن العشرين بصفته نظريةً رياضية لتفسير عالم الجزيئات الصغيرة (أو العالم المصغَّر كما يُطلَق عليه)؛ أي: تفسير سلوك الذرَّات التي تُكوِّن كلَّ ما نراه حولنا، وخصائصِ حتى الجسيمات الأصغر التي تتشكَّل منها تلك الذرات. فمن خلال وصفِ القواعد التي تتبعُها الإلكترونات على سبيل المثال وكيفيةِ تنظيمها لنفسها داخل الذرات؛ تدعم ميكانيكا الكم علومَ الكيمياء وعلومَ المواد وحتى علم الإلكترونيات. وعلى الرغم من غرابة هذا المجال، فإنَّ قواعده الرياضية تكمن في صميم غالبيةِ أوجُه التطور التكنولوجي التي حدَثَت في الخمسين عامًا الماضية. فلولا تفسيرُ ميكانيكا الكم للطريقة التي تتحرَّك بها الإلكتروناتُ داخل المواد، لَما فَهِمنا سلوكَ أشباه الموصِّلات التي تُمثل أساسَ الإلكترونيات الحديثة، ولولا أننا فهمنا أشباهَ الموصلات، لما طوَّرْنا الترانزستور المصنوعَ من السيليكون، ولَما طوَّرنا الرقاقاتِ المصغَّرةَ، ومِن بعدها أجهزةَ الكمبيوتر الحديثة. ليس هذا فحسب؛ فلولا التقدمُ في المعرفة بفضل ميكانيكا الكم، لَما تمَكَّنَّا من اختراع الليزر؛ ومن ثمَّ لم نكن لِنُطوِّر أجهزةَ تشغيل أقراص «بلو راي» أو الأقراص المُدمجة أو أقراص الفيديو الرقمي؛ ولولا ميكانيكا الكم، لما أصبح لدينا الهواتفُ الذكية ولا أنظمة الملاحة باستخدام القمر الصناعي، ولا أجهزةُ المسح الضوئي باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي. لقد أشارت التقديراتُ بالفعل إلى أنَّ أكثرَ من ثُلث إجمالي الناتج المحليِّ في الدول المتقدِّمة يعتمد على تطبيقاتٍ لم تكن لِتُوجَد ببساطةٍ لولا فَهمُنا لعالم ميكانيكا الكم.
تلك هي البداية فحسب. يمكننا أن نتطلَّع إلى مستقبلٍ كَمِّي سنشهده في حيواتنا على الأرجح، ربما نتمكَّنُ فيه من توفير كمياتٍ مَهولة من الطاقة الكهربية بفضل الاندماج النوويِّ الناتج عن أشعَّة الليزر، وستقوم فيه الآلاتُ الجزيئيَّة الاصطناعية بمجموعةٍ كبيرة من المهام في مجالات الهندسة والكيمياء الحيوية والطب، وتُوفر أجهزة الكمبيوتر الكمية حلولَ الذكاء الاصطناعي، وربما يمكن أيضًا أن ينتشرَ استخدامُ تكنولوجيا النقل الآنيِّ التي لم تزَل ضربًا من الخيال العلمي في نقل المعلومات. إنَّ الثورة الكمية التي بدأتْ في القرن العشرين تُسرع الخُطى في القرن الحادي والعشرين، وسوف تُغير حياتنا بطرقٍ لا يتخيَّلها أحد.
فما هي ميكانيكا الكم بالضبط؟ سنناقش إجابةَ هذا السؤال على مدار الكتاب، وسنبدأ الآن بمقتطَفٍ منها من خلال ذِكر بعض الأمثلة على الواقع الكمي الخفي، الذي يُشكل أساسَ حياتنا.
سيُوضح المثالُ الأول واحدةً من السِّمات الغريبة في العالم الكَمِّي، ويمكن القولُ إنها السمة المميزة له، وهي ازدواجيةُ الموجةِ والجُسَيم. نحن نعرف أنَّ الإنسان وكلَّ ما حوله يتكوَّن من عددٍ كبير من الجسيمات الصغيرة المنفصلة، مثل الذرات والإلكترونات والبروتونات والنيوترونات. وربما تعرف أيضًا أنَّ الطاقة — مثل الضوء أو الصوت — تنبعثُ في صورةِ موجاتٍ وليس في صورةِ جُسيمات. لا تُوجَد الموجات في صورةٍ جُسَيمية، بل تنتشر وتتدفَّق في الفضاء في شكلٍ مَوجي من قِمَم وقيعان يُشبه أمواجَ البحر. وُلِدَت ميكانيكا الكم حين اكتشَف العلماء في أوائل القرن العشرين أنَّ سلوك الجسيمات دون الذريَّة يمكن أن يُشبِهَ سلوك الموجات، وأنَّ سلوك موجات الضوء يمكن أن يُشبه سلوك الجسيمات.
بالرغم من أنَّ ازدواجية الموجة والجسيم ليست بالفكرة التي نحتاج إلى تأمُّلِها كلَّ يوم، فهي الأساسُ الذي يقوم عليه كثيرٌ من الأجهزة المهمَّة؛ مثل المجهر الإلكترونيِّ الذي يُتيح للأطباء والعلماء رؤيةَ الأجسام المتناهيةِ الصِّغَر التي تصعب رؤيتها تحت المجهر الضوئي العادي، والتعرفُ عليها ودراستها، ومن ذلك الفيروسات المُسبِّبة للإيدز، وتلك المسبِّبة لنزلات البرد الشائعة. لقد استُلهِمَت فكرةُ المجهر الإلكتروني من اكتشاف أن الإلكترونات تتَّسم بخصائصَ شبيهةٍ بخصائص الموجات. أدرك العالمان الألمانيَّان ماكس نول وإرنست روسكا أنه لَمَّا كان الطولُ الموجي — أي: المسافة بين أيِّ قمتين متتاليتين أو قاعَين متتاليين في أيِّ موجة — المرتبطُ بالإلكترونات أقصرَ من الطول الموجيِّ للضوء المرئي، فسيكون المجهر الذي يَستخدِم التصويرَ بالإلكترونات قادرًا على التقاطِ التفاصيل بدقةٍ أكبرَ كثيرًا من دقة المجهر الضوئي. ويرجع السبب في ذلك إلى أنَّ أي تفصيلةٍ أو جسم صغير أبعادُه أصغر من الموجة الواقعة عليه، لن يُؤثر فيها. ولنضرب مثالًا على ذلك بأمواج المحيط التي تَترامى على حَصى الشاطئ، بينما يبلغ ارتفاعُها عدةَ أمتار. لن نستطيع معرفةَ أيِّ شيء عن شكلِ حَصاةٍ منفردة أو حجمِها بدراسة الأمواج. وإنما سنحتاج إلى موجاتٍ أقصرَ كثيرًا مثل الأمواج التي تتشكَّل في حوض التموُّج الذي يراه الجميعُ في دروس العلوم بالمدرسة؛ وذلك لكي «نرى» الحَصاة من خلال معرفة كيفية ارتداد الأمواج عنها، أو الكيفية التي تَحيد بها عنها. ومن ثَمَّ، ففي عام ١٩٣١، صمَّم نول وروسكا أولَ مجهرٍ إلكتروني في العالم، واستخدَماه في التقاطِ أول صورٍ للفيروسات، وقد حصَل إرنست روسكا على جائزة نوبل عن هذا الاختراع، غير أنَّ ذلك جاء متأخرًا بعضَ الشيء في عام ١٩٨٦ (أي: قبل وفاته بعامين).
يُعَد مثالنا الثالث وثيقَ الصلة أيضًا بما نريد توضيحه، لكنه يوضِّح سِمةً مختلفة، وحتى أغرب، من سمات العالم الكمي؛ وهي ظاهرةٌ يُطلق عليها اسم «التراكب»، التي وَفْقًا لها يمكن للجسيمات أن تُؤدِّيَ عمليتَين — أو مائة، أو حتى مليون عملية — في وقتٍ واحد. تلك الخاصية هي المسئولة عن ثراء كوننا وتعقيده على نحوٍ مُثير للاهتمام. بعد مدةٍ قصيرة من الانفجار العظيم الذي أتى بالكون إلى الوجود، امتلأ الفضاءُ بنوعٍ واحد فقط من الذرَّات هو الأبسطُ في التركيب، ألا وهو ذرَّات الهيدروجين التي تتكوَّن من بروتون واحد موجب الشحنة، وإلكترونٍ واحد سالب الشحنة. كان الكون قاتمًا؛ إذ كان خاليًا من النجوم والكواكب، ومن الكائنات الحية بالطبع؛ لأن عناصر البِناء الأساسية التي تتكوَّن منها كلُّ المخلوقات — بما في ذلك البشر — لا تتكون من الهيدروجين فحسب، بل تتضمَّن عناصرَ أثقل؛ مثل الكربون والأكسجين والحديد. ومن حُسن الحظ أنَّ تلك العناصرَ الأثقل تكوَّنَت داخل النجوم المُمتلئة بالهيدروجين، ويعود الفضل في تشكيل المُكوِّن الأوَّلي لتلك العناصر، وهو شكلٌ من أشكال الهيدروجين يُعرف باسم الديوتيريوم، إلى درجةٍ من السحر الكمي.
ثَمة استجابة واضحة قد تَرِد على ذلك الزعم وهي: «كيف نعرف ذلك؟» لا شك أنَّ نواة الذرة بالغةُ الضآلة، ولا تُرى بالعين المجردة؛ أليس من المنطقي إذن أن نفترض وجودَ حلقةٍ مفقودةٍ في فَهمِنا للقُوى النووية؟ لكنَّ الإجابة عن هذا السؤال بكلَّا؛ لأنه قد تأكَّد مرارًا وتَكرارًا في العديد من المختبرات أنه إذا كان البروتون والنيوترون يؤدِّيان ما يُكافئ «إمَّا» الإيقاع الكمي البطيء «أو» ما يُكافئ الإيقاع الكمِّي السريع، فإن «الرابط» النوويَّ بينهما لن يكون قويًّا بالدرجة الكافية لاتحادهما معًا؛ ذلك أنَّ قوة الاتحاد لا تُصبح قويةً بما يكفي إلا عندما تتراكب الحالتان إحداهما فوق الأخرى — أي: عندما يحدث الواقعان في آنٍ واحد. يمكن تخيلُ تراكب الواقعَين على أنه شبيهٌ بعض الشيء بمزجِ لونين — ولْيَكونا الأزرق والأصفر — لإنتاج لونٍ مركَّب هو الأخضر. فعلى الرغم من أنك تعرف أنَّ اللون الأخضر يتألَّف من هذين اللونين الأساسيَّين، فهو ليس بهذا اللون أو ذاك. ثم إنَّ مزج نسبٍ مختلفة من الأزرق والأصفر سيُنتج درجاتٍ مختلفةً من اللون الأخضر. وعلى غِرار ذلك، يتكون الديوتيرون حينما يشترك البروتون والنيوترون في رقصة الإيقاع البطيء في معظم الأحيان، مع اشتراكهما في رقصة الإيقاع السريع في قليلٍ منها فقط.
إذن، إن لم تكن الجسيمات قادرةً على الرقص على الإيقاعَين البطيءِ والسريع في آنٍ واحد، لَظل الكونُ حساءً من غاز الهيدروجين ولا شيء غيرَ ذلك؛ فلم تكن النجوم لِتَسطع ولم تكن العناصرُ الأخرى لتتشكَّل، ولَما قرأتَ هذه الكلمات. إنَّ السبب في وجودنا هو قدرةُ البروتونات والنيوترونات على التصرُّف بتلك الطريقة الكمية المناقِضة للبديهة.
سنتناول الآن مِثالَنا الأخير الذي سيأخذنا إلى عالم التكنولوجيا مرةً أخرى. لا تتوقَّف استخداماتُ طبيعة العالم الكمِّي عند رؤية الأجسام الدقيقة مثل الفيروسات فحسب، بل تُستخدَم أيضًا لرؤيةِ ما بداخل أجسامنا. يتجسَّد هذا الاستخدام في التصوير بالرنين المغناطيسي، وهي تقنيةٌ للفحص الطبي تُنتج صورًا ذاتَ تفاصيل رائعةٍ للأنسجة الليِّنة. عادةً ما يُستخدَم التصويرُ بالرنين المغناطيسي في تشخيص الأمراض؛ لا سيما اكتشاف الأورام التي تُصيب أعضاءَ الجسم الداخلية. والحقُّ أنَّ معظم الشروحات غير المتخصِّصة التي تُناقش التصوير بالرنين المغناطيسي تتجنَّب ذِكر أن تلك التقنية تعتمد على الطريقة الغريبة التي يعمل بها العالم الكمي. ذلك أنَّ هذه التقنية تعتمد على استخدام مَغانِطَ كبيرةٍ قوية لكي تُصبح مَحاورُ أنويةِ ذرات الهيدروجين الدوَّارة مُحاذيًا بعضُها لبعض داخل جسم المريض. بعد ذلك تُعرَّض تلك الذرَّات لنبضةٍ من الموجات الراديوية، مما يُجبِر الأنويةَ المتحاذية على أن تُوجَد في تلك الحالة الكمية الغريبة التي تدور فيها في كِلا الاتجاهين في آنٍ واحد. ما من جدوى في أن تُحاول حتى تصوُّر ما ينطوي عليه ذلك؛ لأنه بعيدٌ كلَّ البعد عن خبراتنا في الحياة اليومية! ما يُهمنا الآن هو أنه عندما تعود أنويةُ الذرات إلى حالتها الأولية التي كانت عليها قبل أن تتلقَّى دَفْقة الطاقة التي دفعَتها إلى حالة التراكُب الكمِّي، فإنها تُطلق تلك الطاقة؛ ومن ثَم تلتقطها الأدواتُ الإلكترونية الموجودة في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي وتستخدمها كي تُولِّد صورًا رائعةَ التفاصيل لأعضائك الداخلية.
لذا، إن وجدتَ نفسك مُستلقيًا في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، وربما كنت تستمع إلى الموسيقى التي تنبعث في سماعات الرأس، فلْتتمهَّل لحظةً للتفكير في السلوك الكميِّ المناقض للبديهة الذي تَسلُكه الجسيمات دون الذرية، والذي جعل ابتكارَ هذه التقنية أمرًا ممكنًا.
علم الأحياء الكمي
ما علاقة كلِّ هذا القدْر من الغرابة في العالم الكمي برحلةِ أُنثى طائر أبي الحناء الأوروبي وهي تجوب العالم؟ حسنًا، لعلَّك تتذكَّر أنَّ بحث الزوجين فيلتشكو الذي أُجري في أوائل سبعينيَّات القرن العشرين أثبتَ أنَّ الحاسة المغناطيسية لدى طائر أبي الحناء تعمل بالطريقة ذاتِها التي تعمل بها بوصلة الميل المغناطيسي. وقد كانت هذه النتيجة مُحيرةً للغاية؛ إذ لم يكن أحدٌ يعرف على الإطلاق حينذاك أيَّ كيفية يمكن أن تعمل بها بوصلةُ ميلٍ مغناطيسي بيولوجية. لكن في الوقت نفسِه تقريبًا، ثمة عالم ألماني يُدعى كلاوس شولتن صار مُهتمًّا بكيفية انتقال الإلكترونات في التفاعلات الكيميائية التي تتضمَّن الجذورَ الحرة. إنَّ هذه الجذور هي جزيئاتٌ بها إلكترونات منفردة في غلافها الإلكتروني الخارجي، وذلك على عكس معظم الإلكترونات؛ إذ إنها تقترنُ في مدارات ذرية. تبرز أهمية تلك النقطة عند دراسة خاصية الدوران الكمِّي الغريبة؛ فلأنَّ الإلكترونات المقترنةَ عادةً ما تدور في اتجاهَين معاكسين، فإنَّ القيمة الإجمالية للدوران تُصبح صفرًا في النهاية. بالرغم من ذلك، من دون توءمٍ يُلغي الدوران، فإن قيمةَ صافي الدوران للإلكترونات المنفردة في الجذور الحرة تمنحها خاصيةً مغناطيسية؛ ومن ثَمَّ يُمكن تحقيق الاتساق بين دورانها وبين مجالٍ مغناطيسي.
لقد اقترح شولتن أن «أزواج» الجذور الحرة الناتجة عن عمليةٍ تُسمى «تفاعل الحالة الثلاثية السريع» يمكن أن تجعل الإلكترونات المقابلةَ لها في حالةِ «تشابك كَمِّي». ولأسباب معقَّدة ستتضحُ فيما بعد؛ فتلك الحالة الكمية الدقيقة لإلكترونين منفصلين، شديدةُ الحساسية لاتجاهِ أي مجال مغناطيسي خارجي. ولهذا، فقد اقترح شولتن أيضًا أنَّ البوصلة المحيرة التي تتمتع بها الطيورُ ربما تستخدم هذا النوع من آلية التشابك الكمي.
في أوائل سبعينيَّات القرن العشرين، كانت الفكرة القائلة باشتراك خاصية التشابك الكمِّي الغريبة في التفاعلات الكيميائية العادية تُعَد من الأفكار الشاذة. ففي ذلك الوقت، انضمَّ العديد من العلماء إلى أينشتاين في تشكيكه فيما إذا كانت الجسيمات المتشابكة موجودةً بالفعل أصلًا؛ إذ لم يكن أحدٌ قد اكتشفها بعد. غير أنه على مدار عقودٍ منذ ذلك الوقت، أكَّدَت العديد من التجارِب المختبرية المبتكَرة حقيقةَ وجود تلك الروابط الطيفية، وقد أُجريَت أشهرُ تلك التجارِب مبكرًا في عام ١٩٨٢ على يد فريقٍ من علماء الفيزياء الفرنسيين بقيادة آلان أسبيه بجامعة باريس الجنوبية.
سنستعرضُ القياس الكميَّ على مَدار مُناقشتنا في هذا الكتاب، ونحن نأمُل أنك ستبدأ تدريجيًّا في فَهْم خفايا تلك العمليةِ الغامضة. أما الآن، فسوف نكتفي بالتفسير الأبسط لتلك الظاهرة ونقول إنه عند قياس خاصيةٍ كمية — مثل حالة الاستقطاب — باستخدام أداة عِلمية، فإنها تُضطَرُّ على الفور إلى فقدان قُدراتها الكميَّة مثل اتخاذ اتجاهاتٍ مُتعددة في آنٍ واحد، والتحلِّي بخاصية كلاسيكية تقليدية بدلًا من ذلك، مثل اتخاذ اتجاهٍ واحد فقط. ولهذا؛ عندما قاس أسبيه حالةَ الاستقطاب لزوجَين من الفوتونات المتشابكة عن طريقِ مُلاحظة ما إذا كانت الفوتونات قادرةً على المرور من خلال عدسةٍ مستقطبة أم لا، فقدَ الفوتون الأول الاتصالَ الطيفي مع شريكه على الفور، ولم يتخذ سوى اتجاهِ استقطابٍ واحد. فعل الفوتون الشريكُ الأمرَ نفسَه أيضًا على الفور، بصرف النظر عن طولِ المسافة التي يبعدها؛ ذلك ما تنبَّأتْ به معادلاتُ ميكانيكا الكم على الأقل، وهذا بالتحديد ما أدى إلى عدم قَبول أينشتاين لها.
أجرى أسبيه وفريقه تجرِبتَهم الشهيرة على أزواجٍ من الفوتونات تفصل بينها مسافةُ عدةِ أمتار داخل المختبَر، وهي مسافةٌ كبيرة بما يكفي، حتى إنه لم يكن من الممكن لتأثيرٍ ينتقل بسرعة الضوء — تُخبرنا النسبية أنه لا يُوجَد أيُّ شيء أسرع من الضوء — أن يمرَّ من خلالها لتنسيق زوايا الاستقطاب. وعلى الرغم من ذلك، أشارت النتائجُ إلى وجود ترابط بين قياسات الجسيمات المقترنة: حين كان استقطابُ أحد الفوتونات يُشير إلى الأعلى، فإن استقطاب الآخَر كان يُشير إلى الأسفل. ومنذ عام ١٩٨٢، أُعيد إجراء التجرِبة على جسيمات تفصل بينها مئاتُ الأميال، وقد ظلَّت محتفظةً بذلك الترابُطِ المتشابك الطيفي الذي لم يقبَلْه أينشتاين.
لم تُنفَّذ تجرِبةُ أسبيه إلا بعد سنواتٍ من اقتراح شولتن أنَّ ثمة دورًا للتشابك الكمِّي في بوصلة الطيور، وكانت الظاهرة لم تزَل محلَّ جدال. إضافةً إلى ذلك، لم تكن لدى شولتن أيُّ فكرة عن «الكيفية» التي يُتيح بها هذا التفاعلُ الكيميائي الغامض لطائر أبي الحناء أن يرى المجالَ المغناطيسي للأرض. لقد استخدمتُ الفعل «يرى» في الجملة السابقة بسبب سِمَةٍ غريبة أخرى اكتشفها الزوجان فيلتشكو. فبالرغم من أن أبا الحناء الأوروبيَّ من الطيور التي تُهاجر ليلًا، فإن تنشيط بوصلته المغناطيسية يتطلَّب قدرًا ضئيلًا من الضوء (بالقرب من الطرَف الأزرق من الطيف المرئي)؛ مما يُشير إلى أن عين الطائر تؤدِّي دورًا بالغَ الأهمية في طريقةِ عمل البوصلة. لكن بخلاف الرؤية، كيف تُساعد عينُ الطائر في توفير الحاسة المغناطيسية؟ وسواءٌ أكانت هذه الحاسةُ تعتمد على آليَّة الزوج الجذريِّ أم لا؛ فقد كانت لغزًا غامضًا تمامًا.
ظلَّت النظرية القائلة بأنَّ بوصلة الطيور تنطوي على آليةٍ كَمية مهملة أكثرَ من عشرين عامًا. عاد شولتن إلى الولايات المتحدة حيث أسَّس بجامعة إلينوي في إربانا وشامبين مجموعةَ فيزياء كيميائية نظرية ناجحة للغاية. غير أنه لم ينسَ نظريته الغريبة قط، وأخذ يكتب أوراقًا بحثية تقترح الجزيئاتِ الحيوية (أي: الجزيئات التي تُشكِّلها الخلايا الحية) المحتملة التي قد تُنتج الأزواج الجذرية الضرورية لتفاعل الحالة الثلاثية السريع. غير أنَّ أيًّا منها لم يكن مُلائمًا للغرض؛ إما لأنها لم تُولِّد أزواجًا جذرية، أو لأنها لم تكن موجودةً في عيون الطيور. بالرغم من ذلك، ففي عام ١٩٩٨، قرأ شولتن عن اكتشافِ مستقبِلٍ ضوئي غامض في عيون الحيوانات يُسمى الكريبتوكروم. أدَّى هذا الاكتشاف إلى إيقاظِ حَدْسِه العلمي فورًا؛ إذ يُعرَف الكريبتوكروم بأنه من البروتينات التي يحتمل أن تولد الأزواج الجذرية.
ثمة طالبُ دكتوراه يُسمى ثورستن ريتز كان قد انضمَّ إلى مجموعة شولتن حديثًا. وحينما كان ريتز طالبًا بجامعة فرانكفورت، سمع شولتن يُلقي محاضرةً عن بوصلة الطيور، وصار شَغوفًا للغاية بالموضوع. وعندما ظهرَت الفرصة لإعداد الدكتوراه في مختبر شولتن حيث عمل في البداية على عملية البناء الضوئي، اغتنمَها على الفور. وحين انتشرَت أنباءُ اكتشاف الكريبتوكروم، تحوَّل إلى العمل على الاستقبال المغناطيسي، وفي عام ٢٠٠٠ كتب بحثًا بالتعاون مع شولتن بعنوان «نموذج للاستقبال المغناطيسي القائم على مُستقبِلٍ ضوئي لدى الطيور»، يصفُ كيف أنَّ الكريبتوكروم يمكن أن يُزوِّد عينَ الطائر ببوصلة كمِّية. (سنعود إلى تناول هذا الموضوع باستفاضةٍ في الفصل السادس.) وبعد ذلك بأربع سنوات، انضم ريتز إلى الزوجَين فيلتشكو لإجراء دراسة على طائر أبي الحناء الأوروبي قدمت أولَ دليلٍ عمَلي يدعم النظريةَ التي تقول باستخدام الطيور للتشابُك الكمي في الانتقال حول العالم. بدا أنَّ شولتن كان مُحقًّا فيما قاله منذ البداية. نُشِر بحثهم عام ٢٠٠٤ في الدوريَّة البريطانية المرموقة «نيتشر»، وقد أثار هذا البحثُ قدرًا هائلًا من الاهتمام، وسرعان ما أصبَح موضوعُ البوصلة الكمية لدى الطيور هو واجهةَ عِلم الأحياء الكمي الجديد.
إذا كانت ميكانيكا الكمِّ طبيعية، فلِمَ كلُّ هذا الاهتمام بعلم الأحياء الكمي؟
سبق أن تحدَّثنا عن النفق الكمي والتراكُب الكمي في باطن الشمس، وفي الأجهزة التكنولوجية مثل المجهر الإلكتروني، وأجهزةِ التصوير بالرنين المغناطيسي. فلماذا نندهشُ من اكتشاف الظواهر الكَمية في علم الأحياء؟ إنَّ علم الأحياء في نهاية المطاف هو ضربٌ من الكيمياء التطبيقيَّة، والكيمياء ضربٌ من الفيزياء التطبيقية. إذن، أليس كلُّ شيء — بما في ذلك البشَر والكائنات الحية الأخرى — هو جوهريًّا جزءٌ من الفيزياء؟ الحقُّ أنَّ هذه الحُجة هي التي يستخدمها العديدُ من العلماء ممَّن يَقبلون بضرورة تغلغُل ميكانيكا الكم في علم الأحياء، لكنهم يُصرُّون على أن دورها غيرُ مهم. وهم يقصدون بذلك أنه ما دامت قواعدُ ميكانيكا الكم تحكم سلوكَ الذرَّات، وما دام علم الأحياء ينطوي على تفاعُلات الذرات في نهاية المطاف، فلا بد أنَّ قواعد العالم الكمي تَسري في علم الأحياء بمستوياتٍ شديدة الضَّآلة، بل تسري بتلك المستويات «فحسب»؛ ومن ثَمَّ فلن يكون تأثيرُها في العمليات الكبرى المهمة من أجل الحياة إلا ضئيلًا للغاية، إن لم يكن منعدمًا.
لا شك أنَّ هؤلاء العلماءَ محقُّون جزئيًّا على الأقل. فالجزيئات الحيوية مثل الحمض النووي والإنزيمات تتألَّف من جسيمات أساسية مثل البروتونات والإلكترونات التي تخضع تفاعلاتها لميكانيكا الكم. غير أنَّ بِنْيتَي هذا الكتاب الذي تقرؤه والكرسي الذي تجلس عليه تخضعان هما أيضًا لقواعد ميكانيكا الكم. حتى الطريقة التي تمشي بها أو تتحدَّث بها أو تأكل بها أو حتى تنام أو تُفكر بها؛ لا بدَّ أن تعتمد جوهريًّا على قُوى ميكانيكا الكم التي تحكم البروتونات والإلكترونات وغيرَها من الجسيمات، مثلما أنَّ تشغيل سيارتك أو جهاز تحميص الخبز الخاص بك يعتمد جوهريًّا أيضًا على ميكانيكا الكم. غير أنك لا تحتاج في المجمَل إلى معرفة ذلك. إنَّ ميكانيكي السيارات ليس مُضطرًّا إلى حضور دوراتٍ تدريبية في الجامعة عن ميكانيكا الكم، ومعظم مناهج الأحياء لا تنطوي على أيِّ ذكر للنفَق أو التشابك أو التراكب الكمي. يمكن لمعظمنا تدبُّرُ أمره من دون معرفة أن العالم يعمل — على مستوًى جوهري —وَفقًا لمجموعةِ قواعدَ مختلفةٍ تمامَ الاختلاف عن القواعد التي نعرفها. فالأشياء الكمية الغريبة التي تحدث على مستوى الأجسام الصغيرة للغاية لا تؤثر عادةً في الأشياء الكبيرة التي نراها ونستخدمها كلَّ يوم، كالسيارة وجهاز تحميص الخبز.
لمَ لا؟ إنَّ كرة القدَم لا تخترق الحائط، ولا تُوجَد بين الأشخاص اتصالاتٌ طيفية (على الرغم من الادِّعاءات الزائفة بشأن التخاطُر)، وأنت لا تستطيع، مع الأسف، أن تكون موجودًا في المكتب وفي المنزل في آنٍ واحد. على الرغم من ذلك، فالجسيمات الأساسية داخلَ كرة القدَم أو الإنسان تستطيع أن تفعل كلَّ هذه الأشياء. فلماذا يُوجَد حدٌّ أو خطٌّ فاصل بين العالَم الذي نراه والعالم الذي يعرف علماء الفيزياء أنه موجودٌ بالفعل تحت السطح؟ تلك واحدةٌ من أعمق المسائل في علم الفيزياء كلِّه، وهي تتعلق بظاهرة القياس الكمي التي ذكرناها منذ قليل. حينما يتفاعلُ نظامٌ كمِّي مع جهاز قياس كلاسيكي مثل عدسات الاستقطاب المستخدمة في تجرِبة آلان أسبيه، فإنه يفقد سِماته الكميةَ الغريبة ويتصرَّف كجسمٍ عادي. غير أنَّ القياسات التي يُجْريها علماء الفيزياء لا يمكن أن تكون مسئولة عن الطريقة التي نرى بها العالم من حولنا. فما الذي يؤدي إذن إلى الوظيفة المكافئة لتدمير السلوك الكمِّي خارج مختبر الفيزياء؟
لا بد أنَّ الإجابة تتعلق بكيفية ترتيب الجسيمات وكيفية تَحرُّكها داخل الأجسام الكبيرة (التي تُرى بالعين المجردة). عادةً ما تكون الذراتُ والجزيئات موزَّعةً على نحوٍ عشوائي كما أنها تهتزُّ بوتيرة غيرِ منتظمة داخل الأجسام الصلبة الجامدة، بينما تظلُّ في المواد السائلة والغازية في حالةٍ مستمرة من الحركة العشوائية نتيجة الحرارة. وهذه العوامل الباعثة على العشوائية — الانتشار والاهتزاز والحركة — تؤدي إلى تبدُّد الخصائص الكمية الموجية في الجسيمات بسرعةٍ كبيرة. ومن ثمَّ، فإنَّ التأثير المشترك لجميع المُكوِّنات الكمية لجسم يؤدي وظيفةَ «القياس الكمي» لعناصره جميعًا ولكلٍّ منها على حِدَة، هو ما يجعلنا نرى العالمَ من حولنا طبيعيًّا. أما إذا كنت ترغب في رصد الغرابة الكمية، فينبغي عليك الانتقالُ إلى أماكنَ غيرِ عادية (مثل باطن الشمس)، أو إمعانُ النظر في العالم المصغَّر (باستخدام أدوات مثل المجهر الإلكتروني)، أو يمكنك ترتيبُ الجسيمات الكمية بعنايةٍ بحيث تسير بإيقاعٍ محدَّد (كما يحدث في دوَران نواة الهيدروجين داخل جسم الإنسان منذ أن يدخل إلى جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي وحتى تتوقَّف المغانط عن العمل، وحينها يتحول اتجاهُ دوران النواة إلى الحالة العشوائية مرةً أخرى، ومِن ثمَّ يُلغي الترابُطَ الكميَّ مرةً أخرى). إنَّ هذا النوع نفسَه من عشوائية الجزيئات هو المسئول عن حقيقةِ أننا لا نحتاج إلى الإلمام بميكانيكا الكم في معظم الأحيان؛ فجميع السمات الكمية الغريبة تختفي في الجزيئات الموجَّهة عشوائيًّا، التي لا تتوقَّف عن الحركة التي تتكوَّنُ منها الجمادات التي نراها من حولنا.
غير أنَّ ذلك ينطبق في معظم الأحيان وليس فيها كلِّها. وَفقًا لما اكتشفه شولتن، فإنه لا يمكن تبريرُ سرعة تفاعل الحالة الثلاثية السريع الكيميائي إلا في حالةِ تضمين تلك الخاصية الدقيقة المتمثلة في التشابك الكمي. لكن هذه السرعة جوهريةٌ في تفاعل الحالة الثلاثية السريع. ثم إنه لا يتضمَّن أكثرَ من جُزيئَين. ولكي يكون هذا التفاعل مسئولًا عن الملاحة لدى الطائر، فلا بد أن يكون له تأثيرٌ باقٍ في جميع حواسِّ طائر أبي الحناء. وبهذا، فإن الزعم بأن البوصلة المغناطيسية لدى الطائر تخضع للتشابك الكمي هو افتراض على مستوًى مختلف تمامًا عن القول بأن التشابك يشترك في تفاعل كيميائي غريب لا يتضمَّن سوى جُسَيمين، وقد قوبل بقدرٍ كبير من التشكك. كان الاعتقاد السائد أنَّ الخلايا الحية تتكوَّن في معظمها من الماء مع جزيئاتٍ حيوية تُوجَد في حالةٍ مستمرَّة من الاستثارة الجزيئية، وسيكون من المتوقَّع أن تقيسَ تلك التأثيرات الكمية الغريبة على الفور وتُبدِّدها. لسنا نعني بكلمة «تقيس» هنا بالطبع أنَّ جزيئات الماء أو الجزيئات الحيوية تجري قياسًا على النَّحو الذي نقيس به نحن وزنَ جسمٍ ما أو درجةَ حرارته، ثم نُسجل قيمةَ القياس بصفةٍ دائمة على ورقةٍ أو على القرص الصُّلب في الكمبيوتر، أو حتى في دماغنا. فما نَعنيه في هذا السياق هو ما يحدث عندما يصطدم أحدُ جُزيئات الماء في زوجَين من الجسيمات المتشابكة، وهو أنَّ حركته اللاحقة ستتأثر بحالة ذلك الجسيم، ومن ثَمَّ إذا درستَ الحركة اللاحقة لِجُزيء الماء، فيُمكنك استنتاج بعض خصائص الجسيم الذي ارتطم به. ووفقًا لهذا السياق، يكون جزيءُ الماء قد أجرى «قياسًا» لأن حركته تُمِدُّنا بتسجيلٍ لحالة الزوجين المتشابكَين، سواءٌ أكان هناك مَن يدرسها أم لا. وعادةً ما يكون هذا النوع من القياس «العرَضي» كفيلًا بتدمير حالات التشابك. وبناءً على هذا رأى الكثيرون أنَّ القول بأن حالات التشابك الكمِّي ذاتَ الترتيب الدقيق يمكن أن تنجح في البقاء بداخل الخلايا الحيَّة التي تتَّسم بالدِّفء والتعقيد؛ فكرةٌ غريبة، بل تكاد أن تُعَدَّ ضربًا من الجنون.
بالرغم من ذلك، فقد حقَّقَت المعارفُ التي توصَّلْنا إليها عن تلك الأشياء تقدُّمًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، وليس ذلك مُقتصِرًا على الطيور فحسب. فقد اكتُشِفَت ظواهرُ كَميةٌ مثل التراكب والنفَق في العديد من الظواهر البيولوجية، بدايةً من الطريقة التي تحصد بها النباتات أشعَّة الشمس وحتى طريقة تكوين الجزيئات الحيوية في خلايانا. حتى حاسة الشم أو الجينات التي نرثُها عن آبائنا من المحتمَل أنها تعتمد على العالم الكمِّي الغريب. لقد أضْحَت الأبحاث المتعلقة بعلم الأحياء الكمِّي تظهر بانتظامٍ في أرقى المجلات العِلمية على مستوى العالم، وثمة عددٌ ضئيل — لكنه متزايد — من العلماء الذين يؤكِّدون على أن جوانب ميكانيكا الكم تؤدِّي في ظاهرة الحياة دورًا ليس بالضئيل، بل هو دورٌ جوهري في واقع الأمر، وأنَّ الحياة في وضعٍ فريد إذ تدعم تلك الخصائص الكمية الغريبة على الحافة بين العالم الكمي والعالم الكلاسيكي.
إنَّ حقيقةَ قلَّة هؤلاء العلماء في العدد قد بدَت لنا جَليًّا حينما استضفنا بجامعة سَري في سبتمبر عام ٢٠١٢ ورشة دولية عن علم الأحياء الكمي حضَرها معظمُ العامِلين في المجال، وقد وسِعَتهم قاعةُ محاضراتٍ صغيرة. غير أنَّ هذا المجال يتنامى بسرعةٍ نظرًا إلى الإثارة التي تصحب اكتشافَ أدوار ميكانيكا الكَمِّ في الظواهر البيولوجية اليومية. ومن ضِمن المجالات البحثيَّة الأكثر إثارةً الكشفُ الحديث عن اللُّغز المتعلِّق بالكيفية التي تتمكَّن بها الغرابةُ الكمية من البقاء داخلَ أجسام حية حارَّة ورطبة وفوضوية، وهو من المجالات التي قد يكون لها آثارٌ هائلة في تطويرِ أساليبَ تكنولوجيةٍ كَميةٍ جديدة.
بالرغم من هذا، فلكي نُدرك أهمية النتائج تمامًا؛ ينبغي أولًا أن نطرح سؤالًا بسيطًا على نحوٍ خادع، ألا وهو: ما الحياة؟
هوامش
-
(١)
عادةً ما يُطلق مصطلح الفيزياء الكلاسيكية على النظريات الفيزيائية الحتميَّة التي سبَقَت ميكانيكا الكم، بما في ذلك نظريَّتا النِّسبية الخاصةُ والعامَّة؛ تمييزًا لها عن ميكانيكا الكمِّ غيرِ الكلاسيكية.
-
(٢)
على الرغم من ذلك، فمِن الخطأ الاعتقادُ بأن النفق الكميَّ يعني التسرُّبَ من خلال حواجزِ الموجات الفيزيائية، بل إنَّ موجاتٍ رياضيةً مجردة هي ما يُعطينا احتماليةَ إيجاد الجسيم الكَميِّ على الجانب الآخر من الحاجز في الحال. إننا نُحاول في هذا الكتاب، كلما أمكَن، تقديمَ أمثلةٍ بديهية لتفسير الظواهر الكمية، لكن ميكانيكا الكم مُناقضةٌ للبديهة تمامًا في واقع الأمر؛ ولهذا سينطوي التبسيطُ المُفرِط لأغراض التوضيح على مُخاطَرة.
-
(٣)
تُوجَد تَبايُنات مختلفةٌ من العناصر الكيميائية تُسمى بالنظائر. تُعرَّف العناصر بِناءً على عدد البروتونات الموجودة في أنوية ذرَّاتها؛ فنَواة الهيدروجين تحتوي على بروتونٍ واحد، وتحتوي نَواة الهيليوم على بروتونين، وهكذا. بالرغم من ذلك، قد يختلف عددُ النيوترونات الموجود في النواة. ومن ثمَّ؛ تُوجَد ثلاثُ تنويعات (نظائر) من الهيدروجين: تحتوي ذرَّة الهيدروجين العادي على بروتون واحد، بينما تحتوي نَواتا النظيرَين الأثقل — الديوتيريوم والتريتيوم — على نيوترون واحدٍ ونيوترونين على التوالي.
-
(٤)
من المنظور التِّقني، يُعزى استقرارُ الديوتيرون إلى سِمةٍ من سمات القوة النووية تُحافظ على تماسُك البروتون والنيوترون معًا وتُسمى «التفاعل التنسوري»، الذي يُجبر الجُسيمَين على أن يكونا في تراكبٍ كميٍّ لحالتَين من حالات الزخم الزاوي: الموجة S والموجة D.
-
(٥)
يجدر بنا التنبيهُ إلى أنَّ علماء فيزياءِ الكم لا يستخدمون مثلَ هذه اللغة المبسَّطة. فالوصف الأصحُّ لجُسيمين بعيدَين لكنهما متشابكان كَميًّا أن يُقال عنهما إنهما مرتبطان ترابطًا غيرَ موضعي؛ لأنهما جُزآن من الحالة الكمية نفسِها. غير أنَّ الوصف بهذه الطريقة لا يُساعد على الفَهم كثيرًا، أليس كذلك؟!
-
(٦)
بالرغم من ذلك، بما أن الضوء يُعَد موجةً وجُسيمًا أيضًا، فعلى خلاف الدوران الكَمي، من الأسهل أن نفهمَ فكرة الاستقطاب بأنها الاتجاه الذي تتذبذبُ فيه موجة الضوء.
-
(٧)
أُكرِّر أننا تعمَّدنا الإفراطَ في التبسيط في هذا الموضع تحرِّيًا للوضوح. فقياسُ خاصية معيَّنة لجسيمٍ كمي، ولْيكُن موضعه مثلًا، يعني أننا لم نَعُد غيرَ مُتيقِّنين بشأن مكان وجوده — فكأنه صار في بؤرة التركيز وصار واضحَ المعالم. لكن هذا لا يعني أنه بات يتصرَّف مثل الجسيمات العادية. فوَفقًا لمبدأ اللايقين الذي وضعه هايزنبرج، لم تَعُد سرعةُ الجسيم ثابتة. وبالفعل، فإن الجسيم الذي يكون في موضعٍ محدد، سيُوجَد في تلك اللحظة بعينها، في حالةِ تراكُبٍ حرَكي بكل السرعات الممكنة وكلِّ الاتجاهات الممكنة. أما الدوَران الكمِّي، فلأن هذه الخاصية لا تُوجَد إلا في عالم الكم، فلن يؤدِّي قياسها إلى تصرُّف الجسيم بطريقةٍ كلاسيكية.