علم الأحياء الكمي: الحياة على حافةِ عاصفة
إن صفة «غريب» هي الأكثرُ استخدامًا في وصف مجال ميكانيكا الكم. وإنه مجالٌ غريب بالفعل. وأيُّ نظرية تقول إن الأجسام يمكن أن تعبر من خلالِ حواجزَ لا يمكن اجتيازُها، أو تُوجَد في مكانَين في آنٍ واحد، أو تمتلك «اتصالات طيفية»؛ لا يمكن أن يُقال إنها نظريةٌ عادية. ولكن، في الحقيقة، إطار تلك النظريات الرياضي منطقيٌّ ومترابط تمامًا، كما أنه يصف بدقةٍ الشكلَ الذي عليه العالَم على مستوى القوى والجسيمات الأساسية. ومن ثم تُعد ميكانيكا الكم حجرَ الأساس للواقع الفيزيائي. إن مستويات الطاقة المنفصلة وازدواجية الموجة والجسيم والترابط والتشابك والنفق الكمي؛ ليست مجردَ أفكارٍ مثيرة للاهتمام ذاتِ صلة فقط بالعلماء الذين يعملون في مختبرات فيزياء منعزلة. إنها حقيقيةٌ وطبيعية مثل فطيرة التفاح التي تُحضرها جدتنا، وهي في الحقيقة تتمُّ داخل تلك الفطيرة. إن ميكانيكا الكم مجالٌ عادي. لكن العالم هو الذي يصفه بأنه مجال غريب.
تناولنا جزءًا من الإجابة بالفعل. أشار إرفين شرودنجر منذ أكثرَ من ستين سنةً إلى أن الحياة مختلفةٌ عن العالم غير العضوي لأنها منظمة ومرتبة حتى على المستوى الجزيئي. هذا النظام يمنح الحياةَ ميزةً قوية تجعلها تربط العالمَ الجزيئي بالعالم المشهود، بحيث يمكن أن تكون للأحداث الكمية التي تحدث داخل الجزيئات الحيوية الفردية تَبِعاتٌ على الكائن بأكمله؛ وهو نوع التضخيم من العالم الكميِّ إلى العالم المشهود الذي أكده عالمٌ رائد آخَر في ميكانيكا الكم؛ هو باسكوال يوردان.
بالطبع، عندما كان شرودنجر ويوردان يكتبان عن علم الأحياء، لم يكن أحد يعلم شيئًا عن تكوين الجينات ولا عن طريقة عمل الإنزيمات أو عملية البناء الضوئي. ولكن بعد نصف قرن من الأبحاث المكثفة في مجال علم الأحياء الجزيئي، توفرت لنا خريطة ذات تفاصيل مبهرة عن بنية الجزيئات الحيوية على مستوى الذرات الفردية في الحمض النووي أو البروتينات. وحسبما اكتشفنا، ثبتت صحة رؤى رائدي ميكانيكا الكم المتبصرة، وإن كان بعد فترة طويلة نوعًا ما. لقد جرى تحديد بنية الأنظمة الضوئية والإنزيمات والسلاسل التنفسية والجينات وصولًا إلى موضع الجسيمات الفردية، كما أن حركاتها الكمية تُحدث فرقًا بالفعل في عملية التنفس التي تُبقينا على قيد الحياة، وفي الإنزيمات التي تبني أجسامنا، وفي عملية البناء الضوئي التي تنتج عنها كل الكتلة الحيوية على الأرض تقريبًا.
كيف تتكيَّف الحياة مع الاهتزازات الجزيئية؟
يحتاج القليل من كتب تبسيط العلوم إلى المراجَعة في أثناء كتابتها، ولكننا في هذا الفصل الأخير سنسرد النتائجَ التي تظهر في وقتِ كتابته. في الحقيقة، يتقدَّم علم الأحياء الكمي بخطًى واسعة، وعلى العديد من الجبهات المختلفة، وحتمًا سيكون هذا الكتاب قد أصبح قديمًا بعضَ الشيء حينما يحلُّ وقت نشره. المفاجَآت الأكبر المُزمَع ظهورها من الدراسات الحديثة هي عبارة عن رؤًى جديدة بشأن تكيُّف الحياة مع الاهتزازاتِ أو الضوضاء الجزيئية.
تظهر بعضٌ من النتائج الجديدة الأكثر إثارة في هذا المجال من الدراسات الخاصة بعملية البناء الضوئي. ستتذكر من الفصل الرابع أن الميكروبات وأوراقَ النباتات مليئةٌ بالبلاستيدات الخضراء التي تعجُّ بغاباتٍ من جزيئات صبغة الكلوروفيل، وأن الخطوة الأولى في عملية البناء الضوئي تتضمَّن أن يُلتقط فوتونُ ضوءٍ من قِبل جزيء صبغة ويُحوَّل إلى إكسيتون متذبذب يتنقل عبر غابة الكلوروفيل حتى يصلَ إلى مركز التفاعل. ستتذكَّر أيضًا أن بصمة الترابط — النبض الكمي — اكتُشفت في عملية نقل الطاقة هذه؛ وهذا دليلٌ على أن فاعليتها التي تكاد تصلُ إلى حدِّ الكمال تعود إلى السَّير الكمي للإكسيتونات إلى مركز التفاعل. ولكن الكيفية التي تحافظ بها الإكسيتونات على سلوكها المترابط الذي يُشبه الموجة وهي تسير في البيئة ذاتِ الضوضاء الجزيئية للخلية الحية؛ كانت لغزًا حتى وقتٍ قريب. لقد اكتشفنا الآن أن الإجابة يبدو أنها تكمن في أن الأنظمة الحيَّة لا تُحاول تجنُّبَ الاهتزازات الجزيئية، بل إنها ترقص على إيقاعها.
في الفصل الرابع، رأينا الترابط الكمِّي في عملية البناء الضوئي على هيئة أوركسترا جزيئية في حالة «تناغم» و«تزامن» بحيث تعزف كلُّ جزيئات الصبغة المترابطة على الإيقاع ذاته. لكن المشكلة التي ينبغي أن يتغلب عليها النظامُ هي أن الجزء الداخلي في الخلية مليءٌ بالضوضاء. لا تعزف تلك الأوركسترا الجزيئية في قاعةٍ موسيقية هادئة، بل في شيء يُشبه مركزَ مدينةٍ مزدحمًا، وسط نشازٍ من الضوضاء الجزيئية التي تزعج كلَّ واحد من الموسيقيين، لدرجة أنه يمكن أن تنشز تذبذبات الإكسيتونات، مما يؤدي إلى فقدان ترابطها الكمي الدقيق.
هذا التحدي مألوفٌ لدى علماء الفيزياء والمهندسين الذين يحاولون بناء أجهزةٍ مثل أجهزة الكمبيوتر الكمية. إنهم يميلون لاستخدام استراتيجيتين رئيسيتين لتجنبِ الضوضاء. تتمثل الأولى في تبريد أنظمتهم إلى درجاتٍ تكاد تصل إلى الصفر المطلَق، متى أمكَنَهم ذلك. وفي درجات الحرارة المنخفضة جدًّا هذه، تخمد الاهتزازات الجزيئية؛ مما يؤدي بدروه إلى وقف الضوضاء الجزيئية. وتتمثَّل الثانية في حماية معداتهم داخل المكافئ الجزيئي للاستوديو الصوتي، مما يمنع أي ضوضاء بيئية. لا توجَد استوديوهات صوتية داخل الخلايا الحية، والنباتات والميكروبات تعيش في بيئاتٍ حارة، فكيف تحافظ الأنظمة الضوئية على ترابطها الكميِّ المتناغِم مدةً طويلة؟
سُمي تأثير زينو الكمِّي نسبةً إلى الفيلسوف الإغريقي زينو من مدينة إيليا، الذي طرح مسائلَ فلسفيةً في شكل مجموعةٍ من المفارقات، التي تُسمى إحداها مفارقةَ السهم. نظر زينو إلى السهم المنطلق، وحاجَج بأنه لا بد أن يَشغل موضعًا معيَّنًا في الفراغ في كل لحظةٍ من الزمن. وإذا أمكن لمحُ السهم في هذه اللحظة، فلن يُمكن تمييزُه عن سهمٍ آخَر ساكنٍ ومعلق في الموضع ذاتِه. المفارقة هي أن انطلاق السهم يتكون من سلسلةٍ من هذه الأجزاء الزمنية الجامدة، مع وجود سهمٍ ثابت عند كل نقطةٍ بطول مساره. لكن عندما تجمع كل الأجزاء بعضها مع بعض، يتحرك السهم. إذن، كيف يمكن لسلسلةٍ من هذه الحركات الصفرية أن تتجمع لتُولد حركة حقيقية؟ بِتْنا نعلم أن الإجابة هي أن أيَّ مدة محدودة من الوقت لا تتكون من سلسلةِ وحدات غير قابلة للتقسيم من اللازمن. ولكن لزم أن ينتظر هذا الحلُّ حتى ابتكار التفاضل والتكامل في القرن السابع عشر؛ أي: بعد ما يَزيد على ألفَي عام بعدما طرح زينو لغزه. وعلى الرغم من ذلك، بقيَت مفارقة زينو — أو على الأقل اسمُها — في واحدةٍ من أغرب سمات ميكانيكا الكم. إذ يمكن حقًّا للأسهم الكمومية أن تتجمد زمنيًّا بفعل الرصد.
لمعرفةِ إلى أيِّ مدًى ترتبط مفارقة زينو بالحياة؛ فسنعود إلى خطوةِ نقل الطاقة في عملية البناء الضوئي. لنفترض أن ورقة التقطتْ لتوها فوتونًا شمسيًّا وحوَّلَت طاقته إلى إكسيتون. من المنظور الكلاسيكي، الإكسيتون جسيمٌ له حيِّز في المكان والزمان. ولكن حسبما كشفت تجربة الشق المزدوج، تمتلك الجسيمات الكمية أيضًا خاصية الانتشار الموجي مما يُمكِّنها من الوجود في أماكنَ عدةٍ في آنٍ واحد في صورةِ تراكبٍ كمي. إن الصفات الموجية للإكسيتون ضروريةٌ للنقل الكمِّي الفعال، حيث إنها تُمكنه، مثل موجة المياه، من استكشاف مساراتٍ عدة في آنٍ واحد. ولكن إذا تحطمَت صفاته الموجية الكمية على صخور فكِّ الترابط الذي تُسببه الضوضاء الجزيئية داخل الورقة، فستُفقد صفاته الموجية وسيتحول إلى جسيم متموضع يوجَد في مكانٍ واحد. بالأساس، تعتبر الضوضاء بمنزلة نوعٍ من القياس المستمر، وسيحدث فكُّ الترابط بسرعة جدًّا إذا كانت الضوضاء شديدة؛ أي: قبل أن يتمكن الترابط الكمي من مساعدةِ موجة الإكسيتون في الوصول إلى وجهتها. هذا هو تأثير زينو الكمي الذي يهدم باستمرارٍ الموجةَ الكمية ويُحولها إلى العالَم الكلاسيكي.
لتقدير إسهام كِلا النوعَين من الضوضاء الجزيئية في نقل الإكسيتون تقديرًا وافيًا؛ لنعُد إلى التشبيه الموسيقيِّ مرةً أخرى ونتخيَّل النظام الضوئي وكأنه أوركسترا، كل آلة موسيقية فيها تؤدِّي دورَ جزيئات الصبغة في حين أن الإكسيتون هو اللحن الموسيقي. لنتخيَّل أن الموسيقى تبدأ بعزفٍ منفردٍ لكمان، يمثل جزيء الصبغة الذي يلتقط الفوتون ويحول طاقته إلى إكسيتون يهتز. بعد ذلك، تلتقط الآلات الوترية الأخرى، وبعدها آلات النفخ، موسيقى الإكسيتون التي تصل في النهاية إلى الآلات الإيقاعية التي يؤدي إيقاعُها دورَ مركزِ التفاعل. سنتخيَّل أيضًا أن هذه الموسيقى تُعزف في مسرحٍ مليء بجمهور سيُصدر ضوضاء بيضاء ناتجةً من فتح عبوات المأكولات وتحريك الكراسي والسعال والعطس. وسيكون قائدُ الأوركسترا هو الضوضاءَ الملوَّنة.
لنتخيل أولًا أننا وصلنا في ليلة صاخبة جدًّا يُحدث فيها الجمهورُ ضجة كبيرة لدرجة أن الموسيقيين لا يستطيعون سماع أنفسهم ولا زملائهم. في وسط هذا الصخب، يبدأ الكمان الأول عزف المقطوعة ولكن لا يسمعها الموسيقيون الآخرون ومن ثم، لا يتمكَّنون من التقاط اللحن. هذا سيناريو زينو الكمي، الذي فيه يمنع القَدر الكبير من الضوضاء النقلَ الكمي. وعلى الرغم من ذلك، وفي مستويات منخفضة جدًّا من الضوضاء، ولنقُل مسرحًا فارغًا لا يوجَد فيه أيُّ جمهور، لا يستمع الموسيقيون إلا إلى بعضهم البعض، ومن ثم يلتقطون جميعًا الجزءَ الأول من اللحن، مثل لحنٍ لا تستطيع أن تُخرجه من رأسك، ولا يتوقفون عن عزفه. هذا هو السيناريو المعاكس الخاص بقدر الترابط الكمِّي الكبير للغاية، حيث يظل الإكسيتون يتذبذبُ عبر النظام بأكمله، ولكنه لا ينتهي في أي مكانٍ محدد.
في النطاق الأوسط، ومع المقدار المناسب تمامًا من الضوضاء الصادرة عن جمهورٍ يتحكم في نفسه، يكون الإزعاج كافيًا لإخراج الموسيقيين من تَكرارهم الرتيب لعزف النوتة الكاملة بكل الديناميكيات الخاصة بها. لا تزال بعضُ الآلات تُطرق بنبضٍ مختلف عندما يفتح مشاهدٌ صاخبٌ كيسَ مأكولات من حينٍ لآخر، ولكن بإشارةٍ من عَصاه، يتمكَّن قائد الأوركسترا من إعادة الفرقة إلى التناغم؛ لإنتاج موسيقى البناء الضوئي.
تأمُّلات حول القوة الدافعة للحياة
في الفصل الثاني، ألقينا نظرةً على ما يحدث داخل المُحرك البخاري، واكتشفنا أن قوته الدافعة تنطوي على التقاطِ الحركة العشوائية لبحر الجزيئات التي تُشبه كرات البلياردو، وتوجيه الاضطراب الجزيئي نحو دفع المكبس داخل الأسطوانة. حينذاك، تساءلنا هل يمكن تفسيرُ لغز الحياة بالكامل بالمبدأ الديناميكي الحراري ذاتِه المُتمثِّل في «تولُّد النظام من اللانظام» الذي يدفع المحركاتِ البخارية. هل الحياة مجردُ محركٍ بخاري معقَّد؟
العديد من العلماء مقتنعون بذلك، ولكن بطريقةٍ معقَّدة تحتاج إلى قليلٍ من التوضيح. تدرس نظرية التعقيد ميلَ أشكالٍ مُعينة من الحركة العشوائية الفوضوية لتوليد النظام عبر ظاهرة «التنظيم الذاتي». على سبيل المثال، وكما ناقشنا بالفعل، حركة الجزيئات داخل السوائل فوضوية بالكامل، ولكن عند تصريف المياه من حوض الاستحمام، فإن المياه تتدفَّق تلقائيًّا حول فتحة التصريف بطريقةٍ منظمة باتجاه عقارب الساعة أو عكس اتجاهها. يمكن رؤية هذا النظام العياني في أنماطِ تدفُّق الحمل في قِدر ماء يتعرَّض للتسخين، وفي الزوابع والأعاصير والبقعة الحمراء على كوكب المشتري، والعديد من الظواهر الطبيعية الأخرى. التنظيم الذاتي ضالعٌ أيضًا في العديد من الظواهر البيولوجية، مثل سلوك السرب لدى الطيور أو الأسماك أو الحشرات، أو في نمط خطوط الحمار الوحشي، أو في البِنية الكسيرية المعقَّدة في بعض أوراق الشجر.
تَولُّد النظام من الفوضى مشابهٌ من حيث المفهومُ لمبدأ إرفين شرودنجر «تولُّد النظام من اللانظام» الذي يقف وراء القوة الدافعة للمحركات البخارية، كما ذكرنا من قبل. ولكن، كما اكتشفنا، الحياة مختلفة. فعلى الرغم من وجود كمٍّ كبير من الحركة المضطربة للجزيئات داخل الخلايا الحية، فإن الحياة تقوم بالأساس على حركةٍ محكَمة التنسيق للجسيمات الأساسية داخل الإنزيمات وأنظمة البناء الضوئي والحمض النووي وغيرها. وتنطوي الحياةُ على نظامٍ مُدمج على المستوى المجهري؛ ومن ثم مبدأ «تَولُّد النظام من الفوضى» لا يمكن أن يكون التفسيرَ الوحيد للسمات الأساسية التي تُميز الحياة. إذن، الحياة لا تُشبه على الإطلاق القطارَ البخاري.
ومع ذلك، تشير أبحاثٌ حديثة إلى أن الحياة قد تعمل على غرارِ نسخةٍ كمية من المحرك البخاري.
المبدأ الذي تتبعُه المحركات البخارية في عملها توصَّل إليه الفرنسيُّ سعدي كارنو للمرة الأولى في القرن التاسع عشر. كان ابن لازار كارنو وزيرَ الحرب في عهد نابليون، وتولى وظيفةً في سلاح المهندسين في جيش لويس السادس عشر. بعد خلع الملك، لم يهرب لازار كارنو مثل العديد من زملائه الأرستقراطيين، بل انضمَّ إلى الثورة، وبصفته وزيرًا للحرب، كان مسئولًا إلى حدٍّ كبير عن تكوين جيش ثوري فرنسي لصدِّ الغزو البروسي. لكن مثلما كان لازار واضعَ استراتيجيات عسكرية بارزًا، كان أيضًا عالِمَ رياضيات ومُحبًّا للموسيقى والشعر (وقد سمَّى ولده تيمنًا بالشاعر الفارسي الذي ينتمي إلى العصور الوسطى سعدي الشيرازي) ومهندسًا؛ فقد ألف كتابًا عن كيف تُحول الآلاتُ شكلًا من أشكال الطاقة إلى شكلٍ آخر.
أظهر سعدي بعض الحماسة الثورية والقومية التي ورثها عن والده، وشارك في الدفاع عن باريس لمَّا كان طالبًا في عام ١٨١٤ عندما حاصر البروسيون المدينة مرةً أخرى. كما أثبتَ بعضًا من أفكار والده الهندسية، وألَّف كتابًا بارزًا بعنوان «تأمُّلات حول القوة الدافعة للنار» (١٨٢٣) غالبًا ما يُعتبر بدايةَ علم الديناميكا الحرارية.
كان تصميم المحرِّكات البخارية مصدرَ إلهام لسعدي كارنو. كان يعتقد أن هزيمة فرنسا في الحروب النابليونية سببها عدم تسخير القوة البخارية لبناء صناعاتٍ ثقيلة بالطريقة التي اتبعَتها إنجلترا. ولكن على الرغم من اختراع المحرك البخاريِّ وتسويقه تِجاريًّا بنجاحٍ في إنجلترا؛ فإن تصميمه كان يعتمد في الغالب على التجرِبة والخطأ وحَدْس المهندسين، مثل المخترع الاسكتلندي جيمس وات. إذ افتقر إلى أيِّ أساس نظري. حاول كارنو أن يُصحح هذا الوضع بالوصف الرياضي لكيف يمكن أن تُستخدَم المحركات الحرارية — مثل تلك التي تدفع القطارات البخارية — لإنجاز العمل عبر عمليةٍ دورية تُعرف حتى الآن باسم «دورة كارنو».
تصفُ دورة كارنو كيف تنقل المحركات الحرارية الطاقةَ من مكانٍ حارٍّ إلى مكانٍ بارد، وتُسخِّر قدرًا من هذه الطاقة للقيام بعملٍ مفيد قبل أن تعود إلى حالتها الأولية. على سبيل المثال، ينقل المحرك البخاري الحرارةَ من المرجل الساخن إلى المكثف حيث تتعرَّض للتبريد، وفي تلك العملية يستخدِم قدرًا من الطاقة الحرارية في صورة بخار لتحريك المكبس؛ ومن ثم تحريك عجلات القطار. بعد ذلك، يعود الماء المبرَّد إلى المرجل لتسخينه مرةً أخرى؛ للدخول في دورة جديدة من دورات كارنو.
ينطبق مبدأ عمل دورة كارنو على كل أنواع المحركات التي تستخدم الحرارةَ للقيام بأي عمل؛ بدايةً من المحركات البخارية التي أطلقَت الثورة الصناعية، وحتى محركات البنزين التي تحرك السيارة، أو المِضخة الكهربية التي تُبرد الثلاجة. أوضح كارنو أن كفاءة أيٍّ من هذه المحركات — في الواقع، أي «محرك حراريٍّ يمكن تخيُّله»، بحسب قوله — تعتمد على عددٍ من المبادئ الأساسية. إضافة إلى ذلك، أثبتَ أن كفاءة أي محركٍ حراري كلاسيكي لا يمكن أن تتخطى حدًّا أقصى نظريًّا، والمعروف الآن باسم «حد كارنو». على سبيل المثال، المحرك الكهربي الذي يستخدم ١٠٠ واط من الطاقة الكهربية لتوفير ٢٥ واط من الطاقة الميكانيكية كفاءتُه تساوي ٢٥ بالمائة؛ وبذلك يفقد ٧٥ بالمائة من الطاقة التي يحصل عليها في صورة حرارة. إن المحركات الحرارية الكلاسيكية ليست ذاتَ كفاءة عالية.
مبادئ المحركات الحرارية الخاصة بكارنو وحدودها لها تطبيقاتٌ كثيرة للغاية، حتى إنها يمكن أن تنطبقَ على الخلايا الضوئية، مثل تلك التي تُوجَد على أسطُح بعض المباني والتي تلتقط الطاقةَ الضوئية وتُحولها إلى كهرباء. ينطبق الأمر ذاتُه على الخلايا الضوئية البيولوجية في البلاستيدات الخضراء لأوراق النبات التي تناولناها في هذا الكتاب. إن «المحرك الحراري الكمِّي» هذا يقوم بوظيفةٍ مُماثلة لتلك التي يقوم بها المحرك الحراري الكلاسيكي، ولكن الإلكترونات تحلُّ محلَّ البخار، وفوتونات الضوء تحل محلَّ مصدر الحرارة. تمتصُّ في البداية الإلكترونات الفوتونات وتُثار إلى مستوى طاقةٍ أعلى. بعد ذلك، يمكنها التخلِّي عن هذه الطاقة — إذا لزم الأمر — للقيام بعملٍ كيميائي مفيد. تعود هذه الفكرة إلى عمل ألبرت أينشتاين، وقد أصبحَت أساسَ مبادئ عمل الليزر فيما بعد. تكمن المشكلةُ في أن العديد من هذه الإلكترونات سيفقد طاقتَه في صورةِ حرارةٍ مُهدَرة قبل أن تسنح له الفرصة ويستخدمها. وهذا يحدُّ من كفاءة مثل هذا المحرك الحراري الكمي.
ستتذكر أن مركز التفاعل هو الوجهة النهائية لكل هذه الإكسيتونات المتذبذبة في مركَّبات البناء الضوئي. وحتى الآن، نحن ركَّزنا على عملية نقل الطاقة، ولكن العمل الحقيقي لعملية البناء الضوئي يحدث في مركز التفاعل ذاتِه. هنا، تتحول الطاقة الضعيفة للإكسيتونات إلى الطاقة الكيميائية المستقرة للجزيء الحامل للإلكترونات، الذي تستخدمه النباتاتُ أو الميكروبات للقيام بالعديد من الأعمال المفيدة؛ مثل بناء المزيدِ من النباتات أو الميكروبات.
لكن هل هذا الضبط الدقيق ممكنٌ على المستوى الكمي؟ على المستوى دون الذري، ستحتاج إلى تدبرِ أمر مواضع الإلكترونات الفردية وطاقاتها لعدم توصيلِ أكثرَ من القَدر المطلوب من التداخُل؛ بهدف زيادةِ تدفُّق الطاقة بطول المسارات الفعالة، ومنعِ التدفق في المسارات المهدرة للطاقة. ستحتاج أيضًا إلى ضبط الضوضاء البيضاء الجزيئية المحيطة بحيث تُعيد الإلكترونات الناشزة إلى النبض ذاته، ولكن من دون قوة مفرطة، وإلا فستُدفع إلى نبضات مختلفة، ويُفقَد الترابط. هل يوجَد أيُّ مكان في الكون يحتمل أن نجد فيه هذه الدرجةَ المضبوطة بدقةٍ من النظام الجزيئي القادرة على استغلال التأثيرات الكمية الدقيقة في العالم دون الذري؟
على الرغم من تطابق جزيئَي الكلوروفيل في الزوج الخاص، فإنهما مدمجان في بيئتَين مختلفتَين داخل سقالة البروتين؛ مما يجعلهما يهتزان بتردداتٍ مختلفة قليلًا، إنهما ناشزان عن الإيقاع قليلًا. وفي ورقة بحثية لاحقة، أشار سكالي وزملاؤه إلى أن هذا التركيب يُزوِّد مراكز التفاعل الخاصة بالبناء الضوئي بالبِنية الجزيئية الدقيقة اللازمة لها كي تكون بمنزلة محركاتٍ حرارية كمية. بيَّن الباحثون أن زوج الكلوروفيل الخاص يبدو مضبوطًا بحيث يستغلُّ التداخل الكمي كي يوقف المسارات غيرَ الفعالة المهدرة للطاقة؛ ومن ثم يوصل الطاقة إلى الجزيء المستقبل بكفاءةٍ تتجاوز الحدَّ الذي اكتشفه كارنو منذ ٢٠٠ عام تقريبًا بهامشٍ يتراوح ما بين ١٨ و٢٧ بالمائة. قد لا يبدو هذا قدرًا هائلًا حتى نُفكر في التقدير الحاليِّ بأن استهلاك الطاقة العالميَّ سيَزيد بنحوِ ٥٦ بالمائة بين عام ٢٠١٠ وعام ٢٠٤٠؛ ومن ثم فإن تطوير تقنية قادرة على تعزيز الطاقة بهامشٍ مقارب لهذا الهامش؛ يبدو بالغَ الأهمية.
الحياة على الحافة الكمية لعاصفةٍ كلاسيكية
على متن سفينةٍ في البحر: صخب عاصفة.
ولكن — ولنُركز على لكن هذه — لا يحدث هذا الاستخدام للعالم الكمي إلا إذا مُنع فكُّ الترابط. وإذا لم يُمنع، فستفقد تلك المنظومةُ طابَعَها الكمي، وتتصرف بالكامل على نحوٍ كلاسيكي أو ديناميكي حراري؛ اعتمادًا على قواعد «تولد النظام من اللانظام». تجنَّب العلماء فكَّ الترابط عن طريق حماية التفاعلات الكمية الخاصة بهم من «الضوضاء» الدَّخيلة. لقد بيَّن هذا الفصلُ أن الحياة يبدو أنها قد اتخذَت استراتيجيةً مختلفة تمامًا. فبدلًا من أن تسمح للضوضاء بأن تفكَّ الترابط، فإنها تستخدِمها للحفاظ على ارتباطها بالعالم الكمي. في الفصل السادس، تخيلنا الحياة وكأنها كتلةُ جرانيت متوازنةٌ بدقةٍ بحيث تكون عُرضة للأحداث الكمية. ولأسباب ستتَّضح بعد لحظات، سنقوم بتغييرٍ في هذا التشبيه بأن نستخدِم سفينةً شراعية طويلة بدلًا من كتلة الجرانيت.
ستكون سفينتنا الشراعية التخيلية في البداية في حوضٍ جاف، وستكون العارضة الخاصة بها الرفيعة المتوازنة بنحوٍ رائع على خطٍّ واحد من الذرات المتراصَّة بعناية. في هذه الحالة من التعرُّض للخطر، تكون السفينة — مثل الخلية الحية — حساسةً تجاه الأحداث على المستوى الكمِّي التي تحدث في العارضة الذرِّية الخاصة بها. يمكن لحدثٍ مثل نفق بروتون أو إثارةِ إلكترون أو تشابُك ذرة أن يؤثِّر في السفينة بكاملها، ربما بالتأثير في توازنها الدقيق في الحوض الجاف. وعلى الرغم من ذلك، سنتخيَّل أيضًا أن قبطان السفينة توصل إلى طرقٍ ذكية ومُدهشة للاستفادة من تلك الظواهر الكمية الدقيقة مثل الترابط أو النفق أو التراكب أو التشابك كي تُساعده في الإبحار بمجرد أن تنزل السفينةُ إلى المياه.
لكن تذكر أن السفينة لا تزال في حوضٍ جاف؛ ومن ثم فهي لم تذهب إلى أي مكان حتى الآن. وعلى الرغم من أنها في حالةٍ من التوازن الدقيق، فإنه يُحتمل أن تستفيد من الظواهر التي هي على المستوى الكمي، فجثومها المتزعزع يجعلها عرضةً لأضعف نسمة هواء يمكن تخيلها — إذ ربما يلمسها جزيء هواء واحد فقط — ممَّا قد يؤدي إلى انقلابها. إن طريقة المهندس في التعامل مع مشكلة الحفاظ على السفينة قائمة؛ ومن ثم الحفاظ على حساسيتها تجاه الأحداث الكمية في عارضتها ستتمثَّل في وضع السفينة في صندوق واقٍ وطرد كل الهواء لمنع أيِّ جزيء شارد يُشبه كرة البلياردو من أن يتسبَّب في اضطراب السفينة. كذلك سيخفض المهندس درجةَ حرارة النظام بأكمله حتى يكاد يصلُ إلى الصفر المطلق، بحيث لا يتمكَّن أيُّ اهتزاز جزيئي من إحداث اضطراب في توازنها الدقيق. لكن قباطنة البحر المخضرمين يعرفون أن هناك طريقةً أخرى للحفاظ على السفينة قائمة؛ إذ لا بد أولًا من إنزالها إلى المياه الديناميكية الحرارية المضطربة.
من المسلَّمات أن اعتدال السفينة في المياه أسهلُ منه في اليابسة، ولكن بالتفكير على المستوى الجزيئي، نجد أن السبب في زيادةِ استقرار السفينة ليس واضحًا على نحوٍ مباشر. لقد قلنا لتوِّنا إن طريقة المهندس في الحفاظ على اعتدال السفينة ذات العارضة الرفيعة في حوض جافٍّ هي حمايتها من أي اضطرابٍ محتمل تُسبِّبه الذرات أو الجزيئات الشاردة. لكن أليس البحر مليئًا بالذرَّات والجزيئات الشاردة التي تتصادم عشوائيًّا بعضها مع بعض، ومع عارضة أيِّ سفينة على النحو الذي يوجَد مع كرات البلياردو الذي استكشَفْناه في الفصل الثاني؟ كيف يمكن أن تنقلب تلك السفينةُ المتوازنة المعرَّضة للخطر بفعل تصادماتٍ طفيفة على اليابسة، ولكنها تتصدَّى لهذه التصادمات عندما تكون في المياه؟
تكمن الإجابة في قواعد «تولُّد النظام من اللانظام» التي ذكرها شرودنجر. ستُقصَف السفينة بالفعل بتريليونات التصادمات الجزيئية من على جانبَيها الأيمن والأيسر. بالطبع إنها لم تَعُد تتوازنُ الآن على عارضةٍ رفيعة للغاية، بل إنها تطفو على المياه بفضل إمكانية الطفو، وبوجود هذه التصادمات الكثيرة على جانبَي السفينة، فلن يتغيرَ متوسطُ قوة الدفع على مقدمة السفينة ومؤخرتها أو على جانبَيها الأيمن والأيسر. لذا لا تنقلب السفن الطافية لأنها مثبتة بتريليونات قذائف القصف الجزيئية العشوائية؛ سيتولد النظام (الاتجاه الرأسي للسفينة) من اللانظام (تريليونات التصادمات الجزيئية العشوائية التي تشبه تصادم كرات البلياردو).
مرةً أخرى، قد تبدو هذه الحيلة متناقضةً للوهلة الأولى. نتوقع أن الرياح العرَضية وغير المتوقَّعة ستعمل على قلبِ سفينةٍ غير مستقرة بالفعل، بدلًا من زيادة استقرارها، لا سيما أنها لن تكون عشوائية، ولكنها ستميل إلى أن تضرب أحد جانبَي السفينة بقوةٍ أكبر. ولكن القبطان يعرف كيف يضبط زاويةَ الشراع وذراع الدفة بحيث ينقلب فعلُ الرياح والتيارات ضد العواصف والأعاصير؛ بهدفِ تصحيح أيِّ ميل إلى أحد الجانبين. بتلك الطريقة، يستطيع القبطان تسخيرَ العاصفة المحيطة للحفاظ على استقرار سفينته.
فهل هذا يُقدم لنا رؤيةً جديدة بشأن كينونة الحياة الحقيقية؟ حسنًا، هناك افتراضٌ آخر، ونؤكد على أنه افتراضٌ بالفعل، ولكنه افتراض لا يسَعُنا صدُّه بعد أن قطعنا هذا الحدَّ في هذه الرحلة. هل تتذكر السؤال الذي طرحناه في الفصل الثاني الذي يتعلق بالفرق بين الكائن الحي والجماد؛ ذلك الفرق الذي وصَفه القدماءُ باسم الروح؟ كانوا يعتقدون أن الموت يُصيب الكائن عندما تُغادر الروحُ الجسد. استبعَدَت فلسفةُ ديكارت الميكانيكيةُ المذهبَ الحيويَّ ونبذَت فكرة الروح، على الأقل من النباتات والحيوانات، لكن ظلَّ الفرق بين الأحياء والأموات غامضًا. هل بإمكان فهمنا الجديد للحياة أن يَستبدل بالروح شرارةً حيوية كمية؟ سيعتبر الكثيرون مجرد طرح هذا السؤال على أنه أمرٌ مثير للجدل؛ إذ يدفع بحدود العلم التقليدي إلى ما هو أبعدُ من الاحترام وإلى عوالم العلوم الزائفة أو حتى نوعٍ من الروحانيات. وهذا ليس ما نقترحه هنا. بدلًا من ذلك، نريد أن نُقدم ما نأمُل أن يكون فكرةً قد تستبدل على الأقل البذرةَ الخاصة بنظريةٍ علمية بالتكهُّنات الصوفية والميتافيزيقية.
في الفصل الثاني، شبَّهنا قدرة الحياة على الحفاظ على حالتها العالية التنظيم بأداةِ طاولة البلياردو الغريبة التي يمكن أن تحافظ على مثلثٍ من الكرات في وسط الطاولة عن طريق اكتشاف واستبدال أيِّ كرات خرَجَت من مكانها بسبب الاصطدامات من الكرات الأخرى في نظام يُشبه النظام الديناميكي الحراري. بما أنك الآن اكتشفتَ المزيد عن الطريقة التي تعمل بها الحياة، فأنت بإمكانك أن ترى أن تلك الاستدامة الذاتية تُحافظ عليها آليةُ جزيئاتٍ معقَّدة تضمُّ الإنزيمات والصبغات والحمض النووي والحمض النووي الريبوزي وغيرها من الجزيئات الحيوية، التي تعتمد بعضُ خصائصها على ظواهر ميكانيكا الكم مثل النفق الكمي والترابط والتشابك.
هل يُمكننا استغلالُ علم الأحياء الكمي لإنشاء تكنولوجيا حية جديدة؟
قد لا تستطيع العواصف أن تُعيد السفينة الغارقة إلى سطح المياه، ولكن البشر يستطيعون ذلك. يمكن للإبداع البشري أن يُحقق أكثرَ ممَّا تُحققه القُوى العشوائية بكثير. وكما أوضحنا في الفصل التاسع، فإن احتمال هبوب إعصارٍ على نحوٍ عشوائي في ساحة خردة وتجميعه لطائرةٍ نفاثة جامبو عبر الصدفة البحتة؛ احتمالٌ ضعيف للغاية. لكن بإمكان مهندسي الطيران بناء طيَّارات. فهل بإمكاننا أيضًا تجميعُ حياة؟ كما أشرنا في العديد من المواضع في هذا الكتاب، لم ينجح أحدٌ حتى الآن في خلقِ حياةٍ من موادَّ كيميائية خاملة، مما يعني — على حدِّ القول الشهير المأثور عن ريتشارد فاينمان — أننا لم نفهم ظاهرةَ الحياة فهمًا تامًّا بعد. ولكن ربما يُزودنا فهمنا الجديد لعلم الأحياء الكمي بالوسائل اللازمة لخلق حياة جديدة وحتى بناء شكل ثوري من «التكنولوجيا الحية».
التكنولوجيا الحية معروفةٌ بالطبع. إننا نعتمد عليها اعتمادًا كاملًا — في مجال الزراعة — لإنتاج الطعام. إننا نعتمد أيضًا على منتجات التكنولوجيا الحية مثل الخبز والجبن والجِعَة والنبيذ التي تحوَّلت من الدقيق واللبن والحبوب وعصير الفواكه باستخدام الخميرة والبكتيريا. يستفيد عالمُنا الحديث بالمثل من حصاده للمنتجات غير الحية للخلايا التي كانت حيةً في السابق، مثل الإنزيمات التي استخدمتها ماري شوايتسر لتفكيك عظمة الديناصور. وتُستخدَم إنزيمات مماثلةٌ لتفكيك الألياف الطبيعية لعمل أقمشة الملابس، أو تُضاف إلى المنظفات البيولوجية التي تغسل تلك الملابس. إن صناعات التكنولوجيا الحيوية والأدوية التي تُقدر أرباحها بملايين الدولارات تُنتج المئات من المنتجات الطبيعية مثل المضادات الحيوية التي تحمينا من العدوى. تستغلُّ صناعة الطاقة قدرةَ الميكروبات على تحويل الكتلة الحيوية الزائدة إلى وَقود حيوي، كما أن العديد من الموادِّ التي تدعم الحياةَ الحديثة، مثل الأخشاب والورق، كانت حيةً من قبلُ مثلما كان الوقود الحفري الذي يُدفئ منازلنا ويشغِّل سياراتنا. إذن حتى في القرن الحادي والعشرين، نحن لا نزال نعتمدُ اعتمادًا غيرَ عادي على التكنولوجيا الحية التي تعود إلى آلافِ السنين. إذا كانت لديك أيُّ شكوك في هذا الشأن، فحاول أن تقرأ رواية «الطريق» لكورماك مكارثي، وهي رواية ديستوبية تصف العالم الكئيب الذي سيُترك لنا إذا تدمَّرت التكنولوجيا الحية من دون مبالاة.
لكن التكنولوجيا الحية الموجودة في الوقت الحاليِّ لها حدود. على سبيل المثال، على الرغم من أن بعض الخطوات في عملية البناء الضوئي فعالةٌ إلى أقصى حدٍّ وذلك كما اكتشفنا، فإن معظمها ليس كذلك، وكفاءة الطاقة الكلية لتحويل الطاقة الشمسية إلى طاقةٍ كيميائية يُمكننا الحصول عليها من خلال الزراعة كفاءة ضئيلة للغاية. والسبب هو أن النباتات والميكروبات لها أجندةٌ مختلفة عن أجندتنا؛ فهي تقوم بأعمالٍ غيرِ مهمة بالنسبة إلينا مثل صنع الزهور والبذور التي ليست ضروريةً حقًّا لالتقاط الطاقة، ولكنها مع ذلك ضرورية لبقائها على قيد الحياة. وبالمثل، فإن الميكروبات التي تصنع المضادات الحيوية أو الإنزيمات أو المستحضرات الصيدلانية تقوم بذلك على نحوٍ مفرط للغاية؛ لأن أجندتها التطورية تُجبرها على صُنع الكثير من الأشياء غير الضرورية، مثل المزيد من الخلايا الميكروبية.
هل يُمكننا هندسة حياةٍ تتَّسق مع أجندتنا؟ بالطبع يمكننا ذلك، وإننا بالفعل نُحقق استفادةً كبيرة من نجاح البشر في تحويل النباتات والحيوانات البرِّية إلى التكنولوجيا الحية للغلال والماشية المدجَّنة، المُعدَّة للاستخدام البشري. ولكن توجَد حدود لعملية الانتقاء الاصطناعي التي أعطتنا نباتاتٍ ذاتَ بذور أكبر أو حيوانات مستأنَسة تنفع للحرث، على الرغم من النجاح الكبير لتلك العملية. فلا يُمكننا انتقاءُ ما لم تصنعه الطبيعة. على سبيل المثال، تُنفق ملياراتُ الدولارات كلَّ عام على الأسمدة التي تُغذي التربة بالنيتروجين الذي يُفقَد بسبب الزراعة المكثَّفة. لا تحتاج البقوليات مثل البازلاء إلى الأسمدة النيتروجينية؛ لأنها تُئوي البكتيريا في جذورها التي تلتقط هذا الغازَ مباشرة من الهواء. يمكن أن تكون الزراعة أكثرَ كفاءةً بكثير إذا تمكَّنَّا من هندسة الحبوب البقولية التي تُثبت النيتروجين الخاص بها، كما تفعل البازلاء. لكن هذه القدرة لم تتطوَّر في أيِّ نوع من أنواع الحبوب.
لكن حتى هذا القيد يمكن التغلبُ عليه جزئيًّا على الأقل. فقد بدأ التلاعب في جينات النباتات والميكروبات وحتى الحيوانات (أو ما يُعرف بالهندسة الوراثية) في أواخر القرن العشرين. واليوم، نحصل على قدرٍ كبير من غِلالنا الأساسية مثل فول الصويا من نباتات معدَّلة وراثيًّا مُقاوِمة للأمراض أو مبيدات الأعشاب الضارَّة، ولا تزال الجهودُ جاريةً، على سبيل المثال، لإدخال جيناتٍ تلتقط النيتروجين في الحبوب. وبالمثل، تعتمد صناعةُ التكنولوجيا الحيوية اعتمادًا كبيرًا على الميكروبات المعدَّلة وراثيًّا لإنتاج المنتجات الدوائية والمضادات الحيوية.
وعلى الرغم من ذلك، توجَد مرةً أخرى حدود. غالبًا ما تنقل فقط الهندسة الوراثية الجينات من نوعٍ إلى آخر. على سبيل المثال، يصنع نبات الأرز فيتامين إيه (البيتا كاروتين) في أوراقه وليس في بذوره، ومن ثم نادرًا ما يوجد أيٌّ منه في المحصول الأساسي للأرز الذي تتغذَّى عليه معظمُ البلدان النامية. فيتامين إيه ضروري لجهاز المناعة وقوة الإبصار، ومن ثم يؤدي نقصُه في أفقرِ مناطق العالم التي تعتمِد على الأرز إلى وفاة ملايين الأطفال بسبب العدوى، أو فقدانِهم البصرَ كلَّ عام. في التسعينيَّات من القرن الماضي، أدخل بيتر باير من جامعة فرايبرج وإنجو بوتريكوس من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ؛ جينَين ضروريَّين لصنع فيتامين إيه — استخلص أحدهما من أزهار النرجس والآخَر من ميكروب — في جينوم الأرز لإنتاج أرزٍّ ذي مستويات عالية من فيتامين إيه في بذوره. «الأرز الذهبي»، كما أسماه باير نسبةً إلى لونِ بذوره الصفراء، بإمكانه توفيرُ معظم الاحتياج اليومي من فيتامين إيه للأطفال. لكن على الرغم من النجاح الباهر لتكنولوجيا الهندسة الوراثية، فإنها مجردُ تلاعبٍ بالحياة. يهدف العلم الجديد الذي يُسمى «علم الأحياء التخليقي» إلى إنشاء تكنولوجيا حية ثورية بحقٍّ عن طريق هندسة أشكالٍ جديدة بالكامل من الحياة.
يوجَد نهجان يكمل أحدُهما الآخَر في علم الأحياء التخليقي. يتمثل النهجُ الأول في ذلك الذي قابلناه بالفعل في سياقِ مناقشة كيف بنى رائدُ تحديد تسلسل الجينوم كريج فينتر ما يُسمَّى «بالحياة التخليقية»؛ عن طريق استبدال نسخةٍ مُخلَّقة كيميائيًّا من جينوم بكتيريا تُسمَّى المفطورة الفطرانية بجينومها الأصلي. أتاح استبدالُ الجينوم هذا لفريقه إجراءَ تعديلات طفيفةٍ نسبيًّا على جينوم تلك البكتيريا بأكمله. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال تلك البكتيريا هي المفطورةَ الفطرانية؛ إذ لم يُدخِل الفريق أيَّ تغييرات جذرية في سماتها البيولوجية. وعلى مدار السنوات القادمة، يُخطط فريق فينتر لإدخال المزيد من التعديلات الجذرية، ولكن بالتدريج في هذا النهج الخاص بعلم الأحياء التخليقي. وهنا، لم يخلق الفريق حياةً جديدة، بل عدَّل حياةً قائمة.
النهج الثاني جذريٌّ بقدرٍ أكبرَ بكثير؛ فبدلًا من تعديل كائن حي موجود، فإنه يهدف إلى هندسةِ أشكالِ حياة جديدة بالكامل من موادَّ كيميائية خاملة. سيعتبر الكثيرون هذا المسعى خطيرًا، بل إنه حتى متجاوزٌ للحدود. لكن هل هو مُجْدٍ؟ حسنًا، الكائنات الحية مثل البشر آلات دقيقة إلى أبعدِ الحدود. ومثل أيِّ آلة، فإنه يمكن هندستُها بطريقةٍ عكسية لاكتشافِ مبادئ تصميمها، وعندئذٍ يمكن استخدام مبادئ التصميم تلك لبناء آلاتٍ أفضل.
بناء حياة من البداية
يحلم المُتحمِّسون لنهج إنشاء حياة جديدة الخاص بعلم الأحياء التخليقي ببناء أشكالٍ حياة جديدة تمامًا يمكن أن تُعدِّل عالمنا. على سبيل المثال، ينشغل المهندسون المعماريون اليوم عن حقٍّ بمفهوم الاستدامة: بناء منازل ومكاتب ومصانع ومدن مستدامة. ولكن على الرغم من أن المبانيَ أو المدن الحديثة عادةً ما توصف بأنها ذاتيةُ الاستدامة، فإنها تعتمد في أغلب الأحيان على جهود ومهارات كائناتٍ ذاتية الاستدامة بحقٍّ — وهم البشر — للحفاظ على هيئتها؛ فعندما تنخلع بلاطاتُ السقف بسبب عاصفة، نستأجر بنَّاءً للصعود واستبدالها، وعندما يحدث تسريبٌ من المواسير، نستدعي سباكًا، وعندما تتعطل السيارة، نذهب بها إلى الميكانيكي. على نحوٍ أساسي، كل هذه الصيانة اليدوية ضروريةٌ لإصلاح الأضرار التي لحقَت بمنازلنا أو آلاتنا من جراء كل ذلك التصادم بين الجزيئات، الذي يُشبه تصادم كرات البلياردو، الناجم عن الرياح والأمطار والأضرار البيئية الأخرى.
يمكن تطوير أفكار آرمسترونج لتعزيز سِماتٍ تخليقية أخرى لحياتنا. فيمكن استخدام المادة الحية كذلك لتصميم أعضاء تعويضية مثل المفاصل أو الأطراف الاصطناعية، التي تتَّسم بإمكانية إصلاح ذاتها وحماية نفسها من هجمات الميكروبات، مثل الأنسجة الحية تمامًا. ويمكن حتى حقنُ أشكال الحياة الاصطناعية في جسم الإنسان؛ على سبيل المثال من أجل البحث عن الخلايا السرطانية وتدميرها. ويمكن تصنيع كلِّ أنواع المنتجات الدوائية والوقود والغذاء من خلال أشكال الحياة التخليقية المهندَسة على نحوٍ خاص؛ بحيث لا يُثقلها أيُّ تاريخ تطوري. وبالتعمُّق في المستقبل، توجد رؤية الخيال العلمي للروبوتات الحية، أو التي تمتلك صفاتٍ بشَرية، والتي يمكن أن تنفذ مهامَّ العمل التقليدية، أو حتى «تعزز ظروف الحياة» على المريخ كي تجعلَه صالحًا لسُكنى البشر، أو تبنيَ سفنًا فضائية حية يمكن أن تستكشف المجرَّة.
يستمدُّ معظم المتحمِّسين لفكرة إنشاء حياة تخليقية جديدة؛ الإلهامَ من نظريات أصل الحياة عن طريق محاولةِ بناء خلايا أوَّلية حية اصطناعية، قادرة على السباحة في بحرٍ بدائي مصمَّم داخل مختبر. ولعل أبسطَها هي الأنواع المختلفة من قطيرات أو حويصلات الزيت في الماء أو الماء في الزيت. هذه الأشكال سهلةُ الصنع، وفي الحقيقة يُمكنك عملُ الملايين منها كلما أعددتَ تتبيلةَ سَلطة. معروفٌ أن الزيت لا يختلط بالماء؛ ومن ثم فسينفصل أحدهما عن الآخَر بسرعة، ولكن إذا أدخلتَ مادةً تدخل جزيئاتُها بين الماء والزيت — «مادة خافضة للتوتُّر السطحي» مثل المستردة — وقلَّبتَ الخليط جيدًا، فستصنع تتبيلةَ سلطة. وعلى الرغم من أن هذه التتبيلة قد تبدو سلسةً ومتجانسة، فإنها في الواقع مليئةٌ بتريليونات قطرات الزيت الصغيرة المستقرة.
هذه الخلايا الأولية الديناميكية والنشطة كيميائيًّا بلا شك بِنْياتٌ مثيرةٌ للإعجاب والاهتمام، ولكن هل هي حية؟ للإجابة عن هذا السؤال؛ حريٌّ بنا أن نتفق على تعريفٍ عملي للحياة. التعريف الواضح — وهو التضاعف الذاتي — مقبولٌ لعدة أسباب، ولكنه أيضًا يُثير الكثير من الأسئلة. فمعظم الخلايا في الجسم البالِغ مثل خلايا الدم الحمراء والخلايا العصبية لا تتضاعف، ولكن لا شك أنها حية. حتى بعض البشر — مثل الكهَنة البوذيِّين أو الكاثوليك — لا يهتمون (عادةً) بالعملية الفوضوية المتمثِّلة في التضاعف الذاتي، ومع ذلك يعدُّون بلا شكٍّ أحياء. إذن، على الرغم من أن التضاعف الذاتي ضروريٌّ بالطبع لبقاء أي نوع على المدى الطويل، فإنه ليس خاصيةً إلزامية للحياة.
هناك خاصيةٌ في الحياة تُعتبر جوهريةً حتى أكثر من التضاعف الذاتي، وهي تلك التي قد تناولناها بالفعل، والتي يسعى اختصاصيُّو الهندسة المعمارية البيومترية إلى محاكاتها، وهي المتمثلة في الاستدامة الذاتية. الحياة قادرةٌ على استدامة حالتها الحيَّة. ومن ثم فإن أقلَّ المتطلبات التي يجب توفرُها حتى تكتسبَ خلايانا الأوليةُ تلك صفةَ الحياة هي القدرة على الحفاظ على نفسها في البحار الديناميكية الحرارية المضطربة.
لكن للأسف استخدام هذا التعريف الأكثر تحديدًا للحياة لا يجعل أيًّا من الجيل الحاليِّ من الخلايا الأولية يُصنَّف على أنه حي. حتى الخلايا القادرة على تنفيذ بعض الخدع، مثل القيام بشكلٍ بسيط من التضاعف (الانقسام إلى اثنين)، تنتج خلايا وليدةً ليست في واقع الأمر مثل الخلايا الأصلية؛ فهي تحتوي على القليل من المُكونات البادئة مثل الريبوزيمات أو الإنزيمات، ومن ثم تُستنفَد تلك المكونات في النهاية مع تقدمِ عملية التضاعف. وبالمثل، على الرغم من أن الخلايا الأولية التي صنعتها مجموعةُ لوكوماندو قادرةٌ على دعم عمليةِ أيضٍ تشبه تلك التي تقوم بها الكائنات الحية البسيطة، فإنها بحاجةٍ إلى أن تُملأ بجزيئاتٍ حيوية نشطة، وهو أمرٌ لا يمكنها فعله بنفسها. الجيل الحاليُّ من الخلايا الأولية يُشبه الساعاتِ التي تُملأ يدويًّا؛ حيث إنها يُمكنها الحفاظ على حالتها المبدئية الكيميائية المدعومة بالإنزيمات والركائز المسبقة الصُّنع إلى أن تفقد طاقتها. بعد ذلك، يؤدي التصادمُ المستمر الذي يُتَلقَّى من حركة الجزيئات المحيطة إلى تآكلِ تنظيم هذه الخلايا الأولية؛ بحيث تصبح أكثرَ فوضويةً وعشوائيةً تدريجيًّا، إلى أن تتلاشى الفروق بينها وبين بيئتها في النهاية. وعلى خلاف الحياة، فإن الخلايا الأولية الاصطناعية غيرُ قادرة على مَلءِ نفسها.
هل ينقص تلك الخلايا مُكوِّنٌ ما؟ بالطبع لا يزال المجال في بداياته، ومن المحتمل أن تُقطع أشواطٌ كبيرة في العقود القادمة. الفكرة التي نريد استعراضها في هذا القسم الأخير من الكتاب هي أن ميكانيكا الكم يمكن أن تُعطينا الشرارة المفقودة الضرورية لجعل الحياة الاصطناعية مفعمةً بالحيوية وإنشاء حياة تخليقيةٍ بحق. وبالإضافة إلى إطلاق تكنولوجيا ثورية، فإن هذا التقدم قد يُزودنا أيضًا، أخيرًا، بالوسائل التي تُتيح لنا الإجابة عن هذا السؤال القديم الذي طرحناه في الفصل الثاني، وهو: ما الحياة؟
حاجَجْنا — ومعنا آخَرون — بأن الوصف الديناميكي الحراري للحياة غيرُ كافٍ؛ حيث إنه لا يتضمَّن قدرة الحياة على تسخير العالم الكمي. فالحياة، كما نعتقد، تعتمد على ميكانيكا الكم. لكن هل نحن على حقٍّ في ذلك؟ كما تناولنا بالفعل من قبل، يصعب إثباتُ ذلك باستخدام التكنولوجيا المتوفرة في الوقت الراهن، والسبب أننا لا نستطيع تشغيل ميكانيكا الكم في الخلية الحية وإيقافَها. وعلى الرغم من ذلك، نحن نرى أن الحياة — سواءٌ كانت طبيعيةً أو اصطناعية — مستحيلةٌ من دون السمات الغريبة للعالَم الكمِّي التي تناولناها في هذا الكتاب. والطريقة الوحيدة لمعرفة ما إذا كنا على حقٍّ أوْ لا هي إنشاء حياةٍ تخليقية بها السمات الغريبة للعالم الكمي، وأخرى بدونها (إن كان ذلك ممكنًا)، ومعرفةُ أيُّ نسخةٍ منهما ستعمل على نحوٍ أفضل.
إطلاق الخلية الأولية الكمية الأولى
لنتخيَّلْ أننا نبني خليةً حية بسيطة من مادة جامدة بالكامل؛ ربما واحدة قادرة على تنفيذ مهامَّ بسيطة مثل البحث عن طعامها داخل بحرٍ بدائي محفوظ في مختبَرٍ من نوعٍ ما. سيتمثَّل هدفنا في بناء مثلِ هذا الشيء بطريقتَين. ستسعى الأولى للاستفادة من السمات الغريبة لميكانيكا الكم؛ وسنُطلق عليها «الخلية الأولية الكمية». أما الثانية، فلن تفعل ذلك، وستُسمى «الخلية الأولية الكلاسيكية».
ستكون نقطةَ انطلاقٍ جيدةً لكِلا الشكلَين الخلايا الأوليةُ المتعددةُ الحجراتِ المحاطةُ بأغشية، التي صنَعها سيباستيان لوكوماندو، والتي تُتيح لنا أقسامُها المختلفة أن نفصل الوظائفَ المختلفة للحياة داخل الحجرات الفردية. بعد ذلك، سنحتاج إلى تزويدِ وعاء الخلية الأولية بمصدرٍ للطاقة؛ لنستخدمَ ذلك المصدرَ الوفير بالفوتونات العالية الطاقة، المتمثلَ في ضوء الشمس. سنُحمل إحدى حجراتها بغابةٍ من جزيئات الصبغة وسقَّالات البروتينات، بحيث نصنع شكلًا من أشكال اللوح الشمسي القادر على التقاط الفوتونات وتحويل طاقتها إلى إكسيتونات، وكأنها بلاستيدةٌ خضراء اصطناعية. ومع ذلك، لا يُحتمَل أن توفِّر جزيئاتُ الصبغة المختلطة إمكانيةَ نقل الطاقة العالية الكفاءة التي تتميز بها عمليةُ البناء الضوئي؛ نظرًا إلى أن الحالة الفوضوية للجزيئات لن تكون قادرةً على الحفاظ على الترابط الكمي اللازم لنقل الطاقة بكفاءة. ولالتقاط النبضة الكمية، سنحتاج إلى توجيه جزيئات الصبغة بحيث تستطيع أن تتدفَّق الموجة المترابطة عبر النظام.
لذلك دعُونا نتخيَّل أن خليتنا الشمسية الكمية مثبتةٌ في مركزِ تفاعل اصطناعي مستوحًى من نموذج فريق كامبريدج، وقادرٍ على التقاط الإلكترونات النشطة باعتبارها طاقةً كيميائية مستقرَّة. مرةً أخرى، سنُصمم نظامًا منافسًا للخلية الأولية الكلاسيكية يحاول تنفيذَ عمليةٍ مماثلة لنقل الطاقة، ولكن من دون الكفاءة الكمية التي تتجاوز حدَّ كارنو. بمجرد التقاط الطاقة الضوئية، فإنه يمكن استخدامها لبناء جزيئات حيوية معقَّدة مثل جزيئات الصبغة الخاصة بالخلية.
لكن كما هو الحال مع الإلكترونات، تحتاج التفاعلات التخليقية الحيوية إلى مُعززِ طاقة إضافي توفِّره، في خلايانا، عمليةُ التنفس الخلوي (ارجع للفصل الثالث). سنستمدُّ الإلهام من عملية التنفُّس ونُحول بعض الإلكترونات العالية الطاقة التي توفِّرها عملية البناء الضوئي إلى حُجرة «محطة طاقة»، حيث ستنتقل عبر نفقٍ من إنزيمٍ إلى آخَر — كما هو الحال في السلاسل التنفُّسية الطبيعية — لتكوين الأدينوسين الثلاثي الفوسفات، الذي يُعد حامل الطاقة الجزيئيَّ في الخلية. ومرة أخرى، سنستهدف تصميم الحجرة التنفسية واستكشاف دور ميكانيكا الكم في هذه العملية البيولوجية الحيوية.
بتوفر مصدرٍ للإلكترونات والطاقة، أصبحت الخلية الأولية الكمية جاهزةً الآن لتكوين كلِّ المواد الكيميائية الحيوية الخاصة بها، ولكنها تحتاج إلى مصدرٍ للمادة الخام؛ نقصد الطعام. ومن ثم فسنُزودها بمصدر طعام متمثلٍ في سكر بسيط؛ وهو الجلوكوز المذاب في البحر البدائي الموجود في المختبر. سنُضطر إلى إدخال ناقلاتِ سكر تعمل بالأدينوسين الثلاثي الفوسفات تكون قادرةً على ضخِّ الجلوكوز داخل الخلية، هذا إلى جانب مجموعةٍ أخرى من الإنزيمات القادرة على مُناورة ذراتها — الهندسة على المستوى الكمي — لبناء المزيد من الجزيئات الحيوية المعقَّدة. عادةً ما تستخدِم العديد من هذه الإنزيمات نفق الإلكترون والبروتون كما أوضحنا في الفصل الثالث، ولكن هدفنا سيكون هو تصميمَ نسختَين؛ إحداهما تمتلك القدرة على الانغماس في العالَم الكمي لاكتشاف ما إذا كانت ميكانيكا الكم توفِّر حقًّا مادةَ تشحيم أساسيةً لمحركات الحياة هذه.
لكن تظلُّ الخلية الأولية الكمية وعاءً شديدَ الاحتياج، حيث يجب تحميل كل الإنزيمات مسبقًا على متنه. وحتى تكون ذاتيةَ الاكتفاء؛ يجب تجهيز حجرةٍ أخرى — حجرة التحكم الخاصة بها — بجينوم اصطناعي قائم على الحمض النووي قادر على تشفيرِ أي شيءٍ تحتاج إليه الخلية، بالإضافة إلى الآليَّة اللازمة لتحويل شفرة البروتونات التي على مستوى الكمِّ الخاصة بها إلى بروتينات. هذا مماثلٌ للنهج القائم على تعديل حياة قائمة الذي استخدمه كريج فينتر؛ فقط سيجري حقن الجينوم في خلية أولية «غير حية». وأخيرًا، يُمكننا حتى أن نمنح الخلية الأولية نظامًا مِلاحيًّا — ربما أنفًا جُزيئيًّا لتمكينها من تحديد موقع طعامها من خلال استخدام مبدأ مستقبِلات الشمِّ ذات التشابك الكمي الذي استكشفناه في الفصل الخامس — ومحركًا جزيئيًّا لدفع نفسها عبر بحرها البدائي. يُمكننا أيضًا أن نُمدَّ الخلية بنظامٍ ملاحي كمي، مثل النظام الملاحي لدى طائر أبي الحناء، الذي قد يُساعدها على توجيه نفسها في المحيط البدائي الموجود في المختبر.
ما وصفناه هنا يعدُّ أكثر قليلًا من مجردِ فكرة خيالية بيولوجية؛ إنها ليست أكثرَ واقعيةً من شخصية أرييل في مسرحية «العاصفة» لشكسبير. لقد أسقطنا قدرًا كبيرًا من التفاصيل، وبهدف التبسيط وسهولة الفهم؛ لم نذكر التحدِّيات الهائلة التي ستقف أمام أيِّ مشروع حقيقي في علم الأحياء التخليقي يقوم على نهجِ إنشاءِ حياة جديدة. وحتى لو حدثَت محاولةٌ لتنفيذ مثلِ هذا المشروع، فمن المؤكد ألا تتمَّ محاولة استنساخ كلِّ هذه العمليات في خطوةٍ واحدة، مثلما هو الحال في الوصفة التخيلية التي ذكرناها هنا، ولكن ستتم أولًا محاولةُ دمج أبسط أو أفضل عملية مفهومة لنا — ربما البناء الضوئي — في الخلية الأوَّلية. بالطبع سيكون هذا إنجازًا كبيرًا في حدِّ ذاته، وسيكون أفضلَ نظامٍ نموذجي يمكن استخدامه في دراسة دور الترابط الكمي في عملية البناء الضوئي. وإذا كان هذا العمل الفذُّ ممكنًا بالفعل، فستكون الخطوات التالية هي تضمينَ مكوِّناتٍ إضافية لتنفيذ تعقيدٍ أكبر وأكبر؛ ممَّا قد يؤدي في النهاية ربما إلى خلية حية اصطناعية حقًّا. لكن نتوقَّع ألا يحدثَ هذا إلا على المسار الكميِّ للحياة؛ إذ نعتقد أن الحياة لن تنشأ من دون أن يكون لها صلةٌ بالعالَم الكمي.
إذا جرى بالفعل تنفيذ مثل هذا المشروع، فقد يكون من الممكن في النهاية إنشاءُ حياة جديدة. ومن الممكن أن يُطلِق هذا التقدمُ تكنولوجيا حيةً ثورية بحق؛ حياةً اصطناعية قادرة على التنقُّل بين حافة العالم الكمي والعالم الكلاسيكي. يمكن هندسة الخلايا الحية الاصطناعية لتكون بمنزلة لَبِناتٍ للمباني الحية المستدامة حقًّا؛ يمكن إنشاء جرَّاحين مِجهريِّين لإصلاح أنسجتنا المتضرِّرة والمتآكلة واستبدالها. إن السمات الرائعة لعلم الأحياء الكمي التي اكتشفناها في هذا الكتاب، بدايةً من البناء الضوئي إلى عمل الإنزيمات، ومن الأنوف الكمية إلى الجينومات الكمية، والبوصلات الكمية، وربما حتى العقول الكمية، يمكن الاستفادة منها جميعًا لبناء عالَم جديد شجاع من الكائنات الحية المُخلَّقة الكمية التي يمكن أن تُحرر أقاربها الطبيعية من المهمة الشاقة المتمثلةِ في تزويد الإنسانية بمعظم احتياجاتها.
ولكن ربما الأهم من ذلك بكثيرٍ هو أن القدرة على إنشاء حياة جديدة من الصفر ستُمكن علم الأحياء أخيرًا من تحقيق مقولة فاينمان الشهيرة التي تقول: «ما لا أستطيع خلقه، لا أستطيع فهمه». إذا نجح هذا المشروع حقًّا، فيُمكننا أن نزعم في النهاية أننا أخيرًا فهمنا الحياةَ وقدرتها العجيبة على تسخير قُوى الفوضى كي تُبحر على هذه الحافة الضيقة بين العالم الكلاسيكي والعالم الكمي.
… أخذَت شمسُ الضحى تتباطأ، وأنا أذكر اتجاه الرياح المزعجة التي تُقيم أمواج البحر الهائج ولا تُقعدها حتى تبلغ الأفُق الأزوردي، وأنتم تقرعون طبولَ الحرب بدون أن تستعدُّوا لها، فيما أنا أتبع الرعود التي تصمُّ الآذان …
هوامش
-
(١)
غالبًا ما يُستخدم هذا المصطلح لوصفِ الاهتزازات الجزيئية غيرِ المترابطة.
-
(٢)
سَعة الاهتزازات صغيرةٌ للغاية، ومن ثم لا ينتج عنها قدرٌ كبير من الطاقة.
-
(٣)
النباتات لها نظامان ضوئيَّان، وهما الأول والثاني.