النبضة الكمية
المادة التي تتكوَّن منها الشجرة هي الكربون، ولكن من أين يأتي الكربون؟ يأتي من الهواء؛ إنه ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء. ينظر الناس إلى الأشجار ويعتقدون أن [مادة الشجرة] تأتي من الأرض؛ نظرًا إلى نموِّ النباتات من الأرض. لكن إذا سألتَ نفسك: «من أين تأتي تلك المادة؟» ستكتشف أن … الأشجار تأتي من الهواء … يدخل ثاني أكسيد الكربون والهواءُ إلى الشجرة ويُغيِّرانها إذ يطردان الأكسجين … نعرف أن الأكسجين والكربون [في ثاني أكسيد الكربون] شديدا الالتصاقِ ببعضهما … فكيف تتمكَّن الشجرة من إنهاء ذلك بمنتهى السهولة؟ … عند سقوط أشعة الشمس، يُفك ترابُط الأكسجين عن الكربون … ومِن ثم يُترك الكربون، والماء، ليكونا مادةَ الشجرة!
يُعد معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا واحدًا من أعرق الصروح العلمية في العالم. يفتخر هذا المعهد، الذي تأسَّس عام ١٨٦١ في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، بوجود تسعةٍ من الحائزين على جائزة نوبل بين أعضاء هيئة التدريس لديه، البالغ عددهم ألفَ أستاذ جامعي (وذلك في عام ٢٠١٤). ويتضمَّن خريجوه روَّادَ فضاء (ثلث رحلات الفضاء التابعة لناسا قام بها خريجون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) وسياسيين (منهم كوفي عنان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة والحائز على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠١)، وروادَ أعمال مثل ويليام ريدينجتون هيوليت، المؤسس المشارك لشركة هيوليت-باكارد، وبالطبع الكثير من العلماء، من بينهم ريتشارد فاينمان العالم الحائز على جائزة نوبل الذي يُعد رائدَ الديناميكا الكهربية الكمية. لكن يُوجَد شيءٌ آخر يشتهر به المعهد وهو شجرة تفاح. تنحدرُ هذه الشجرة في حديقة الرئيس تحت ظل قُبة المعهد البانثيونية الأيقونية، من شجرةٍ أخرى موجودة في الحدائق النباتية الملَكية بإنجلترا، والتي هي الأخرى تنحدِر مباشرةً من الشجرة الأصلية التي يُقال إن السير إسحاق نيوتن كان يجلس تحتها حينما لاحظ سقوط تفاحتِه الشهيرة.
منذ ثلاثة قرون ونصف، كان نيوتن يجلس تحت شجرة في مزرعةِ والدته بلنكنشاير ويتأمَّل سؤالًا بسيطًا ولكنه عميق، وهو: «لماذا يسقط التفاح؟» ربما نُسيء الأدبَ إذا قُلنا إنه لم يُوفَّق في الإجابة بأي حال من الأحوال؛ على الرغم من أنها أحدثَت ثورةً بالفعل في الفيزياء وكلِّ فروع العلوم في واقع الأمر، لكن يُوجَد جانبٌ لم ينتبه إليه نيوتن في هذا المشهد الشهير، ولم يتحدَّث عنه أحدٌ مذ ذاك، إنه السؤال: ماذا كانت تفعل التفاحة على الشجرة في المقام الأول؟ إذا كان سقوط التفاحة السريعُ على الأرض لغزًا، فما مدى صعوبةِ تفسير اندماج الهواء والماء بعضِهما مع بعض في لنكنشاير لتكوين جسم كروي عالق في أغصان شجرة؟ لماذا تعجَّب نيوتن من مسألةٍ تافهة نسبيًّا وهي سحبُ التفاحة باتجاه الأرض بفعل جاذبية الأرض ولم يتنبَّه إلى لغزٍ غير مفهوم البتة بشأن تكوين ثمرة الفاكهة في المقام الأول؟
من العوامل التي ربما تُفسر غياب الفضول لدى إسحاق نيوتن بشأن تلك المسألة هو الرأيُ الذي كان سائدًا في القرن السابع عشر بأنه على الرغم من أن قوانين الفيزياء يمكن أن تُفسِّر الآليات العجماء لجميع الأجسام بما فيها الكائنات الحية، فإن الديناميكية الداخلية الغريبة (التي حدَّدت طريقةَ نموِّ التفاحة، وغيرها من الأشياء) تُوجِّهها قوةٌ حيوية أو «دافع حيوي» تنبع من مصدرٍ خارق لا يمكن لأيِّ معادلة رياضية من صُنع البشر أن تَسبُر أغوارَه. لكن، وكما اكتشفنا بالفعل، المذهب الحيوي نسفَه ما تحقَّق من تقدُّم بعد ذلك في علوم الأحياء والجينات والكيمياء الحيوية والأحياء الجزيئية. لا يوجد عالمٌ جادٌّ اليوم يُشكك في إمكانية تفسير الحياة من داخل نطاق العلم، لكن تظلُّ هناك علامةُ استفهام بشأن العلم الذي يُمكنه طرحُ هذا التفسير على أفضلِ نحو. وعلى الرغم من الادِّعاءات البديلة التي طرَحَها علماء مثل شرودنجر، فلا يزال معظم علماء الأحياء يعتقدون أن القوانين الكلاسيكية كافية، مع خضوع الجزيئات الحيوية التي تُشبه كرات البلياردو والعِصيَّ والتي تشبه في سلوكها سلوكَ تلك الكُرات والعِصيِّ لقُوى نيوتن. وحتى ريتشارد فاينمان الذي كان ممَّن خلف شرودنجر في فكره، وصف عملية البناء الضوئي (في الفِقرة المُقتبَسة في مُستهَلِّ هذا الفصل) بمصطلحات كلاسيكية خالصة إذ قال: «عند سقوط أشعَّة الشمس، يُفكُّ ترابط الأكسجين عن الكربون»؛ إذ رأى أن الضوء أشبهُ بمضرب جولف قادرٍ على ضرب كرة الجولف (الأكسجين) وإخراجها من جزيء ثاني أكسيد الكربون.
في هذه الأثناء، وفي مكانٍ ليس ببعيدٍ عن القاعة التي كانت تضج بضحكاتِ مجموعة النادي البحثيِّ المنعقدِ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كان هناك فوتون ضوء يُسافر بسرعة ١٨٦ ألف ميل في الثانية يندفع نحو شجرةٍ أصلها شهير.
اللغز الرئيسي لميكانيكا الكم
سنعود بعد قليل إلى ذلك الفوتون وتلك الشجرةِ وعلاقتهما المحتملة بالعالم الكَمِّي، ولكن أولًا ينبغي أن تتعرف على تجرِبةٍ بسيطة للغاية تُبرز حقًّا مدى غرابة العالم الكمي. وعلى الرغم من أننا سنبذل قصارى جهدنا لتقديم أفضلِ شرحٍ ممكن للمقصود بمفاهيمَ مثل «التراكب الكمي»، فلا شيء يُحقق فعلًا هذا القصدَ أفضل من تجرِبة الشقِّ المزدوج الشهيرة، والتي سنتناولها هنا.
ما تطرحه تجرِبةُ الشقِّ المزدوج أبسطُ وأقوى دليلٍ على أن «كل شيءٍ مختلف» في العالَم الكمي. يمكن أن يسلك الجسيمُ مسلكَ الموجة وينتشر عبر الفراغ ويمكن أن تسلك الموجةُ أحيانًا مسلك الجسيم الفردي ويُصبح لها موضعٌ مُحدد. سبق أن تَحدَّثنا عن ازدواجية الموجة والجسيم هذه في الفصل الأول وعلمت أنها سمةٌ غريبة وضرورية لتفسير كيف تُولِّد الشمس طاقتها، ثم عرَضْنا لها في الفصل الثالث لمَّا رأينا كيف أن الخصائص الموجيَّة للإلكترونات والبروتونات تُتيح لها أن تتسرَّب من خلال حواجز الطاقة داخل الإنزيمات. في هذا الفصل، ستكتشف أن ازدواجية الموجة والجسيم هذه ضالعةٌ أيضًا في أهمِّ تفاعلٍ كيميائي حيوي في المحيط الحيوي، ألا وهو تحوُّل الهواء والماء والضوء إلى نباتاتٍ وميكروبات، وكذلك بقية المخلوقات الأخرى ولكن بطريقةٍ غير مباشرة. لكن يجب أولًا أن نكتشف كيف أن الفكرة الغريبة المتمثلة في أن الجسيمات يمكن أن تُوجَد في عدةِ أماكن في آنٍ واحد تدعمها تجرِبةٌ من أبسط التجارِب وألمعِها وأوسعها تأثيرًا، وهي التجرِبةُ التي «تقع في قلب ميكانيكا الكم» وذلك على حدِّ تعبير ريتشارد فاينمان.
لكنْ وجَب التنبيهُ إلى أن ما سيُذكر في هذا الصدد سيبدو مستحيلًا، وقد ينتابُك يقينٌ أنْ لا بد أنَّ هناك طريقةً عقلانية أكثرَ لتفسيرِ ما يجري. قد تجد نفسك تتساءل أين يَكمُن السرُّ الخفي فيما يبدو كخدعةٍ سحرية. أو ربما تفترض أن التجرِبة ليست سوى تكهُّناتٍ نظريةٍ يحلُم بها علماءُ لا يتوفر لديهم الخيالُ لِفَهم نواميس الطبيعة. ولكن ليس أيٌّ من هذين التفسيرَين صحيحًا. إن تجرِبة الشق المزدوج ليس لها أيُّ تفسير منطقي، ولكنها حقيقية وأُجريَت آلافَ المرات.
سنوضِّح التجرِبة على ثلاث مراحل: في أول مرحلتَين سنُمهد لمشهد التجرِبة بحيث يمكنك تقديرُ النتائج المحيرة في المرحلة الثالثة والأساسية.
من العوامل الرئيسية في تجرِبة الشقِّ المزدوج أن شعاع الضوء المسلَّط على الحاجز الأول يجب أن يكون أحاديَّ اللون (أي: يتكون من طولٍ موجي واحد وفريد). على النقيض من ذلك، يتكون الضوءُ الأبيض، مثل ذلك المنبعِث من مصابيح الإضاءة العادية، من أطوالٍ موجية عديدة مختلفة (كل ألوان قوس قزح)، ومن ثم ستصلُ الموجات إلى الحاجز بنمطٍ مشوَّش. في تلك الحالة، وعلى الرغم من أن القممَ والقِيعان ستظلُّ تتداخَلُ بعضها مع بعض، فإن النمط الناتج سيكون مُعقدًا ومبعثرًا للغاية، ولن تتكوَّن أشرطةٌ ساطعة مميزة على الحاجز. وبالمثل، وعلى الرغم من سهولة تكوين نمطِ تداخلٍ عند رميِ حَصاتين في بِركة، فإن شلَّال المياه الكبير المتدفِّق إلى البركة يولِّد موجاتٍ عديدةً للغاية يستحيل معها تكوينُ أيِّ نمطِ تداخلٍ متَّسق.
ومن منظور المنطق على المستوى المجهري، فلا بد أن تتصرف الذرات وكأنها رصاصاتٌ متناهية الصِّغر. نجري التجرِبة أولًا مع فتح الشقِّ الأيسر فقط وسنرى شريطًا من بُقَع الضوء على الحاجز الخلفي خلف الشقِّ المفتوح. كان هناك قدرٌ من انتشار البُقَع بحيث قد يُفترَض أنها ناتجةٌ عن ارتطام بعض الذرات بالحافَاتِ وحُيودها، بدلًا من المرور عبر الشق مرورًا منتظمًا. بعد ذلك، نفتح الشقَّ الثانيَ أيضًا وننتظر تكوُّنَ البقع الساطعة على الحاجز الخلفي.
إذا طُلب منك التنبُّؤ بتوزيع البقع الساطعة وأنت لا تعرف شيئًا عن ميكانيكا الكم، فمن الطبيعي أن تُخمن أنه سيُشبه كثيرًا النمطَ الذي نتَج عن الرصاصات؛ أي: سيتجمَّع شريطٌ من البقع خلف كلِّ شق مما يُنتج شريطَين ضوئيَّين منفصلَين، يَكونان في أقصى درجات السطوع عند المركز، ويتلاشى السطوع تدريجيًّا كلما تحرَّكْنا نحو الخارج — حيث تَزيد نُدرة «اصطدامات» الذرات. ستتوقَّع أيضًا أن الجزء الأوسط بين الشريطَين الساطعَين سيكون مظلمًا حيث إنه يُناظر منطقةً في الحاجز يصعب بشدةٍ أن تصل إليها الذرَّات؛ أيًّا كان الشقُّ الذي عبَرت من خلاله.
لنرى هل بإمكاننا شرحُ ما يجري باستخدام المنطق البسيط وتجنُّب اللجوء إلى ميكانيكا الكمِّ في الوقت الحالي أم لا. لنفترض أن هذا العددَ الهائل من الذرات يتصادم ويتفاعل بعضُه مع بعض بطريقة منسَّقة معينة، تؤدي إلى نمطٍ يبدو في الظاهر أنه تداخُل، على الرغم من أن كلَّ ذرة عبارةٌ عن جسيم صغير له مكانٌ مُحدَّد؛ وفي النهاية سترتطم كلُّ ذرة بنقطةٍ منفردة في الحاجز. نعرف جميعًا أن موجات الماء في حقيقتها تتشكَّل من عددٍ كبير من جزيئات الماء التي ما كان يُتوقَّع أن تُصبح في شكلِ موجاتٍ من تلقاء نفسها. إن الحركة المنسقة لتريليونات جزيئات الماء هي ما تنتج عنها الخصائصُ الشبيهة بالموجة — وليس كل جزيءٍ بمفرده. ربما قذَف مسدسُ الذرات سيلًا منسَّقًا من الذرات وكأنه آلةُ أمواج في حمَّام سباحة.
لاختبارِ نظرية الذرات المنسقة؛ سنُكرر التجرِبة ولكننا سنُرسل ذرةً واحدة «في كل مرة». سنُطلق مسدسَ الذرات وننتظر ظهورَ بقعةٍ من الضوء على الحاجز الخلفي قبل إطلاقه مرةً أخرى، وهكذا دواليك. للوهلة الأولى، يبدو أن المنطق سيَسود. ستترك كلُّ ذرةٍ تمكَّنَت من المرور عبر الشقين بقعةَ ضوءٍ ضئيلةً واحدة في مكانٍ ما على الحاجز. يبدو أن الذرات تخرج من المسدس في صورة جُسيمات تُشبه طلقات الرصاص وتصل إلى الحاجز في صورةِ جسيمات. بالتأكيد يجب أن تسلك الذرات مسلك الجسيمات في المسافة بين المسدس والحاجز، أليس كذلك؟ ولكن الآن، يحدُث السحر الكمي. مع تراكم البقع، التي تُسجل كلٌّ منها وصولَ ذرةٍ واحدة تُشبه الرصاصة، تدريجيًّا على الحاجز، يظهر نمط التداخل بين المناطق المُضيئة والمُظلِمة تدريجيًّا مرةً أخرى. وبمرور ذرةٍ واحدة في المرة الواحدة عبر الحاجز الآن، لا يمكن المحاجَّة بأن هناك أيَّ سلوك جماعي لعددٍ كبير من الذرات التي تصطدم ويتفاعل بعضها مع بعض. هذه ليست كموجات الماء. هنا مرةً أخرى، نجد أنفسَنا في مواجهةٍ مع النتيجة غيرِ المتوقَّعة المتمثلة في وجودِ مواضع في الحاجز الخلفي يمكن أن تستقرَّ عليها الذرات عند فتح شقٍّ واحد فقط، ولكنها تُصبح مظلمةً تمامًا عند فتح الشقِّ الثاني على الرغم من أنَّ فتحه يجب أن يُوفر مسارًا إضافيًّا كي تصلَ الذراتُ إلى الحاجز. وكأن الذرَّة عندما تمرُّ من أحد الشقَّين لا بد أنها «تدرك» بطريقةٍ ما إن كان الشقُّ الثاني مفتوحًا أم غيرَ مفتوح، ومن ثمَّ تتصرَّف بناءً على ذلك!
باختصار، تُغادر كلُّ ذرة المسدسَ في صورة جسيم صغير له موضعٌ محدد، ويصل إلى الحاجز الثاني في صورةِ جُسيم أيضًا، كما يتَّضح من وميض الضوء الضئيل عند وصوله. ولكن في المسافة بين المسدس والحاجز ومع تلاقي الذرَّة مع الشقَّين، يَحدُث شيءٌ غامض يُشبه سلوكَ الموجة المنتشرة التي تنقسم إلى مُكوِّنَين ينبثق كلٌّ منهما من شقٍّ ويتداخَل مع الآخَر على الجانب البعيد. وإلا كيف يمكن لإحدى الذرَّات أن تُدرك حالة الشقَّين (هل هما مفتوحان أم مغلقان) في الوقت نفسِه؟
ما نكتشفه الآن أنه مع كل عملية إطلاقٍ لذرَّةٍ من المسدس تكون مصحوبةً بظهورِ نقطةٍ مضيئة على الحاجز، يَصدُر صوتٌ إما من جهاز الرصد الأيسر أو الأيمن، ولكن لا يصدُر من كِلَيهما في آنٍ واحد. لقد أصبح لدينا الآن بالتأكيد دليلٌ على أن الذرات المتداخلة تمرُّ من أحد الشقَّين، وليس كِلَيهما في آنٍ واحد. لكن لِنَتحلَّ بالصبر ونستمرَّ في رصدِ الحاجز. مع تراكُم العديد من ومضات الضوء الفردية واندماجِها، نرى أن النمط الناتج لم يَعُد نمطَ تداخل. بل أصبح النمط مُجردَ شريطَين ساطعَين مما يدل على تجمُّع كومةٍ من الذرات خلف كلِّ شق، تمامًا مثلما رأينا في التجرِبة التي استُخدِمت فيها الرصاصات. إن الذرات أصبحَت تسلك الآن مسلكَ الجسيمات التقليدية طَوال التجرِبة. وكأنَّ كل ذرة تسلك مسلك الموجة عندما تُصادف الشقَّين «ما لم» تخضع لعملية رصد؛ إذ حينها تظلُّ كجسيم صغير.
ربما كان وجود جهاز الرصد يُسبب مشكلة؛ إذ يُحتمل أنه يُربك السلوكَ الغريب والدقيق للذرات التي تمرُّ من خلال الشقَّين. لنختبر ذلك بإزالة أحدِ جهازَي الرصد، لنَقُل الجهاز الموجود فوق الشقِّ الأيمن. لا يزال بإمكاننا الحصولُ على المعلومات نفسِها من ذلك الترتيب؛ لأننا عندما نُطلق المسدس ونسمع صافرةً ونرى نقطةً مُضيئة على الحاجز، فسنعرف أن الذرة لا بد أنها مرَّت من الشقِّ الأيسر؛ وعندما نطلق المسدَّس ولا نسمع صوتًا ولكن نرى نقطةً مضيئة، فسنعرف أن الذرات لا بد أنها وصَلَت إلى الحاجز عبر الشق الأيمن. يمكننا الآن أن نعرف هل الذراتُ مرَّت من خلال الشق الأيمن أم الأيسر، ولكننا فقط «سنُربك» أحدَ المسارَين. إذا كان جهاز الرصد نفسُه هو الذي يُسبب المشكلة، فعندئذٍ سنتوقَّع أن تسلك الذراتُ التي حفَّزَت صوتَ جهاز الرصد مسلك الرصاصات وأن تسلك الذراتُ التي لم تُحفز صوته (ومرت من الشق الأيمن) مسلكَ الموجة. والآن، ربما نرى مزيجًا من النمَط المُشابِه لنمط الرصاصات (من الذرات التي تمرُّ من خلال الشق الأيسر) ونمط التداخُل (من الذرات التي تمرُّ من خلال الشق الأيمن) على الحاجز.
لكننا لم نرَ ذلك المزيج. ما زلنا لا نرى نمَط التداخُل مع هذا الترتيب. لا نرى سوى النمطِ الشبيهِ بنمطِ الرَّصاصات خلف كلِّ شقٍّ على الحاجز. يبدو أن مجرد وجود جهاز رصدٍ يُمكنه تسجيلُ مَوقع الذرات؛ كافٍ كي يُدمر السلوك الشبيهَ بالموجة، حتى إنْ كان هذا الجهازُ على مسافةٍ بعيدةٍ من مسار الذرة عبر الشقِّ الآخر!
ربما كان الوجود المادي لجهاز الرصد فوق الشق الأيسر كافيًا للتأثير في مسار الذرَّات التي تمرُّ عبرَه، وكأنَّهُ صخرةٌ كبيرة تُغير تدفُّق الماء في مَجرًى سريع الجريان. يُمكننا اختبارُ ذلك بإيقاف تشغيل جهاز الرصد الأيسر. لا يزال الجهاز في مكانه، ومن ثم نتوقَّع أن يظلَّ تأثيره كما هو. لكن الآن، مع بقاء جهاز الرصد في مكانه ولكنه متوقفٌ عن العمل، يتكون نمطُ التداخل على الحاجز مرةً أخرى! كل الذرات التي دخَلت في التجرِبة عادت إلى التصرف كموجات. كيف للذرَّات أن تتصرف وكأنها جسيماتٌ عند تشغيل جهاز الرصد الموجود فوق الشقِّ الأيسر، ولكن بمجرد إيقافِ تشغيله تتصرف وكأنها موجات؟ كيف «يعرف» الجسيم الذي يمرُّ من الشق الأيمن إن كان جهاز الرصد فوق الشقِّ الأيسر يعمل أم لا؟
في تلك المرحلة بالتحديد، عليك أن تُنحِّيَ المنطقَ جانبًا. لكن ينبغي الآن أن نتعرَّف على مفهوم ازدواجية الموجة والجسيم الخاصة بالأجسام الصغيرة مثل الذرات أو الإلكترونات أو الفوتونات التي تتصرَّف مثل الموجة عندما لا نعلم أي شق ستمرُّ من خلاله، ولكنها تتصرَّف مثل جسيم عندما نرصدُها. هذه هي عملية رصد الأجسام الكمية أو قياسها التي تعرَّضنا لها لأول مرة في الفصل الأول عندما تناولنا إثباتَ آلان أسبيه للتشابُك الكميِّ في الفوتونات المنفصلة. ستتذكر أن فريق أسبيه قاس فوتوناته بتمريرها من خلال عدسةٍ مُستقطِبة تُدمر حالةَ تشابكها — التي تُعد أحد جوانب طبيعتها الموجية — بإجبارها على «اختيار» اتجاه استقطابٍ كلاسيكي واحد. وبطريقةٍ مماثلة، فإن قياس الذرات التي تمر في تجرِبة الشق المزدوج يجبرها على اختيار المرور إما من الشقِّ الأيسر أو الأيمن.
في الحقيقة، تُقدم لنا ميكانيكا الكمِّ تفسيرًا منطقيًّا وافيًا لهذه الظاهرة؛ ولكن هذا ليس سوى تفسيرٍ لما نرصُده — أي: نتيجة التجرِبة — وليس لما يجري عندما نَحيد ببصرنا. ولأنه ما يُمكننا أن نراه أو نَقيسه هو ما يعنينا، فربما لا جدوى من طلب المزيد. فكيف يُمكننا تقييم منطقية أو حقيقةِ تفسير ظاهرةٍ لا يسَعُنا أن نتحقَّق منها ولو حتى نظريًّا؟ إذ بمجرد أن نُحاول، نُغير النتيجة.
التفسير الكميُّ لتجربة الشق المزدوج هو أنه يجب وصفُ كلِّ ذرة في أي لحظة محددة باستخدام مجموعة من الأرقام التي تُحدد موقعها الاحتمالي في الفراغ. هذه هي الكمية التي تَعرَّفنا عليها في الفصل الثاني باسم «الدالة الموجية». حينها، وصَفْنا تلك الدالةَ بأنها شبيهةٌ بفكرةِ تتبُّع موجة إجرامية تنتشر عبر مدينةٍ عن طريق تعيين احتمالات لحدوث جرائم سطو في الأحياء المختلفة. وبطريقةٍ مُماثلة، فإن الدالة الموجية التي تصفُ ذرة تمرُّ من خلال الشقَّين تتتبَّع احتماليةَ إيجاد الذرة في أيِّ مكان على النظام في أيِّ وقتٍ مُحدد. ولكن، وكما أكَّدنا من قبل، بما أن السارق لا بد أن يُوجَد في موقعٍ واحد من حيث المكان والزمان، وبما أن موجة «احتمال ارتكاب الجريمة» لا تصف سوى عدمِ معرفتنا بالمكان الذي يُوجَد فيه السارقُ فِعليًّا، فإن الدالة الموجية للذرة في تجرِبة الشق المزدوج «حقيقية» من حيث إنها تمثل الحالة المادية للذرة نفسها، التي ليس لها موقعٌ مُحدَّد ما لم نقِسْها، وتُوجَد في كل مكانٍ في آنٍ واحد حتى وقتِ القياس، ولكن تتفاوت الاحتمالية، بالطبع، إذ لا يُحتمل أن نعثر على الذرَّة في أماكنَ تكون دالَّتُها الموجية فيها صغيرة.
لذا بدلًا من دراسة الذرَّات الفردية التي تمرُّ في تجربة الشق المزدوج، ينبغي أن ندرس الدالةَ الموجية التي تنتقل من المصدر إلى الحاجز الخلفي. عندما تتقابلُ الدالة الموجية مع الشقَّين، فإنها تنقسم إلى نصفَين بحيث يمرُّ كل نصفٍ من أحد الشقين. لاحظ أن ما نصفُه هنا هو طريقةُ تغير كمية «رياضية» مجردةٍ بمرور الوقت. لا جدوى من السؤال عما يجري «حقًّا» حيث سيتعيَّن علينا النظرُ لمعرفةِ ما يحدث. ولكن بمجرد أن نُحاول ذلك، نغير النتيجة. إن السؤال عمَّا يجري «حقًّا» بين عمليات الرصد يُشبه السؤال عمَّا إذا كان مِصباح الثلاجة يعمل أم لا قبل أن تفتح بابَ الثلاجة؛ فلن تعرف أبدًا الإجابةَ لأنه بمجرد أن تُلقي نظرةً خاطفة على الثلاجة من الداخل يتغير النظام.
عندئذٍ يُثار السؤال: متى «تُصبح» الدالة الموجية ذرةً لها موقعٌ محدد مرةً أخرى؟ الإجابة هي: عندما نحاول اكتشاف موقعِها. عند حدوث هذا القياس، «تنحسر» الدالةُ الموجية الكمية إلى احتمالٍ واحد. مرةً أخرى، هذا مختلفٌ تمامًا عن حالة السارق؛ حيث إن عدم اليقين بشأن الأماكن التي قد يُوجَد بها اللصُّ ينحسر فجأةً إلى مكانٍ مُحدَّد بعد أن تُلقي الشرطةُ القبض عليه. في تلك الحالة، لم يؤثر العثورُ على اللص إلا في معلوماتنا بشأن الأماكن المحتملة للسارق. فهو دائمًا في مكانٍ واحد في أي وقتٍ محدد. الأمر مختلفٌ بشأن الذرَّة حيث إنها تكون في كلِّ مكان في الحقيقة، عند غياب أي قياس.
إذن، الدالة الموجية الكمية تحسب احتمالَ وجود الذرة في موضعٍ محدَّد، «لو أجْرَينا قياسًا لموضعِها في ذلك الوقت». وحينما تكون الدالَّة الموجية كبيرةً قبل القياس، فإن الاحتمال الناتج لإيجاد الذرة في ذلك الموضع سيكون كبيرًا. ولكن حينما تكون صغيرة — ربما بسبب التداخُل الموجي الهدَّام — فسيقلُّ بالتبعية احتمالُ إيجاد الذرة في ذلك الموضع عندما نُقرر النظر.
يمكننا أن نتخيَّل تتبُّعَ الدالة الموجية التي تصفُ ذرةً مفردة بعد خروجها من المصدر. إنها تتصرَّف مثل الموجة تمامًا وهي تتدفَّق نحو الشقَّين، ومن ثم ستتساوى سَعةُ احتمالها في كلِّ شقٍّ على مستوى الحاجز الأول. إذا وضَعْنا جهازَ رصد عند أحد الشقَّين، عندئذٍ ينبغي أن نتوقَّع احتمالاتٍ مُتساوية: سنرصد الذرةَ عند الشق الأيسر في ٥٠ بالمائة من الوقت وعند الشقِّ الأيمن في ٥٠ بالمائة من الوقت. ولكن إذا لم نُحاول رصد الذرة على مستوى الحاجز الأول — وذلك أمرٌ مهم — فإن الدالة الموجية تتدفَّق من الشقين من دون أن تنهار. لذا، وباصطلاحات العالم الكمِّي، يمكن أن نقول إن الدالة الموجية تصفُ ذرةً مفردة في حالةِ تراكُب؛ بمعنى أنها تُوجَد في مكانَين في آنٍ واحد، وتُناظر دالَّتها الموجية التي تمرُّ من الشقَّين الأيسر والأيمن في آنٍ واحد.
على الجانب الآخر من الشقَّين، ينتشر كلُّ جزء منفصل من الدالة الموجية — جزءٌ من الشق الأيسر، وجزء من الشق الأيمن — مرةً أخرى، ويُشكل الجزءان مجموعاتٍ من الموجات الرياضية المتداخلة، التي يُعزِّز بعضها بعضًا في بعض النقاط، ويلغي بعضها بعضًا في نقاطٍ أخرى. الناتج الإجماليُّ لهذا هو اكتساب الدالة الموجية الآن للنمط الذي يُعد السمةَ الأساسية للظواهر الموجية الأخرى مثل الضوء. ولكن لنتذكَّر أن الدالة الموجية المعقَّدة هذه الآن لا تزال تصفُ ذرةً واحدةً فقط.
على الحاجز الثاني، حيث يُقاسُ موضع الذرة أخيرًا، تُتيح لنا الدالةُ الموجية أن نحسبَ احتمالَ رصد الجُسيم في مواضعَ متفرقةٍ بطول الحاجز. تُناظر الأشرطةُ الساطعة على الحاجز المواضع التي يُعزِّز فيها جزءا الدالة الموجية، الآتيان من الشقين، بعضُهما البعضَ، وتُناظر الأشرطة المُظلمة المواضعَ التي يُلغي فيها جزءا الدالة الموجية بعضهما؛ ممَّا يعني انعدامَ احتمالية رصد الذرات في تلك المواضع.
يجب أن نتذكر أن عملية التعزيز والإلغاء — التداخل الكمي — هذه تحدث حتى لو لم يكن هناك سوى جسيمٍ مفرد في التجرِبة. وتذكَّر أنه تُوجَد مناطقُ في الحاجز يمكن أن تصِل إليها الذرَّات — المطلقة بواقعِ ذرةٍ واحدة في المرة الواحدة — عند فتح شقٍّ واحد فقط، التي لا يُمكنها الوصولُ إليها عند فتح الشقَّين معًا. ولا يكون هذا مَنطقيًّا إلا إذا وُصفت كلُّ ذرة تنطلق من مسدس الذرات بدالَّةٍ موجية يمكن أن تستكشفَ المسارَين كِلَيهما في آنٍ واحد. تُلغي الدالةُ الموجية المجمعة ذاتُ مناطقِ التداخل البنَّاء والهدَّام احتمالَ إيجاد الذرة في بعض المواضع بالحاجز التي لن تصلَ إليها إلا بفتح شقٍّ واحد فقط.
تُبدي كلُّ الكيانات الكمية — سواءٌ الجسيمات الأساسية أو الذرات والجزيئات التي تتكوَّن من تلك الجسيمات — سلوكًا متَّسقًا يُشبه الموجة بحيث يمكن أن تتداخل بعضها مع بعض. في تلك الحالة الكمية، يمكن أن يبدر منها كلُّ السلوكيات الكمية الغريبة مثل التواجُد في مكانَين في آنٍ واحد أو الدوران في اتجاهَين في آنٍ واحد أو شقِّ الأنفاق عبر الحواجز التي يستحيل اجتيازُها، أو امتلاك روابط مُتشابكة طيفية مع شريكٍ في مكان بعيد.
ولكن عندئذٍ لماذا لا يمكن أن توجد أنت أو أنا في مكانين في آنٍ واحد؛ حيث إننا في النهاية نتكوَّن من جسيماتٍ كَميَّة، الأمر الذي سيُفيدنا كثيرًا في يومٍ مزدحم بالأعمال؟ الإجابة المباشرة بسيطةٌ للغاية: كلما زاد حجم الجسم وكتلته، قلَّت طبيعته المشابهة لطبيعة الموجة، وجسم بحجم الإنسان وكتلته — أو في الحقيقة أيِّ جسم كبير بالقدْر الكافي بحيث يُرى بالعين المجرَّدة — سيكون له طولٌ موجي كمي مُتناهي الصغر، لدرجة أنه لن يكون له تأثيرٌ يمكن قياسُه. ولكن بالتعمُّق أكثر، قد ترى أن كلَّ ذرةٍ في جسمك ترصدها وتقيسها جميع الذرات الأخرى من حولها، ومن ثَم سرعان ما تتدمَّر أيُّ خصائص كمية دقيقة قد تتضمَّنُها.
إذن، ما الذي نَعنيه حقًّا بلفظةِ «قياس»؟ تناولنا هذا السؤالَ باقتضابٍ في الفصل الأول، ولكن يجب أن نبحثه عن كثَب الآن؛ حيث إنه محوريٌّ للسؤال عن مقدار «الجانب الكمي» في علم الأحياء الكمي.
القياس الكمي
على الرغم من النجاح الذي حقَّقَته ميكانيكا الكم، فإنها لا توضِّح لنا كيف ننتقل من مرحلة المعادلات التي تصف كيف يتحرَّك إلكترون، على سبيل المثال، حول ذرةٍ ما إلى ما نراه عندما نُجري قياسًا محدَّدًا لذلك الإلكترون. لهذا السبب، توصَّل الروَّاد المؤسِّسون لميكانيكا الكم إلى مجموعةٍ من القواعد المخصصة التي أصبحَت مُلحقًا للمعادلات الرياضية. إنها معروفةٌ باسم «المُسلَّمات الكمية» وهي بمنزلةِ دليل تعليمات من نوعٍ ما، يُحدد طريقة تحويل التنبؤات الرياضية للمعادلات إلى خصائصَ ملموسة يُمكننا رصدُها مثل مكان الذرة أو طاقتها في أيِّ وقت مُحدد.
بشأن العملية الفعلية نفسِها التي بمُقتضاها تتوقَّف فورًا الذرةُ عن الوجود «في أكثرَ من مكان» في آنٍ واحد وتُوجَد «في مكانٍ واحد» عندما نفحصها، فلا أحد يعلم حقًّا ما الذي يجري، وسعِدَ معظم علماء الفيزياء بتبنِّي الرأي البراجماتي القائل بأن هذا «ما يحدث وحَسْب». المشكلة أن هذا يتطلَّب تمييزًا تقديريًّا بين العالَم الكمي الذي تحدث فيه أشياءُ غريبة، وعالَمِنا العياني المنظور حيث تسلك الأجسام مسلكًا «عقلانيًّا». ينبغي أن يكون جهاز القياس الذي يكتشف الإلكترونات جزءًا من عالمنا العيانيِّ هذا. لكن لم يوضِّح مؤسِّسو ميكانيكا الكمِّ مطلقًا «كيف» و«لماذا» و«متى» تحدث عمليةُ القياس هذه.
في ثمانينيَّات القرن العشرين وتسعينيَّاته، أدرك علماء الفيزياء ما يحدث عندما يتفاعل نظامٌ كمي معزول — على سبيل المثال، الذرَّةُ المفردة في تجرِبة الشق المزدوج، ذاتُ الدالَّة الموجية التي هي في حالةِ تراكب، بمعنى الوجود في مكانَين في آنٍ واحد — مع جهازِ قياسٍ عياني مثل جهاز الرصد الموضوع عند الشقِّ الأيسر. اتضَح أن رصد الذرة (ولاحظ هنا أنه حتى عدم رصدها يعتبر قياسًا لأنه يعني ضرورةَ مرورها من الشقِّ الآخَر) يجعل الدالةَ الموجية للذرَّة تتفاعل مع تريليونات الذرَّات الموجودة في جهاز القياس. يؤدي هذا التفاعلُ المُعقَّد إلى تفكُّك الترابط الكميِّ الدقيق بسرعةٍ كبيرة وضياعه وسَط التشوُّش غير المترابط الصادر من الأشياء المحيطة به. تُسمى هذه العملية بفكِّ الترابط، وهي العملية التي قد تعرَّضنا لها في الفصل الثاني.
لكن فكَّ الترابُط لا يحتاج إلى جهاز قياسٍ كي يحدث. إنه لا يتوقَّف عن الحدوث داخل كلِّ جسم تقليدي مفرد؛ حيث إن مكوناته الكمية — الذرات والجزيئات — تخضع لاهتزازاتٍ حرارية، وتتصادم مع كل الذرات والجزيئات المحيطة بها، ومن ثَمَّ تفقد الترابُطَ الخاصَّ بها الذي يُشبه الموجة. وبهذه الطريقة، يُمكننا اعتبارُ فكِّ الترابط الوسيلة التي تستخدمها كلُّ المواد المحيطة بذرةٍ ما، على سبيل المثال — أو ما يُسمى بيئتها — في «القياس» المنتظِم لتلك الذرة وإجبارها على التصرُّف مثل الجسيمات التقليدية. في الحقيقة، فك الترابط من أسرع العمليات وأكثرِها فاعليةً في الفيزياء ككلٍّ. وبسبب هذه الفاعلية الكبيرة، ظلَّ غيرَ مكتشفٍ مدةً كبيرة. والآن فقط، أصبح علماء الفيزياء يتعلَّمون كيفيةَ التحكم فيه ودراسته.
بالعودة إلى مثال رمي الحصوات في الماء، عندما رميناها في بِركة راكدة كان سهلًا أن نرى تداخُل موجاتها مع بعضها البعض. لكن حاوِلْ رمي الحصوات نفسِها في قاع شلالاتِ نياجارا. الطبيعةُ ذاتُ التعقيدِ والفوضويةِ الشديدَين للماء تُزيل الآن أيَّ نمطِ تداخل تُولِّده الحصوات. هذه المياه المضطربة هي المقابل الكلاسيكي لحركة الجزيئات العشوائية التي تحيط بأي نظام كمي؛ مما يؤدِّي إلى فكِّ الترابط فورًا. وعلى مستوى الجزيئات، تكون معظم البيئات مضطربةً مثل الماء في قاع شلَّالات نياجارا. لا تتوقَّف الجسيماتُ داخل الموادِّ عن التدافع والتصادم مع بيئتها (الذرات الأخرى أو الجزيئات أو فوتونات الضوء).
هنا، ينبغي توضيحُ بعض المصطلحات التي نستخدمها في هذا الكتاب. نتحدث عن ذراتٍ تُوجَد في مكانَين في آنٍ واحد وتسلك مسلكَ الموجات المنتشرة، وتكون في حالةِ تراكُب من حالتَين مختلفتَين أو أكثر في آنٍ واحد. لتسهيل الأمور عليك؛ يُمكننا الاستقرارُ على مصطلحٍ واحد يضمُّ في معناه كلَّ هذه المفاهيم، ألا وهو «الترابط» الكمي. ومن ثم عندما نُشير إلى تأثيرات «الترابط»، فإننا نقصد شيئًا يتصرَّف بطريقةٍ ميكانيكية كَمية؛ حيث نرى منه سلوكًا مثل الموجة أو يقوم بأكثرَ من عملٍ في آنٍ واحد. ومن ثم «فك الترابط» عمليةٌ فيزيائية يُفقَد الترابط بموجبها، ويتحوَّل ما هو كميٌّ إلى تقليدي.
عادةً ما يُتوقَّع أن يكون الترابط الكمي قصيرَ الأجل جدًّا ما لم يكن بالإمكان عزلُ النظام الكمي عن الأشياء المُحيطة به (لتقليل عدد الجسيمات المتدافعة) و/أو خفضُ درجة حرارته إلى درجةٍ منخفضة جدًّا (لتقليل التدافع أكثر)؛ للحفاظ على الترابط الدقيق. في الحقيقة، لإثباتِ أنماط التداخُل فيما يتعلَّق بالذرات المفرَدة، يطرد العلماء كلَّ الهواء من النظام ككلٍّ ويُبرِّدوا معداتهم حتى تقترب درجةُ حرارتها من الصفر المطلَق. باتخاذ تلك الاحتياطات الشديدة، يستطيع العلماءُ إبقاءَ الذرات في حالة الترابط الكمي الهادئة مدةً طويلة بالقدْر الكافي لإثبات أنماطِ التداخل.
بالطبع مشكلة هشاشة الترابط الكمي (أي: الحفاظ على الدالَّة الموجية من الانهيار) هي التحدي الأساسي الذي واجهَ مجموعةَ أستاذةِ معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذين تقابلنا معهم في الفقرات الاستهلالية لهذا الفصل، وزملاءهم في جميع أنحاء العالم، في سعيِهم لبناء جهاز كمبيوتر كمي؛ وهذا سببُ ارتيابهم الكبير بشأنِ ما ورد في صحيفة «ذا نيويورك تايمز» بأن النباتات كانت أجهزةَ كمبيوتر كمِّية. يبتكرُ علماء الفيزياء كافة أنواع الاستراتيجيات الذكية والمُكلفة لحماية العالم الكمي داخل أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم؛ من البيئة الخارجية المدمِّرة للترابط. لذا اعتُقد على نحوٍ مفهوم أن إمكانية الحفاظ على الترابط الكمِّي في البيئة الحارة والرطبة والمضطربة جزئيًّا الموجودة داخل نصل عُشب؛ فكرةً مجنونة.
ومع ذلك، نعلَم الآن أن العديد من العمليات البيولوجية المهمة على المستوى الجزيئيِّ يُمكن أن تكون بالفعل فائقةَ السرعة (بمقياسِ جزءٍ على تريليون من الثانية)، ويُمكن أيضًا قصرُها على مسافاتٍ ذرِّية قصيرة — الأطوال والمقاييس الزمنية التي يُمكن من خلالها أن يكون لعملياتٍ كمية مثل النفق الكمي تأثير. ومِن ثَمَّ، على الرغم من أنه لا يمكن أبدًا منعُ فكِّ الترابط بالكامل، فإنه يُمكن إرجاءُ حدوثه مدةً طويلة بالقدر الكافي حتى يُمكنَ تحقيقُ استفادة بيولوجية معينة.
رحلة إلى مركز عملية البناء الضوئي
انظر إلى السماء مدةَ ثانية، وسينزل في عينك عمودٌ من الضوء بطول ١٨٦ ألف ميل. في تلك الثانية نفسِها، تمتصُّ النباتاتُ وميكروبات البناء الضوئي عمودَ ضوء الشمس لعمل ما يُقارب ١٦ ألفَ طنٍّ من المادة العضوية الجديدة في شكلِ شجرٍ وعُشب وطحالب وهندباء وشجر سيكويا ضخم وشجر تفاح. نهدفُ في هذا القسم إلى اكتشاف كيف تتمُّ تلك الخطوةُ الأولى في عملية تحويل الجمادات إلى كلِّ الكتلة الحيوية الموجودة على كوكبنا تقريبًا، وسيكون مثالُنا هنا على هذا التحويل هو تحوُّلَ هواءِ نيو إنجلاند إلى تفاحةٍ في شجرة نيوتن.
لرؤية هذه العملية عمَليًّا؛ سنقترضُ الغواصة النانوية التي استخدَمْناها لاستكشافِ عمل الإنزيمات في الفصل السابق مرةً أخرى. بمجرد الركوب على متن الغواصة والضغط على زرِّ تصغير الحجم، تنطلِق في رحلةٍ إلى الأعلى حتى تصلَ إلى أوراق الشجرة وترسُوَ على إحدى أوراقها المنبسطة. لا تفتأ الورقة تتمدَّد حتى تختفيَ حافاتُها البعيدةُ خلف الأفق ويُصبح سطحها الأملسُ في ظاهرِهِ ساحةً غيرَ منتظمة معبَّدة بقوالب القرميد الخضراء المُستطيلة المثقوبة بكتلٍ دائرية ذات لون أفتح، ويتخلَّل كلًّا منها ثقبٌ مركزي. يُطلَق على القرميد الأخضر خلايا البشرة ويُطلق على الكتل الدائرية الثغور، ووظيفتها السَّماح للهواء والماء (وهما ركيزتا عمليةِ البناء الضوئي) أن يمرَّا من سطح الورقة إلى أجزائها الداخلية. تتوجَّه بالمركبة صوب أقربِ ثغرٍ وعندما لا يتعدى طولُ السفينة ميكرونًا واحدًا (أي: واحدًا على مليونٍ من المتر)، تخفض مقدمة السفينة للغوص في الثقب، وتمرق إلى الجزء الداخلي الأخضر والناضر للورقة.
بمجرد الدخول، تستقرُّ في المساحة الواسعة والهادئة إلى حدٍّ كبير الموجودة داخل الورقة، التي تتميز بأرضيةٍ مصفوفة بالخلايا الخضراء التي تُشبه الصخور، وبسقفٍ من الكابلات الأسطوانية السميكة. الكابلات هي «أوردة» الورقة، ووظيفتها إما توصيلُ الماء من الجذور إلى الورقة (الأوعية الخشبية) أو نقلُ السكَّر الحديثِ الصُّنع من الورقة إلى باقي النبات (الأوعية اللِّحائية). إذا قلَّصتَ حجم السفينة أكثر، فستجد أن وجه الخلية الشبيهَ بالصخور يتمدَّد في كل الاتجاهات حتى يُصبح بمساحةِ ملعب كرة قدم. ببلوغ هذا المقياس الذي يبلُغ طوله الآن نحو ١٠ نانومترات أو واحدًا على مائةِ ألف من الميلليمتر، يمكن أن ترى أن سطحها مكسوٌّ بشبَكةٍ مرِنة من الحبال، وكأنها بِساطُ جوت سَميك. هذه المادة التي تُشبه الحبال هي «جدار الخلية»، وهو بمنزلة هيكلٍ خارجي خلوي. الغواصة النانوية الخاصة بك مجهزةٌ بأدوات تستخدمها للمرور داخل ذلك البساط المرن؛ مما يكشف عن طبقةٍ سُفلية شمعية، هي غشاءُ الخلية، وهي تُعد الحاجزَ الأخير الواقيَ من نفاذ الماء الواقع بين الخلية وبيئتها الخارجية. بالفحص عن قربٍ أكثر، يتبيَّن أن تلك الطبقة ليست مَلْساءَ تمامًا، ولكنها مُثقلةٌ بحُفَر ممتلئةٍ بالماء. يُطلق على قنوات الغشاء هذه «البورينات» وهي بمنزلةِ نظام الصرف الخاص بالخلية؛ إذ تسمح بدخول العناصر الغذائية وخروج الفضلات. ولدخول الخلية، لن تحتاج سوى إلى الانتظار بطولِ أحد البورينات حتى يتمدَّد بالقدرِ الذي يسَعُك كي تغوصَ في الجزء الداخلي المائي للخلية.
بمجرد الدخول إلى قناة البورين، يمكن أن تُدرك من فَورِك أن التكوين الداخلي للخلية مختلفٌ تمامًا عن تكوينها الخارجي. فبدلًا من الأعمدة العظيمة والمساحات الواسعة، التكوين الداخلي مزدحمٌ وفوضوي نوعًا ما. إنه يبدو وكأنه مكانٌ مليء بالحركة جدًّا! يُطلَق على السائل المائي الذي يملأ الخلية اسم السيتوبلازم، ومن صفاته أنه ثخينٌ ولزج؛ وفي بعض الأماكن يكون قوامه أقربَ إلى الهُلام منه إلى السائل. يُعلَّق في تلك المادةِ الهلامية آلافُ الأجسام الكروية غير المُنتظِمة ويبدو أنها في حالةِ حركة داخلية مستمرَّة. إنها إنزيماتُ البروتينات — وتُشبه تلك التي قابلناها في الفصل السابق — وهي مسئولةٌ عن تنفيذ عمليات الأيض في الخلايا، حيث إنها تكسر العناصرَ الغذائية، وتُكوِّن الجزيئاتِ الحيوية مثل الكربوهيدرات والحمض النووي والبروتينات والدهون. العديد من تلك الإنزيمات مُقيَّد في شبكةٍ من الكابلات («الهيكل الخلوي») التي يبدو أنها تسحب عددًا هائلًا من الحمولات إلى العديد من الوجهات داخل الخلية، وكأنها كابلاتٌ لمصاعد المتزلِّجين. يبدو أن شبكة النقل تلك تنبثقُ من عدة محاور، حيث تُثبَّت الكابلات في كبسولاتٍ خضراء كبيرة. هذه الكبسولات هي «البلاستيدات الخضراء» الخاصة بالخلية، وبداخلها يحدُث الجزء المركزي من عملية البناء الضوئي.
تنطلق بالغواصة عبر السيتوبلازم اللزج. تتقدم ببطء ولكن في النهاية ترسو عند أقربِ بلاستيدةٍ خضراء. إنها تقبع تحتك وكأنها بالونٌ أخضرُ كبير. يمكن أن ترى أنها، شأن الخلية التي تضمُّها، محاطةٌ بغشاءٍ شفاف ترى من خلاله أكوامًا كبيرة من الأجسام التي تُشبه العملات المعدنية. يُطلق على تلك الأجسام اسم «الثايلاكويدات» وتتَّسم بأنها مكتظةٌ بجزيئات الكلوروفيل، وهي الصبغة التي تُعطي النباتَ اللونَ الأخضر. الثايلاكويدات هي محركاتُ عملية البناء الضوئي وعندما يتمُّ تزويدُها بوَقودِ فوتونات الضوء، فإنها يمكن أن تربط ذراتِ الكربون (المُمتصَّة من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء) مع بعضها البعض؛ لإفراز السكر الذي سيتخلَّل تفاحتنا. لإلقاء نظرةٍ أفضل على تلك الخطوة الأولى من عملية البناء الضوئي، تتَّجه بالغواصة إلى أحد الثقوب في غشاء البلاستيدات الخضراء بحيث تتجه إلى أعلى عملة خضراء في كومة الثايلاكويدات. عندما تصل إلى وجهتك، توقف تشغيل محرِّك غواصتك وتترك سفينتك تحوم فوق محطة الطاقة تلك الخاصة بعملية البناء الضوئي.
يقبع أسفل منك واحدةٌ من تريليونات آلات البناء الضوئي التي تُصنِّع الكتلة الحيوية في هذا العالم. من موقع المراقبة هذا، ترى، مثلما اكتشفنا لمَّا درَسْنا آليةَ عمل الإنزيمات في الفصل السابق، أنه على الرغم من هذا الكمِّ الهائل من التصادُم بين الجزيئات الذي يُشبه تصادمَ كراتِ البلياردو من حولك، إلا أن هناك قدرًا هائلًا من النظام. السطح الغشائي للثايلاكويد مرصَّع بجزر خضراء وَعْرة مغطَّاة بهياكلَ تُشبه الأشجار تنتهي بوحدات خماسية الأضلاع تُشبه الهوائيات. هذه الوحدات عبارةٌ عن جزيئات تجمع الضوء وتُسمَّى «الكروموفورات» والتي من أشهر أمثلتها الكلوروفيل، وهذه الجزيئات هي التي تُنفذ أول خطوة مهمة في عملية البناء الضوئي ألا وهي امتصاص الضوء.
لكن عادةً ما تكون مراكزُ التفاعل بعيدةً للغاية عن جزيئاتِ الكلوروفيل المثارة (إذ تفصل بينهما مسافاتٌ نانومترية بلغةِ الجزيئات)، ومن ثم يجب نقلُ الطاقة من جزيءٍ هوائي إلى آخَر داخل غابة الكلوروفيل من أجل الوصول إلى مركزِ التفاعل. قد يحدث هذا بفضل الطبيعة المكتظَّة بشدةٍ للكلوروفيل. قد تُثار الجزيئات نفسُها المتاخمة للجزيء الذي امتصَّ الفوتون، ومن ثم ترثُ بفاعلية طاقة الإلكترون الذي أُثيرَ في البداية، التي تنتقل حينئذٍ إلى إلكترونِ ذرة المغنيسيوم الخاصِّ بها.
بالطبع تكمنُ المشكلةُ في اختيار المَسار التي تتَّخذه عمليةُ نقل الطاقة هذه. إذا اتخذتَ اتجاهًا خاطئًا وأخذتَ تقفز على نحوٍ عشوائي من جُزيء إلى آخَر في غابة الكلوروفيل، فستفقدُ طاقتَها في النهاية بدلًا من أن تُوصلها إلى مركز التفاعل. إذن ما الطريق الذي ينبغي عليها اتباعُه؟ ليس هناك متَّسعٌ من الوقت أمامها كي تجدَ الطريق إلى وجهتها قبل أن تنتهيَ صلاحيةُ الإكسيتون.
حتى وقتٍ قريب، كان يُعتقَد أن عملية القفز هذه من جزيءٍ إلى آخَر في الكلوروفيل تجري بطريقة عشوائية؛ إذ تتبنَّى في الأساس استراتيجيةَ الملاذ الأخير، المعروفةَ باسم السَّير العشوائي. يُشار إلى تلك الاستراتيجية في بعض الأحيان باسم «سير الثَّمِل»؛ لأنها تُشبه المسار الذي يتخذه الإنسانُ الثَّمِل وهو يخرج من الحانة؛ إذ يظل يترنَّح بين الطرقات حتى يجد الطريقَ إلى منزله في النهاية. لكن السير العشوائي ليس وسيلةً فعالة جدًّا في الوصول إلى أي مكان؛ إذا كان منزل الثَّمِل بعيدًا، فربما يستيقظ في الصباح التالي ويجد نفسَه مُمدَّدًا في دَغْلٍ في الجانب الآخَر من المدينة. الجسم الذي يتَّخذ استراتيجيةَ السير العشوائي سيميلُ إلى الابتعاد عن نقطةِ الانطلاق بمسافةٍ تتناسب مع الجَذر التربيعي للوقت المستغرق. فإذا قطع الثملُ مسافةَ مترٍ في دقيقةٍ واحدة، فسيقطع مترَين في أربع دقائق وثلاثةَ أمتار في تسع دقائق. بناءً على هذا التقدُّم المُتثاقِل، فلا عجب من أن الحيوانات والميكروبات نادرًا ما تستخدِم السَّير العشوائي للعثور على الطعام أو الفريسة، ولا تلجأ إليه إلا في حالةِ غياب الخيارات الأخرى. أنزِلْ نملةً على أرضٍ لا تعرفها وبمجرد أن تشتمَّ رائحة، ستترك السَّير العشوائي وتتبع حاسةَ الشمِّ لديها.
لعدم امتلاكِها حاسةِ شمٍّ أو مَهارات مِلاحة، كان يُعتقَد أن طاقة الإكسيتون تتقدَّم بين جَنبات غابة الكلوروفيل باستخدام استراتيجية سير الثمِل. ولكن تلك الصورة ليست منطقيةً كثيرًا حيث إن المعروف عن هذا الحدث الأول في عملية البناء الضوئي أنه يمتازُ بفاعليةٍ استثنائية. في الحقيقة، نقلُ طاقة الفوتون المُمتصَّة من جُزيءٍ هوائي الكلوروفيل إلى مركز التفاعل يمتاز بأقصى درجات الفاعلية مقارنةً بأي تفاعل معروفٍ آخَر سواءٌ كان طبيعيًّا أو اصطناعيًّا؛ إذ توشك نسبةُ فاعليته أن تبلغ ١٠٠ بالمائة. وفي أفضل الظروف، يصل تقريبًا كلُّ جزء من الطاقة التي امتصَّها جزيءُ الكلوروفيل إلى مركز التفاعل. إذا كان المسار المسلوك متعرجًا، فستُفقد كل أجزاء الطاقة تقريبًا أو مُعظمها بالتأكيد. إن الطريقة التي تستطيع أن تعثر بها طاقةُ البناء الضوئي هذه على طريقها إلى وجهتها، وذلك على نحوٍ أفضل بكثير من مشية الثمِل أو النمل، أو في الحقيقة التكنولوجيا الخاصة بنا ذات الكفاءة العالية في استخدام الطاقة، كانت ولا تزال واحدةً من أكبر الألغاز في علم الأحياء.
النبضة الكمية
على الرغم من تشكُّك أعضاء النادي البحثي، فإنهم أوكَلوا إلى سيث لويد مهمةَ البحث في هذا الزعم. لدهشة الجميع في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ توصَّلَت التحرياتُ العِلمية التي أجراها لويد إلى وجودِ سندٍ حقيقي بالفعل لِمَزاعم مجموعة جامعة بيركلي. النبضات التي اكتشفتها مجموعةُ فليمنج في مركَّب فينا-ماثيوز-أولسون كانت بالفعل علامةً على الترابط الكمي، واستنتج لويد أن جُزيئات الكلوروفيل كانت تُنفذ استراتيجيةَ بحثٍ جديدةً تُعرف باسم «السَّير الكمي».
يمكن أن تتَّضح أفضليةُ السَّير الكميِّ على السير العشوائي الكلاسيكي بالعودة إلى مِثالنا الخاصِّ بالرجل الثمل المتثاقلِ الخُطى، وتخيُّلِ أن الحانة التي غادرها اندفع منها تسريبٌ للماء، والماءُ ينهمر من بابها. وعلى خلاف الرجل المخمور الذي لا بد أن يختار مَسارًا واحدًا، فإن موجات المياه التي تخرج من الحانة تتقدَّم في كل الاتجاهات الممكِنة. وعمَّا قريبٍ سيجد هذا السائرُ المخمور نفسَه وقد لحقَه الماء؛ لأن موجة الماء تتقدَّم عبر الشوارع بسرعةٍ تتناسب ببساطةٍ مع الوقت المُستغرَق وليس مع جَذْرِه التربيعي. ومن ثم إذا كانت المياه تتقدَّم بسرعةِ مترٍ واحد في الثانية، فستقطعُ مسافةَ مترَين بعد ثانيتَين، وثلاثةَ أمتار بعد ثلاثِ ثوانٍ، وهكذا دواليك. ليس لهذا السبب فحَسْب، بل لأنها، مِثلَ الذرة التي في حالة التراكب في تجربة الشق المزدوج، تسير في كل المسارات الممكِنة في آنٍ واحد، وبالتأكيد سيصِل جزءٌ من مقدمة الموجة إلى منزل السِّكير قبل أن يصلَ إليه هو.
أثارت الورقة البحثية التي طرحَها فليمنج موجةً من الدهشة والذعر تجاوزَت الناديَ البحثي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. لكن هُرِع بعضُ المُعلقين إلى الإشارة بأن التجارِب أُجريت باستخدام مُركَّبات فينا-ماثيوز-أولسون معزولةً، جرى تبريدها حتى درجة ٧٧ كلفن (التي تساوي ١٩٦ درجةً مئوية تحت الصفر)؛ ومن الواضح أنها أبردُ بكثيرٍ من أيِّ درجة حرارة تتوافق مع عملية البناء الضوئي في النبات أو حتى مع الحياة، لكن انخفاض درجة الحرارة إلى هذا الحدِّ كفيلٌ بأن يمنع فكَّ الترابط. ما مدى ارتباط هذه البكتيريا التي خُفِّضَت درجةُ حرارتها بشدةٍ بأي شيء يحدث في الأجزاء الداخلية الحارة والفوضوية لخلايا النبات؟
قبل أن نَمضي قدُمًا، سنصف باختصارٍ كيف تُستخدَم طاقة الإكسيتون المأخوذةُ من الشمس — بحسب تعبير فاينمان — لفكِّ ترابُط «الأكسجين عن الكربون … ومِن ثَم يُترك الكربون، والماء، ليكونا مادةَ الشجرة»، أو التفاحة.
يسير كلُّ شيءٍ على ما يرام حتى الآن؛ أصبح لدينا الآن إمدادٌ من الإلكترونات الحرة بفضل الطاقة التي تُوفِّرها الإكسيتونات في الكلوروفيل. بعد ذلك، يحتاج النبات إلى إرسالِ تلك الإلكترونات إلى المكان الذي يمكن أن يكون لها دورٌ فيه. أولًا: تُلتقَط الإلكترونات بناقلٍ مختص بالإلكترونات في الخلية وهو نيكوتيناميد أدينين الفوسفات الثنائي النكليوتيد المختزَل. التقينا مع جُزيءٍ مُشابهٍ وهو نيكوتيناميد الأدينين الثنائي النكليوتيد المختزل على نحوٍ وجيز في الفصل السابق، وقُلنا إنه مشتركٌ في نقل الإلكترونات التي تُلتقَط من العناصر الغذائية مثل السُّكَّر إلى سلسلةِ إنزيمات تنفُّسية في عُضيَّات الطاقة الخاصة بالخلية، التي تُسمى بالميتوكوندريا. إذا كنتَ تتذكَّر، تتدفَّق الإلكترونات الملتقطة المنقولة إلى الميتوكوندريا من خلال جُزيء نيكوتيناميد الأدينين الثنائي النكليوتيد المختزل إلى سلسلةِ إنزيمات تنفُّسية في صورةِ تيارٍ كهربي يُستخدَم لضخِّ البروتونات عبر غشاء، ويُستخدَم التدفُّق العكسي لهذه البروتونات في تخليقِ حامل الطاقة في الخلية وهو الأدينوسين الثلاثي الفوسفات. تُستخدَم عمليةٌ مُماثلة جدًّا لإنتاج الأدينوسين الثلاثي الفوسفات في البلاستيدات الخضراء للنبات. إن نيكوتيناميد أدينين الفوسفات الثنائي النكليوتيد المختزل ينقل الإلكترونات التي يَحملها إلى سلسلةِ إنزيمات تضخُّ البروتونات بطريقةٍ مُماثلة خارجَ غشاء البلاستيدة الخضراء. يُستخدَم التدفُّق العكسي لتلك البروتونات لإنتاج جُزيئات الأدينوسين الثلاثي الفوسفات التي يمكن أن تستمرَّ بعد ذلك في توفير الطاقة اللازمة للكثير من العمليات المحتاجة إلى الطاقة في خلية النبات.
لكن عملية تثبيت الكربون الفعلية تحدُث خارج الثايلاكويد وإن كانت لا تزال داخل حدود البلاستيدة الخضراء، وعملية تثبيت الكربون عبارةٌ عن التقاط ذرَّات الكربون من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء واستخدامها لتخليق جزيئات عضوية غنيَّة بالطاقة مثل السكر. وتلك العملية يقوم بها إنزيمٌ ضخم يُسمَّى روبيسكو، الذي يكاد يكون أكثرَ بروتين موجود على الكوكب حيث إن عليه القيامَ بأكبرِ مهمة؛ ألا وهي تخليق كل الكتلة الحيوية في العالم تقريبًا. هذا الإنزيم يدمج ذرةَ الكربون المسحوبة من ثاني أكسيد الكربون في جزيءِ سكرٍ بسيط خماسي الكربون يُسمى ريبولوز-٥,١- مضاعف الفوسفات لتخليقِ سكر سداسيِّ الكربون. للقيام بهذا، فإنه يستخدم المكوِّنَين اللذين توفَّرا له، وهما الإلكترونات (التي يوفرها نيكوتيناميد أدينين الفوسفات الثنائي النكليوتيد المختزل)، ومصدر الطاقة (الأدينوسين الثلاثي الفوسفات). كِلا المُكونَين ناتجان عن العمليات المُحفَّزة بالضوء في عملية البناء الضوئي.
سرعان ما ينقسم السكر السداسيُّ الكربون الذي أنتجَه إنزيم روبيسكو إلى اثنين من السكر الثلاثي الكربون، يرتبط أحدُهما بالآخَر بعد ذلك بالعديد من الطرق المختلفة؛ لتخليق كلِّ الجزيئات الحيوية التي تُنتج شجرةَ التفاح، بما في ذلك ثِمارُها. وهكذا بمساعدة الضوء وبعض آليات ميكانيكا الكم، تحوَّل هواء نيو إنجلاند وماؤها اللذان يُعدان من الجمادات إلى النسيج الحي لشجرة في نيو إنجلاند.
بالمقارنة بين عملية البناء الضوئي في النبات وعملية التنفُّس (حرق الطعام) التي تحدث في خلايانا، والتي تناولناها في الفصل السابق، تستطيع أن ترى أنه في الواقع لا يُوجَد اختلافٌ داخلي كبير بين الحيوان والنبات. يكمن الفرقُ الأساسي في المكان الذي يحصل منه كلٌّ منا على اللبنات الأساسية للحياة. كِلانا يحتاج إلى الكربون، ولكن النباتات تحصل عليه من الهواء ونحن نحصل عليه من المصادر العضوية مثل النباتات نفسِها. كلانا يحتاج إلى الإلكترونات لبناء الجزيئات الحيوية؛ نحن «نحرق» الجزيئات العضوية لالتقاط إلكتروناتها، ولكن النباتات تَستخدِم الضوء كي «تحرق» الماء لالتقاط إلكتروناتها. وكِلانا يحتاج إلى الطاقة: إننا نحصل عليها من الإلكترونات العالية الطاقة التي نحصل عليها من الطعام عن طريقِ إنزالها من على تِلال طاقة التنفُّس؛ وتلتقط النباتات طاقة الفوتونات الشمسية. وكل عملية من تلك العمليات تتضمَّن حركة الجسيمات الأساسية التي تحكمها القواعد الكمية. يبدو أن الحياة تستغلُّ العمليات الكمية كي تستمر.
إن اكتشاف الترابط الكمي في الأنظمة الحارة والرطبة والمضطربة مثل النباتات والميكروبات كان بمنزلة صدمةٍ كبيرة لعلماء فيزياء الكم، ومن ثم أصبح جزءٌ كبير من الأبحاث حاليًّا يركز على التحديد الدقيق لكيفية حماية الأنظمة الحية لحالات الترابط الكمي الحساسة الخاصة بها واستفادتها منها. سنعود إلى هذا اللغز في الفصل العا شر حيث سنعرض بعض الإجابات المحتملة المدهشة للغاية التي قد تساعد حتى علماء الفيزياء — مثل مُنظِّري الكم هؤلاء التابعين لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذين أشرنا إليهم — على بناء أجهزة كمبيوتر كمية عملية يُمكن أن تعمل على مكتبك بدلًا من أن تضعها في الديب فريزر. من المُحتمل أيضًا أن يؤديَ البحثُ إلى ظهور جيلٍ جديد من تقنيات البناء الضوئي الاصطناعي. تعتمد الخلايا الشمسية الحاليَّة بوجهٍ عامٍ على مبادئ البناء الضوئي، كما أنها تتنافس بالفعل مع الألواح الشمسية على حصةٍ في سوق الطاقة النظيفة، ولكن كفاءتها محدودةٌ بسبب ما يُهدَر في عملية نقل الطاقة (تبلغ الكفاءة في أفضل حالاتها ٧٠ بالمائة مقارنةً بكفاءةٍ تكاد تبلغ ١٠٠ بالمائة في خطوةِ التقاط طاقة الفوتونات في عملية البناء الضوئي). إن الجمع بين الترابط الكميِّ المُستوحى من علم الأحياء والخلايا الشمسية من شأنه أن يَزيد من كفاءة الطاقة الشمسية زيادةً كبيرة؛ ومن ثم يؤدي إلى بيئةٍ أقلَّ تلوثًا.
وأخيرًا، لنتوقَّف لحظةً للتفكُّر في أهمية ما أضفْناه إلى فهمنا عن الأشياء المميزة في الحياة. لنتفكر مرةً أخرى في تلك النبضات الكمية التي رآها جريج إنجل لأول مرةٍ في بياناتِ مركب فينا-ماثيوز-أولسون الخاصة به التي أظهرت أن الجسيمات تسير داخل الخلايا الحية في صورة موجات. هناك ميلٌ إلى اعتبار هذه النبضات ظواهرَ تظهر فقط داخلَ حدود المُختبرات وهي ليست ذاتَ أهميةٍ خارج نطاقِ التجارِب الكيميائية الحيوية. ولكن الأبحاث اللاحقة أظهرَت أنها موجودة بالفعل في العالَم الطبيعي أيضًا، وبداخل الأوراق والطحالب والميكروبات، وأن لها دورًا، قد يكون بالغ الأهمية، في بناء مُحيطنا الحيوي.
إضافةً إلى ذلك، بعض الأجسام العيانية حسَّاسة تجاه الظواهر الكمية، ومعظم هذه الأجسام حية. اكتشفنا في الفصل السابق كيف أن النفقَ الكمي داخل الإنزيمات يُمكن أن يُحدِثَ فرقًا في الخلايا ككُل، وفي هذا الفصل رأينا كيف أن حدث التقاط الفوتونات الأوَّلي المسئول عن تكوينِ معظم الكتلة الحيوية على الكوكب يبدو أنه يعتمِد على ترابطٍ كمِّي دقيق يمكن الحفاظُ عليه أوقاتًا زمنية ذاتَ صلةٍ بيولوجيًّا داخل الجزء الداخلي الدافئ، ولكن عالي التنظيم في الورقة أو الميكروب. مرةً أخرى، نرى أن مبدأ شرودنجر «تولُّد النظام من النظام» قادرٌ على توضيح الأحداث الكمية، وما أطلق عليه يوردان «تضخُّم» الظواهر الكمية في العالم العياني. يبدو أن الحياة تربط بين العالم الكمي والعالم الكلاسيكي، حيث إنها تجثو على الحافة الكمية.
في الفصل القادم، سنُوجِّه اهتمامنا إلى عملية جوهرية أخرى في محيطنا الحيوي. ما كان لشجرة تفاح نيوتن أن تُثمر أيَّ تفاحٍ إذا لم تُلقِّح زهرتَها أولًا الطيورُ والحشرات، لا سيما النحل. لكن كان على النحل أن يجد طريقَه إلى زهرة الشجرة، والنحل يفعل ذلك باستخدام إمكانيةٍ أخرى يعتقد الكثيرون أنها تتحفَّز بميكانيكا الكم؛ ألا وهي حاسة الشم.
هوامش
-
(١)
هذه تذبذباتٌ في مستوى الصوت — أي: نوع من الخفَقات — تنتج عن نغمتَين موسيقيتَين لهما التردُّد نفسُه تقريبًا، ومتناغمتَين تقريبًا. والمقابل الإنجليزي لمصطلح «نبضة» beat له استخدامٌ أكثرُ شيوعًا في الموسيقى؛ حيث يَعني الإيقاع.
-
(٢)
يجب أن يكون الشقَّان رفيعَين بشدةٍ وقريبَين بعضهما من بعض للغاية. في التجارِب التي أُجريت في تسعينيَّات القرن العشرين، كان الحاجز عبارةً عن لوحٍ من الرقائق الذهبية وكان عرضُ كلِّ شق يساوي تقريبًا ميكرومترًا واحدًا (أي: واحدًا على ألفٍ من الميلليمتر).
-
(٣)
نفترض هنا أن جهاز الرصد يمتاز بكفاءةٍ تامة، وسيُصدر صوتًا إذا مرَّت الذرَّة من خلال الشقِّ الذي يُراقبه، ولكنه لن يتداخل مع مَسار الذرة. بالطبع هذا غيرُ ممكن عَمليًّا؛ حيث إننا لا نستطيع تحاشيَ اعتراض مسار الذرة خلال عملية الرصد، كما سنرى بعد قليل.
-
(٤)
الفيمتو ثانية تساوي واحدًا من مليون مليار من الثانية، أو ١٠ −١٥ ثانية.
-
(٥)
تدور مسألة البائع المُتجوِّل حول إيجاد أقصرِ طريق يمرُّ بعددٍ كبير من المدن. اصطلح علماءُ الرياضيات على وصفِ تلك المسألة بأنها «مسألةٌ كثيرة الحدود وغيرُ قطعيَّة»؛ بمعنى أنه لا تُوجَد فيها طريقةٌ مختصرةٌ لإيجاد الحلِّ ولو حتى نظريًّا، والطريقة الوحيدة لإيجاد الحل الأمثل هي البحث الكثيف والمُضْني باستخدام الكمبيوتر عبر كلِّ الطرق الممكنة.
-
(٦)
عندما نقول «احتراق الماء»، فبالطبع لا نقصد أن الماء وقودٌ مثل الفحم، ولكننا نستخدم المصطلح على نحوٍ فضفاض للإشارة إلى عملية الأكسدة الجزيئية.
-
(٧)
يجب أن نُضيف توضيحًا هنا؛ حيث إن ميكانيكا الكم لا تستطيع أن تُفسر حتى الآن قوة الجاذبية، حيث إن نظرية النسبية العامة (التي توضح كيف نفهم الجاذبية) يبدو أنها لا تتفق مع ميكانيكا الكم. ولذلك، فإن الجمع بين ميكانيكا الكم ونظرية النسبية العامة لبناء نظريةٍ كمية عن الجاذبية؛ لا يزال من أكبر التحديات التي تُواجِه الفيزياء.