الفراشة وذبابة الفاكهة وطائر أبي الحناء الكمِّي
وُلد فريد أوركهارت في تورونتو بكندا عام ١٩١٢ والتحق بمدرسةٍ يحدُّها مُستنقعٌ مليءٌ بنباتات البوط. في تلك البقعة، قضى ساعاتٍ لا حصر لها يرصد الحشرات، لا سيما الفراشات التي تقطن أحواضَ القصب. كان الوقت المفضَّل لدَيه هو مطلعَ الصيف حينما يشهد المستنقعُ وصولَ آلافِ الفراشات الملكيَّة، تلك الفراشات الشهيرة في أمريكا الشمالية ذات نمط الأجنحة المألوف الذي يجمع بين اللونَين البرتقالي والأسود. تقضي الفراشاتُ الملكية مدةَ الصيف هناك كي تتغذَّى على نباتات الصقلاب التي تنمو في تلك البقعة قبل أن ترحل مرةً ثانية في فصل الخريف. كان فريد يتبادر إلى ذهنه سؤالٌ مُحدَّد وهو: إلى أين تذهب تلك الفراشات؟
كما يُنسب للقديس بولس، عادةً عندما نصير كبارًا نتجاهلُ ما كنا نهتمُّ به ونحن أطفال. لكن هذا لا ينطبق على فريد، الذي لمَّا كَبِرَ لم يتوقَّف عن التفكير في المكان الذي تقضي فيه الفراشاتُ الملكية فصلَ الشتاء. وبعد دراسة علم الحيوان في جامعة تورونتو، وبعدما أصبح في النهاية أستاذًا في هذا المجال، عاد إلى سؤالِ طفولته. حينذاك، كان قد تزوَّج من نورا باترسون، وهي عالمةُ حيوان زميلةٌ ومُحبة أيضًا للفراشات.
باستخدام الأساليب الكلاسيكية في وَسْم الحيوانات، حاوَل فريد ونورا أن يكتشفا سرَّ اختفاء الفراشات الملكية. لم تكن المهمةُ سهلة. وعلى الرغم من فاعلية طريقة ربط الوسوم في أقدام طيور أبي الحناء أو تثبيتها في زعانف الحيتان، فإن تثبيت وسوم في أجنحة الفراشات الرقيقة الغشائية يفرض تحديًا مختلفًا تمامًا. جرَّب الزوجان تثبيتَ علاماتٍ لاصقةٍ ووسومٍ بها غِرَاء في أجنحة الحشرات؛ ولكن إما أن تسقط العلامات أو الوسوم أو تُعاني الفراشات الموسومة مُشكِلةً في الطيران. لم يتوصَّلا إلى حلٍّ لهذه المشكلة إلا في عام ١٩٤٠ عندما استخدما علامةً لاصقة صغيرة تُشبه العلامات التي يصعب كشطُها من الأواني الزجاجية المُشتراة حديثًا. لمَّا تجهَّزا بتلك العلامات، بدَآ في وَسْم مئات الفراشات الملكية وإطلاقها، وبذلك أصبح لكلٍّ منها وسمٌ يحمل رقمًا تعريفيًّا وتعليمات تقول إنه إذا عُثر عليها، فعلى مَن يجدها أن يُخطِر قسم علم الحيوان بجامعة تورونتو.
لكن كانت هناك ملايينُ الفراشات الملكية في أمريكا، وليس هناك سوى اثنين راصدَين لها، وهما فريد ونورا أوركهارت. لذا بدأ الزوجان توظيفَ متطوِّعين، وبحلول خمسينيَّات القرن العشرين، حُشِدَت شبكةٌ تضمُّ آلاف المُحبين للفراشات، الذين وسَمُوا بدورهم مئاتِ الآلاف من الفراشات وأطلَقوها، ثم أعادوا إمساكها وتسجيلَها. ولما استمرَّ الزوجان في تحديثِ خريطة تتبع مواقع الإمساك بالفراشات وإطلاقها، ظهر نمطٌ تدريجيًّا. عادةً ما كان يُمسك بالفراشات التي انطلقَت من تورونتو على طول مسارِ طيران قُطري يتَّجه نحو الجنوب ويَعبر الولايات المتحدة من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، مارًّا بولاية تكساس. لكن على الرغم من الرحلات الميدانية الكثيرة، لم يتمكَّن الزوجان أوركهارت من تحديدِ الوجهة النهائية لهذه الفراشات التي تَقْضي فصل الشتاء في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة.
في النهاية، وجَّه الزوجان أوركهارت أعيُنَهما نحو الجنوب أكثر، وفي عام ١٩٧٢، كتبَت نورا المحبَطة عن مشروعهما إلى الجرائد في المكسيك تطلُب مُتطوِّعين للإبلاغ عن أي فراشاتٍ يرَونها والمساعدة في وضع الوسوم. في فبراير ١٩٧٣، وصل خطابٌ من شخص يُدعى كينيث سي براجر من مدينة مكسيكو سيتي يعرض المساعدة. بدأ كينيث البحثَ بمساعدةِ كلبه كولا، وأخذ يقود شاحنةَ التخييم الصغيرةَ الخاصة به عبر الريف المكسيكي في وقتٍ متأخِّر من المساء بحثًا عن الفراشات. وبعد عام، في أبريل ١٩٧٤، أرسل خبرًا أنه رأى أعدادًا كبيرة من الفراشات الملكية في سلسلةِ جبال سييرا مادري بوسط المكسيك. ثم، في أواخر ذلك العام، أرسل يقول إنه رصَد أجسام العديد من الفراشات الممزقة والميتة على طول الطرق في جبال سييرا. كتب إليه الزوجان أنهما يعتقدان أن أسراب الطيور لا بد أنها تتغذَّى على أسرابٍ كبيرة من الفراشات الملكية المارَّة.
الآن، يُنظر إلى رحلة الفراشات الملكية باعتبارها واحدةً من أعظم هجرات الحيوانات في العالم. ففيما بين شهرَي سبتمبر ونوفمبر من كل عام، تتَّجه ملايين الفراشات الملَكية في جنوب شرق كندا إلى ناحية الشمال الشرقي، وتقطع مسافة تبلغ عدة آلاف من الأميال تَعبر فيها الصحاري والبراري والحقول والجبال، ثم تشقُّ طريقًا يمرُّ من عينِ إبرةٍ جغرافية بفجوةٍ عرضُها ٥٠ ميلًا في وديان النهر البارد بين مدينتَي إيجل باس وديل ريو بولاية تكساس، وفي النهاية تحطُّ على قِمَم دُزينة أو نحو ذلك من الجبال في وسط المكسيك. وبعد قضاءِ فصل الشتاء على قمم الجبال الباردة في المكسيك، تَقطع الفراشاتُ الملكية الرحلةَ العكسية في الربيع حتى تصِل إلى أراضيها الصيفية التي يتوفَّر فيها غذاؤها بكثرة. واللافتُ للنظر أنه لا تقطع أيُّ فراشةٍ الرحلةَ كاملة. بدلًا من ذلك، إنها تتكاثرُ في الطريق وبذلك تكوِّن الفراشاتُ التي تعود إلى تورونتو نسل الفراشات الملكية التي غادرَت كندا في المرة الأولى.
كيف تعرفُ هذه الحشراتُ وجهتَها بتلك الدقَّة بحيث يمكن لها أن تصلَ إلى وجهةٍ صغيرة تبعُد عن موطنها الأصليِّ آلافَ الأميال، وهذه الوجهة لم يزُرْها من قبل غير أسلافها؟ هذا لغزٌ آخَر من الألغاز الكبرى في الطبيعة والذي لم يبدأ في التكشُّف إلا الآن. فمثل كلِّ الحيوانات المهاجرة، تستخدم الفَراشات مجموعةً متنوعة من الحواسِّ تتضمَّن البصر والشم، بما في ذلك بوصلة شمسية يمكن أن تُقدِّر الوضع المتحرك للشمس في ساعات النهار عبر «ساعتها البيولوجية»، وهي عمليةٌ كيميائية حيوية في كل الحيوانات والنباتات لا تهدأ عن الحركة على مدار ٢٤ ساعة؛ بحيث تتَتبَّع دورة الليل والنهار.
نعرف أن الساعات البيولوجية هي سببُ شعورنا بالتعب في الليل واليقظة في الصباح، وكذلك ما نُعانيه من اضطرابٍ عندما يحدُث خللٌ في إيقاعاتها بسبب الرحلات الجوية الطويلة. وقد شهد العَقْدان الأخيران أو نحو ذلك سلسلةً متوالية من الاكتشافات الرائعة حول كيفية عمل تلك الساعات. ومن أكثر الاكتشافات المذهِلة اكتشافُ أن المبحوثين الذين يُعزلون في بيئةٍ ذات إضاءةٍ مُستمرة يظلُّ بإمكانهم الحفاظُ على دورة النشاط والراحة لديهم على مدار ٢٤ ساعة تقريبًا، على الرغم من عدم وجود أيِّ إشارات خارجية. يبدو أن لدَينا ساعةً بيولوجية مدمجة في أجسامنا. تُوجَد هذه الساعة المدمجة — أو ما يمكن أن نطلق عليها «ضابطة إيقاع» الجسم أو الحاسة الخاصة بدورة اليوم — في غدة الوطاء المدفونة في الدماغ. وعلى الرغم من أن المبحوثين الذين يبقَوْن في ظروفِ إضاءةٍ مستمرَّة يُحافظون على دورة اليوم على مدار ٢٤ ساعة تقريبًا، فإن ساعتهم البيولوجية تنحرف تدريجيًّا عن الأوقات الفعلية لليوم، ومن ثم فأوقات اليقظة والنوم لديهم لن تتَزامن مع تلك الخاصة بالأشخاص الموجودين خارج الدراسة. ولكن بمجرد التعرضِ للضوء الطبيعي، فسرعان ما تُعيد ساعةُ الجسم مُعايرتَها حسَب دورةِ الضوء والظلام الفعلية في عمليةٍ تُعرف باسم «إعادة المزامنة».
تعمل البوصلة الشمسية لدى الفراشات الملكية عن طريق الربط بين ارتفاع الشمس والتوقيت، وتختلف تلك العلاقةُ باختلاف دوائرِ العرض وخطوط الطول. لا بد أن لها ساعةً بيولوجية تُعيد مُزامنة نفسِها تلقائيًّا مثل ساعتنا البيولوجية من خلال التعرُّض للضوء بحيث تعوض التوقيتات المتغيِّرة لشروق الشمس وغروبها في هجرتها الطويلة. لكن أين تُوجَد تلك الحاسةُ التي تَعرف بها الفراشاتُ الملكية دورة اليوم؟
بعد ذلك، اكتُشفت صبغاتُ كريبتوكروم مشابهة في عيون العديد من الحيوانات الأخرى، بما فيها الإنسان، وحتى في النباتات وميكروبات البناء الضوئي حيث تُساعد في التنبُّؤ بأفضلِ أوقات النهار المناسبة لعملية البناء الضوئي. ربما تمثل حاسَّة قديمة جدًّا لاكتشاف الضوء، وقد تطوَّرَت في الميكروبات منذ مليارات السنين، وكانت وظيفتها مُزامَنة أنشطة الخلية مع الإيقاعات النهارية.
يُوجَد الكريبتوكروم أيضًا في قرونِ استشعار الفراشات الملكية. كان هذا الاكتشاف مُحيرًا في البداية؛ ما الذي تفعله صبغةُ عين في قرون الاستشعار؟ لكن قرون الاستشعار في الحشرات أعضاء مُذهلة بحقٍّ؛ حيث إنها تضمُّ العديد من الحواس، بما في ذلك تلك الخاصة بالشمِّ والسمع واكتشاف ضغطِ الهواء وحتى الجاذبية. هل يمكن أن تضمَّ أيضًا الحاسةَ الخاصة بدورة اليوم لدى الحشرة؟ لاختبار تلك الفرضية، قام العلماء بطِلاء قرون الاستشعار لدى بعضِ الفراشات باللون الأسود بحيث يمنعونها من استقبالِ إشارات الضوء. ما اكتشَفوه هو أن الفراشات التي طُلِيَت قرونُ استشعارها باللون الأسود لم تَعُد قادرةً على إعادة مُزامنة بوصلتها الشمسية مع دورة الليل والنهار؛ لقد فقدَت الحاسة الخاصة بدورة اليوم. إذن، بدا أن قرون الاستشعار لدى الفراشة تتضمَّن ساعتها البيولوجية. اللافتُ للنظر أن الساعة في قرون الاستشعار لدى الفراشات يمكن إعادةُ مُزامنتها عند التعرُّض للضوء حتى إنْ فُصِلَت عن باقي جسم الحشرة.
لكن ما علاقة أيٍّ من ذلك بميكانيكا الكم؟ الإجابة لها علاقة بجانبٍ آخر من هجرة الحيوانات، وبالتحديد الحاسة التي نُسميها «الاستقبال المغناطيسي» وهي القدرة على اكتشاف المجال المغناطيسي للأرض. فكما شهدنا في الفصل الأول، كان معروفًا مدةً طويلة أنَّ العديد من المخلوقات ومنها ذبابة الفاكهة والفراشات تمتلك تلك القدرة، وأصبحَت حاسةُ الاستقبال المغناطيسي — لا سيما في طائر أبي الحناء — حديثَ الساعة في علم الأحياء الكمِّي. وبحلول عام ٢٠٠٨، بات واضحًا أن الحاسة المغناطيسية لدى طائر أبي الحناء تضمَّنَت الضوءَ (وهو أمرٌ سنتناوله بمزيدٍ من التفاصيل لاحقًا)، ولكن طبيعة مستقبِل الضوء كانت مُحيرة. تساءل ستيفن ريبيرت هل حاسة الاستقبال المغناطيسيِّ يمكن أن يدخل فيها أيضًا الكريبتوكروم الذي يُزوِّد الذباب بالحساسية تجاه الضوء التي تُساعده في إعادة مُزامنة إيقاعات الساعة البيولوجية لدَيه، أم لا. لاختبار الفرضية؛ أجرى تجرِبةً تُشبه تجربةَ اختيار القناة التي استخدمها جابرييل جيرلاك لإثبات الملاحة عبر حاسة الشمِّ لدى السمك المهرج (ارجع إلى الفصل الخامس)، التي فيها يُجبَر الحيوان الخاضع للاختبار على استخدام إشارات الحواس؛ للاختيار بين مسارَين كي يحصل على الغذاء.
وجد الباحثون أن الذباب كان يستطيع أن يتدرَّب على ربط مكافأةٍ في شكل سُكَّر بوجود المجال المغناطيسي. وعندما أُعطي الخيار أن يطير في ذراعٍ ممغنَطة أو غيرِ ممغنطة داخلَ متاهة (من دون طعام، ومن ثم بدون إشارات شمية)، اختار المسار المُمغنَط. لذا، لا بد أن الذباب يحسُّ بالمجال المغناطيسي. السؤال هو: هل الكريبتوكروم متضمَّنٌ في ذلك؟ وجد الباحثون أن ذبابة الفاكهة المتحورة والمعدلة وراثيًّا بحيث تفقد الكريبتوكروم يتساوى عندها مَسارا المتاهة، مما يُثبت أن الكريبتوكروم ضروريٌّ من أجل الحساسية المغناطيسية لديها.
لكن كيف تتمكن صبغةُ ضوء أيضًا من اكتشاف مجالٍ مغناطيسي غير مرئي؟ للإجابة عن هذا السؤال؛ يجب العودةُ إلى صديقنا أبي الحناء الأوروبي.
بوصلة الطيور
كما أشرنا في الفصل الأول، كوكب الأرض عبارةٌ عن مغناطيسٍ ضخم له مجالٌ مغناطيسي يمتدُّ تأثيره من اللُّب الداخلي إلى مسافةِ عدة آلاف من الأميال في الفضاء. تُسمَّى هذه الفقاعة الممغنطة «الغلاف المغناطيسي»، وهي تحمي الحياةَ على الأرض، ولولاها لَتآكل الغلافُ الجوي منذ زمنٍ طويل بفعل الرياح الشمسية، وهي تيَّار من الجسيمات المحمَّلة بالطاقة والمنبعثة من الشمس. وعلى خلافِ مغناطيسية القضيب المغناطيسي العادي؛ يتغيَّر مجالُ الأرض بمرور الوقت؛ لأن أساسه كامنٌ في لُبِّ الأرض الحديدي المنصهِر. الأصل الدقيق لتلك المغناطيسية معقَّد، لكن يُعتقد أنها ناتجةٌ عما يُعرف بتأثير دينامو أرضي، وهو الذي بمُقتضاه تتولَّد تياراتٌ كهربية بفعل دوران المعادن السائلة في لبِّ الأرض؛ مما يُولِّد بدوره مجالًا مغناطيسيًّا.
لذا يعود الفضل في وجود الحياة على الأرض إلى الدرع المغناطيسي الواقي هذا. لكن لا تتوقَّفُ فائدته للكائنات الحية عند هذا الحد؛ فقد عرَف العلماء منذ ما يَزيد على قرنٍ أن العديد من الأنواع طورت طُرقًا مبتكَرة للاستفادة منه. ومثلما استخدم البحَّارة من البشر المجالَ المغناطيسي للأرض منذ آلافِ السنين للملاحة في البحار؛ فإن العديد من مخلوقات الأرض الأخرى، ومنها الثدييَّات البحرية والبرية والطيور (مثل أبي الحناء) والحشرات، طوَّرَت حاسةً على مدار ملايين السنين لاكتشاف المجال المغناطيسي للأرض واستخدامه لأغراض الملاحة.
ظلَّ معظم علماء القرن التاسع الآخرون في حالة رِيبة. ومن المُفارقات أنه حتى العلماء الذين كانوا على استعدادٍ لِقَبول الأفكار العِلمية الزائفة الأكثرِ غرابةً مثل النشاط الخارق — وقد كان هناك العديدُ من الأسماء العلمية البارزة في أواخر القرن التاسعَ عشر الذين فعَلوا ذلك — لم يستطيعوا تصديقَ أن المجالات المغناطيسية يُمكن أن تُؤثر في الحياة. ففي يوليو ١٨٨٦، على سبيل المثال، نشر عالمُ النفس والباحث النفسي الأمريكي جوزيف جاسترو رسالةً في مجلة «ساينس» بعُنوان «وجود حاسةٍ مغناطيسية». وذكر فيها التجارِبَ التي أجراها لاختبارِ ما إذا كان البشرُ يمكن أن يتأثَّروا بأيِّ مجالٍ مغناطيسي بأي حالٍ من الأحوال أم لا، ولكنه قال إنه لم يجد أيَّ حساسية تُذكر.
لم يَعُد هناك شكٌّ في أن الحيوانات لديها القدرةُ على اكتشاف المجال المغناطيسي للأرض. يكمن اللغزُ في طريقة اكتشافها له، لا سيَّما أن المجال المغناطيسي للأرض ضعيفٌ إلى أقصى حدٍّ ولا يُتوقَّع في الغالب أن يؤثر في أيِّ تفاعلات كيميائية في الجسم. هناك نظريتان أساسيتان، ويُحتمل أن كِلتيهما تنطبقان على أنواع الحيوانات المختلفة. النظرية الأولى ترى أن الحاسةَ تعمل مثل البوصلة المغناطيسية التقليدية، في حينِ ترى الأخرى أن حاسةَ الاستقبال المغناطيسي توفِّرها بوصلةٌ كيميائية.
إن تلك النظرية الأولى التي ترى بوجودِ آليةٍ من آليات البوصلة التقليدية في مكانٍ ما في جسم الحيوان تعزَّزَت باكتشاف بِلَّورات صغيرة من المجنيتيت — وهو أكسيد الحديد المغناطيسي الطبيعي — في العديد من الحيوانات والميكروبات التي بدا أنها تمتلكُ حاسةً مغناطيسية. على سبيل المثال، البكتيريا التي تستخدِم حاسةً مغناطيسية لتوجيهِ نفسها في الرواسب البحرية الطينيَّة غالبًا ما تكون ممتلئةً ببلورات من المجنيتيت تُشبه الرصاصة في الشكل.
هنا، يجب علينا أن نعود أدراجَنا إلى عالم الطيور الألماني الرائع فولفجانج فيلتشكو، الذي التقينا به أولَ مرة في الفصل الأول. بدأ اهتمام فيلتشكو بملاحة الطيور عام ١٩٥٨ حينما انضمَّ إلى مجموعةٍ بحثية في فرانكفورت يُديرها عالم الطيور فريتس ميركل. كان ميركل أحدَ العلماء القلائل حينذاك الذين يَدرُسون الحاسةَ المغناطيسية لدى الحيوانات. أحد طلَّابه، وهو هانس فروما، كان قد أثبتَ بالفعل أن بعض الطيور يمكن أن توجِّه نفسَها داخل غرفٍ مغلقة ليس لها معالم، مما يوضِّح أن قدرتها الملاحية لا تعتمد على الإشارات البصرية. اقترح فروما آليَّتَين محتملتَين؛ وهما إما أن الطيور تستقبل شيئًا يُشبه الإشارات اللاسلكية من النجوم، أو أنها تستطيع الإحساسَ بالمجال المغناطيسي للأرض. ظن فولفجانج فيلتشكو أن الآلية الثانية هي الآليةُ الصحيحة.
في خريف عام ١٩٦٣، بدأ فيلتشكو يقوم بتجارِبَ على طائر أبي الحناء الأوروبي، الذي لعلك تتذكر أنَّ من عاداته الهجرةَ من شمال أوروبا إلى شمال أفريقيا. اصطاد عددًا من طيورِ أبي الحناء وهي في طريقِ هجرتها ووضَعها داخل غرفٍ محمية مِغناطيسيًّا ثم عرَّضها لمجالٍ مغناطيسي اصطناعيٍّ ثابت ضعيف يتولَّد من جهازٍ يُسمَّى ملف هلمهولتس الذي يُمكِنه أن يحاكيَ المجالَ المغناطيسي للأرض، ولكن يمكن تغييرُ قوَّته واتجاهه. اكتشف أن الطيور التي اصطِيدت في أثناء الهجرة في الخريف أو الربيع أصبحَت مضطربةً وأخذَت تتجمَّع عند جانب الغرفة الذي يتطابق مع اتجاه هجرتها بالنسبة إلى المجال الاصطناعي. وبعد عامَين من الجهود المُضنية، نشر نتائجه عام ١٩٦٥، التي أثبتَت أن الطيور كانت حساسةً لاتجاه المجال المُطبَّق، ومِن ثَم استخلص أنها يمكن أن تكتشف المجال المغناطيسي للأرض بالطريقة نفسِها.
أضْفَت هذه التجارِبُ قدرًا من الاحترام على فكرة الاستقبال المغناطيسي لدى الطيور وحفزَت إجراءَ المزيد من الأبحاث. ولكن في ذلك الوقت لم يكن لدى أحدٍ أدنى فكرةٍ عن طريقة عمل هذه الحاسة؛ أي: كيف يمكن أن يؤثِّر المجالُ المغناطيسي الضعيف للغاية للأرض في أجسام الحيوانات. لم يستطع العلماء حتى الاتفاقَ على المكان الذي يُوجَد فيه العضو المسئول عن حاسة الاستقبال المغناطيسيِّ في جسم الحيوان. وحتى بعد اكتشاف بلورات المجنيتيت في العديد من أنواع الحيوانات؛ مما يَعني ضِمنًا أنه تُوجَد آليةُ بوصلةٍ مغناطيسية تقليدية، ظلَّت القدرة الملاحية لدى طائر أبي الحناء لغزًا؛ لأنه لم يُكتشَف مجنيتيت في جسم الطائر. أظهرَت الحاسة لدى أبي الحناء أيضًا العديدَ من السِّمات المُحيرة التي لا تتناسب مع البوصلة المغناطيسية، لا سيما أن الطائر يفقد تلك القدرة عندما تُعصَب عيناه، مما يدل على أن الطائر يحتاج إلى «رؤية» المجال المغناطيسي للأرض. لكن كيف لأيِّ حيوانٍ أن «يرى» مجالًا مغناطيسيًّا؟
في تجارِب الزوجَين فيلتشكو عام ١٩٧٢، حبسا الطيور محل التجربة في غرفةٍ محمية وعرَّضاها لمجالٍ مغناطيسي اصطناعي. لم يتأثر سلوكُ الطيور بعكس اتجاهَي قُطبَي المجال بلفِّ المغناطيس بمقدار ١٨٠ درجة؛ مما يعني أن الطيور تُوجِّه نفسَها حسَب أقربِ قُطب مغناطيسي أيًّا كان، ومن ثم فهي لا تمتلك بوصلةً مغناطيسية تقليدية. أثبتَت تلك الورقةُ البحثية التي ظهرَت عام ١٩٧٢ أن المستقبِل المغناطيسي لدى طائر أبي الحناء عبارةٌ في واقع الأمر عن بوصلةِ ميلٍ مغناطيسي. ولكن طريقة عمل تلك البوصلة ظلَّت لغزًا.
بالطبع لم يكن لدى أحدٍ في سبعينيَّات القرن العشرين فكرةٌ عن طريقة عمل البوصلة المغناطيسية الحيوية. لكن كما رأينا في الفصل الأول، ففي العام نفسِه الذي نشر فيه كلٌّ من الزوجَين فيلتشكو وستيفن إملن ورقتَه البحثية، اقترح عالم الكيمياء الألماني كلاوس شولتن آلية ميكانيكية تربط الضوء بالاستقبال المغناطيسي. كان شولتن قد حصل مؤخرًا على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد في الفيزياء الكيميائية ثم عاد إلى أوروبا، حيث حصل على وظيفةٍ في معهد ماكس بلانك للكيمياء الفيزيائية الحيوية بجوتنجن. وهناك أصبح مهتمًّا باحتمالية التشابك الكمِّي للإلكترونات المتولدة في تفاعل الحالة الثلاثية السريع عن طريق التعرُّض للضَّوء. اقترحت حساباته أنه إذا كان التشابك ضالعًا حقًّا في التفاعلات الكيميائية، فلا بد أن تتأثَّر سرعةُ هذه التفاعلات بمجالٍ مغناطيسي خارجي، وقد اقترح طريقةً لإثبات تلك النظرية.
لما تحدَّث شولتن بحُريةٍ عن فكرته، اكتسب سُمعة في معهد ماكس بلانك بأنه يُعتبر مجنونًا نوعًا ما. كانت مشكلته أنه مُنظِّر فيزيائي وتعامُله مع الورق والقلم وأجهزة الكمبيوتر، وأنه ليس عالِمَ كيمياء؛ وبالتأكيد هو ليس عالمَ كيمياء تجريبيًّا قادرًا على ارتداء معطف المختبر وإجراءِ نوع التجرِبة التي ستُثبت أفكاره. ومن ثم كان من ضمن العديد من المُنظِّرين ممن يتوصَّلون إلى فكرةٍ ذكية ولكن يكون عليهم بعد ذلك العثورُ على اختصاصيِّ تجارِبَ وَدودٍ يرغب في أن يقتطع من وقت جدولِ عمله المختبري المزدحِم؛ لاختبار نظريةٍ عادةً ما يثبت أنها خاطئة. شولتن لم يُحالفه الحظ في إقناع أي عالم كيمياء زميلٍ بأن يَختبر فكرته؛ لأنه لم يعتقد أيٌّ منهم بأن تجربته المقترَحة لديها أيُّ فرصة في النجاح.
اكتشف شولتن أن مصدر كلِّ هذا التشكيك هو مديرُ مختبر المعهد هوبرت شتيرك. في النهاية، استجمع شجاعته وواجهَ شتيرك في مكتبه وهناك عرَف أخيرًا سببَ تشكُّكه المترسِّخ هذا؛ وهو أن شتيرك سبق أن أجرى التجرِبة ووجد أنه لا يُوجَد تأثيرٌ للمجالات المغناطيسية. صُعق شولتن. بدا أن فرضيته ستُواجه المصيرَ الذي ذكَره عالمُ الأحياء التطوُّري توماس هكسلي، المتمثلَ في أنها «نظرية جميلة … ولكن أماتَتْها حقيقةٌ قبيحة».
قبل أن نرى كيف قد تُساعد جهود شولتن والزوجَين فيلتشكو في تفسير الطريقة التي تجدُ بها الطيورُ طريقها حول العالم، ينبغي أن نعود إلى العالَمِ الكميِّ الغامض، ونُلقيَ نظرة متعمقة على ظاهرة التشابك التي ذكَرناها باقتضابٍ في الفصل الأول من هذا الكتاب. لعلك تتذكر أن التشابُكَ ظاهرةٌ بالغةُ الغرابة، لدرجة أنه حتى أينشتاين أصرَّ على عدم إمكانية صحتها. لكن في البداية، يجب أن تتعرف على خاصيةٍ أخرى غريبة في العالم الكمي؛ ألا وهي «الدوران».
الدوَران الكمي والفعل الطيفي
تستخدم العديد من كتب تبسيط العلوم التي عن ميكانيكا الكم مصطلحَ «الدوران الكمي» لتسليط الضوء على غرابة العالم دون الذرِّي. لم نختَر القيامَ بذلك هنا ببساطةٍ لأنه ربما الفكرةُ البعيدة كلَّ البعد عن أي شيء يمكن تصوُّرُها باستخدام اللغة العادية. لكن لا يمكننا أن نؤجِّل المهمة أكثرَ من ذلك؛ لذا لننطلِقْ إذن.
مثلما تدور الأرض حول محورها وهي تدور في مَدارها حول الشمس، فكذلك الإلكترونات والجسيمات الأخرى دون الذرِّية تمتلك تلك الخاصيةَ التي تُسمى «الدوران» وهي تختلف عن حركتها العادية. لكن، وكما أشرنا في الفصل الأول، هذا «الدوران الكمي» يختلف عن أيِّ شيء يُمكننا أن نتصوَّرَه بِناءً على تجرِبتنا اليومية مع دوران الأجسام مثل كُرات التنس أو الكواكب. في البداية، ليس من المنطقيِّ حقًّا أن نتحدث عن سرعة دوران الإلكترونات؛ حيث إن دورانها لا يمكن أن يأخذ سوى قيمةٍ من قيمتَين محتملتَين؛ إنه مُكمم، كما أن الطاقة مُكممة على المستوى الكمي. ليس بإمكان الإلكترونات أن تدور، بالمعنى العام للكلمة، إلا باتجاه عقارب الساعة أو عكس اتجاه عقارب الساعة، وهو ما يُقابل ما يُشار إليه عادةً بحالة الدوران «لأعلى» أو حالة الدوران «لأسفل». ولأن هذا هو العالم الكمي؛ فالإلكترون يمكن أن «يدور في الاتجاهَين في آنٍ واحد» عندما لا يكون مرصودًا. نقول إن حالة دورانه تعدُّ تراكبًا (بمعنى مزيجٍ أو خليط) من حالتَي الدوران لأعلى وأسفل. على نحوٍ ما، قد يبدو هذا حتى أغربَ من قولِ إن الإلكترون يمكن أن يكون في موقعَين في آنٍ واحد؛ إذ كيف لإلكترون واحد أن يدور باتجاه عقارب الساعة وعكس عقارب الساعة في آنٍ واحد؟
وللتأكيد على مدى مُنافاة فكرة الدوران الكميِّ هذه للعقل، فإن ما نعتبره دورانًا بمقدار ٣٦٠ درجة لن يُعيد الإلكترون إلى حالته الأصلية؛ فلكي يعودَ إلى حالته الأصلية، ينبغي أن يدور دورتَين كاملتَين. يبدو هذا غريبًا لأننا لا نزال نميل للتفكير في الإلكترون وكأنه كرةٌ صغيرة، ربما شيء يُشبه كرة تنس صغيرة للغاية. لكن كرات التنس تُوجَد في العالم المشهود، والإلكترونات تعيش في عالمٍ كمِّي دون ذري، وفيه تختلف القواعد. في الحقيقة، الإلكترونات «ليست» كراتٍ صغيرةً فحسب، بل لا يمكن القول حتى إن لها حجمًا على الإطلاق. إذن، في حين أن الدوران الكمي «حقيقي» مثل دوران كرة التنس، فهو ليس له نظيرٌ في العالم الواقعي المألوف، ولا يمكن تصوُّرُه.
ومع ذلك، لا تعتقد إذن أن هذا مجردُ مفهوم رياضي مجرد، لا يُوجَد إلا في المراجع ومحاضرات الفيزياء الصعبة الفهم. كلُّ إلكترون في جسم الإنسان — وفي كل مكان في الكون — يدور بتلك الطريقة الغريبة. في الحقيقة، إن لم يكن يدور بتلك الطريقة، لَمَا وُجد العالم كما نعرفه، بما في ذلك الإنسان؛ لأن الدوران الكمي له دورٌ رئيسي في واحدةٍ من أهم الأفكار في العلم، والتي تتمثَّل في مبدأ باولي للاستبعاد الذي يُعد أساسَ الكيمياء بأسرها.
ربما تكون على درايةٍ بالمزاعم المشكوكِ فيها بشدة، التي تقول بأن التوءمَين المتطابقَين قادران على أن يشعر كلٌّ منهما بالحالات العاطفية لدى الآخر، عندما تفصل بينهما مسافاتٌ شاسعة. تقول الفكرة إن التوءمان بنحوٍ أو بآخرَ مرتبطان نفسيًّا على نحوٍ لم يفهمه العلمُ بعد. أُطلقت مزاعمُ مماثلةٌ لتشرح كيف يحسُّ الكلب على ما يبدو بقدوم صاحبه إلى المنزل. ينبغي التوضيحُ أن هذين المثالين ليس لهما أيُّ أساس علمي، على الرغم من أن البعض حاول مخطئًا أن ينسبَهما إلى أساسٍ ميكانيكي كمي. لكن على الرغم من أن هذا «الفعل اللحظيَّ الذي يجري عن بُعد» (كما يُوصَف في كثير من الأحيان) غيرُ موجودٍ في عالمنا الكلاسيكي اليومي؛ فإنه سِمةٌ أساسية في العالم الكمِّي. الاسم الاصطلاحي له هو «اللاموضعية» أو «التشابك»، ويشير إلى فكرةِ أن شيئًا ما يحدث في «مكانٍ ما» يمكن أن يكون له تأثيرٌ «آنيٌّ» في «مكانٍ آخَر» مهما كانت المسافة بين المكانين.
لنضرب مثالًا بزوجَين من أحجار النرد. يسهل حسابُ الاحتمال الرياضي لظهور الرقم نفسِه عند إلقاء النردَين. فأيًّا ما كان الرقم الذي يستقرُّ عليه أحدُ النردين، فهناك فرصةٌ واحدة من ستِّ فرص أن يستقرَّ النرد الآخَر على الرقم نفسِه. على سبيل المثال، احتمالية أن يستقر النرد الأول على الرقم ٤ تساوي ١ / ٦، وفرص أن يستقر النردُ الثاني على الرقم ٤ تساوي واحدًا على ستٍّ وثلاثين (حيث إن ١ / ٦ × ١ / ٦ = ١ / ٣٦). إذن، ففرصُ ظهور الرقم نفسِه عند إلقاء نرْدَين تساوي بالطبع واحدًا إلى ستة. وبضرب ١ / ٦ في ١ / ٦ عشر مرات، فما أسهلَ حسابَ أن احتمالية ظهور الرقم نفسِه عشْرَ مرات على التوالي (بغضِّ النظر عن الرقم، مثل ظهور الرقم ٤ مرتين ثم الرقم ١ مرتين وهكذا)؛ تساوي تقريبًا واحدًا إلى ٦٠ مليونًا! هذا يعني أنه إذا رمى كلُّ شخصٍ في بريطانيا حجَرَي النرد عشر مرات على التوالي، فمن الناحية الإحصائية، لن يستقرَّ الحجران على الرقمين ذاتِهما في كل مرة، إلا تقريبًا لرجلٍ واحد.
لكن تخيَّلْ أنه قُدم لك حجَرا نردٍ يستقران دومًا على الرقم نفسِه عند رميِهما معًا. الرقم الفعلي الذي يستقرُّ عليه النردان يبدو أنه عشوائي، وعادةً ما يتغير مع كلِّ رمية، ولكن دائمًا ما ينتهي الأمر برميِ النردين على الرقم نفسه. لا ريب أنك ستفترض وجودَ خدعةٍ ما. هل يمكن أن يحتويَ هذان النردان على آليةٍ داخلية معقَّدة تتحكم في حركتهما، بحيث يستقرَّان على أرقامٍ بتسلسُلٍ مُبرمَج واحد؟ لاختبار تلك النظرية، ارمِ أحد النردَين ثم ارمِ الآخَر، ولكن بعدها ارمِ النردَين معًا. الآن، سيختلُّ أي تسلسل مبرمَج، ومن ثم يجب أن تبطل الخدعة. لكن على الرغم من تلك الحيلة، يستمرُّ النردان في الاستقرار على الرقم ذاتِه.
تفسيرٌ آخر مُحتمل؛ وهو أن النرد لا بد أنه قادرٌ على نحوٍ ما على إعادة المزامنة قبل كلِّ رمية عن طريقِ تبادل إشارةٍ عن بُعد. وعلى الرغم أن هذه الآلية تبدو معقدةً بعض الشيء، فهي على الأقل ممكنةٌ من حيث المبدأ. لكن أي آليةٍ كتلك ستكون عُرضةً لتقييدٍ فرضَتْه نظريةُ أينشتاين الخاصة بالنسبية، التي بمقتضاها لا تُوجَد إشارةٌ يمكن أن تنتقل على نحوٍ أسرع من سرعة الضوء. وهذا يوفر وسيلةً لاختبار هل هناك إشارة تمرُّ بين النردَين أم لا؛ كلُّ ما عليك فعله هو الحرص على التباعُد الكافي بين النردَين بحيث لا يُوجَد وقتٌ كافٍ لتبادل أيِّ إشارة مزامنة فيما بين الرميات. لنتخيل أنك حاولتَ الحيلة نفسَها كما هو موضَّح مسبقًا، ولكن بطريقةٍ ما رتبتَ أن يقع نردٌ على الأرض ونرد آخرُ على المريخِ في اللحظة نفسِها. حتى عندما يكون المريخ في أقربِ مسافة من الأرض، يستغرق الضوء أربعَ دقائق حتى يقطع المسافة بين الكوكبَين، ومن ثم تعلم أن أيَّ إشارة مزامنة يجب أن تُكابد التأخيرَ نفسه. للتغلُّب على ذلك؛ ما عليك سوى الترتيبِ لرمي النردين على أوقاتٍ متواترةٍ أكثرَ من ذلك. ينبغي أن يمنع هذا الإجراءُ مزامنةَ الإشارة بين رميات النردَين. إذا استمر النَّردان في الوقوع على الرقْمَين نفسِهما، فعندئذٍ سيبدو أن بينهما صلةً حميميَّة تتجاهل تقييدَ أينشتاين الشهير.
على الرغم من عدم تنفيذ التجربة السابقة بإلقاء نردَين على كوكبَين مختلفين، فقد نُفِّذت تَجاربُ مماثلةٌ باستخدام جسيماتٍ ذاتِ تشابك كمي على الأرض، وأظهرت النتائج أن الجسيمات المنفصلةَ يمكن أن تُنفذ الخدعةَ نفسَها التي تخيَّلناها بالنسبة إلى النردين؛ أي: يمكن أن تبقى حالتهما مترابطةً بغضِّ النظر عن المسافة بينهما. يبدو أن هذه السمة الغريبة في العالم الكمي لا تحترم حدَّ السرعة الكونية الذي وضعه أينشتاين، حيث إن الجسيم الموجود في مكانٍ ما يمكن أن يؤثِّر في جسيم آخَر «في اللحظة نفسها» مهما كانت المسافة بينهما. إن مصطلح «التشابك» الذي يصف هذه الظاهرةَ صاغه شرودنجر الذي لم يكن — إلى جانب أينشتاين — من المعجَبين بالفكرةِ التي صاغها أينشتاين وأطلق عليها اسمَ «الفعل الطيفي عن بُعد». ولكن على الرغم من تشكُّكِهما، فقد ثبَتَ التشابكُ الكمي في العديد من التجارِب، وأصبح واحدًا من أهم الأفكار في ميكانيكا الكم؛ حيث إن له تطبيقاتٍ وأمثلةً عديدة في الفيزياء والكيمياء، وربما في علم الأحياء كذلك، وذلك كما سنرى.
لِفَهم كيف أن التشابك الكمِّي له دورٌ في علم الأحياء؛ ينبغي أن نجمع بين فكرتَين. الفكرة الأولى هي الاتصال الآنيُّ بين جُسيمَين بينهما مسافة؛ أي: التشابك. الفكرة الثانية هي قدرة جُسيم كميٍّ واحد على أن يتراكب بين حالتَين مختلفتَين أو أكثرَ في آنٍ واحد؛ على سبيل المثال، يمكن أن يدور الإلكترون في الاتجاهَين في آنٍ واحد، ومن ثم يمكن القول إنه في حالةِ تراكُب تجمُّع بين «الدوران لأعلى» و«الدوران لأسفل». نجمع هاتَين الفكرتَين بأن يكون لدَينا إلكترونان متشابكان في ذرَّة، وكلٌّ منهما في حالة تراكب تجمع بين حالتَي دوران. على الرغم من أن الإلكترونَين ليس لهما اتجاهُ دوران محدَّد، فإنه أيًّا كان ما يفعله أحدُهما يؤثر ويتأثر بدوران شريكه. لكن تذكَّر أن أزواج الإلكترونات في الذرة الواحدة دائمًا ما تكون في حالةٍ منفردة، مما يعني أنه ينبغي أن يكون لها دورانٌ معاكس على الدوام؛ أي: يجب أن يدور إلكترونٌ لأعلى ويدور الآخَرُ لأسفل. وعلى الرغم من أن الإلكترونَين في حالةِ تراكبٍ حيث يدوران إلى الأعلى والأسفل في آنٍ واحد؛ فلا بد أن يدورا في الاتجاه المعاكس طَوال الوقت بطريقةٍ كمية غريبة.
والآن، دَعْنا نَفصل الإلكترونين المتشابكين بحيث لا يُصبحان في الذرة نفسِها. إذا قرَّرنا بعد ذلك قياسَ حالةِ دوران أحد الإلكترونَين، فسنُجبره على أن «يختار» اتجاه دوران واحدًا. لنقل إننا وجدناه يدور إلى الأعلى بعد القياس. ولأن الإلكترونَين كانا في حالةِ دوران منفردة متشابكة؛ فهذا يعني أن الإلكترون الثانيَ لا بد أنه يدور إلى الأسفل. لكن تذكَّر أنه قبل القياس كان الإلكترونان في حالةِ تراكب تجمع بين الدوران إلى الأعلى والأسفل. ولكن بعد القياس، يتَّخذ كل إلكترون حالةً محددة؛ إلكترونٌ يدور إلى الأعلى، والآخَر يدور إلى الأسفل. ومن ثم غيَّر الإلكترون الثاني حالتَه الفيزيائية على الفور وعن بُعد من حالة التراكب بالدوران في اتجاهين في آن واحد إلى الدوران إلى الأسفل، وذلك من تلقاء نفسه. كلُّ ما فعلناه هو قياسُ حالة شريكه. ومن حيث المبدأ، لا تهمُّ المسافة التي يبعدها الإلكترونُ الثاني؛ فقد يكون في الجانب الآخَر من الكون، ولكن يبقى التأثير كما هو؛ مما يعني أن قياس أحد الإلكترونَين المتشابكين يهدم «على الفور» حالةَ التراكب للإلكترون الآخَر، مهما كانت المسافة التي تفصل بينهما.
فيما يلي مثالٌ مفيد قد يساعد على الفهم (ولو قليلًا). لنضرب مثالًا بزوجَين من القفَّازات وُضع كلٌّ منهما في صندوقٍ مُحكَم القفل، وتفصل بينهما عدةُ أميال. أحد الصندوقَين في حوزتك، وقبل أن تفتحه أنت لا تعرف هل الصندوق الذي معك فيه فردة القفاز اليُمنى أم اليسرى. بمجرد أن تفتح الصندوق وتعرف أنها الفردة اليمنى «ستعرف» على الفور أن الفردة الأخرى في الصندوق غيرِ المفتوح هي الفردةُ اليسرى، مهما كانت المسافة التي تفصلك عن الصندوق الآخر. لكن المهم هنا أن كلَّ ما تغير هو معرفتك. فالصندوق البعيد كان يحتوي على الفردة اليُسرى دومًا، بغضِّ النظر هل اخترتَ أن تفتح الصندوق الذي معك أم لا.
التشابُك الكمي مختلف. قبل القياس، لا يكون لأيٍّ من الإلكترونَين اتجاهُ دوران محدَّد. إنه القياس (لأيٍّ من الجُسيمَين المتشابكين) الذي يجبر كِلا الإلكترونين على تغيير حالتيهما من أن يكون كلُّ إلكترون في حالةِ تراكب كمي — بحيث يدور في الاتجاهَين إلى الأعلى وإلى الأسفل — إلى حالةِ دورانٍ محددة؛ إما الدوران إلى أعلى أو إلى أسفل؛ أما في مثال زوجَي القفازات، فلم يتغير سِوى جهلك بالحالة المحدَّدة الموجودة مسبقًا. القياس الكمي لا يكتفي بإجبارِ أحدِ الإلكترونَين على «اختيار» الدوران إما إلى الأعلى أو الأسفل؛ بل إن «الاختيار» يجبر الإلكترون الآخَر من فوره على أن يتخذ الحالة المُكملة، بغض النظر عن المسافة التي بينهما.
هناك نقطةٌ أخرى صغيرة ينبغي إضافتها. كما قلنا لتونا، يكون الإلكترونان في حالةٍ منفردة مجمعة عندما يقترنان مع بعضهما ويدوران في اتجاهَين مُعاكسين، وفي حالةٍ ثلاثية عندما يدوران في الاتجاه ذاتِه. فإذا قفز أحدُ الإلكترونين الموجودين في الحالة المنفردة القابعين في الذرَّة ذاتِها إلى ذرةٍ مجاورة، ينعكس دورانه بحيث يدور في الاتجاه ذاتِه مثل الإلكترون الآخَر الذي تركه، مما يؤدي إلى حالةِ دوران ثلاثية. لكن على الرغم من أن الإلكترونين أصبحا الآن في ذرتَين مختلفتين، فلا يزالان يُحافظان على حالة التشابك الدقيق، ومن ثَم يبقيان مقترنَين على نحوٍ ميكانيكي كمي.
لكن هذا هو العالم الكمي، ولمَّا كان بإمكان الإلكترون الذي يقفز خارجَ الذرَّة أن يعكس اتجاهَ دورانه، فهذا لا يعني أنه عكَسَه بالفعل. سيظلُّ الإلكترونان في حالةِ تراكبٍ من الدوران في كِلا الاتجاهين في الوقت نفسِه، ومن ثم فسيَبْقيان في حالةِ تراكب من حالة الدوران الأحادية والثلاثية في الوقت ذاتِه؛ بمعنى أنهما يدوران في الاتجاه ذاتِه وفي الاتجاهَين المعاكِسَين في الوقت ذاته!
بعد هذه المقدِّمة السريعة التي ربما جعلَتْك متحيرًا، فقد حان الوقتُ للتعرف على أغربِ — وفي الوقت نفسِه أشهَر — فكرةٍ في مجال علم الأحياء الكمي.
معنًى جذريٌّ للاتجاه
الشاهد هنا أن مقاديرَ الطاقة الضئيلة قد يكون لها تأثيراتٌ كبيرة، ولكن فقط إذا كان النظام الذي تعمل عليه موزونًا بدقةٍ بالغةٍ بين نتيجتَين مختلفتَين. ومن ثم لاكتشافِ تأثير المجال المغناطيسي الضئيل جدًّا للأرض، فسنحتاج إلى المُكافئ الكيميائيِّ لحجر الجرانيت في حالةٍ موزونة بدقة، لدرجةِ أنه قد تحدث له تأثيراتٌ كبيرة بأهونِ المؤثرات الخارجية، مثل المجال المغناطيسي الضعيف.
نعود الآن إلى تفاعل الحالة الثلاثية السريع الذي اكتشفه كلاوس شولتن. لعلك تتذكَّر أن روابط الإلكترونات بين الذرَّات غالبًا ما تتكوَّن بمشاركة زوجين من الإلكترونات. دائمًا ما يتشابك هذان الزوجان من الإلكترونات، وغالبًا ما يكونان في حالة دوران منفردة؛ بمعنى أن الإلكترونَين لهما دوران معاكس. لكن من اللافت للنظر أن الإلكترونَين يمكن أن يبقَيا مُتشابكَين حتى بعد كسر الرابطة بين الذرات. يمكن أن تنجرف الذراتُ المنفصلة، التي تُسمى الآن «الجذور الحرة»، بعيدًا عن بعضها تدريجيًّا، ويُصبح من الممكن أن ينعكس دورانُ أحد الإلكترونَين بحيث يجد الإلكترونان المتشابكان — الموجودان الآن في ذراتٍ مختلفة — نفسَيهما في حالةِ تراكبٍ تجمع بين حالتَي الدوران المنفردة والثلاثية، كما يحدُث في تفاعل الحالة الثلاثية السريع الذي اكتشفه شولتن.
من السمات المهمَّة في هذا التراكب الكميِّ أنه لا يستلزم التوازن المتساوي؛ أي: لا تتساوى احتماليةُ رصد زوجَي الإلكترونات المتشابكَين في حالةِ الدوران المنفردة أو الثلاثية. والأهمُّ من ذلك أن التوازن بين هذين الاحتمالَين حساس تجاه أيِّ مجالٍ مغناطيسي خارجي. في الحقيقة، زاوية المجال المغناطيسي المتعلقة باتجاه الزوجين المنفصلين تؤثر تأثيرًا كبيرًا في احتمالية رصدهما في حالة الدوران المنفردة أو الثلاثية.
لكن شولتن لم تكن لدَيه فكرةٌ عن مكان حدوث تفاعلِ الزوجَين الجذريَّين المقترَحِ هذا في جسم الطائر، والذي من المفترض أن يكون، كما يقول المنطق، هو الدماغ. لكن كي يحدث هذا، فينبغي إنشاءُ الزوجين الجذريَّين أولًا (تمامًا مثلما ينبغي قلبُ كتلة الجرانيت على حافتها). قدم شولتن عمله في جامعة هارفارد عام ١٩٧٨، ووصف التجارِبَ التي نفذَتها مجموعتُه في جوتنجن حيث استُخدمت نبضةُ ليزر لإنشاء زوجين جذريَّين متشابكَين من الإلكترونات. من بين الجمهور، كان هناك عالمٌ بارز اسمه دادلي هيرشباك، والذي حصل لاحقًا على جائزة نوبل في الكيمياء. وفي نهاية المحاضرة، طرح هيرشباك سؤالًا ساخرًا بحُسنِ نية: «ولكن يا كلاوس، أين يقع الليزر في جسم الطائر؟» وتحت ضغط الحاجة إلى تقديم إجابةٍ منطقية على هذا البروفيسور الكبير، اقترح شولتن أنه إذا كان الضوءُ في واقع الأمر ضروريًّا لتنشيط الزوجين الجذريَّين، فربما تحدث تلك العملية داخل عين الطائر.
حينَذاك، كان فيلتشكو يُجري تجارِبَ على الحمام الزاجل كي يرى هل جمعَت الطيورُ المعلومات الملاحية المغناطيسية في رحلتها الخارجية، ثم استخدمَتها للعثور على طريق عودتها إلى المنزل أم لا. توصل إلى أن تعريض الحمام إلى مجالٍ مغناطيسي مُشوَّش وقتما يكون بعيدًا عن موطنه؛ يُعطل قدرته على إيجاد طريق العودة عند إطلاق سراحه. ألهمته نظرية ليسك، ومن ثَم قرر أن ينفذ التجربة مرةً أخرى ولكن من دون التشويش على المجال المغناطيسي هذه المرة. بدلًا من ذلك، نقَل الحمام في ظلامٍ دامس داخل صندوق على سقفِ شاحنته التي هي من طِراز فولكس فاجن. عندئذٍ واجهَت الطيورُ صعوبةً في العثور على طريق العودة إلى موطنها، مما يدلُّ على أنها كانت بحاجةٍ إلى الضوء كي يُساعدها في رسم الخريطة المغناطيسية لرحلتها الخارجية، التي ستستخدمها بعد ذلك لتتبُّع طريق عودتها.
الورقة البحثية التي ظهرَت عام ٢٠٠٠ مهمةٌ لسببين. السبب الأول هو اقتراحها أن الكريبتوكروم هو الجزيء المرشَّح للبوصلة الكيميائية، والسبب الثاني هو أنها ذكرَت بالتفصيل الدقيق — وإن كان تخمينيًّا — كيف أن اتجاه الطائر في المجال المغناطيسي للأرض قد يتأثَّر بما يراه.
الخطوة الأولى في مُخططهم هي امتصاص فوتونٍ من الضوء الأزرق عن طريق جزيء الصبغة الحساس للضوء، فلافين الأدنين الثنائي النكليوتيد، الموجود في بروتين الكريبتوكروم والذي قد تعرَّفنا عليه قبل ذلك في هذا الفصل. وكما ذكرنا، تُستخدَم طاقة هذا الفوتون لطردِ إلكترونٍ من إحدى الذرات داخل جزيء فلافين الأدنين الثنائي النكليوتيد، مما يترك مكان الإلكترون شاغرًا. وهذا المكان يمكن أن يَشغَله إلكترونٌ آخَرُ يمنحه إياه زوجا إلكتروناتٍ متشابكان في حمض أميني يُسمَّى التربتوفان داخل بروتين الكريبتوكروم. لكن الأهم من ذلك أن الإلكترونَ المانح يمكن أن يبقى متشابكًا مع شريكه. عندئذٍ يمكن أن يكون زوجا الإلكترونات المتشابكان في حالةِ تراكب من الحالتَين المنفردة/الثلاثية، وهو النظام الكيميائي الذي وجَد كلاوس شولتن أنه بالغُ الحساسية تجاه المجال المغناطيسي. ومرةً أخرى، التوازن الدقيق بين الحالتَين الأحادية/الثلاثية بالغُ الحساسية تجاه قوة المجال المغناطيسي للأرض وزاويته، ومن ثم يحدث الاتجاهُ الذي تطير فيه الطيورُ فرَقًا فيما يتعلق بتركيب النواتج الكيميائية النهائية التي يُولِّدُها التفاعل الكيميائي. وبطريقةٍ ما وباستخدام آليةٍ ليست واضحةً تمامًا حتى الآن، يُولِّد هذا الفرق — أي: طريقة سقوط كتلة الجرانيت — إشارةً تُرسَل إلى دماغ الطائر كي تُخبِرَه أين يقع أقربُ قطب مغناطيسي.
ليست لدَينا فكرةٌ عن ماهيَّة تلك «الرؤية» المغناطيسية لدى الطيور، لكن بما أن الكريبتوكروم عبارةٌ عن جُزيء صبغة في العين من المُحتمل أن يؤدِّي وظيفةً مماثلة لتلك التي يؤدِّيها جُزيئا الصبغة الأوبسين والرودوبسين إذ يوفِّران رؤية الألوان، فربما تكون رؤيةُ الطائر للسماء مُشبعةً بلونٍ إضافي لا تراه بقيةُ المخلوقات (تمامًا مثلما ترى بعضُ الحشرات الضوءَ الفوق البنفسجي) وله علاقةٌ مباشرة بالمجال المغناطيسي للأرض.
لكن هل من المؤكد أن العملية تعتمد على ميكانيكا الكمِّ من أجل أن تعمل؟ في عام ٢٠٠٤، ذهب ثورستن ريتز كي يتعاونَ مع الزوجَين فيلتشكو كي يُحاولوا التمييزَ بين البوصلة المغناطيسية التقليدية والبوصلة الكيميائية القائمة على آلية الجذور الحرة التي اقترَحوها. بالطبع يُمكن أن تتشوَّش البوصلات بأيِّ شيءٍ مغناطيسي؛ ثَبِّتْ بوصلةً على مقربةٍ من مغناطيس، وستُشير إلى القطب الشمالي للمغناطيس بدلًا من القطب الشمالي للأرض. يُنتج قضيب المغناطيس العادي ما يُسمَّى بالمجال المغناطيسي الثابت، مما يعني أنه لا يتغيَّر بمرور الوقت. لكن يمكن أيضًا توليدُ مجال مغناطيسي متذبذب — عن طريق لفِّ قضيب المغناطيس على سبيل المثال — وهذا ما يُثير الاهتمام. قد تظلُّ البوصلة التقليدية مشوَّشةً بالمجال المغناطيسي المتذبذب، ولكن في حالةِ أن التذبذب بطيءٌ بالدرجة التي تُتيح لإبرة البوصلة أن تتتبَّعه. أما إذا كانت التذبذباتُ بالغةَ السرعة، ولنقُل آلاف التذبذبات في الثانية، فلن تستطيع إبرةُ البوصلة أن تتتبَّعها بعد ذلك، ومن ثم يُصبح تأثيرها معدومًا. إذن، يمكن أن تتشوَّش البوصلة التقليدية بالمجالات المغناطيسية التي تتذبذبُ بتردداتٍ منخفضة وليس بترددات عالية.
لكن البوصلة الكيميائية ستكون لها استجابةٌ مختلفة تمامًا. تتذكر أن البوصلة الكيميائية اقتُرح أنها تعتمد على الأزواج الجذرية التي تكون في حالةِ تراكبٍ تجمعُ بين الحالتين المنفردة والثلاثية. ونظرًا إلى اختلاف الحالتين من حيث الطاقةُ وارتباطُ الطاقة بالتردد؛ فسيرتبط النظام بالتردد الذي — مع مراعاةِ الطاقات المعنيَّة — من المتوقَّع أن يكون في نطاق ملايينِ التذبذبات في الثانية. إن طريقة التفكير الكلاسيكية بشأنِ ما يحدث والتي ربما تكون أسهلَ في التخيُّل (على الرغم من أنها ليست صحيحةً تمامًا)؛ هي أن زوجَي الإلكترونات المتشابكَين يتقلَّبان بين الحالتَين المنفردة والثلاثية عدةَ ملايينَ من المرات في الثانية. في هذه الحالة، يمكن أن يتفاعل النظام مع المجال المغناطيسي المتذبذب عن طريق عملية الرنين، لكنه لن يتفاعلَ إلا إذا كان المجال يتذبذبُ بالتردُّد ذاتِه الذي يتذبذبُ عنده الزوجان الجذريَّان؛ أي إنه لن يتفاعل إلا إذا كانا في حالة تناغم، إذا استخدَمْنا مثالَ الموسيقى الذي عرَضناه فيما سبق. عندئذٍ، سيضخُّ الرنينُ طاقةً في النظام؛ مما سيُغير ذلك التوازن المهمَّ بين الحالتَين المنفردة والثلاثية الذي تعتمد عليه البوصلة الكيميائية؛ مما يعني انقلابَ كتلة الجرانيت المجازية قبل أن يكون لديها الوقتُ لاكتشاف المجال المغناطيسي للأرض. إذن على خلاف البوصلة المغناطيسية التقليدية، ستتشوَّش بوصلة الزوجَين الجذريَّين بالمجالات المغناطيسية التي تتذبذبُ بتردداتٍ عالية للغاية.
أعدَّ فريقُ ريتز والزوجان فيلتشكو تجرِبةً لاختبار هذا التوقُّع البالغِ الوضوح من نظرية الزوجين الجذريين باستخدام طيور أبي الحناء الأوروبي؛ هل ستكون بوصلتها حساسةً تجاه المجالات المغناطيسية ذاتِ التذبذبات المنخفضة أم العالية؟ انتظرَ الفريق حتى فصْل الخريف حينما يبدأ صبرُ الطيور في النَّفاد وترغبُ في الهجرة نحو الجنوب، ثم وضَعوا الطيور في غرفِ قُمع إملن. طبَّقوا مجالاتٍ متذبذبةً من عدة اتجاهات وبتردُّدات متفاوتة، وانتظَروا كي يرَوا هل يمكن للمجالات أن تُعطل قدرةَ الطيور الطبيعية على توجيهِ نفسها أم لا.
يشير اكتشافُ قدرةٍ وآلية مشتركة على نطاقٍ واسع بين العديد من المخلوقات إلى أن تلك القدرةَ أو الآلية موروثةٌ من سلَفٍ مشترك. لكن السلف المشترك بين الدجاج وطيور أبي الحناء وذباب الفاكهة والنباتات والصراصير كان حيًّا منذ مدةٍ طويلة تزيد على ٥٠٠ مليون سنة. إذن، على الأرجح البوصلات الكمية قديمة، ومن المُحتمل أنها وفَّرَت المهارات الملاحية للزواحف والديناصورات التي جابت المستنقَعات في العصر الطباشيري جنبًا إلى جنبٍ مع حيوان التيرانوصور الذي تعرفنا عليه في الفصل الثالث (تذكر أن الطيور في العصر الحديث مثل أبي الحناء تنحدرُ من الديناصورات)، والأسماك التي سبَحَت في بحار العصر البرمي، ومفصليات الأرجل القديمة التي زحفَت فوق محيطات العصر الكمبري أو اتخذَت جُحورًا تحتها، وربما حتى الميكروبات في عصر ما قبل الكمبري التي كانت أسلافًا لكلِّ المخلوقات الخلَوية. يبدو أن الفعل الطيفيَّ عن بُعدٍ الذي أشار إليه أينشتاين ربما كان يُساعد المخلوقات على أن تعرف طريقَها حول العالم في معظم مراحلِ تاريخ كوكبنا.
هوامش
-
(١)
نرجو عدمَ الخلط بينه وبين إملن تونيل، لاعبِ كرة القدم الأمريكية الأمريكي المعروف في خمسينيَّات القرن العشرين.
-
(٢)
لفظة «ثلاثية» هنا قد تكون محيرةً بالنسبة إلى غير الخبراء في ميكانيكا الكم؛ لا سيما أنها تُشير إلى زوج واحد فقط من الإلكترونات؛ لذا سأورد هنا تفسيرًا مختصرًا جدًّا: يقال إن الإلكترون له دوران بمقدار ١ / ٢. ومن ثم فعندما يكون هناك زوجان من الإلكترونات لهما دورانٌ معاكس، تلغي كلٌّ من هاتَين القيمتَين الأخرى: ١ / ٢ − ١ / ٢ = ٠. يُشار إلى تلك الحالة باسم حالةِ دورانٍ منفردة. لكن عندما يكون دورانهما يشير إلى الاتجاه نفسِه، فتُجمَع هاتان القيمتان: ١ / ٢ + ١ / ٢ = ١. يشير مصطلح «ثلاثي» إلى أن الدوَران المجمَّع الذي مجموعه ١ يمكن أن يشير إلى ثلاثة اتجاهات محتملة (أعلى وأسفل وجانبيًّا).
-
(٣)
عادةً ما يكون الإلكترونان غيرُ المقترنين في جزيء الأكسجين اللذان يربطان ذرَّتَيه معًا؛ في حالة دوران ثلاثية.
-
(٤)
بالطبع الدجاج ليس من الطيور المهاجرة، حتى عندما يعيش في البرِّية. لكن يبدو أنه يحتفظ بحاسةِ الاستقبال المغناطيسي.