الجينات الكمية
أكثرُ مكانٍ برودةً على الأرض ليس القُطبَ الجنوبي كما قد تتصوَّر، ولكنه مكانٌ ما في وسط الغِطاء الجليدي في شرق قارة أنتاركتيكا، ويبعد عن القطب الجنوبي نحوَ ١٣٠٠ كيلومتر. في تلك البقعة، تنخفض درجاتُ الحرارة في الشتاء إلى عشرات الدرجات المئوية تحت الصفر. إن أبرد درجة حرارة قِيسَت من قبلُ على الأرض على الإطلاق كانت ٨٢٫٩ درجةً تحت الصفر، وقد سُجِّلَت في تلك البقعة في الحادي والعشرين من يوليو عام ١٩٨٣، مما أكسبَ المنطقةَ اسم «قُطب البرد الجنوبي». في درجات الحرارة المنخفضة إلى هذا الحد، يتهشَّم الفولاذ ويتحتَّم قطعُ وَقود الديزل بالمنشار الكهربائي.
درجاتُ البرودة القُصوى تُجمد أيَّ رطوبة في الهواء، الذي — إلى جانب الرياح القوية التي تهبُّ من دون توقفٍ عبر السهول المتجمدة — ربما يجعلان قارةَ أنتاركتيكا أقسى مكانٍ على الكوكب.
لكن تلك البقعة لم تكن بتلك القسوة على الدَّوام. إن كتلة اليابسة التي تُشكل قارةَ أنتاركتيكا كانت جزءًا من القارة العملاقة المعروفة باسم قارة جندوانا وكانت تقع بالقرب من خطِّ الاستواء في واقع الأمر. كانت مغطَّاةً بنباتات كثيفة من سرخس البذور وأشجار الجنكة والسيكاديات التي كانت تتغذَّى عليها الديناصورات والزواحف الآكِلة للعشب مثل الليستروصورس الشبيه بوحيد القرن. ولكن منذُ ما يقرب من ثمانينَ مليونَ سنة، بدأتْ كتلةُ اليابسة في الانقسام وانجرفَت قطعةٌ منها نحو الجنوب، واستقرَّت في النهاية فوق القطب الجنوبيِّ لتكون قارةَ أنتاركتيكا. ثم منذ ما يقرب من خمسةٍ وستين مليونَ سنة، ضرب كويكبٌ ضخم الأرضَ مما أباد كلَّ الديناصورات والزواحف العملاقة وخلَّف حيزًا بيئيًّا أصبحَت الثديياتُ ذواتُ الدم الحارِّ هي المُهيمِنةَ فيه. وعلى الرغم من بُعد قارة أنتاركتيكا الشديد عن موقع الاصطدام، فقد تغيَّرَت الحياةُ النباتية والحيوانية فيها تغيرًا جَذْريًّا؛ حيث إن الغابات النفضية قد حلَّت محل نباتات السرخس والسيكاديات. سُكِنَت هذه الغابات بجرابيَّاتٍ وزواحفَ وطيورٍ أصبحَت الآن منقرضة، ومنها البطريق الضخم. وامتلأَت الوديان بالأنهار سريعةِ الجريان والبحيرات العميقة التي امتلأَت بمفصليات الأرجل والأسماك العظمية.
لكن مع انخفاض مستويات غازات الدفيئة، انخفضَت درجة الحرارة في قارة أنتاركتيكا. حفَّزَت تياراتُ المحيطات الدوَّارة انخفاضَ درجة الحرارة أكثر، ومنذ ما يقرب من أربعةٍ وثلاثين مليونَ سنةٍ بدأتْ أسطح الأنهار والبحيرات الداخلية تتجمَّد في الشتاء. ثم منذ ما يقرب من خمسة عشَر مليونَ سنة، لم يَذُب جليدُ الشتاء في الصيف، مما أدَّى إلى حجز البُحيرات والأنهار تحت سقفٍ متجمد صُلب. ولما استمرَّت درجة حرارة الأرض في البرودة، أخذَت أنهارٌ جليدية ضخمة تنساب فوق قارة أنتاركتيكا، ممَّا أدى إلى موت جميع الثدييات والزواحف والبرمائيات التي تعيش على يابستها ودفن اليابسة والبحيرات والأنهار تحت طبقاتٍ ثلجية يبلغ سُمكها عدةَ كيلومترات. بقيَت قارة أنتاركتيكا منحسرةً تحت هذه الثلوج مُذ ذلك الحين.
كان صائد الفقمات الأمريكي القبطان جون ديفيس أولَ شخص تطأ قدمُه تلك القارة، وذلك في القرن التاسع عشر، وفي عشرينيَّات القرن العشرين، بدأ الاستيطانُ الكامل حيث تسابقَت العديدُ من البلدان إلى الإعلان عن سيطرتها على أراضيها عن طريقِ بناء محطَّاتٍ بحثية فيها. أُقيمت أول محطة سوفييتيَّة على تلك القارة واسمها ميرني، بالقرب من الساحل في الثالث عشر من فبراير عام ١٩٥٦، وبدايةً من هنا وبعد عامَين، انطلقَت رحلةٌ استكشافية إلى داخل القارة؛ بهدف إقامةِ قاعدةٍ في قُطبها المغناطيسي الأرضي. تعرَّضَت البعثةُ الاستكشافية إلى العواصف الثلجية والانهيارات الجليدية والبرد القارس (٥٥ درجة تحت الصفر) ونقص الأكسجين، ولكنها وصلتْ في النهاية إلى القطب الجنوبي المغناطيسيِّ الأرضي في السادسَ عشر من ديسمبر، في صيف نصف الكرة الجنوبي وأقامت محطة فوستوك.
منذ ذلك الحين، لم يقلَّ عددُ العاملين في تلك القاعدة البحثية عن عشرين إلى خمسةٍ وعشرين عالمًا ومهندسًا تقريبًا، وهم الذين يُجْرون قياساتٍ لكلٍّ من المغناطيسية الأرضية والغلاف الجوي. من الأغراض الرئيسية للمحطة الحفرُ في النهر الجليدي الكامن تحتها للوقوف على السجلِّ المتجمِّد للظروف المناخية الماضية. في سبعينيَّات القرن العشرين، استخرج المهندسون مجموعةً من العيِّنات عمقُها يصل إلى ٩٥٢ مترًا، وقد وصلوا إلى ثلوجٍ تراكمَت منذ العصر الجليدي الأخير؛ أي: منذ عشرات آلاف السنين. وصلتْ حفَّاراتٌ جديدة في ثمانينيَّات القرن العشرين مما أتاح للباحثين الوصولَ إلى عمقٍ يبلغ ٢٢٠٢ متر. وبحلول عام ١٩٩٦، تمكَّن الفريق من الوصول إلى عمق ٣٦٢٣ مترًا؛ أي: حفرة في الجليد يزيد عُمقها على ميلَين، وصَلَت إلى مستوًى كان بمنزلةِ جليد سطحي منذ ٤٢٠ ألف سنة.
لكن توقَّف الحفر حينذاك لأنهم اكتشَفوا شيئًا غريبًا يقبع على مسافةٍ قريبة تحت قاع الحفرة. في الحقيقة، إن اكتشاف أن شيئًا غيرَ عادي كان يقبع تحت محطةِ فوستوك كان قد تمَّ قبل ذلك بعَقْدَين — أي: في عام ١٩٧٤ — عندما كشف مسحٌ زلزاليٌّ بريطاني للمنطقة عن قراءاتٍ غريبة لمساحةٍ كبيرة تبلغ ١٠ آلاف كيلومتر مربَّع وتقبع على مسافة ٤ كيلومترات تقريبًا تحت الثلج. اقترح عالم الجغرافيا الروسيُّ آندري بيتروفيتش كابيتسا أن قراءات الرادار الغريبةَ سببها بُحيرة عظيمةٌ منحسرة تحت الجليد، بَقِيَت دافئةً بدرجةٍ تُبقيها سائلةً بسبب الضغط الشديد وبسبب الطاقة الحرارية الأرضية الكامنة. تأكد اقتراحُ كابيتسا في النهاية بقياسات القمر الصناعي للمنطقة عام ١٩٩٦، التي كشفَت عن بحيرةٍ تحت الجليد يبلغ عمقها نحو ٥٠٠ متر (من سطحها السائل إلى قاعها) ويساوي حجمُها حجمَ بحيرة أونتاريو. وقد أطلق الفريق عليها اسم بحيرة فوستوك.
إن اكتشافَ بحيرةٍ تحت أعماق الجليد اكتسب أهميةً أكبر بفضل اكتشافٍ آخَر في عام ١٩٨٠ حدث على بُعدٍ يصل إلى نصف مليار ميل عندما صوَّرَت مركبةُ الفضاء «فوياجر ٢» سطحَ قمر كوكب المشتري يوروبا، وكشفَت عن سطحٍ جليدي به علاماتٌ شاهدة على وجود محيطٍ سائل تحته. إذا كان بإمكان الحياة أن تستمرَّ مئاتِ الآلاف من السنين في مياهٍ مدفونة على عمق كيلومترات أسفلَ نهر جليدي في قارة أنتاركتيكا، فربما تستطيع المحيطاتُ المغمورة في قمر يوروبا دعمَ حياةٍ خارج نطاق كوكب الأرض. أصبح البحث عن حياةٍ في بُحيرة فوستوك بمنزلةِ بروفة للبحث عن حياةٍ أكثرَ إثارةً خارج كوكبنا.
في هذا الفصل، نحن لا نريد التركيزَ على ظواهر الحياة الرائعة بلا شكٍّ في بحيرة فوستوك، بل على الوسائل التي يستطيع بها أيُّ نظامٍ بيئي الاستمرارَ وهو منحسرٌ بعيدًا منذ آلاف أو حتى ملايين السنين. في الحقيقة، يمكن اعتبارُ بحيرة فوستوك مثالًا مصغَّرًا من نوعٍ ما للأرض ذاتها، التي انحسرَت تقريبًا بعيدًا عن مدخلات الحياة، فيما عدا فوتونات الشمس، منذ أربعة مليارات سنة وبالرغم من ذلك ظلَّت محتفظةً بنظامٍ بيئي ثري ومتنوِّع في وجه التحديات التي فرَضَتها الانفجاراتُ البركانية واصطداماتُ الكويكبات والتغيرات المناخية الهائلة. فكيف يصمد تعقيدُ الحياة الشاسع ويتحمَّل التغيرات القصوى في بيئته آلاف أو حتى ملايين السنين؟
يمكن العثور على أحد مفاتيح هذا اللغز في جزءٍ من المادة التي درَسها فريقُ علم الأحياء في بحيرة فوستوك؛ وهو عبارة عن بضعةِ ميكروجرامات من مادةٍ كيميائية مُستخرَجة من المياه المتجمِّدة في البحيرة. هذه المادة حيويةٌ لاستمرار كلِّ مظاهر الحياة وتنوُّعها على كوكب الأرض وتحتوي على أكثرِ جزيءٍ غيرِ عادي في الكون المشهود. إننا نُطلق عليها اسم الحمض النووي.
تتبع المجموعةُ التي نفَّذَت دراسة الحمض النووي الخاصة ببحيرة فوستوك جامعةَ بولينج جرين ستيت بالولايات المتحدة. لقراءة تسلسلٍ يتكوَّن من ملايين الأجزاء من جزيئات الحمض النووي المستعادة من مياه البحيرة؛ استخدَموا نوعَ تقنيات تحديد تسلسل الحمض النووي الذي سبق أن استُخدم لفكِّ شفرة الجينوم البشري. ثم قارَنوا الحمض النووي من بحيرة فوستوك بقواعدِ البيانات التي تحتوي على مجموعةٍ كاملة من تسلسلات الجينات المقروءة من جينومات آلاف الكائنات المجموعة من جميع أنحاء العالم. ما اكتشفوه هو أن العديد من التسلسلات الخاصة ببحيرة فوستوك مطابِقةٌ أو شديدةُ القرب من جينات البكتيريا والفطريات ومفصليات الأرجل والمخلوقات الأخرى التي تعيش فوق الثلج؛ لا سيما تلك التي تقطن البحيراتِ الباردةَ والخنادق البحرية العميقة والمظلمة؛ وهي بيئاتٌ على الأرجح تُشبه قليلًا بحيرةَ فوستوك. هذه التشابهات الجينية مكَّنَتهم من اقتراحِ تخميناتٍ مدروسة بشأن العادات والطبيعة المحتملة للكائنات التي تركَت بصمات حمضها النووي تحت الثلج.
لكن تذكَّر أن الكائنات في بحيرة فوستوك حُبسَت تحت الجليد منذ عدة مئات الآلاف من السنين. وتشابُه تسلسلات الحمض النووي الخاصة بها مع تلك الخاصة بالكائنات التي تعيش فوق الجليد؛ يُعد من ثمَّ نِتاجًا للانحدار من سلفٍ مشترك من الكائنات التي لا بد أنها كانت ضمنَ المملكة الحيوانية والنباتية في قارة أنتاركتيكا قبل أن تنحسر البحيرة وتُحبَس كائناتها التي تعيش فيها بعيدًا تحت الجليد. إذن، نُسخَت تسلسلات الجينات لتلك الكائنات السلفية فوق الجليد وتحته على نحوٍ مستقل منذ آلاف الأجيال. لكن على الرغم من هذه السلسلة الطويلة من أحداث النسخ، فإن النُّسخ المتطابقة للجينات نفسِها ظلَّت شبه متطابقة. وبنحوٍ أو بآخَر، نُقلت المعلومات الجينية المعقَّدة التي تُحدد الشكل والسمات والوظيفة للكائنات التي تعيش فوق الجليد وتحته نقلًا تامًّا، على نحوٍ يكاد يخلو من الأخطاء، على مدار مئات الآلاف من السنين.
إن قدرة المعلومات الجينيَّة تلك على مضاعفة نفسها بدقةٍ من جيلٍ إلى جيلٍ تالٍ — وهو ما نُسمِّيه الوراثة — هي بالطبع عمليةٌ مركزية في الحياة. الجينات المكتوبة في الحمض النووي تُشفِّر البروتينات والإنزيمات التي تُكوِّن كلَّ جزيء حيوي في كل خلية حية عبر عملية الأيض، بدايةً من صبغات البناء الضوئي في النباتات والميكروبات وحتى المستقبلات الشمِّية في الحيوانات أو البوصلات المغناطيسية الغامضة لدى الطيور، وفي الحقيقة كلُّ سمةٍ في كل كائن حي. في واقع الأمر، سيُحاجِجُ العديد من علماء الأحياء بأن التضاعف الذاتي هو السِّمة المميزة للحياة. لكن الكائنات الحية لا تستطيع أن تُضاعف نفسها إلا إذا كانت قادرةً في المقام الأول على مضاعفة التعليمات الخاصة بتكوين نفسها. لذا فعمليةُ الوراثة — أي: نسخُ المعلومات الجينية بدقةٍ عالية — تجعل الحياة ممكِنة. لعلك تتذكر من الفصل الثاني أن غموض الوراثة — المتمثِّلَ في طريقة نقل المعلومات الجينية بدقةٍ من جيل إلى جيل تالٍ — كان اللغزَ الذي أقنع إرفين شرودنجر بأن الجينات عبارةٌ عن كياناتٍ ميكانيكية كمية. لكن هل أصاب في ذلك؟ هل نحتاج إلى ميكانيكا الكم لتفسير الوراثة؟ هذا هو السؤال الذي سنعود إليه الآن.
الدقة
عادةً ما نعتبر قدرةَ الكائنات الحية على مُضاعفة جينوماتها بدقةٍ شيئًا مُسلَّمًا به، ولكنها في الحقيقة أبرزُ جوانب الحياة وأكثرُها ضرورة. إن معدَّل أخطاء تضاعف الحمض النووي — التي نُسمِّيها الطفرات — عادةً ما يكون أقلَّ من واحدٍ في المليار. لأخذِ فكرة عن هذا المستوى الاستثنائي من الدقة؛ تأمَّل الأحرفَ وعلامات الترقيم والمسافات المستخدَمة في كتابة هذا الكتاب. ثم تخيَّل أن هناك ألفَ كتاب بحجمٍ مُماثل في مكتبة، وتصوَّرْ أن مهمتك هي نَسخُ كلِّ حرف ومسافة بدقةٍ من هذا الكتاب إليها. كم عددُ الأخطاء التي تتوقَّع أن ترتكبَها؟ هذه بالضبط كانت مهمةَ الكُتَّاب في العصور الوسطى، وقد بذَلوا أقصى ما لديهم لِنَسخ الكتب بخطِّ اليد قبل اختراع الطباعة. لا عجبَ أن تمتلئ محاولاتُهم بالأخطاء كما يتَّضح من تنوُّع النُّسخ المتباينة لنصوص العصور الوسطى. بالطبع أجهزة الكمبيوتر قادرةٌ على نسخ المعلومات بدرجةٍ عالية من الدقة، ولكنها تمتاز بتلك الدقةِ بفضل القواعد الصارمة للتقنيات الرقمية الإلكترونية الحديثة. تخيَّل إنشاء جهازِ نسخٍ من مادةٍ رَطْبة وإسفنجيَّة. كم عدد الأخطاء التي تعتقد أنه سيرتكبه في قراءة معلوماتها المنسوخة وكتابتها؟ لكن عندما تكون هذه المادةُ الرطبة الإسفنجية إحدى الخلايا في جسمك والمعلومات مُشفرة في الحمض النووي، فإن عدد الأخطاء يكون أقلَّ من واحدٍ في المليار.
يمكن القول إن ما يُؤكَّد عليه عادةً في الروايات العديدة المتعلقة باكتشاف الشفرة الجينية، وهو أن الحمض النووي يتَّخذ بنيةً على هيئة لولب مزدوج، لهو سِمة ذات أهمية ثانوية. في الحقيقة، هذا أمرٌ لافت للنظر كما أن بِنْية الحمض النووي الرائعة أصبحَت عن استحقاقٍ من الصور الأيقونية في العلم التي طُبِعت على التيشرتات وظهرَت في مواقع الويب وحتى في الفنون المعمارية. ولكن اللولب المزدوج ما هو إلا سقالةٌ في حقيقته. يكمن السرُّ الحقيقي للحمض النووي فيما يدعمه اللولب.
هذه العملية التي تبدو بالغةَ البساطة تقف وراء انتشار كلِّ مظاهر الحياة على كوكب الأرض. لكن في عام ١٩٤٤، عندما أصرَّ شرودنجر على أن درجة الدقة الاستثنائية في عملية الوراثة لا يمكن أن تُفسَّر بالقوانين الكلاسيكية — فالجينات على حدِّ قوله بالغةُ الصغر، ولا يمكن أن يعتمد انتظامُها على قواعدِ «تولُّدِ النظام من اللانظام» — اقترح أن الجينات لا بد أنها نوعٌ من «البلورات غير الدورية». فهل الجينات بلورات غير دورية؟
عادةً ما يكون للبلورات، مثلِ حبيبات الملح، أشكالٌ مميزة. فبلورات كلوريد الصوديوم (مِلح المائدة) مكعَّبة الشكل، ولكن جُزيئات الماء في الثلج عبارةٌ عن مَناشيرَ سداسيةِ الأضلاع والتي تظلُّ تكبر حتى تُكوِّن الأشكال المتنوعة على نحوٍ رائع للندف الجليدية. تَنتج هذه الأشكالُ عن الطرق التي يمكن من خلالها أن تتجمع الجزيئات بعضها مع بعض داخل البلورة؛ ولذا في النهاية تحكمها القوانين الكمية التي تُحدِّد شكل الجزيئات. لكن البلورات العادية، على الرغم من أنها تتَّسِم بدرجةِ تنظيمٍ عالية، لا تُشفر قدرًا كبيرًا من المعلومات لأن كلَّ وحدة مكررة لا تختلف عن بقية الوحدات الأخرى — وهو أمرٌ يُشبه إلى حدٍّ ما ورقَ الحائط ذي نمطِ الفُسَيفساء — ومن ثم فبإمكانِ قاعدةٍ بسيطة أن تصف البلورة بكاملها. اقترح شرودنجر أن الجينات عبارةٌ عما أسماه بلورات غير دورية، بمعنى أنها بلورات ذات بِنْية جزيئية متكرِّرة مُماثلة للبلورات القياسية، ولكنها معدَّلة بطريقةٍ ما، على سبيل المثال، بوجودِ فتراتٍ أو مُددٍ مختلفة بين التَّكرارات أو بِنْيات مختلفة في التَّكرارات؛ إنها أشبهُ بنسيجٍ جداري منقوش معقَّد منها إلى ورق الحائط. اقترح أن هذه البِنيات المكرَّرة المعدَّلة تُشفر المعلومات الجينية، وأن ترتيبها، كما هو الحال في البلورات، سيُشفَّر على المستوى الكمي. تذكَّر أن هذا الاقتراح كان قبل عَقدٍ من عمل واتسون وكريك؛ أي: سنوات قبل معرفة بِنْية الجينات أو حتى تركيبها.
هذا الاقتران لقواعد النكليوتيد الذي تتوسَّطه البروتونات هو الشفرة الجينية التي تُضاعَفُ وتُمرَّر في كل جيل. لكن تلك ليست عمليةَ نقلٍ للمعلومات تتم مرةً واحدة، وكأنها رسالةٌ مشفرة تُكتَب على لوحة «تُستخدم مرةً واحدة» ثم تُدمَّر بعد الاستخدام. إذ ينبغي ألا تنقطع قراءةُ الشفرة الجينية طيلةَ حياة الخلية؛ من أجل توجيهِ آليةِ تصنيع البروتينات كي تُصنع محركاتُ الحياة، المتمثلةُ في الإنزيمات، ممَّا يؤدي إلى تناغُمِ كل الأنشطة الأخرى للخلية. هذه العملية يُنفذها إنزيمٌ يُسمى «بوليميراز الحمض النووي الريبوزي»، الذي، مثل بوليميراز الحمض النووي، يقرأ مواضع بروتونات التشفير تلك بطولِ سلسلة الحمض النووي. ومثلما يتحدَّد معنى رسالةٍ أو حبكةِ كتابٍ بمواضع الحروف في إحدى الصفحات؛ فإن مواضع البروتونات في اللولب المزدوج تُحدِّد قصة الحياة.
كان عالم الفيزياء السويدي بير–أولوف لوفدين أولَ مَن أشار إلى ما يبدو واضحًا عند تأمُّله الآن؛ وهو أن موضع البروتونات تُحدده قوانينُ كَمية وليست كلاسيكية. إذن، فالشفرة الجينية التي تجعل الحياةَ ممكنة هي شفرةٌ كمية لا محالة. كان شرودنجر مُحقًّا؛ تُكتب الجينات بحروفٍ كمية، ودقةُ عملية الوراثة توفِّرها قوانينُ كمية وليست كلاسيكية. ومثلما يتحدَّد شكلُ البلورة في النهاية بقوانين كمية؛ فإن شكل الأنف ولونَ العينين وجوانب الشخصية لدينا تُحددها قوانينُ كمية تعمل داخل بِنيةٍ تتكوَّن من جزيءٍ واحد من الحمض النووي يُورث من أحد الأبوَين. وكما تنبَّأ شرودنجر، فإن الحياة تعمل عبر نظام يمتدُّ بدايةً من بِنية وسلوك الكائنات الحية بكاملها وحتى موضع البروتونات بطول جديلتي الحمض النووي — أي: تولُّد النظام من النظام — وهذا النظام هو المسئول عن دقةِ عملية الوراثة.
لكن حتى المضاعفات الكمية ترتكب أخطاءً عرَضيَّة.
عدم الدقة
ما كان للحياة أن تتطور على كوكب الأرض وتتكيَّف مع العديد من التحديات التي واجهَتْها؛ لو كانت عمليةُ نسخ الشفرة الجينية مثاليةً على الدوام. على سبيل المثال، كانت الميكروبات التي تسبح في بُحيرات قارة أنتاركتيكا المعتدلة منذ آلاف السنين ستتكيَّف على الحياة في بيئةٍ دافئة ومُشمسة نسبيًّا. وعندما حجَب السقف الجليدي عالَمها، كانت الميكروبات التي نسخَت جينوماتها بدقةٍ تامة ستَهلِكُ على نحوٍ شبه مؤكد. لكن العديد من الميكروبات أحدثَت بضعة أخطاء في عملية النسخ وولَّدَت خلايا وليدةً ذات طفراتٍ تختلف عنها قليلًا. كانت ستزدهرُ تلك الخلايا الوليدة ذات الاختلافات التي مكَّنَتها من أن تحيا في بيئةٍ أشدَّ برودةً وأكثرَ ظُلمة، وتدريجيًّا على مدار آلافِ أحداث النُّسخ غير المثالية تمامًا، كان نسلُ تلك الميكروبات المحاصرة سيتكيَّف جيدًا على الحياة في البحيرة المغمورة.
مرةً أخرى، إن عملية التكيُّف هذه التي تتمُّ عبر الطفرات (أي: أخطاء تضاعف الحمض النووي) داخل بحيرة فوستوك عبارةٌ عن نموذجٍ مصغَّر للعملية التي تحدث في الكون من حولنا منذ مليارات السنين. لقد مرَّت الأرض بالعديد من الكوارث الكبرى على طول تاريخها الطويل، بدايةً من الانفجارات البركانية العظمى إلى العصور الجليدية واصطدامات النيازك. وما كان للحياة أن تستمرَّ لو لم تتكيَّف مع التغيير عبر أخطاء النسخ. وما يتَّسم بالقدر نفسِه من الأهمية أن الطفرات كانت أيضًا المحفِّزَ على التغيُّرات الجينية التي حوَّلَت الميكروبات البسيطة التي تطورَت على كوكب الأرض في البداية إلى المحيط الحيوي الهائل التنوُّع الموجود اليوم. وهكذا يكون القليلُ من عدم الدقة مفيدًا، إذا مُنح الوقت الكافي.
بالإضافة إلى اقتراح أن ميكانيكا الكم كانت مصدرَ الدقة في عملية الوراثة، قدَّم إرفين شرودنجر اقتراحًا جريئًا آخرَ في كتابه الذي صدر عام ١٩٤٤ بعنوان «ما الحياة؟» افترض أن الطفرات قد تُمثل نوعًا من القفز الكمي داخل الجين. فهل هذا الاقتراح معقول؟ للإجابة على هذا السؤال، نحتاج أولًا إلى استعراضِ جدلٍ يتعلق بجوهر نظرية التطور.
الزرافة والبازلاء وذبابة الفاكهة
كثيرًا ما يُقال إن التطوُّر «اكتشفه» تشارلز داروين، لكن حقيقة أن الكائنات الحية قد تغيَّرَت على مدار الأزمنة الجيولوجية كانت مألوفةً لدى علماء التاريخ الطبيعي لمدة قرنٍ على الأقل قبل داروين عبر دراسة الحفريات. في الحقيقة، كان جَد تشارلز — إيرازموس داروين — من أشد أنصار فكرة التطور. لكن ربما أشهر نظرية عن التطور قبل داروين قد طرحَها أرستقراطيٌّ فرنسي يحمل اسمًا مثيرًا للإعجاب وهو جان–باتيست بيير أنطوان دو مونيه، شوفالييه دو لامارك.
وُلد لامارك عام ١٧٤٤، وقد تدرَّب ليكون كاهنًا يسوعيًّا، ولكن لما مات والده ورث مالًا مكَّنه بصعوبة من شراء حصانٍ امتطاه كي يكون جُنديًّا ويُقاتل في الحرب البوميرانية ضد بروسيا. لم تستمرَّ حياته العسكرية طويلًا بسبب إصابته، ومن ثَم عاد إلى باريس وعمل موظفًا في أحد البنوك، وأخذ يدرس علم النبات والطب في أوقات فراغه. في النهاية، وجد وظيفةً وأصبح مساعدًا نباتيًّا في قصر الملك، حتى أطاحت الثورة برأسِ ربِّ عمله. لكن ازدهر حالُ لامارك في فرنسا بعد الثورة وشغَل منصبًا في جامعة باريس، حيث حوَّل تركيز دراساته من النباتات إلى اللافقاريات.
النسخة المؤكَّدة اليوم من نظرية التطور هي نسخة داروين؛ إنها تلك التي تدور حول فكرة البقاء للأصلح، وأن الطبيعة التي لا ترحم تُفضل الأفراد القادرين على التكيُّف على نحوٍ جيد على الذرية الأقلِّ كفاءة. لكن الانتقاء الطبيعي لا يُمثل سوى نصفِ قصة التطور. فحتى ينجح التطور، فلا بد للانتقاء الطبيعي من مصدرٍ للتباين كي يبدأ به. كان هذا لغزًا كبيرًا أمام داروين لأن عملية الوراثة، حسبما اكتشفنا من قبل، تتَّسم بدرجةٍ عالية للغاية من الدقة. قد لا يتجلَّى هذا من فوره في الكائنات ذاتِ التكاثر الجنسي التي يبدو أنها تختلف عن آبائها، ولكن التكاثر الجنسي يُعيد فقط مزْجَ السِّمات الأبَوية الحاليَّة كي يولد الذرية. في الواقع، ساد اعتقادٌ عام في أوائل القرن التاسع عشر بأن امتزاج السمات في التكاثر الجنسي أشبهُ بمزج الدهانات. إذا أخذتَ عدة مئات من صفائح الدهان ذات ألوانٍ متنوعة، ومزجتَ نصف صفيحة مع نصفِ صفيحة أخرى، وكرَّرتَ تلك العملية آلافَ المرات، فسينتهي بك الأمر بعدة مئاتٍ من الصفائح ذات الدهان الرمادي؛ أي إن التبايُن الفردي سيتحول تدريجيًّا باتجاهِ المتوسط في الجماعة السكانية. لكن داروين احتاج إلى استمرار الحفاظ على التباين وفي واقع الأمر الزيادة عليه، إذا كان له أن يكون مصدرَ التغير التطوري.
لكن كان مصدر تلك المادة الخام للتطور — «التعديلات الوراثية المتناهية الصغر» — لغزًا كبيرًا. إن حالات الغرابة أو «الشذوذ» في السِّمات الوراثية كانت معروفةً جيدًا لدى علماء الأحياء في القرن التاسع عشر؛ على سبيل المثال، وُلد حمَلٌ بسيقانٍ قصيرة للغاية في مزرعة بنيو إنجلاند في أواخر القرن الثامنَ عشر وقد رُبِّي كي يُنتج سلالةً قصيرةَ السيقان تُسمى «أنكون»، وهي تُعد أسهلَ في السيطرة عليها حيث إنها لا تستطيع قفز الأسوار. وعلى الرغم من ذلك، اعتقد داروين أن حالات الشذوذ هذه لا يمكن أن تكون العناصرَ المحفزة للتطور لأن التغييرات المَعنيَّة كانت كبيرةً للغاية؛ ومن ثَم تولَّدَت في الغالب مخلوقاتٌ غريبة لا يُحتمل أن تتحمَّل الحياة في البرِّية. اضطُرَّ داروين إلى أن يبحث عن مصدرٍ لتغييرات قابلةٍ للتوارث أصغر وأقلَّ دراميةً لتوفير التبايُنات المتناهية الصغر المطلوبة كي تكون نظريتُه صحيحة. لم يتمكَّن أبدًا من حلِّ هذه المشكلة طيلة حياته. وفي واقع الأمر، في الإصدارات اللاحقة من كتاب «أصل الأنواع»، لجأ حتى إلى شكلٍ من نظرية لامارك التطورية من أجل توليدِ تبايُنات طفيفة قابلة للتوارث.
اكتُشف بالفعل جزءٌ من الحل في حياة داروين على يد الراهب ومُربي النباتات التشيكي جريجور مندل الذي قابلناه في الفصل الثاني. أوضحت تجارِبُ مندل على البازلاء أن التباينات الصغيرة في شكل البازلاء أو لونها تُورَث في واقع الأمر على نحوٍ ثابت؛ وهذا يعني أن هذه السِّمات لم تمتزج بل تنتقل على نحوٍ نقي جيلًا بعد جيل، على الرغم من حدوث تَخطٍّ للأجيال في كثيرٍ من الأحيان إذا كانت السِّمة متنحيةً وليست مُهيمنة. اقترح مندل أن هناك «عواملَ» وراثية مميزة — وهي ما نُسميه الآن الجينات — تشفر السمات البيولوجية، وتُعد مصدرَ التبايُن البيولوجي. إذن، بدلًا من استخدام صفائحِ الدهان الممتزجة لتصوُّرِ التكاثر الجنسي، لنستخدِم أوعيةً مليئة بكرات البلي ذاتِ التنوُّع الكبير في الألوان والأنماط. يُبدِّل كل جيلٍ مختلط نصف كرات البِلي من أحد الأوعية بنصف كرات البلي من وعاءٍ آخَر. الأهم من ذلك أنه حتى بعد آلاف الأجيال، فإن كُرات البلي الفردية تحتفظ بألوانها المميزة، تمامًا مثلما يمكن نقلُ السمات من دون تغييرٍ لمئات أو حتى آلاف الأجيال. ومن ثَم تُوفر الجينات مصدرًا ثابتًا للتبايُن يمكن أن يعمل على أساسه الانتقاءُ الطبيعي.
تعرَّض عمل مندل في الغالب إلى التجاهل في حياته، ونُسي من بعد موته؛ ومن ثم، وعلى حدِّ علمي، فإن داروين لم يطَّلع على نظريةِ مندل بشأن «العوامل الوراثية» ولم يُدرك أنها حلٌّ مُحتمل لأُحجية المزج. وهكذا، أدَّت مشكلة البحث عن مصدرٍ للتغييرات الوراثية التي تُحفز التطورَ إلى خفض الدعم لنظرية داروين عن التطور قُبيل نهاية القرن التاسع عشر. ولكن مع بداية القرن الجديد، أفكار مندل أحياها العديدُ من علماء النبات ممَّن كانوا يدرسون تهجين النباتات والذين اكتشفوا قوانينَ تحكم توارث التباينات. ومثل كلِّ العلماء الجيدين الذين يعتقدون أنهم اكتشفوا شيئًا جديدًا، فقد بحَثوا في المؤلفات الموجودة قبل أن يَنشروا نتائجَهم، وقد اندهشوا حينما اكتشفوا أن قوانينَ الوراثة التي توصَّلوا إليها كان قد وصَفها مندل قبل بضعة عقود.
أخذ عالم الوراثة توماس هانت مورجان دراسةَ دي فريس عن الطفرات إلى المختبر بجامعة كولومبيا في أوائل القرن العشرين، ونفَّذ عمله على ذبابة الفاكهة التي يسهل التعامل معها. عرَّض هو وفريقُه الذبابَ إلى أحماضٍ قوية وأشعَّة سينية وموادَّ سامة في محاولةٍ لتخليق طفرات. وفي نهاية المطاف، في عام ١٩٠٩، برَزَت ذبابةٌ من شرنقتها بعينَين بيضاوين، وأثبت الفريق أن السِّمة المتحورة تولدَت مثل الجين المندلي، كما كان الأمر مع زهور الربيع ذات الشكل الغريب التي اكتشفها دي فريس.
المزجُ بين الانتقاء الطبيعي الدارويني ونظريةِ الطفرات ومبادئ الوراثة لدى مندل؛ أدَّى في النهاية إلى ما يُعرف في الغالب باسم التوليف الدارويني الجديد. لقد فُهم أن الطفرات هي المصدرُ النهائي للتباينات الجينية الموروثة التي تكون في الغالب ذاتَ تأثيرٍ طفيف وفي بعض الأحيان حتى ضارَّة، ولكنها تجعل، من آنٍ لآخرَ، الطافراتِ أصلحَ من آبائها. بعد ذلك تتدخَّل عملية الانتقاء الطبيعي للتخلُّص من الطافرات الأقلِّ صلاحيةً في جماعةٍ سكَّانية ما، وفي الوقت ذاته تسمح للضروب الأنجح بالبقاء والتكاثر. في النهاية، تُصبح الطافرات الأصلحُ هي القاعدة، ويستمرُّ التطور عن طريق «الاحتفاظ بالتعديلات الموروثة المتناهية الصِّغر وتراكمها».
أحدُ المُكونات الأساسية في التوليف الدارويني الجديد مبدأ أن الطفرات تحدث عشوائيًّا؛ أي إن التباين لا ينتج استجابةً لتغيير تطوري. ومن ثم عندما تتغير البيئة، تُضطرُّ الأنواع إلى انتظارِ حدوث الطفرة المناسبة — عبر عملياتٍ عشوائية — من أجل أن تتتبع هذا التغيير. وهذه الفكرة مناقضةٌ لفكرة لامارك عن التطور التي تُشير بدلًا من ذلك إلى أن التكيُّف الموروث — رقبة الزرافة الطويلة — ينتج عن الاستجابة إلى التحدِّيات البيئية ويُورث بعد ذلك.
في أوائل القرن العشرين، لم يكن واضحًا هل حدثَت الطفرات الموروثة عشوائيًّا — كما يعتقد الداروينيون الجدد — أم أنها نتجَت استجابةً إلى التحديات البيئية، حسبما يعتقد اللاماركيون. تذكَّرْ أن مورجان عرَّض الذباب لموادَّ كيميائية ضارةٍ أو إشعاع لتوليد طفرات. واستجابةً للتحديات البيئية، ربما أنتج الذبابُ ضروبًا جديدة ساعدَته على التصدي لتلك التحديات. وكما هو الحال مع زرافة لامارك، فربما «مدَّت عنقها» مَجازيًّا ثم نقلت تلك السِّمة التكيُّفية إلى ذرِّيتها في صورةِ طفرة موروثة.
سعَت التجارِبُ الكلاسيكية التي أجراها سلفادور لوريا — المشرف على رسالة الدكتوراه لجيمس واتسون — وماكس ديلبروك بجامعة إنديانا في عام ١٩٤٣ لاختبار النظريتَين المتنافستَين. حينذاك، كانت البكتيريا قد حلت محلَّ ذباب الفاكهة، وأصبحت الكائناتِ المفضَّلةَ في دراسات التطور؛ نظرًا إلى سهولة نموِّها في المختبر وسرعة تكاثرها. كان معروفًا أن البكتيريا يمكن أن تُصاب بالفيروسات، ولكن إذا تكرَّر تعرُّضها لها فسرعان ما تُطور مقاومةً لها عن طريق اكتساب الطفرات. وهذا وفَّر وضعًا مثاليًّا لاختبار النظريتين المتنافستَين عن الطفرات المتمثلتَين في الداروينية الجديدة واللاماركية. سعى لوريا وديلبروك لاكتشافِ ما إذا كانت الطافرات البكتيرية القادرة على مقاومة العدوى الفيروسية موجودةً بالفعل بين الجماعة البكتيرية، كما ترى النظرية الداروينية الجديدة، أم ستنشأ فقط استجابةً للتحدي البيئي المتمثل في الفيروس، كما ترى النظرية اللاماركية. وجد العالمان أن الطافرات ظهرَت بالمعدل ذاته تقريبًا؛ سواءٌ أكانت الفيروسات موجودة أم لا. بعبارة أخرى، لم يتأثر معدلُ التطفُّر بالضغط الانتقائي للبيئة. إن تَجارِبَهما جعلتهما يحوزان جائزةَ نوبل عام ١٩٦٩ وأرسَتْ مبدأ عشوائية الطفرات باعتباره حجرَ زاويةٍ في علم الأحياء التطوري الحديث.
لكن عندما كان لوريا وديلبروك يُجريان تجارِبَهما عام ١٩٤٣، لم يكن أحدٌ يعلم ممَّ كانت تتكون الجينات، ولا ما الآليات الفعلية المسئولة عن توليد الطفرات؛ أي: تحول جين إلى جينٍ آخَر. كل هذا تغيَّر عام ١٩٥٣ حينما كشف واتسون وكريك النقاب عن اللولب المزدوج. تبيَّن أن الجينات تتكوَّن من الحمض النووي. وحينها بدا المبدأ القائل بأن الطفرات عشوائية منطقيًّا تمامًا، حيث إن الأسباب المعروفة لإحداث الطفرات مثل الإشعاع أو المواد الكيميائية المُسببة للطفرات عادةً ما تُتلف جزيء الحمض النووي بطريقةٍ عشوائية بطوله بالكامل، مما يسبب الطفرات في أيِّ جينات تتأثر بها، بغضِّ النظر ما إذا كان التغيير قد قدم ميزة أم لا.
التشفير باستخدام البروتونات
إذن، يبدو أن الأشكال التاوتوميرية — ذات مواضع البروتونات البديلة — هي التي تقف وراء الطفرات، ومن ثم التطور، لكن ما الذي يجعل البروتونات تنتقل إلى الموضع الخطأ؟ الاحتمال «الكلاسيكي» الواضحُ هو أنها «تهتز» من حينٍ لآخَر بسبب الاهتزازات الجزيئية المستمرَّة التي تحدث في كل مكان حولها. ولكن هذا يتطلب توفُّرَ قدرٍ كافٍ من الطاقة الحرارية لتوفير القوة الدافعة، أي: «الهزة». ولكن كما هو الحال مع التفاعلات المحفزة بالإنزيمات التي تناولناها في الفصل الثالث، فعلى البروتون أن يتغلَّب على حاجز طاقة يصعب اختراقه كي يتحرَّك. بدلًا من ذلك، قد تُدفع البروتونات عن طريق الاصطدام بجزيئاتِ ماء قريبة، لكن لا تُوجَد جزيئاتُ ماء كثيرة على مقربةٍ من بروتونات التشفير في الحمض النووي بحيث توفر لها تلك الدفعة.
لكنَّ هناك مسارًا آخَر، وُجد أنَّ له دورًا مُهمًّا في الطريقة التي تتبعها الإنزيماتُ لنقل الإلكترونات والبروتونات. إن إحدى تَبِعات الطبيعة الشبيهة بالموجة للجسيمات دون الذرية مثل الإلكترونات والبروتونات؛ هي احتمالية حدوث عملية النفق الكمي. فعدم تموضع أيِّ جُسيم يُتيح له أن «يتسرَّب» من خلال أيِّ حاجزِ طاقة. عرَفنا في الفصل الثالث كيف أن الإنزيمات تستخدم النفقَ الكميَّ للإلكترونات والبروتونات عن طريقِ تقريب الجزيئات من بعضها البعض بالقدْر الكافي حتى تحدُث عملية النفق. بعد عقدٍ من نشر واتسون وكريك ورقتَهما البحثية المهمة، أشار عالم الفيزياء السويدي بير-أولوف لوفدين — الذي قابلناه من قبلُ في هذا الفصل — إلى أن النفق الكميَّ يمكن أن يوفِّر طريقةً بديلة حتى تتحركَ البروتونات عبر الروابط الهيدروجينية كي تولِّدَ الأشكال التاوتوميرية المسبِّبة للطفرات للنكليوتيدات.
ينبغي التأكيدُ على أن طفرات الحمض النووي تُسببها مجموعةٌ من الآليات المختلفة، منها تلفٌ تُسبِّبه الموادُّ الكيميائية والأشعة فوق البنفسجية وجسيمات التحلُّل الإشعاعي وحتى الأشعة الكونية. تحدث كلُّ تلك التغييرات على مستوى الجزيئات؛ ومن ثَم يمكن أن تتضمَّن عملياتٍ ميكانيكيةً كمية. لكن لا يُوجَد أيُّ دليل حتى الآن على أن الجوانب الغريبة لميكانيكا الكم لها دورٌ في مصادر الطفرات هذه. لكن إذا تبيَّن أن النفق الكميَّ مُتضمَّنٌ في تكوين أشكال تاوتوميرية لقواعد الحمض النووي، فربما يكون للغرابة الكمية دورٌ في الطفرات التي تُحفز التطور.
لكن الأشكال التاوتوميرية لقواعد الحمض النووي لا تُمثل أكثرَ من ١ بالمائة من كل قواعد الحمض النووي الطبيعية، وربما يعني ذلك أخطاءً بالنسبة ذاتها. وهذا معدلٌ أعلى بكثير من معدلِ واحدٍ في المليار أو نحو ذلك، وهو المعدل الخاصُّ بالطفرات التي نجدها في الطبيعة؛ لذلك فإذا كانت القواعد التاوتوميرية موجودةً بالفعل في اللولب المزدوج، فيجب إزالة معظم الأخطاء الناتجة عن طريق عمليات تصحيح الخطأ («التدقيق») المختلفة التي تساعد على ضمان الدقة العالية لتضاعف الحمض النووي. ومع ذلك، فإن تلك الأخطاء التي تنتج عن النفق الكمي، والتي تُفلِت من آلية التصحيح؛ قد تكون مصدرًا للطفرات التي تحدث بنحوٍ طبيعي والتي تقف وراء تطور الحياة على الأرض.
لا تكمن أهميةُ فَهم الآليات الكامنة وراء الطفرات في فَهمنا للتطور فحسب، بل إنها أيضًا قد تُسلط الضوء على كيف تتطور الأمراض الوراثية، أو كيف تصبح الخلايا سرطانية، حيث إن هذين النوعين من العمليات تُسببهما الطفرات. لكن المشكلة في اختبارِ ما إذا كان النفق الكمي ضالعًا في ذلك أم لا؛ هي أنه لا يمكن ببساطةٍ تنشيطُه أو عدم تنشيطه، وهذا على خلاف أسباب الطفرات الأخرى المعروفة؛ مثل مُسببات الطفرات الكيميائية أو الإشعاع. ومن ثم فليس سهلًا أن نَقيس معدلات الطفرات في وجود النفق الكمي وفي غيابه لنرى هل هناك اختلاف فيها أم لا.
لكن قد تكون هناك طريقةٌ بديلة لاكتشافِ أصلٍ ميكانيكي كمي للطفرات، وهي تعود إلى الفرق بين المعلومات الكلاسيكية والمعلومات الكمية. يمكن قراءةُ المعلومات الكلاسيكية ثم إعادة قراءتها مِرارًا وتَكرارًا من دون تغييرِ فحواها، لكن الأنظمة الكمِّية تضطرب دومًا بالقياس. ومن ثم فعندما يفحص إنزيم بوليميراز الحمض النووي إحدى قواعد الحمض النووي كي يُحدد موضع بروتونات التشفير، فإنه يجري قياسًا كَميًّا، لا يختلف من حيث المبدأُ عن القياس الذي يقوم به الفيزيائيُّ لتحديد موضع أحد البروتونات في المختبر. في العمليتَين، يكون القياس مُضرًّا؛ فوَفقًا لميكانيكا الكم، أيُّ قياس لا بد أن يُغير حالة الجزيء الخاضع للقياس، بغضِّ النظر عمَّا إذا كان القياس أجراه إنزيمُ بوليميراز الحمض النووي داخل خلية، أم عدادُ جايجر في المختبر. إذا تناظرَت حالة هذا الجزيء مع حرفٍ في الشفرة الجينية، فيتوقَّع أن يتسبَّب القياس — لا سيما القياس المُتكرر — في تغيير تلك الشفرة، وربما في إحداث طفرة. فهل يُوجَد أيُّ دليل على ذلك؟
على الرغم من أن جينومنا بالكامل يُنسَخ في أثناء تضاعف الحمض النووي، فإن معظم «قراءات» جيناتنا لا تحدُث في أثناء تضاعُف الحمض النووي، بل في أثناء العمليتَين اللتَين تُستخدَم فيهما المعلومات الجينية لتوجيه تخليق البروتينات. يُطلق على أولى هاتَين العمليتَين اسمُ «التناسخ»، وتتضمَّن نسخ المعلومات المشفَّرة من قِبَل الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبوزي، الذي هو القريب الكيميائي للحمض النووي. ثم ينتقل الحمض النووي الريبوزي إلى مصنع تخليق البروتينات لعمل البروتينات؛ وهذه هي العملية الثانية ويطلق عليها اسم «الترجمة». لتمييز هاتَين العمليتَين عن نسخ المعلومات الجينية في أثناء تضاعف الحمض النووي؛ سنُشير إليهما باسم «قراءة» الحمض النووي.
لاختبارِ ما إذا كانت ميكانيكا الكم لها يدٌ في أي عملية بيولوجية أم لا؛ فإننا نحتاج إلى أدلةٍ يصعب أو يستحيل فَهمُها من دون ميكانيكا الكم. في الحقيقة، لغزٌ من تلك النوعية كان هو ما أثار اهتمامَنا نحن الاثنين بالدَّور الذي ربما تلعبه ميكانيكا الكم في علم الأحياء.
الجينات والقفز الكمي
في مختبر كولد سبرينج هاربور، قام كيرنز بالعديد من الدراسات البارزة. على سبيل المثال، أثبت كيف تبدأ عمليةُ تضاعف الحمض النووي عند نقطةٍ محددة، ثم تتحرك بطول الكروموسوم، وكأنها قطارٌ يسير على قضيبين. كذلك، لا بد أنه في النهاية قد حدَث تفاهمٌ بينه وبين جيمس واتسون؛ لأنهما في عام ١٩٦٦ اشتركا في تحرير كتاب عن دور الفيروسات البكتيرية في تطور علم الأحياء الجزيئي. وفي تسعينيات القرن العشرين، اهتمَّ بالدراسة السابقة التي حاز عليها لوريا وديلبروك جائزةَ نوبل، التي بدا أنها أثبتَت أن الطفرات تحدث عشوائيًّا، قبل أن يتعرض الكائن الحي إلى أي تحدٍّ بيئي. اعتقد كيرنز أن تصميم تجرِبة لوريا وديلبروك كان فيه ضعف، ومِن خلاله أثبتا أن الطافرات البكتيرية المقاومة للفيروسات موجودةٌ على نحوٍ مسبق في البكتيريا، ولا تنشأ استجابةً للتعرض إلى الفيروسات.
أشار كيرنز إلى أن أيَّ بكتيريا لم تكن مقاوِمةً بالفعل للفيروس ما كان سيكون لديها الوقتُ لتطوير طفرات جديدة بطريقةٍ تكيفية استجابةً للتحدي؛ لأن الفيروس كان سيقضي عليها بسرعةٍ كبيرة. وتوصل إلى تصميم تجرِبة بديل أعطي البكتيريا فرصة أفضل لتطوير طفرات استجابةً للتحديات. فبدلًا من البحث عن الطفرات التي تمنح مقاومةً لفيروس مميت، قام بتجويع الخلايا وبحَث عن طفرات تُمكن البكتيريا من البقاء على قيد الحياة والنمو. ومثل لوريا وديلبروك، رأى أنه تمكنَت بِضعُ طافرات من النمو مباشرةً، مما أظهر أنها كانت موجودةً مسبقًا في الجماعة البكتيرية، ولكن على خلاف الدراسة السابقة، لاحظ ظهورَ العديد من الطافرات بعد مدة، على ما يبدو «استجابةً» للتجويع.
تعارضَت النتيجة التي توصل إليها كيرنز مع المبدأ الراسخ بأن الطفرات تحدث عشوائيًّا؛ إذ بدا أن تجارِبه تُثبت أن الطفرات عادةً ما تحدث عندما تمثل ميزة. بدا أن النتائج تدعم نظرية التطور اللاماركية السيِّئةَ السمعة؛ لم تكن البكتيريا الجائعةُ تنمو لديها رقبةٌ طويلة مثل الظبي الخيالي الذي ذكره لامارك، ولكن بدا أنها تستجيبُ إلى تحدٍّ بيئي عن طريق توليد تعديلات موروثة تتمثَّل في الطفرات.
سرعان ما أكَّد عدة علماء آخَرين النتائج التجريبية التي توصَّل إليها كيرنز. لكن الظاهرة لم يكن لها تفسيرٌ داخل نطاق علم الوراثة الحديث وعلم الأحياء الجزيئي. ببساطةٍ لم تكن هناك آليةٌ تُتيح للبكتيريا — أو في الواقع أي مخلوق — أن «يختار» الجينات التي يجب أن تحدث فيها طفرةٌ ومتى. بدا كذلك أن النتائج تتعارض مع ما يُطلَق عليه في بعض الأحيان المبدأ الأساسي في علم الأحياء الجزيئي الذي يقول إن المعلومات لا تتدفَّق إلا باتجاهٍ واحد في أثناء عملية التناسخ، من الحمض النووي إلى البروتينات ثم إلى بيئة الخلية أو الكائن الحي. وإذا صحَّت نتائجُ كيرنز، فلا بد أن الخلايا قادرةٌ أيضًا على عكس تدفُّق المعلومات الوراثية، مما يتيح للبيئة أن تؤثر على ما يُكتَب في الحمض النووي.
وضع كيرنز ملايين الخلايا من بكتيريا الإشريكية القولونية على سطح هُلام في أطباقٍ تحتوي على غذاءٍ متمثِّل في سكَّر اللاكتوز. سُلالة بكتيريا الإشريكية القولونية التي استخدمها كيرنز كان بها خطأٌ في أحد جيناتها؛ مما جعلها غيرَ قادرة على تناوُل اللاكتوز، ومن ثم تعرَّضَت البكتيريا إلى التجويع. لكن البكتيريا لم تَمُت، لكنها علقَت فقط على سطح الهلام. ما أثار دهشة كيرنز وتسبب في كل هذا الجدل هو أنها لم تظلَّ على هذه الحال مدةً طويلة. فبعد عدة أيام، لاحظ أن مُستعمراتٍ تظهر على سطح الهلام. كانت كلُّ مستعمرة تتكون من طافراتٍ منحدرة من خلية واحدة؛ حيث صحَّحَت طفرةَ الخطأ في شفرة الحمض النووي لجين أكل اللاكتوز المَعيب. استمرَّت المستعمرات الطافرة في الظهور على مدار عدة أيام، حتى جفَّت الأطباقُ في النهاية.
بِناءً على نظرية التطوُّر القياسية كما تجسَّدَت في تجرِبة لوريا وديلبروك، فلا بد أن تطوُّر خلية بكتيريا الإشريكية القولونية قد تطلَّب وجود طافرات سابقة الوجود في الجماعة البكتيرية. ظهرَت بعض هذه الطافرات بالفعل في مرحلةٍ مُبكرة من التجرِبة، ولكن لقلَّتها الشديدة لم تكن لتُفسر كثرةَ المستعمرات الآكلة للَّاكتوز التي ظهرَت سريعًا «بعد» عدة أيامٍ من وضع البكتيريا في بيئة اللاكتوز (حيث يمكن أن تُوفر الطفراتُ ميزةً تكيفية للخلايا، ومن هنا أتى مصطلح «الطفرات التكيفية»).
استبعد كيرنز التفسيرات التافهة لتلك الظاهرة، مثل ازدياد معدل الطفرات بوجهٍ عام. وأثبت أيضًا أن الطفرات التكيفية لا تحدث إلا في بيئاتٍ يُمثل التطفرُ فيها ميزة. لكن النتائج التي توصَّل إليها لا يمكن تفسيرُها بمبادئ علم الأحياء الجزيئي الكلاسيكي؛ بمعنى أنه ينبغي أن تحدث الطفرات بمعدلٍ واحد سواءٌ كان اللاكتوز موجودًا أم لا. ولكن إذا كانت الجينات، كما زعم لوفدين، في الأساس أنظمةَ معلوماتٍ كمية، فإن وجود اللاكتوز سيُعدُّ على الأرجح بمنزلةِ قياسٍ كمي حيث إنه سيكشف هل تعرَّض الحمض النووي للخلية للتطفُّر أم لا؛ أي إنه حدَثٌ على المستوى الكمي يعتمد على مواضع البروتونات الفردية. فهل القياس الكمي يُفسر الاختلاف في معدلات الطفرات الذي لاحظه كيرنز؟
ينطلق النموذج من افتراض أن البروتونات يمكن أن تتصرَّف على نحوٍ ميكانيكي كمي، ومن ثم ستشقُّ البروتونات الموجودة في الحمض النووي لخلايا بكتيريا الإشريكية القولونية الجائعة نفقًا من آنٍ لآخَر لتصلَ إلى الموقع التاوتوميري (المسبب للطفرات)، ويمكن أن تشقَّ نفقًا بالسهولة نفسِها عائدةً إلى مواضعِها الأصلية. من منظور ميكانيكا الكم، فلا بد أن النظام يعتبر في حالة تراكبٍ بين الحالتين — شق النفق وعدم شقه — مع وصف البروتونات بأنها دالةٌ موجيَّة تنتشر عبر الموقعَين، ولكنها تكون غيرَ متماثلة؛ مما يُعطي احتماليةً أكبر بكثير للعثور على البروتونات في المواضع غير المتطفِّرة. وهنا، لا توجد أداة أو جهاز قياس تجريبي لتسجيل مكان البروتون، ولكن عملية القياس التي تناوَلْناها في الفصل الرابع تُنفذها البيئة المحيطة. يحدث هذا طوالَ الوقت؛ على سبيل المثال، قراءة الحمض النووي بآلية تخليق البروتين يجبر البروتون على «اتخاذ قراره» بشأن أيِّ جانب في الرابطة سيقبع فيه؛ هل في الموضع الطبيعي (عدم النمو) أم في الموضع التاوتوميري (النمو)، وعلى الأرجح أنه سيُوجَد في الموضع الطبيعي.
لكن تذكَّر أن العملية المعدنية تُمثل جسيمًا كَميًّا، وهو بروتون في جديلة الحمض النووي؛ لذا حتى بعد القياس تكون لديها حريةُ العودة إلى العالم الكمي لإعادة إنشاء حالة التراكب الكمي الأصلية. ومن ثم بعد رمي العملة واستقرارها على النقش، فستُرمى مِرارًا وتَكرارًا. وفي النهاية ستستقرُّ على الكتابة. في هذه الحالة، يمكن نسخُ الحمض النووي مرةً أخرى، ولكنه الآن سيُخلِّق الإنزيم النشط. وفي غياب اللاكتوز، لن يُحدث هذا أيَّ فرق لأنه لا فائدة تُرجى من الجين من دون اللاكتوز. إذ ستستمرُّ الخلية في الجوع.
لكن إذا وُجد اللاكتوز، فسيتغيَّر الموقف تمامًا؛ لأن الجين المصحح الذي خلَّقَته الخلية سيُتيح للخلية أن تستهلك اللاكتوز وتنموَ وتتضاعف. ومن ثم لن يكون ممكنًا العودةُ إلى حالة التراكب الكمِّي. وسيظل النظام إلى الأبد في العالم الكلاسيكي في صورة خليةٍ متطفرة. يمكننا تصويرُ ذلك — فقط في حالة وجود اللاكتوز — بإخراج العملات القليلة التي استقرَّت على الكتابة من الصندوق ووضعها في صندوقٍ آخرَ مكتوبٍ عليه «الطافرات». بالعودة إلى الصندوق الأصلي، ستستمرُّ عملية رمي العملات المتبقِّية (خلايا الإشريكية القولونية)، وعندما تستقر إحداها على الكتابة، تُخرَج من الصندوق وتُنقَل إلى صندوق الطافرات. وبالتدريج، سيتراكم المزيدُ والمزيد من العملات في صندوق الطافرات. وبإسقاط ذلك على التجرِبة، فإن الطافراتِ القادرةَ على النمو على اللاكتوز ستستمرُّ في الظهور في التجرِبة، تمامًا مثلما اكتشف كيرنز.
ركَّز جيم على البحث فيما إذا كان النفقُ الكمي للبروتونات في اللولب المزدوج للحمض النووي ممكنًا من المنظور النظري. عندما يتعامل عالِم الفيزياء النظرية مع مشكلةٍ معقَّدة كهذه، فإنه يُحاول إنشاء نموذج مُبسَّط يمكن تتبُّعه رياضيًّا وفي الوقت ذاتِه يحتفظ بالسمات التي يعتقد أنها الأهمُّ في النظام أو العملية. يمكن أن تَزيد تلك النماذج من حيث التعقيدُ والتطور مع إضافة المزيد من التفاصيل؛ بُغية زيادة القرب من مُحاكاة الشيء الحقيقي.
بالطبع رسم صورة أسهلُ بكثير من كتابة نموذج رياضي يصفُ الموقف وصفًا دقيقًا. لفهم سلوك البروتون؛ نحتاج إلى تصوير شكل بئر طاقة الوضع — أو سطح الطاقة — تلك تصويرًا بالغَ الدقة. هذه ليست مسألةً تافهة، حيث إن شكلها الدقيق يعتمد على العديد من المتغيِّرات. فلا تكون الرابطة الهيدروجينية بالأساس جزءًا من بِنية حمضٍ نووي كبيرة ومعقَّدة تتكون من مئات أو حتى آلاف الذرات فحسب، بل إنها أيضًا تكون مغمورةً في حمَّام دافئ من جزيئات الماء وغيرها من المواد الكيميائية داخل الخلية. إضافةً إلى ذلك، يمكن أن تؤثر الاهتزازاتُ الجزيئية والتقلبات الحرارية والتفاعلات الكيميائية التي تُنشطها الإنزيمات وحتى الأشعة فوق البنفسجية أو إشعاع التأيُّن في سلوك رابطة الحمض النووي؛ سواءٌ كان تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر.
هوامش
-
(١)
قاع النهر الجليدي الذي يقبع فوق البحيرة اليوم قد تراكَم منذ أكثرَ من ٤٠٠ ألف سنة، ولكن ربما تجمَّدَت البحيرة منذ مدة أطول. ليس معلومًا هل النهر الجليدي الحاليُّ حل محلَّ أنهار جليدية سابقة، أم هل مرَّت البُحيرة بأزمنةٍ من دون جليدٍ بين العصور الجليدية.
-
(٢)
الكائنات التي تعيش في ظروفٍ بيئية قاسية (من وجهة نظرنا).
-
(٣)
السرطانات تُسببها الطفرات في الجينات التي تتحكَّم في نموِّ الخلايا، مما يؤدي إلى نموٍّ غير مُتحكَّمٍ به في الخلايا؛ ومن ثم إلى تكون الأورام.
-
(٤)
بالطبع يمكن تسميتُها نظرية الانتقاء الطبيعي الخاصة بوالاس؛ نسبةً إلى عالم التاريخ الطبيعي والجغرافي البريطاني العظيم ألفريد راسل والاس، الذي توصَّل إلى فكرة داروين ذاتِها تقريبًا، أثناء إصابته بنوبةٍ من حمَّى الملاريا في أثناء سفره في المناطق الاستوائية.
-
(٥)
صِيغَ مصطلح «علم الوراثة» Genetics عام ١٩٠٥ على يد ويليام باتسون، وهو عالم وراثة إنجليزي مؤيدٌ لأفكار مندل، ومصطلح «جين» اقتُرح بعد ذلك بأربعة أعوام على يدِ عالم النبات الدانماركي فيلهلم يوهانسن؛ للتمييز بين المظهر الخارجي للفرد (نمَطُه الظاهري) وجيناته (نمطه الوراثي).
-
(٦)
تُعرَف الأشكال التاوتوميرية البديلة لكلٍّ من الجوانين والثايمين باسم الإينول أو الكيتو، اعتمادًا على موضع بروتونات التشفير؛ في حينِ تُعرف تاوتوميرات السيتوسين والأدينين باسم الكيتو أو الأمينو.
-
(٧)
نقصد بهذا افتقارَه إلى إطارٍ رياضي صارم.
-
(٨)
في الحقيقة، ستكون هناك أكثرُ من رابطة هيدروجين تربط كلًّا من الزوجَين القاعديَّين بالآخَر، ولكن تظلُّ المحاجَّة قويةً بالقدر ذاتِه إذا بسَّطنا الصورة إلى رابطةٍ واحدة فقط.
-
(٩)
قد تستمرُّ الخلايا الجائعة والمجهدة في محاولةِ نسخ حمضها النووي، ولكن على الأرجح ستفشلُ عملية التضاعف بسبب قلة الموارد المتاحة، ولا تنتج سوى امتداداتٍ قصيرة مقابلة لقلةٍ من الجينات.
-
(١٠)
هذا الأمر محلُّ جدلٍ كبير الآن في علم الأحياء الكمي؛ أي: هل الحياة «اكتشفَت» مزاياها الكمية، أم أن ميكانيكا الكم شاركَت في الأمر وحسب؟