العقل
في يوم السبت الموافق الثامن عشر من ديسمبر ١٩٩٤، بدأ جون–ماري عطلةَ نهاية الأسبوع، هو — الذي كان حينها في الثانية والأربعين من عمره — وصديقاه اللذان كانا يهويان استكشافَ الكهوف إلييت برونيل–ديشامب وكريستيان هيلير، وأخذوا يتجوَّلون عبر الوديان الضيقة بحثًا عن شيءٍ جديد. لما بدأ وقتُ العصر في الانتهاء وبدأت برودة الهواء تَزيد، قرَّروا استكشاف منطقةٍ تُعرف باسم سيرك ديستر، التي تسقط عليها أشعةُ الشمس الخافتة في وقت العصر؛ ولذا عادةً ما تكون أدفأَ قليلًا من الأجزاء المغطَّاة في الوادي في أيام الشتاء الباردة. تتبَّع الأصدقاء مسارَ بغالٍ قديمًا يتعرَّج بطول الجرف بين مصاطب من أشجار البلُّوط والبقس الدائمة الخُضرة والخَلَنْج، وتمكَّنوا من رؤية بون دارك بزاويةٍ جيدة عند مدخل الوادي الضيق. ولما كانوا يُجاهدون في السير عبر الشجيرات التحتية، لاحظوا تجويفًا صغيرًا في الصخور يبلغ تقريبًا عرضُه ٢٥ سنتيمترًا وارتفاعه ٧٥ سنتيمترًا.
كانت هذه — بالمعنى الحرفي — دعوةً مفتوحة لهواة استكشاف الكهوف الثلاثة للمرور، وسرعان ما حشروا أنفسهم عبر تلك الفتحة حتى وجَدوا أنفسهم في غرفةٍ صغيرة لا يتجاوز طولُها بضعةَ أمتار وتتَّسِع بصعوبة لهم بحيث يقفون فيها مُنتصِبي القامة. ولم يكد يمرُّ وقتٌ حتى لاحظوا تيارَ هواء ضعيفًا آتيًا من ظهر الغرفة. وأيُّ أحد سبق أن استكشف كهفًا سيكون معتادًا على الإحساس بتيارِ هواءٍ دافئ آتٍ من نفق غير مرئي. إن معظم الممرَّات الخفيَّة معروفة جيدًا لهواة استكشاف الكهوف المتمرِّسين؛ إنها تقبع خلف حُزمة الضوء الضيقة القادمة من المصابيح اليدوية التي يحملونها. لكن تيار الهواء في هذه الغرفة الصغيرة لم يكن آتيًا من أي كهفٍ معروف. تناوَب الفريقُ في إزالة الصخور من ظهر الغرفة حتى حدَّدوا مصدر الهواء؛ إنها قناةٌ تتَّجه عموديًّا إلى الأسفل. أصغرُ أعضاء الفريق، وهي إلييت، كانت أولَ من أُنزِلَت بحبلٍ في الظلام إلى ممرٍّ عمودي ضيق أمكَنها الزحفُ من خلاله. كان الممرُّ يتَّجه في البداية لأسفل ثم صعد مرةً أخرى قبل أن يتَّسع، وعند هذه النقطة استطاعت أن ترى أنها كانت معلَّقة على ارتفاع ١٠ أمتار فوق أرضية طينية. كان ضوء مصباحها اليدوي خافتًا جدًّا بحيث لا يُمكنه إضاءةُ الجدار البعيد، ولكن الصدى الذي عاد من صيحتها في الظلام أخبرها أنها كانت في كهفٍ كبير.
كان الفريق متحمسًا للغاية، ولكنهم اضطُرُّوا إلى الرجوع إلى شاحنتهم الواقفة عند سفح الجرف لإحضار سُلَّم. بعد العودة إلى التجويف، أنزَلوا السُّلم وكان جون–ماري أولَ شخص يصل إلى أرضية الكهف. كانت مغارةً كبيرة بالفعل إذ يبلغ على الأقل ارتفاعُها وعرضها ٥٠ مترًا، وكان بها أعمدة رائعة من الكالسيت الأبيض. توخَّى الثلاثة الحذرَ وهم يشقُّون طريقهم في الظلام، إذ كانوا يمشون على آثارِ خطوات بعضهم البعض كي لا يُكدروا البيئة الأصيلة؛ إذ كانوا يمرُّون بتياراتٍ مائية كبيرة وجدران من الصدف وكذلك وسط عظام وأسنان دببة ماتت منذ مدةٍ طويلة، وكانت مبعثرةً في مآوٍ قديمة للبيات الشتوي محفورةٍ في الأرضية الطينية.
كانت المصابيح اليدوية التي مع الفريق تفقد طاقتها، ومن ثم عادوا على إثرهم وزحَفوا خارجين من الكهف وقادوا شاحنتهم عائدين إلى منزل إلييت كي يتَناولوا العشاءَ مع ابنتها كارول. لكن رواياتهم العاطفية والمفكَّكة وغير المتماسكة إلى حدٍّ كبير عمَّا قد رأوه أثارت فضولَ كارول لدرجة أنها أصرت على قيامهم بأخذها في التوِّ إلى الكهف؛ حتى تتمكَّن من رؤية تلك الأشياء العجيبة بنفسها.
كان الظلام قد أرخى سُدوله حينما دخلوا إلى الكهف مرةً أخرى، ولكنهم أحضَروا في هذه المرة مصابيحَ يدوية أقوى كشفَت عن كاملِ روعة ما اكتشَفوه، كان هناك العديدُ من المغارات المزيَّنة بمجموعةٍ عجيبة من الحيوانات؛ إذ وجدوا خيولًا وبطًّا وبومةً وأسودًا وضِباعًا وفهودًا وأيائلَ وحيواناتِ ماموث ووعولًا وثيرانَ بيسون. معظم تلك الحيوانات كان مرسومًا بأسلوبٍ رائع وكأنها حيواناتٌ حقيقية، مع وجود تظليل بالفحم ورءوس متداخلة؛ مما يوحي بأنها مُجسَّمة، وبأوضاع ذات جاذبية عاطفية حقيقية. كان هناك صفٌّ من الخيل المتأمِّل على نحوٍ هادئ، وماموث صغير لطيف له أقدامٌ مستديرة كبيرة، وزوجان متشاحنان من وحيد القرن. يوجَد حتى وحيدُ قرنٍ توحي سيقانه السبعة بحركةِ ركض.
أصبح كهفُ شوفيه — كما يُطلق عليه اليوم — من أهم المواقع على مستوى العالم لفنونِ ما قبل التاريخ. ولأنه منطقةٌ أصيلة جدًّا — حيث توجَد حتى آثار الأقدام السليمة لسكانه القدامى — فإنه يبقى مغلقًا وخاضعًا للحراسة؛ للحفاظ على بيئته الرقيقة. يخضع الدخول إلى الكهف لرقابةٍ شديدة، ولا تدخله سوى قلةٍ محظوظة؛ ومن هؤلاء المحظوظين المخرجُ الألماني فيرنر هرتسوك حيث إن فيلمه الذي بعُنوان «كهف الأحلام المنسيَّة» الذي ظهر عام ٢٠١١ هو أحدثُ فيلم سيلجأ إليه معظمنا للاستمتاع بفنِّ الرسم الرائع على الصخور الذي مارَسه الصيادون في العصر الجليدي ممَّن احتمَوا في هذه الكهوف منذ ثلاثين ألف سنة.
لكن ما هو الوعي؟ هذا بالطبع سؤال أزعج الفلاسفة والفنانين وعلماء علم الأحياء العصبي، وعلى الأرجح بقية البشر؛ ما دُمنا واعين. في هذا الفصل، سنتخذ الطريق السهل بعدم محاولة تقديم أيِّ تعريف صارم. من وجهة نظرنا في الحقيقة إن السعي لفهمِ تلك الظاهرة البيولوجية التي تُعد هي الأغربَ غالبًا ما يعوقه الإصرارُ الشديد على إيجاد تعريفٍ لها. لا يستطيع علماء الأحياء حتى الاتفاقَ على تعريفٍ موحد للحياة نفسها، ولكن هذا لم يمنعهم من محاولة كشف جوانب الخلية واللولب المزدوج وعملية البناء الضوئي والإنزيمات، ومجموعةٍ من الظواهر الحياتية الأخرى، بما في ذلك قدرٌ كبير من الظواهر التي تُحفزها ميكانيكا الكم، التي قد كشفَت الكثير عما يَعنيه أن يكون الكائن على قيد الحياة.
لقد تناولنا العديدَ من هذه الاكتشافات في الفصول السابقة، ولكن كل ما تناولناه حتى الآن — بدايةً من البوصلات المغناطيسية وصولًا إلى الإنزيمات، ومن البناء الضوئي إلى الوراثة إلى حاسة الشم — يمكن مناقشته من منظور القوانين التقليدية في الكيمياء والفيزياء. ورغم أن ميكانيكا الكم غيرُ مألوفة، لا سيما من منظور العديد من علماء الأحياء؛ فإنها تتَّسق تمامًا مع إطار العلم الحديث. وعلى الرغم من أننا قد لا نفهم على نحوٍ حَدْسي أو منطقي ما يجري في تجربة الشقِّ المزدوج أو التشابك الكمي؛ فإن الأسس الرياضية التي تقوم عليها ميكانيكا الكم تتَّسم بالدقة والمنطق والفاعلية المتناهية.
لكن الوعي شيءٌ مختلف. لا أحد يعرف كيف وأين يتَّسق مع نوعية العلم التي تناولناها حتى الآن. لا توجَد معادلات رياضية (معتبرة) تتضمَّن مصطلح «الوعي»، وعلى خلاف التحفيز أو نقل الطاقة على سبيل المثال، لم يُكتشَف حتى الآن وجودُ وعي في أي شيءٍ غير حي. هل الوعي صفة في «كل» الكائنات الحية؟ لا تعتقد غالبية الناس ذلك، وسيُنيطون الوعي بالكائنات التي تمتلك أجهزة عصبية، ولكن كم من الجهاز العصبي ضروريٌّ من أجل وجود الوعي؟ هل السمك المهرج يشتاق إلى موطنه من الشعاب المرجانية؟ هل أنثى طائر أبي الحناء الأوروبي التي عرَضْنا لرحلتها تشعر حقًّا بضرورة التحليق جنوبًا كي تقضيَ الشتاء، أم تُراها تمتلك بَرنامَجًا للطيران الآليِّ مثل الطائرة التي بدون طيار؟ معظم أصحاب الحيوانات الأليفة مقتنعون أن كلابهم أو قططهم أو خيولهم واعية؛ ومن ثم هل الوعي موجودٌ في الثدييات؟ كثير ممن يربُّون الببغاوات أو طيور الكناري هم على القدر نفسِه من اليقين بأن حيواناتهم الأليفة أيضًا لها شخصياتها وتتمتع بالوعي مثل القطط التي تُطاردها. لكن إذا كان الوعي شائعًا في كلٍّ من الطيور والثدييات، فربما ورث كِلاهما تلك الصفةَ من سلفٍ مشترك كان يتمتَّع بها، ربما من سلف مثل الزواحف البدائية التي تُسمَّى «السلويات» والتي كانت تعيش قبل أكثرَ من ثلاثمائة مليون سنة، ويبدو أنها أسلاف الطيور والثدييات والديناصورات. إذن، هل التيرانوصور ريكس الذي تعرَّفنا عليه في الفصل الثالث أحسَّ بالخوف حينما غاص في أحد المستنقعات الترياسية؟ وهل الحيوانات البدائية أكثرَ ليست واعيةً حقًّا؟ يُصِر العديد من أصحاب أحواض تربية السمك على أن الأسماك أو الرخويات مثل الأخطبوط واعية، ولكن للعثور على سلف لكل هذه المجموعات؛ علينا العودة إلى ظهور الفقاريات في العصر الكمبري قبل خَمسمائة مليون سنة. فهل الوعي بهذا القِدم حقًّا؟
بالطبع نحن لا نعلم. حتى أصحاب الحيوانات الأليفة لا يسَعُهم غير التخمين؛ فلا أحد يعلم على وجه اليقين كيف يُميز بين السلوك الشبيه بسلوك الإنسان والوعي الحقيقي. ومن دون معرفة «ماهيَّة» الوعي، فلا يمكننا أن نعرف أبدًا أشكالَ الحياة التي تمتلك تلك الصفة. إذن، فإن نهجنا البسيط هو تجنُّب هذه الحُجج والمناقشات، والبقاءُ على الحياد التام بشأن الأسئلة المتعلقة بوقتِ ظهور الوعي على كوكب الأرض، أو ماهيَّةِ أقربائنا في المملكة الحيوانية التي كانت لديها وعيٌ ذاتي. إننا ننطلِق من الإصرار على أن أسلافنا هؤلاء الذين رسَموا أفكار الدببة أو ثيران البيسون أو الخيل البري على جدران الكهف القديم؛ كانوا يتمتَّعون بالتأكيد بالوعي. ومن ثم في وقتٍ ما في آونةٍ خلَت تتراوحُ ما بين قرابة ثلاثة مليارات سنة، حينما خرَجَت الميكروبات لأول مرة من الطين البدائي، وبين عشَرات الآلاف من السنين، حينما زيَّن البشرُ الأوائل هؤلاء الكهوفَ برسومات الحيوانات؛ ظهرَت صفةٌ غريبة في المادة التي تتكون منها الكائنات الحية؛ إذ أصبح بعضُ هذه المادة واعيًا. إن هدفنا في هذا الفصل هو دراسة كيف حدث هذا ولماذا، وكذلك تناول الاقتراح المثير للجدل بأن ميكانيكا الكم كان لها دورٌ رئيسي في ظهور الوعي.
أولًا وانطلاقًا من طريقة عرضنا لموضوعات الفصول السابقة، سنتساءل هل «يلزمنا» اللجوء إلى ميكانيكا الكم كي نُفسر تلك الظاهرة البشرية الأكثر غموضًا أم لا. ومن المؤكد أنه لا يكفي — كما يفعل البعض — تبنِّي وجهة النظر القائلة بأن الوعي غامضٌ ويصعب تفسيره، وأن ميكانيكا الكم غامضةٌ ويصعب تفسيرها، ومن ثم فلا مَناص من وجود صلةٍ بينهما بنحوٍ أو بآخر.
ما مدى غرابة الوعي؟
ربما أغرب حقيقة نعرفها عن الكون هي أننا نعرف قدرًا كبيرًا عنه، والفضل في ذلك يعود إلى صفةٍ عجيبة تحوذها أجزاؤها الموجودة داخل جماجمنا؛ أي: عقولنا الواعية. هذا في واقع الأمر غريبٌ للغاية، لا سيما أن وظيفة تلك الصفة الغريبة ليست واضحةً على الإطلاق.
كثيرًا ما يحاول الفلاسفة تدبُّرَ تلك المسألة بتخيُّلِ وجود الزومبي. يُشبه هؤلاء البشرَ تمامًا من حيث ممارسةُ الأنشطة مثل الرسم على جدران الكهوف أو قراءة الكتب، ولكنهم يفتقرون إلى أيِّ حياة داخلية؛ فلا شيء يدور في عقولهم باستثناء الحسابات الميكانيكية التي توجِّه حركةَ أطرافهم، أو الوظائفِ الحركية التي تقف وراء لُغتهم. الزومبي عبارةٌ عن آلاتٍ ذاتية التشغيل، تفتقر إلى الوعي أو الإحساس بالتجرِبة. وكون هذه الكائنات محتملةَ الوجود على الأقل من الناحية النظرية يتَّضح من حقيقة أن الكثير من أفعالنا — مثل المشي، وركوب الدراجة، والحركات اللازمة للعزف على آلةٍ موسيقية مألوفة وغيرها من الأفعال — يُمكننا القيامُ بها من دون وعي (بمعنى أن عقلنا الواعيَ قد لا يكون حاضرًا عندما نقوم بتلك المهام) أو من دون إدراكِ التجارِب السابقة أو تذكُّرها. وفي الحقيقة، عندما نفكر في تلك الأنشطة، يُعاق أداؤنا فيها، وهو ما يُناقض المتوقَّع. يبدو أن الوعي غير ضروري، على الأقل فيما يتعلق بتلك الأنشطة. لكن إذا كانت هناك أنشطةٌ يمكن تنفيذها من دون وعي، فهل يُحتمَل على الأقل أن نتخيل مخلوقاتٍ تُنفذ كل أنشطة البشر بنحوٍ آلي؟
يبدو أن الإجابة هي لا؛ هناك بعض الأنشطة التي يبدو أنه لا غنى عن الوعي فيها، مثل اللغة الطبيعية. يصعب بشدةٍ تخيلُ إجراء محادثة بنحوٍ آلي. سيصعب أيضًا علينا إجراءُ عملياتٍ حسابية صعبة أو حلُّ الكلمات المتقاطعة بنحوٍ آلي. ولا يُمكننا أن نتخيَّل فنانة العصر الجليدي الخاصة بنا (سنتعمد هنا افتراضَ أن الرسام كان أنثى) قادرةً على رسم ثور بيسون من دون أن يكون أمامها شيءٌ سوى جدران الكهف، لو لم تكن واعية. إن الشيء الذي تشترك فيه كلُّ هذه الأنشطة التي يجب أن تتمَّ بوعيٍ هو أنها مدفوعة ﺑ «أفكار»، مثل الفكرة التي تقف وراء كلمةٍ ما، أو الحل الخاص بمسألةٍ ما، أو فهم ماهية ثور البيسون ومعناه للإنسان في العصر الحجري. في الواقع، تطرح جدران كهف شوفيه الكثيرَ من الأدلة على أقوى استخدامٍ للأفكار وهو جمعُ العديد منها مع بعضها لتشكيل مفهومٍ جديد. على سبيل المثال، رُسم شكل مستحيل على صخرة معلَّقة، نصفه العُلوي يمثل الجزءَ العلوي لجسم ثور البيسون، ونصفه السفلي على هيئة الجزء السفلي لجسم الإنسان. وشكلٌ كهذا ما كان يمكن إنشاؤه إلا بعقل واعٍ.
لكن كيف تتجمع المعلومات العصبية المعقَّدة معًا في عقولنا الواعية لتكوين فكرة؟ هذا السؤال يُعد أحدَ جوانب اللغز الأول للوعي وهو ما يُطلق عليه في الغالب «مشكلة الربط»؛ كيف تتجمَّع المعلومات المشفرة في مناطقَ مختلفةٍ من الدماغ بعضها مع بعض في العقل الواعي؟ عادةً ما تُصاغ مشكلة الربط فيما يتعلق بالمعلومات المرئيَّة أو غيرها من المعلومات الحسِّية. تذكر على سبيل المثال وصف لوكا تورين المثير للذكريات لرائحة عطر نومبر نوار الذي أنتجته شركة شيسايدو الذي يقول فيه: «كان يجمع ما بين رائحة الورد والبنفسج، ولكن من دون أثرٍ لحلاوة أيٍّ منهما، بل إنه يمكن مقارنته بروائحَ بسيطةٍ وعبقة لأشجار الأرز الإسبانية التي تُستخدم في صنع علب السيجار.» لم يشَمَّ تورين العطر على أنه خليطٌ من الروائح المميزة التي كلٌّ منها مرتبطٌ بتنشيط الخلية العصبية المستقبلة الشمِّية الخاصة به، بل على أنه رائحةٌ واحدة لها نطاقٌ من الروائح والنكهات المثيرة للذكريات الكامنة فيها، بما في ذلك معنى مجموعةٍ كاملة من المفاهيم المساعدة، مثل السيجار والبنفسج. وبالمثل، لا تُخبر المشاهدُ والأصوات على أنها نِسبٌ محدَّدة من الألوان أو التراكيب أو النغمات، بل باعتبارها ذكرياتٍ ومفاهيم وانطباعات حسِّية متكاملة عن، لنقُل، ثور بيسون أو شجرةٍ أو إنسان.
تخيل الفنانة التي من العصر الحجري القديم الخاصة بنا وهي ترصد ثور بيسون حقيقيًّا. ستجمع عيناها وأنفها وأذناها ومستقبلات اللمس في أصابعها — إذا كان الثور ميتًا — كمًّا هائلًا من الانطباعات الحسِّية عن الحيوان، بما في ذلك رائحتُه وشكله ولونه وملمسه وحركته وصوته. في الفصل الخامس، تناولنا كيف أن الروائح تلتقطها حاسةُ الشم لدينا. لعلك تتذكَّر أن جزيئات المواد ذاتِ الرائحة التي ترتبط بكل خلية عصبية شمية تتسبَّب في «تنشيط» العصب، مما يعني أنها تُرسل إشارةً كهربية بطول محورها العصبي (وهو طرَفُ يد المكنسة في الخلية)، وتسير من الظهارة الشمية في نهاية الأنف إلى البصلة الشمِّية في الدماغ. سنتناول تفاصيلَ عملية التنشيط تلك لاحقًا في هذا الفصل؛ لأنها أساسيةٌ لفهم الوظيفة المحتملة لميكانيكا الكم في أفكارنا. لكن في الوقت الحالي، سنتخيل أن جُزيء رائحةٍ بَقرية ينطلقُ من ثورنا ويدخل إلى أنف الفنانة؛ ومن ثَم يرتبط بمستقبلٍ شمي، ويحفز سلسلةً من النبضات الكهربية لتسير في المحور العصبي الذي يُشبه السلك، وكأنها إشارةُ تلغراف تتكوَّن فقط من نقاط أو إشارات نبضية، بدلًا من النقاط والشُّرط التي في البرقيات.
بمجرد أن وصلت الإشارة العصبية الشمية إلى دماغ الفنانة، حفزَت تنشيط (المزيد من الإشارات النبضية) للعديد من الأعصاب النازلة؛ إذ قفَزَت الإشارة النبضية من عصبٍ إلى آخَر وكان كلُّ عصب بمنزلة محطة ترحيل تلغراف. وقد التُقِطَت بياناتٌ حسِّية أخرى على نحوٍ مُماثل على هيئة إشارات نبضية. على سبيل المثال، كانت المخاريط والنبابيت (وهي خلايا عصبية متخصصة تُشبه الخلايا العصبية الشمية، ولكنها مسئولة عن الاستجابة للضوء وليس المواد ذات الرائحة) التي تُبطن شبَكية العين ستُرسل سلاسلَ من الإشارات النبضية عبر الأعصاب البصرية إلى القشرة البصرية في دماغها. ومثلما استجابت الخلايا العصبية الشمية إلى جزيئات الرائحة الفردية، فإن الخلايا البصرية لم تستجب إلا لسِماتٍ محددة من الصورة التي تقع عليها شبَكيَّتُها؛ بعضُها كان سيستجيب إلى لونٍ مُعين أو أحد ظلال اللون الرمادي، والبعض الآخر إلى حافاتٍ أو خطوطٍ أو تراكيبَ معيَّنة. وبالمثل، استجابت الأعصاب السمعية في أذنها الداخلية إلى الصوت، ربما الأنفاس الثقيلة لثورٍ طُعن بالرمح، وملمس فروِه كانت ستُحسُّه الأعصاب «الحسَّاسة ميكانيكيًّا» في بشرتها. في كل هذه الحالات، ما كانت كل خلية عصبية حسية لتستجيب إلا لسِماتٍ معينة من المدخلات الحسية. على سبيل المثال، أي خلية عصبية سمعيَّة مُعينة ما كانت لتنشَط إلا إذا دخل صوتٌ له ترددٌ محدد إلى أذن الفنَّانة. ولكن، أيًّا كان مصدرها، ما كانت لتتغيَّر الإشارة التي يولِّدها كلُّ عصب؛ إذ تكون نبضةً من الإشارات الكهربية التي تسافر من عضو الحسِّ إلى مناطقَ متخصصةٍ في دماغ الفنانة. وهناك، ربما حفزَت تلك الإشاراتُ مخرجاتٍ حركيةً فورية، ولكن ربما عدلَت أيضًا الاتصال بين الخلايا العصبية كي ترسخ ذاكرة لملاحظاتها عبر مبدأ «الخلايا العصبية التي تنشط معًا ترتبط معًا» الذي يبدو أنه يقف وراء طريقةِ تشفير الذكريات في الدماغ.
النقطة المهمة هنا أنه لا يُوجَد مكانٌ في الخلايا العصبية التي يبلغ عددها ١٠٠ مليار أو نحو ذلك في دماغ الإنسان يتجمَّع فيه هذا التدفُّق الحسي الجارف للإشارات النبضية كي تُكوِّن الانطباع الواعيَ عن ثور البيسون. في الحقيقة، كلمة «تدفق» ليست الكلمةَ المناسبة هنا في واقع الأمر؛ لأنها تشير إلى تجمُّعٍ من نوعٍ ما للمعلومات ضمن ذلك التدفق، وهذا لا يحدث في الخلايا العصبية. بل إن الإشارة العصبية تظل منحسرةً داخل العصب الفردي. لذا، بدلًا من كلمة التدفق، يمكن تصور الأمر على أنه انتقالٌ للمعلومات عبر الدماغ في سلاسل من الإشارات النبضية … الإشارات التي تمر عبر تفرُّعاتٍ فردية لشبكة كبيرة تحتوي على تريليونات الخلايا العصبية. تتمثل مشكلةُ الربط في فهم كيف لكلِّ هذه المعلومات المنفصلة المشفَّرة على هيئة إشارات نبضية أن تُولِّد إدراكًا موحدًا لثور البيسون.
صياغة مشكلة الإطار في إطار الأفكار بدلًا من الانطباعات الحسية؛ يوصلنا إلى لُب مشكلة الوعي، وهو اللغز المتمثِّل في الطريقة التي تُحرك بها الأفكارُ العقول؛ ومِن ثم الأجساد. نحن لن نعرف البتةَ ما الذي كان يدور على وجه التحديد في عقل فنانتنا من العصر الحجري، ودفَعها إلى الرسم بالصبغات على الصخور. ربما ظنَّت أن رسم ثور البيسون سيَزيد من جاذبية إحدى الزوايا المظلمة، أو ربما اعتقدَت أن رسم الحيوان سيُحسن من فرصِ نجاح زملائها في الصيد. لكن ما يُمكننا التيقنُ منه هو أن الفنانة اعتقدَت أن قرار رسم الثور كان «فكرتها».
لكن كيف لفكرةٍ أن تُحرك مادة؟ عند النظر إليه على أنه شيءٌ كلاسيكي تمامًا، يُعتقد أن الدماغ يتلقَّى المعلومات عبر أحدِ المدخلات الحسية، ثم يُعالج تلك المعلومات لتوليد المخرجات، تمامًا مثل جهاز الكمبيوتر (أو الزومبي). لكن أين يقعُ في تلك الشبكة الهائلة من الإشارات النبضية عقلنا الواعي؛ ذلك الإحساس «بالذات» الذي نحن مُقتنعون بأنه يقود أفعالنا الإرادية؟ ما هذا الذي يُسمَّى «الوعي» بالتحديد وكيف يتفاعل مع مادة الدماغ لتحريك الذراعَين أو الساقَين أو اللسان؟ ليس للوعي أو الإرادة الحرةِ أهميةٌ في كونٍ حتمي بالكامل؛ لأن قوانين السببية لا تسمح إلا بحدوث شيء واحدٍ تلو الآخر في سلسلةٍ لانهائية من الأسباب والنتائج، التي تمتدُّ من كهف شوفيه هذا، وحتى حدث الانفجار الكوني العظيم.
في هذا الفصل، سنتناول السؤال الآتيَ: هل يمكن أن تُقدم ميكانيكا الكم أيَّ حلول لهذا اللغز العميق؟ في البداية، حريٌّ بنا أن نؤكد على أن أي أفكار عن الوعي تظلُّ تخمينيةً في طبيعتها إلى حدٍّ بعيد، حيث لا أحد يعلم حقًّا ما هو الوعي أو كيف يعمل. لا يُوجَد حتى إجماع بين علماء الأعصاب وعلماء النفس وعلماء الكمبيوتر والباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي على أنه يلزم وجود شيء غير التعقيد الهائل للدماغ البشري من أجل تفسير الوعي.
أولُ ما نبدأ به هو العمليات الدماغية التي أدَّت إلى رسم صورة ثور البيسون على الجدران الجيرية في وادي آرديش.
آليات التفكير
في هذا القسم، سنتتبَّع السلسلة السببية منذ ظهور خط المغرة الحمراء على جدار الكهف قبل ثلاثين ألفَ سنة. هذا التتبُّع سيقودنا بدايةً من انقباض العضلات في ذراع الفنانة التي رسمت هذا الخط، وحتى النبضات العصبية التي تسبَّبَت في انقباض هذه العضلات، والنبضات الدماغية التي نشطَت تلك الأعصاب والمدخلات الحسية التي حرَّكَت سلسلةَ الأحداث تلك. هدفُنا محاولة وضع أيدينا على المكان الذي يُقدم فيه الوعيُ إسهامه في هذه السلسلة السببية، بحيث يُمكننا أن نبحث حينها هل ميكانيكا الكم لها دورٌ في ذلك الحدث أم لا.
يُمكننا أن نتخيَّل المشهد منذ آلاف السنين عندما كانت فنانةٌ غير معروفة، ربما ترتدي جلد دب، تُحدق في ظلمة كهف شوفيه. لقد اكتُشفت الرسومات في أعماق الكهف، ومن ثم ربما اضطُرَّت الفنانة إلى حمل شعلة، وكذلك أواني الصبغات، إلى داخل الكهف. ثم في وقتٍ ما، غمست إصبعَها في إناء الفحم الحجري الملوَّن ورسمَت بالصبغة على الجدار الشكل العام لثور البيسون.
الإجابة الفورية هي أن الفكرة لم تفعل ذلك. وانقباض الألياف العضلية لدى الفنانة حفَّزَته بالفعل أيونات الصوديوم ذات الشحنة الموجبة التي تدافعَت إلى خلايا عضلاتها. هذا وتزيد أيونات الصوديوم على الجزء الخارجي من غشاء الخلايا العضلية مقارنةً بالجزء الداخلي منه، ممَّا يتسبَّب في وجود فرقِ جهدٍ كهربي عبر الغشاء، على نحوٍ أشبهَ بما يحدث في بطاريةٍ صغيرة. لكن توجَد ثقوبٌ في هذه الأغشية تُسمى «القنوات الأيونية»، وعند فتح هذه القنوات، فإنها تسمح بدخول أيونات الصوديوم إلى الخلية. إن عملية التفريغ الكهربي هذه هي ما حفَّز انقباض عضلات الفنانة.
عادةً ما تكون أيونات الصوديوم ذاتُ الشحنة الموجبة أكثرَ في الجزء الخارجي من غشاء الخلية العصبية من الجزء الداخلي منه، وذلك كما هو الحال في الخلية العضليَّة. تُحافظ على هذا الفرق مضخَّات تدفع أيونات الصوديوم ذات الشحنة الموجبة خارج الخلية عبر غشاء الخلية العصبية. يوفر فائضُ الشحنات الموجبة الخارجية فرقًا في الجهد الكهربي عبر غشاء الخلية يبلغ نحو واحدٍ على مائة من الفولت. وعلى الرغم من أن هذه الشحنة لا تبدو كبيرة، فعليك تذكُّر أن أغشية الخلايا لا يتجاوز سُمكها بضعة نانومترات، ومن ثم فإنه جهد عبر مسافة قصيرة للغاية. وهذا يعني أن لدينا تدرجًا كهربيًّا (وهو ما يُمثله الجهد الكهربي بالفعل) عبر غشاء الخلية قدرُه مليون فولت في المتر. هذا يُعادل عشَرة آلاف فولت عبر فجوة طولها سنتيمتر واحد، ويكاد يكون كافيًا لإطلاق شرارة، كما هو مطلوبٌ في شمعة الإشعال بسيارتك لاشتعال الوقود.
من هذا الوصف، يمكن أن تلاحظ كيف تختلف الإشارات العصبية عن الإشارات الكهربية التي تسير في الأسلاك. أولًا: لا يمرُّ التيار — حركة الشحنات — على نحوٍ مستقيم بطول الكابلات العصبية باتجاه الإشارة العصبية، بل إنه عموديٌّ على اتجاه جهد الفعل؛ بطنًا إلى ظهر عبر تلك القنوات الأيونية الموجودة في غشاء الخلية. ثانيًا: بعد بَدْء جهد الفعل بسبب فتح القنوات الأيونية مباشرةً، فإنها تُغلق مرةً أخرى وتبدأ مضخَّات الأيونات في العمل على إرجاع جهد البطارية الأصلي عبر الغشاء. إذن، هناك طريقةٌ أخرى للنظر إلى الإشارة العصبية، وتتمثَّل في اعتبارها موجةً من فتح أبواب أيونات الغشاء وغلقِها تنتقل من جسم الخلية إلى النهاية العصبية؛ أي: نبضة كهربية متحركة.
ولكننا هكذا نقفز بعيدًا جدًّا للأمام؛ إذ إننا لم نصل إلى العقل بعد. لا بد أن العصب الحركي لدى الفنانة تلقَّى الكثيرَ من الناقلات العصبية في عُلب التوصيلات العصبية الخاصة به، مما تسبب في تنشيطه. أتت هذه المدخلات من الأعصاب الصاعدة التي يوجَد معظمُها في الدماغ. بتتبُّع السلسلة السببية بطريقةٍ عكسية، فلربما اتخذَت الأطراف العلوية في تلك الأعصاب قراراتها بشأن تنشيطها من عدمِه على أساس مدخلاتها المتعددة، ومدخلات تلك المدخلات، وهكذا نسير بطريقةٍ عكسية مع السلسلة السببية حتى نصل إلى الأعصاب التي تلقَّت إشارات المدخلات من عينَي الفنانة وأذُنَيها وأنفها ومستقبلات اللمس لديها، ومراكزِ الذاكرة التي ربما تلقَّت المدخلات الحسِّية من ملاحظاتها السابقة عن ثيران البيسون الحية والميتة. وما بين المدخلات الحسية والمخرجات الحركية تقع «الشبكة العصبية» للدماغ التي نفذَت العمليات الحاسوبية التي تُملي القرار بتوليد — أو عدم توليد — المخرجات الحركية الدقيقة اللازمة لرسم هيكل ثور البيسون.
إذن، هذا هو مجمل المسألة؛ سلسلة الأحداث الكاملة التي أدَّت إلى انقباض العضلات الذي حدَث في ذراع الفنانة وهي ترسم عبر الجدار. لكن هل فاتنا شيء؟ ما وصفناه حتى الآن هو السلسلةُ السببية الآلية بالكامل بدءًا من المدخلات الحسية وانتهاءً بالمخرجات الحركية، مع بعض المعلومات التي تُوجَّه عبر مراكز الذاكرة. هذا هو نوع الآلية التي كان يتحدث عنها ديكارت حينما طرَح زعمه (الذي تناولناه في الفصل الثاني) بأن الحيوانات ما هي إلا آلات؛ لكن كل ما فعلناه هو أننا أحلَلْنا الأعصاب والعضلات والبوابات المنطقية مكانَ الرافعات والبكرات.
لكن تذكَّر أن ديكارت احتفظ بدورٍ لكِيان روحي — ألا وهو الروح — باعتباره المحرِّكَ النهائي لأفعال البشر. السؤال الآن: أين تقعُ الروح في سلسلة الأحداث هذه، القائمةِ على المدخلات والمخرجات؟ حتى الآن، نحن تحدَّثنا فقط عن فنانة زومبي. ففي أي مكان دخل وعيها — فكرتها بضرورة تمثيل ثور بيسون ذي مغزًى على جدار الكهف — إلى سلسلة الأحداث فيما بين المدخلات والمخرجات؟ لا يزال هذا أصعبَ لغزٍ في علوم الدماغ.
كيف يُحرك العقل المادة؟
بالطبع يوجَد العديد من «التفسيرات» للوعي، وكلها ورَدَت في مجموعة الكتب الهائلة التي تناوَلَت الوعي. لكن تحقيقًا لأغراض هذا الفصل، سنُركز على زعمٍ أثار جدلًا واسعًا على الرغم من وجاهته، وهو الأقرب إلى موضوع الكتاب، والذي يقول إن الوعي أحدُ ظواهر ميكانيكا الكم. من المعروف أن تلك القضية أثارها عالمُ رياضيات بجامعة أكسفورد اسمه روجر بينروز حين قال في كتابه «العقل الجديد للإمبراطور» الصادر عام ١٩٨٩ إن عقل الإنسان عبارةٌ عن كمبيوتر كمي.
لعلك تتذكر فكرةَ أجهزة الكمبيوتر الكمية الواردة في الفصل الرابع، حيث ذكَرنا مقال صحيفة «ذا نيويورك تايمز» الذي ظهر عام ٢٠٠٧، والذي يقول إن النباتات كانت عبارةً عن أجهزة كمبيوتر كمِّية. في النهاية، توصل فريق معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى فكرةٍ مفادها أن الميكروبات وأنظمة البناء الضوئي في النبات ربما تُنفذ بالفعل نوعًا من الحوسبة الكمية. ولكن هل يمكن أن تكون أدمغتها الذكية للغاية تعمل أيضًا على نحوٍ كمي؟ للإجابة عن هذا السؤال، نحتاج أولًا إلى إلقاء نظرةٍ أقربَ على ماهيَّة أجهزة الكمبيوتر الكمية وطريقة عملها.
الحوسبة بوحدات الكيوبت
عندما نتحدث عن جهاز الكمبيوتر اليوم، فإننا نقصد أيَّ جهاز إلكتروني قادرٍ على تنفيذ تعليمات للتعامل مع المعلومات ومعالجتها عبر مجموعة من المفاتيح الكهربية التي يمكن أن تكون إما على وضع التشغيل أو وضع إيقاف التشغيل؛ فكل مفتاح قادرٌ على تشفير عدد ثنائي (أو بت) في صورة ١ أو ٠. يمكن تنظيم مجموعةٍ من تلك المفاتيح لبناء دارات تنفذ تعليمات منطقية، يمكن دمجُها واستخدامها لتنفيذ عمليات حسابية مثل الجمع والطرح، أو في واقع الأمر، فتح وقفل البوابات التي وصَفْناها فيما يتعلق بالخلايا العصبية. أكبر ميزة في هذا «الكمبيوتر الرقمي» الكهربي هي تفوُّقه الشديد في السرعة على أي طريقة يدوية لتنفيذ المهمة ذاتِها، سواءٌ أكانت العدَّ على الأصابع أو الحساب العقلي أو استخدام الورقة والقلم.
لكن على الرغم من أن أجهزة الكمبيوتر الإلكترونية قد تمتاز بسرعةٍ فائقة في عمليات الجمع، فإنها لا تستطيع تتبُّع تعقيد العالم الكميِّ باحتمالاته المتداخلة الهائلة. وللتغلُّب على هذه المشكلة، توصل عالِم الفيزياء الحاصل على جائزة نوبل ريتشارد فاينمان إلى حلٍّ محتمل. اقترح تنفيذ العمليات الحسابية في العالم الكمي باستخدام جهاز كمبيوتر كمي.
مشكلة الإمبراطور هي عدمُ إدراكه أن مضاعفة العدد مِرارًا وتَكرارًا تؤدي إلى النمو الأُسِّي، وهي طريقةٌ أخرى للقول بأن الزيادة من عددٍ إلى آخر تتناسب مع مقدار العدد السابق. النموُّ الأسي نموٌّ انفجاري، وهذا ما اكتشفه الإمبراطور لما أدرك خطأه. ومثلما زادت حبات الأرز في الخرافة على نحوٍ أسِّي مع زيادة عدد المربعات في رُقعة الشطرنج، فإن قوة أجهزة الكمبيوتر الكمية تَزيد على نحوٍ أسي مع زيادة عدد وحدات الكيوبت الخاصة به.
وهذا مختلفٌ تمامًا عن الوضع في أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية، التي تَزيد قوتُها «على نحوٍ خطي» مع زيادة عدد وحدات البت. على سبيل المثال، إضافة بت واحد آخَر إلى جهاز كمبيوتر كلاسيكي بقوة ٨ بت ستَزيد قوتَه بمقدار الثمن؛ ولمضاعفة قوته، سينبغي مضاعفةُ عدد وحدات البت. لكن إضافة كيوبت واحد فقط إلى جهاز الكمبيوتر الكميِّ ستُضاعف قوته، مما سيؤدي إلى النوع ذاتِه من النمو الأسِّي في القوة، الذي أدرك الإمبراطور أنه السببُ في ضياع مخزون الأرز لدَيه. في الحقيقة، إن كان بإمكان الكمبيوتر الكمي أن يحافظ على الترابط والتشابك في نطاق ٣٠٠ كيوبت فقط، وهو الأمر الذي من المحتمل ألا يتضمَّن أكثرَ من ٣٠٠ ذرة؛ فيمكن أن يتفوَّق، في مهامَّ معينة، على كمبيوتر كلاسيكي بحجمٍ هائل للغاية!
يبذل علماءُ فيزياء الكمِّ قُصارى جهدهم للحفاظ على الترابط بين وحدات الكيوبت المتشابكة عن طريق استخدام أنظمة فيزيائية منتقاةٍ بعناية ومضبوطة بدقة، وتشفير وحدات الكيوبت في حفنة من الذرات وتبريد النظام إلى جزءٍ من الصفر المطلق وإحاطة الجهاز بغلافٍ عازل قوي؛ لإبعاده عن أي مؤثرات بيئية. باستخدام هذه النُّهج، تمكَّنوا من تحقيق بعض الإنجازات البارزة. ففي عام ٢٠٠١، تمكن علماء من شركة آي بي إم وجامعة ستانفورد من تطوير «كمبيوتر كمي في أنبوب اختبار» بعددِ سبع وحدات كيوبت، يُمكنه تنفيذُ شفرة برمجية ماهرة تُسمى خوارزمية شور، المُسمَّاة على اسم عالم الرياضيات بيتر شور الذي ابتكَرها عام ١٩٩٤ خصوصًا كي تُنفَّذ على جهاز كمبيوتر كمي. تُشفِّر خوارزميةُ شور طريقةً فعالة للغاية لتحليل الأعداد إلى عواملها الأولية (أي: تحديد الأعداد الأولية التي يجب ضربها معًا لإعطاء العدد المطلوب). كان هذا إنجازًا كبيرًا وتصدَّر صفحات الصحف والمجلات العلمية على مستوى العالم، لكن المحاولة الأولى لهذا الكمبيوتر الكمي الوليد لم تتمكَّن إلا من حساب العوامل الأولية للعدد ١٥ (أي: العددين ٣ و٥، إن كنت لا تعلم).
على مدار العَقد الماضي، اجتهدَت مجموعةٌ من أفضل علماء الفيزياء والرياضيات والمهندسين لتطوير أجهزة كمبيوتر كمية أكبر وأفضل، ولكن كان التقدم متواضعًا. ففي عام ٢٠١١، تمكن باحثون صينيون من تحليل العدد ١٤٣ إلى عوامله الأوَّلية (١٣ و١١) باستخدام أربع وحدات كيوبت فقط. ومثلما فعل الفريق الأمريكي من قبل، استخدَم الفريق الصيني نظامًا تُشفَّر فيه وحدات الكيوبت في حالات الدوران الخاصة بالذرات. ظهر نهجٌ مختلف تمامًا كانت الرائدة فيه الشركة الكندية دي–ويف، وهو نهجٌ يُشفر وحدات الكيوبت في أثناء حركة الإلكترونات في الدوائر الكهربية. في عام ٢٠٠٧، زعمَت الشركة أنها طوَّرَت أول كمبيوتر كمي تِجاري بقوة ١٦ كيوبت، بإمكانه حلُّ لغز سودوكو وغيره من مسائلِ مطابقة النمط والتحسين. وفي عام ٢٠١٣، تعاونَت وكالة ناسا وشركة جوجل والرابطة الجامعية للأبحاث الفضائية لشراء جهاز بقوة ٥١٢ كيوبت (مقابل مبلغ غير مُعلن) من تطوير شركة دي-ويف الذي كانت وكالة ناسا تنوي استخدامه للبحث عن الكواكب غير الشمسية؛ وهي الكواكب التي لا تدور حول شمسِنا بل حول نجوم بعيدة. ومع ذلك، كانت كلُّ المشكلات التي حلَّتها الشركة حتى ذلك الوقت في نطاق قدرات الكمبيوتر التقليدي، وظلَّ العديد من خبراء الحوسبة الكمية غيرَ مُقتنِعين بأن تقنية شركة دي–ويف عبارةٌ عن حوسبة كميةٍ من الأساس، أو إن كانت كذلك، فقد كانوا مُتشكِّكين بشأنِ ما إذا كان تصميمُها سيجعلها أسرعَ من الكمبيوتر الكلاسيكي أم لا.
الحوسبة في الأنيبوبات الدقيقة
أتت محاجَّة بينروز الأساسية بأن الدماغ عبارةٌ عن كمبيوتر كمي من مصدرٍ مفاجئ بعضَ الشيء وهو مُبرهنتا عدمِ الاكتمال الشهيرتان (على الأقل في الأوساط الرياضية) اللتان طرحهما عالم الرياضيات النمساوي كورت جودل. هذه المبرهنات صدمَت بشدة علماءَ الرياضيات في ثلاثينيَّات القرن العشرين ممَّن سعَوا بثقةٍ للوصول إلى مجموعةٍ قوية من المسلَّمات الرياضية يمكن أن تُثبت صحة العبارات الصحيحة وخطأَ العبارات الخطأ؛ في الأساس فإن العمليات الرياضية كانت داخليًّا متسقةً وخالية من أي تناقضات ذاتية. يبدو أن ذلك من الأشياء التي لا يهتمُّ بشأنها سوى علماء الرياضيات والفلاسفة، ولكنه كان ولا يزال يعدُّ أمرًا مهمًّا في مجال المنطق. لقد أوضحَت مبرهنتا عدم الاكتمال اللتان طرحَهما جودل أن هذا المسعى كان محكومًا عليه بالفشل.
تقول أولى مبرهنتَيه إن الأنظمة المنطقية مثل اللغة الطبيعية أو الرياضيات يُمكن أن تنتج عباراتٍ صحيحة، لكن لا يمكنها إثباتُها. قد تبدو هذه المبرهنة افتراضًا بسيطًا، ولكن تبعاته بعيدةُ المدى للغاية. لنفكر في نظامٍ منطقي مألوف مثل اللغة، التي بإمكانها التفكيرُ على نحوٍ منطقي باستخدام عبارات مثل «كل البشر فانون. سقراط بشر» كي تستنتج أن «سقراط فانٍ». من السهل أن نرى وكذلك أن نُثبت صوريًّا أن العبارة الأخيرة نتيجة منطقية للعبارتين الأُوليين، وذلك بناءً على مجموعة بسيطة من القواعد الجبرية (إذا كانت أ = ب، وكانت ب = ج، فإن أ = ج). لكن أوضح جودل أن أي نظامٍ منطقي معقَّد بالدرجة الكافية لإثبات صحة المبرهنات الرياضية ينطوي على قصورٍ جوهري وهو أن تطبيق قواعده يمكن أن يُنتج عبارات صحيحة، ولكن لا يُمكن إثبات صحة هذه العبارات بالأدوات ذاتِها التي استُخدمت في إنتاجها في المقام الأول.
يبدو هذا غريبًا إلى حدٍّ ما، ولكن هذا هو الحال. مع ذلك، وهذا شيء مهم، لا تقصد مبرهنة جودل أن بعض العبارات الصحيحة لا يمكن إثبات صحتها. بل تعني أن مجموعةً من القواعد ربما يكون بإمكانها إثباتُ صحة عبارات أنتجتها مجموعةُ قواعد أخرى، ومن ثم لا يمكنها إثباتُ صحتها. على سبيل المثال، العبارات اللُّغوية الصحيحة غير القابلة للإثبات يمكن إثباتُ صحتها ضمن قواعد الجبر، والعكس صحيح.
الأنيبوبات الدقيقة عبارةٌ عن خيوط طويلة من بروتينٍ يُسمى التوبولين. أشار هاميروف وبينروز إلى أن بروتينات التوبولين — الخرز الموجود على الخيط — قادرةٌ على التبديل بين شكلَين مختلفين على الأقل، الشكل المتمدِّد والمنكمش، والأهم أنها قادرةٌ على التصرف مثل الأجسام الكمية التي تُوجَد في حالة تراكبٍ من شكلَين في آنٍ واحد لتكوين شيءٍ يُشبه وحدات الكيوبت. ليس هذا فحسب، افترضا أن بروتينات التوبولين الموجودةَ في خليةٍ عصبية ما تتشابكُ مع بروتينات التوبولين في الكثير من الخلايا العصبية الأخرى. ستتذكر أن التشابك هو ذلك «الفعل الطيفي البعيد» الذي يمكن أن يربطَ بين الأجسام التي يبعد بعضها عن بعضٍ بمسافات كبيرة للغاية. إذا كانت الروابط الطيفية بين كل الخلايا العصبية في الدماغ البشري التي يبلغ عددها عدة تريليونات ممكنة، فربما تربط جميع المعلومات المشفرة في الأعصاب المنفصلة، ومن ثم تحلُّ مشكلة الربط. يمكنها أيضًا أن تُمِدَّ العقل الواعيَ بالقدرات الفائقة المراوغة وغير العادية لجهاز الكمبيوتر الكمي.
لكن ربما يُوجد اعتراضٌ أهم وهو أن الأنيبوبات الدقيقة في الدماغ من المستبعَد إلى حدٍّ كبير أن تكون وحدات كيوبت كمية مترابطة لأنها ببساطة كبيرةُ الحجم للغاية وبالغة التعقيد. في الفصول السابقة، أثبتنا وجودَ ظواهر الترابط والتشابك والنفق في مجموعة متنوعة من الأنظمة البيولوجية بدايةً من أنظمة البناء الضوئي وحتى الإنزيمات والمستقبلات الشمية والحمض النووي والعضو المراوغ المسئول عن الاستقبال المغناطيسي لدى الطيور. ولكن السمة الأساسية في كل هذه الأنظمة هي بساطة الجزء «الكمي» للنظام (الإكسيتون أو الإلكترون أو البروتون أو الجذر الحر). إنه يتكون من جسيمٍ واحد أو عددٍ ضئيل من الجسيمات التي تفعل ما تفعله عبر مسافاتٍ تُقاس بالمقياس الذري. وبالطبع هذا يتطابق مع رؤية شرودنجر التي يبلغ عمرها سبعين سنة بأن أنواع الأنظمة الحية التي يُحتمل أن تدعم القواعد الكمية ستتضمَّن عددًا ضئيلًا من الجسيمات.
نقطةٌ أخرى وهي أنه ليس من الواضح على الإطلاق أن الدماغ البشري «يمكنه» فعلًا تقديمُ أداء أفضلَ من الكمبيوتر الكلاسيكي في إثبات صحةِ عبارات جودل. وعلى الرغم من أن البشر ربما يكون بإمكانهم إثباتُ صحة عبارة من عبارات جودل غير القابلة للإثبات المنتجة من قبل الكمبيوتر، فإنه من الممكن على نحوٍ متساوٍ أن تكون أجهزة الكمبيوتر قادرةً على إثبات صحة عبارةٍ من عبارات جودل غير القابلة للإثبات المنتجة من قِبَل عقل بشري. مبرهنة جودل لا تشير سوى إلى عدم قدرة أيٍّ من الأنظمة المنطقية على إثبات كلِّ العبارات التي يولدها؛ إنها لا تشير إلى عدم قدرة نظام منطقي على إثبات عبارات جودل التي يولدها نظامُ منطقٍ آخر.
لكن هل يعني هذا أنه لا يُوجَد دورٌ لميكانيكا الكم في الدماغ؟ هل يُحتمل أن تتولد أفكارنا بالكامل عن العمليات التقليدية للعالم الكلاسيكي، على الرغم من العمليات الكمية الكثيرة التي تتمُّ في أجزاء أخرى من أجسامنا؟ على الأرجح، لا. تقترح أبحاثٌ حديثة أن ميكانيكا الكمِّ ربما يكون لها دورٌ بالغ الأهمية بالفعل في طريقة عمل العقل.
هل القنوات الأيونية كمية؟
من المواقع المحتملة لظواهر ميكانيكا الكم في الدماغ: القنواتُ الأيونية في أغشية الخلايا العصبية. وكما ذكرنا من قبل، هذه القنوات مسئولة عن توليد جهود الفعل — الإشارات العصبية — التي تنقل المعلومات في الدماغ، ومن ثم فهي لها دورٌ مركزي في معالجة المعلومات العصبية. طول القنوات لا يتجاوز واحدًا على مليارٍ من المتر (١٫٢ نانومتر) وعرضها يقلُّ عن نصف ذلك الطول، ومن ثم ينبغي أن تمرَّ الأيونات عبرها الواحدَ تلو الآخَر. لكنها تفعل ذلك بمعدلٍ عالٍ على نحوٍ غير عادي؛ إذ يبلغ نحو مائة مليون في الثانية. وتمتاز القنوات أيضًا بدرجةٍ عالية من الانتقائية. على سبيل المثال، القناة المسئولة عن إدخال أيونات البوتاسيوم إلى الخلية تُدخل نحو أيون صوديوم واحدٍ لكل عشَرة آلاف أيون بوتاسيوم، على الرغم من حقيقة أن أيونات الصوديوم أصغرُ قليلًا من أيونات البوتاسيوم، ومن ثم قد تتوقَّع على نحوٍ ساذج أنه يسهل عليها التسللُ عبر أي شيء كبير بما يكفي بحيث يسع أيونات البوتاسيوم.
حريٌّ بنا التأكيدُ على أن هذين الباحثين لم يُشيرا إلى أن الأيونات المترابطة كميًّا قادرةٌ على أن تكون بمنزلة أيِّ نوع من أنواع وحدات الكيوبت العصبية، وكذلك لم يُشيرا إلى أنها قد يكون لها دورٌ في الوعي؛ وللوهلة الأولى يصعب إدراكُ مدى إسهامها في حلِّ بعض مشاكل الوعي مثل مشكلة الربط. لكن، وعلى خلاف الأنيبوبات الدقيقة في فرضية بينروز-هاميروف، القنوات الأيونية على الأقل لها دورٌ واضح في الحوسبة العصبية — فهي تولِّد جهود الفعل — ومن ثم فإن حالتها ستعكس حالة الخلية العصبية؛ فعندما ينشط العصب، فستتدفَّق الأيونات (تذكر أنها تتحرَّك في صورة موجات كمية) بسرعةٍ من خلال القنوات، لكن ستسكن أيُّ أيونات موجودة في القنوات إذا سكن العصب. وبما أن مجموع الخلايا العصبية النشطة وغير النشطة في الدماغ لا بد أنه يُشفر أفكارَنا بطريقةٍ ما؛ فإن هذه الأفكار أيضًا تنعكس— أي: تشفَّر — في مجموع كلِّ ذلك التدفق الكمي للأيونات إلى داخل خلايا الأعصاب وخارجها.
لكن كيف لعمليات الأفكار الفردية أن تتجمع لتُولد أفكارًا واعية مترابطة؟ ليس من المحتمل أن قناةً أيونية مترابطة واحدة — سواء كمية أو كلاسيكية — يمكن أن تُشفر كلَّ المعلومات المحصورة في عمليات التفكير التي تُسفر عن تصوُّر كائنٍ معقَّد مثل ثور البيسون. كي يكون للقنوات الأيونية دورٌ في الوعي، يجب أن تكون مرتبطةً ببعضها البعض بطريقةٍ ما. هل يمكن لميكانيكا الكم أن تُساعد هنا؟ هل يمكن على سبيل المثال ألا تكون الأيونات في أي قناة مترابطةً بطول القناة فحسب، بل مترابطة أو حتى متشابكة أيضًا مع الأيونات في القنوات المجاورة، أو حتى الخلايا العصبية القريبة؟ يكاد يكون من المؤكَّد لا. ستُواجه القنوات الأيونية والأيونات بداخلها المشكلةَ ذاتَها مثل فكرة الأنيبوبات الدقيقة التي طرحها بينروز وهاميروف. وعلى الرغم من إمكانيةِ تصور وجود تشابك بين قناةٍ أيونية واحدة وقناةٍ مجاورة لها داخل الخلية العصبية ذاتِها، فإن التشابك بين القنوات الأيونية في الأعصاب المختلفة — الضروري لحلِّ مشكلة الربط — ليس ممكنًا البتةَ في بيئة الدماغ الحي؛ حيث إنها بيئةٌ دافئة ورطبة، ومحفِّزة على فكِّ الترابط، وديناميكيةٌ بدرجةٍ عالية.
يجدُر بنا التأكيدُ على أن استخدام أفكارٍ مثل المجال الكهرومغناطيسي للدماغ أو بالطبع القنوات الأيونية ذات الترابط الكمِّي بهدف تفسير الوعي لا يوفر دعمًا بأيِّ حالٍ من الأحوال لما يُطلق عليه «الظواهر الخارقة» مثل التخاطر، حيث إن المفهومَين قادران فقط على التأثير في العمليات العصبية التي تجري «داخل» الدماغ الواحد؛ إنها لا توفر وسيلةَ اتصالٍ بين أدمغة مختلفة! وكما أشرنا لمَّا تناولنا محاجَّة جودل التي ذكرها بينروز، ففي الحقيقة لا يُوجَد دليلٌ على أن ميكانيكا الكم ضروريةٌ على الإطلاق لتفسير الوعي؛ وهذا على خلاف الظواهر البيولوجية الأخرى التي تناولناها في هذا الكتاب مثل عمل الإنزيمات أو البناء الضوئي. لكن هل السمات الغريبة في ميكانيكا الكم التي اكتشفنا أنَّ لها يدًا في العديد من الظواهر المهمة للحياة يُحتمل أن تُستبعَد من أكبر ألغازها، ألا وهو الوعي؟ سنترك القرارَ للقارئ. إن العرض الذي قدَّمناه فيما سبق، والذي يتضمن القنوات الأيونية ذات الترابط الكمي والمجالات الكهرومغناطيسية، تخمينيٌّ بالتأكيد، ولكنه على الأقل يوفر رابطًا معقولًا بين العالم الكمي والعالم الكلاسيكي في الدماغ.
مع وضع هذا في الاعتبار، لنعد مرة أخرى إلى ذلك الكهف المظلم في جنوب فرنسا كي نُكمل سلسلة الأحداث التي بدأتْ من الدماغ وانتهت عند اليد حيث تقف الفنانة رابطةَ الجأش أمام الجدار تُراقب شعلتها وهي تومض وتتأرجحُ فوق حدوده الرمادية. إن حركة الضوء على الصخور تستحضر صورة ثور البيسون إلى عقلها الواعي. هذا كافٍ لتكوين الفكرة في رأسها، التي ربما تجسدَت في صورة تذبذبٍ للمجال الكهرومغناطيسي في دماغها الذي يفتح مجموعات من القنوات الأيونية المترابطة في عددٍ كبير من الخلايا العصبية المنفصلة؛ مما أدى إلى تنشيطها بنحوٍ مُتزامن. تنشط الإشارات العصبية المتزامنة جهود الفعل في أنحاء دماغها، ومن خلال الارتباطات المشبكية، تبدأ تيارًا من الإشارات الذي يسير نزولًا إلى عمودها الفقري ثم — عبر التوصيلات بين الأعصاب — إلى الأعصاب الحركية التي تُفرغ الناقلات العصبية الخاصة بها في التوصيلات العصبية العضلية الموجودة في عضلات ذراعها. تنقبض تلك العضلاتُ لتوليد الحركة المتناسقة ليدِها التي تمشي على جدار الكهف وتترك خطًّا من الفحم على الصخرة يُحدِّد هيكل ثور بيسون. وربما الأهم من ذلك هو إدراكها أنها بدأت الفعل «بسبب» فكرةٍ في عقلها الواعي. إنها ليست زومبي.
بعد ثلاثين ألفَ سنة، يُضيء جون–ماري شوفيه مصباحَه على جدار هذا الكهف ذاته والفكرة التي انتعشَت في دماغ تلك الفنانة التي قضت نحبها منذ أمدٍ بعيد تومض مرةً أخرى عبر الخلايا العصبية لعقل شخصٍ واعٍ.
هوامش
-
(١)
لصدمة العديد من هواة السينما؛ فقد كان فيلم هرتسوك ثلاثيَّ الأبعاد.
-
(٢)
ليس من السهل تقديرُ حجم شبكة الإنترنت، ولكن كل صفحة ويب حاليًّا مرتبطةٌ في المتوسط بأقلَّ من مائة صفحة أخرى، في حين أن الخلايا العصبية لها روابطُ مشبكية مع آلاف الخلايا العصبية الأخرى. ومن ثم من حيث الروابط، فهناك ما يقرب من تريليون رابطٍ بين صفحات الويب، ويوجَد نحوُ مائة ضعف هذا العدد بين الخلايا العصبية في دماغ الإنسان. ولكن شبكة الويب يتضاعف حجمها كلَّ بِضْع سنوات؛ ولذا يُتوقَّع أن تُباري الدماغَ البشري من حيث التعقيدُ في غضونِ عقدٍ من الزمان. فهل ستصبح الإنترنت واعيةً حينئذٍ؟
-
(٣)
إذا كنتَ من علماء الفيزياء، فإن ما نصفُه هنا هو كرة بلوخ.
-
(٤)
في الواقع، تمثل الخيوطُ العلاقةَ الرياضية بين الطَّور والسَّعة لوحدات الكيوبت المتشابكة المعبَّرِ عنها بمعادلة شرودنجر.
-
(٥)
يودُّ جونجو أن ينتهز هذه الفرصة كي يعتذرَ إلى ستيوارت هاميروف على كتابة اسمِه خطأً في كتابه «التطور الكمي».
-
(٦)
هذا مفهومٌ صعب آخر، ولكن بينروز اقترح تفسيرًا متفردًا تمامًا لمسألة القياس في ميكانيكا الكم بافتراض أن تأثير الجاذبية الخاصَّ بالأنظمة الكمية المعقدة بالقدر الكافي (ومن ثم الأكبر حجمًا)، على الزمكان؛ يؤدي إلى تشوُّشٍ يهدم الدالةَ الموجية، ويُحول الأنظمة الكمية إلى أنظمةٍ كلاسيكية، وأن تلك هي العملية التي تولِّد أفكارنا. المزيد من التفاصيل عن هذه النظرية الاستثنائية تناولَتها على نحوٍ جيد كتبُ بينروز، ولكن من الإنصاف أن نقول إن اقتراحه — حتى الآن — اكتسب عددًا قليلًا من المؤيِّدين في مجتمع فيزياء الكم.
-
(٧)
البيكوثانية تساوي واحدًا على مليون من واحدٍ على مليون جزء (أو ١٠ −١٢) من الثانية.