الفصل الثاني عشر
قال تاد كولين، حين انتهى جرانت من إلقاء القصة على مسامعه عبر الهاتف: «لا تبدو معجَبًا كثيرًا بهذا الرجل.»
«حقًّا؟ ربما يكون الأمر فحسب أنه لم يصادف أن يكون ما نطلق عليه نوعيتي المفضلة. اسمع يا تاد، هل أنت واثق تمامًا من أنه ليس لديك أدنى فكرة، حتى ولو كانت في المنطقة الخلفية في عقلك، عن أين يمكن أن يكون بيل قد أقام؟»
«ليس لديَّ منطقةٌ خلفية في عقلي. لديَّ فقط مساحةٌ أماميةٌ صغيرة ومحدودة أحتفظ فيها بكل ما هو مفيد لي. بضعة أرقام هواتف وبضع صلوات للرب.»
«حسنًا، أريد منك غدًا أن تذهب في جولة إلى أكثر الأماكن بديهيةً، إن شئت.»
«أجل، بالطبع. سأفعل أي شيء. أي شيء تقوله.»
«لا بأس. ألديك قلم؟ ها هي القائمة.»
أعطاه جرانت أسماء عشرين مكانًا من الأماكن المحتملة، اعتمادًا على افتراض أن شابًّا يافعًا من المساحات المفتوحة الواسعة والبلدات الصغيرة سيبحث عن نُزلٍ كبير وكذلك بهيج وليس باهظ الثمن. وفقط لغرض حسن التدبير أضاف بضعة من أشهر الفنادق الباهظة الثمن؛ فالشُّبان الذين يتلقَّون رواتبهم بأثرٍ رجعي يصل إلى عدة شهور كانوا يميلون إلى الإسراف.
قال جرانت: «لا أظن أنني سأتطلع إلى أكثر من ذلك.»
«وهل يوجد أكثر من ذلك؟»
«إن لم يكن قد مكث في واحد من هذه الفنادق، فسنكون قد علقنا؛ لأنه إن لم يكن قد مكث في أحدها فسيتعيَّن علينا البحث في كل فندق من فنادق لندن من أجل أن نجده، ناهيك عن البنسيونات.»
«حسنًا. سأبدأ بالبحث في الصباح الباكر. سيد جرانت، أود أن أقول لك إنني أقدر جدًّا ما تفعله لأجلي. أن تخصِّص وقتك من أجل شيء لا يمكن لأحد آخر فعله؛ أقصد شيئًا ما كانت الشرطة تتعرض له. لولا أنت …»
«اسمع يا تاد، لست أفعل هذا من باب الإحسان. بل أفعله انغماسًا في لذة فعله وإرضاءً لفضولي وإمتاعًا لنفسي بأقصى درجة. صدِّقني، لو لم أكن كذلك، لما كنتُ في لندن الآن. كنت سأخلد إلى النوم في كلون. لذا طاب مساؤك ولتنَم جيدًا. سنقسم هذه المهمة بيننا.»
ووضع السماعة ثم ذهب ليرى ما تركته السيدة تينكر على الموقد من طعام. بدا نوعًا ما من فطيرة الراعي. فحملها إلى غرفة المعيشة وأكلها في شرود؛ إذ كانت أفكاره لا تزال معلَّقة بلويد.
ما الذي كان مألوفًا بشأن لويد؟
راجع في ذهنه اللحظات القليلة التي سبقت إحساسه بأنه يعرفه. ماذا كان لويد يفعل؟ كان يفتح دولاب الكتب. كان يفتحه بإيماءة تنمُّ عن الكياسة والشعور بالذات، وعن شيء من حب الظهور. ما الذي ينطوي عليه هذا الأمر ليبثَّ في نفسه إحساسًا بالألفة؟
وكان ثَمة شيءٌ أغرب.
لماذا قال لويد: «على ماذا؟» حين ذكر ما كتبه كينريك؟
لا شك أن ردَّة الفعل تلك لم تكن طبيعيةً بالمرة.
ما الذي قاله للويد بالضبط؟ لقد قال إن كينريك استرعى اهتمامه بسبب بعض أبياتٍ شعرية كان يكتبها. والإجابة الطبيعية على هذا ستكون: «أبيات شعر؟» كانت العبارة المؤثِّرة ونافذة المفعول في هذه الجملة هي أبياتًا شعرية. أما فعل الكتابة فهو تابع وإضافي.
وحين يكون رد فعل أحدهم على تلك المعلومة هو: «على ماذا؟» فيتعذَّر تفسير ذلك أو تبريره.
عدا أن ردود الفعل البشرية تتسم بتعذر التبرير والتفسير.
كان جرانت يدرك بناءً على خبرته أن الكلمات غير ذات الصلة وغير المدروسة في أي قول هي الكلمات المهمة. فالاكتشافات المدهشة والمُرضية تكمن في الفجوة بين المجزوم به والمتضارب.
لماذا قال لويد: «على ماذا؟»
دخل إلى فراشه وهو يفكر في المعضلة، وراح في النوم وهو لا يزال يفكر فيها.
في الصباح بدأ بحثه بين الخبراء في شبه الجزيرة العربية، وانتهى من بحثه دون أن يندهش مطلقًا من أن بحثه لم يسفر عن شيء. فمن يستكشفون شبه الجزيرة العربية كهواية لهم نادرًا ما يملكون المال ليدعموا به أي شيء. بل على النقيض، كان هؤلاء في العادة يبحثون عن دعم لأنفسهم. وكانت الفرصة الوحيدة تتمثَّل في أن يتبيَّن أن أحدهم مهتم إلى الحد الذي يجعله على استعداد ليشارك شخصًا آخر فيما يتلقاه من دعم. لكن لم يسمع أيٌّ منهم من قبلُ بشارل مارتن أو بيل كينريك.
كان وقت الغداء قد حلَّ قبل أن ينتهي مما كان يفعله، فوقف قرب النافذة ينتظر مكالمة تاد، ويفكِّر هل يخرج لتناول الغداء أم يجعل السيدة تينكر تعدُّ له عجة بيض. كان الجو اليوم رماديًّا، لكن كانت توجد نسمةٌ خفيفة ورائحة تراب نديٍّ أثار فيه إحساسًا غريبًا بأنه في الريف. علَّق في نفسه قائلًا إنه يومٌ مناسب لصيد السمك. وتمنَّى للحظة لو أنه كان الآن يسير على الأرض السبخة نحو النهر بدلًا من نضاله مع منظومة الهواتف في لندن. لا يتحتَّم حتى أن يذهب إلى النهر. كان سيَقنَع بقضاء فترة بعد الظهيرة على بحيرة لوخان دهو في قاربٍ مثقوب بصحبة بات.
استدار إلى مكتبه، وبدأ يرتِّب الفوضى التي تخلَّفت من فتحه بريد هذا الصباح. فشرع يلقي بالمظاريف الفارغة والأوراق الممزَّقة في سلة المهملات، لكنه توقَّف في أثناء ذلك.
لقد واتاه الإلهام.
عرف الآن من الشخص الذي كان هيرون لويد يذكِّره به.
كان وي آرتشي.
وكان هذا الأمر مفاجئًا كثيرًا ومثيرًا للسخرية حتى إنه جلس على الكرسي إلى جوار مكتبه وأخذ يضحك.
ما الشيء المشترك بين وي آرتشي وذلك المخلوق الأنيق الرفيع الثقافة الذي يُدعى هيرون لويد؟
الفشل والإحباط؟ لا بكل تأكيد. إنه كان أجنبيًّا في البلد الذي يحبه كثيرًا؟ لا، هذا احتمالٌ مستبعَد جدًّا. كان الشيء المشترك بينهما أعمق من ذلك.
ذلك أن لويد هو الذي ذكَّره بوي آرتشي. لم يكن لديه شك في هذا الآن. وكان جرانت يشعر بتلك الراحة التي لا تُضاهى، والتي تتأتَّى حين يتذكَّر المرء اسمًا استعصى عليه أن يتذكَّره.
أجل، كان يذكِّره بوي آرتشي.
لكن لماذا؟
ما الذي كانت تتشارك فيه هاتان الشخصيتان المتناقضتان؟
إيماءاتهما؟ لا. بنيتهما الجسدية؟ لا. صوتهما؟ أكان ذلك هو المشترك بينهما؟
فقال له صوته الداخلي: «غرورهما، أيها الأحمق!»
أجل، هذا صحيح. غرورهما. غرورهما المرَضي.
جلس وكأن على رأسه الطير، يفكِّر في هذا، ولم يعد يضحك.
الغرور. الصفة الأساسية في الأفعال المشينة. والعامل الثابت في العقل الإجرامي.
فقط بافتراض أن …
تصاعد فجأةً أزيز الهاتف الموضوع عند مرفقه.
كان المتصل هو تاد. قال إنه وصل إلى الرقم ثمانية عشر في القائمة، وإنه أصبح خائر القوى، لكن دماء الروَّاد كانت تجري في عروقه، وإنه سيكمل البحث.
«دعك من البحث قليلًا وتعالَ نتناول الطعام معًا في مكانٍ ما.»
«أوه، لقد تناولت غدائي. تناولت موزتَين ومخفوق الحليب في ليستر سكوير.»
قال جرانت: «أيها الرب الرحيم!»
«ما المشكلة في ذلك؟»
«النشويات؛ تلك هي المشكلة في ذلك.»
«لا بأس بالقليل من النشويات حين يكون المرء منهَكًا. ألم يحالفك الحظ من جهتك؟»
«لا. إن كان ذاهبًا شمالًا للقاء شخص يدعمه، فإن هذا الداعم كان مجرد هاوٍ يملك المال، وليس أيٌّ من الأشخاص المنخرطين بفعالية في الاستكشاف في شبه الجزيرة العربية.»
«أوه. حسنًا. سأمضي في طريقي. متى أتصل بك ثانيةً؟»
«بمجرد أن تصل إلى نهاية القائمة. سأنتظر مكالمتك هنا.»
قرَّر جرانت أن يتناول عجة البيض، وبينما كانت السيدة تينكر تُحضِّرها أخذ يسير في أرجاء غرفة المعيشة تاركًا عقله يحلِّق في سماء التفكير والتكهن ثم يجذبه في الحال إلى أرض الواقع والمنطق، بحيث كان عقله يشبه في مسلكه خطوط التلغراف خارج مقصورة عربة قطار؛ ترتفع باستمرار وتهبط باستمرار.
ليتهما كانت لديهما نقطة بداية. ماذا لو وصل تاد إلى نهاية قائمة الفنادق المحتملة ولم يصل لأي نتيجة؟ كانت مسألة أيام فقط قبل أن يتحتَّم عليه أن يعود إلى العمل. توقَّف عن التفكير في الغرور واحتمالاته، وبدأ يفكِّر في المدة التي قد تستغرقها تغطية الفنادق الأربعة المتبقية من جانب تاد.
لكن قبل أن تنتهي السيدة تينكر من إعداد عجة البيض، كان تاد قد حضر بشخصه. كان يبدو محمرَّ الوجنتَين ومظفَّرًا.
وقال: «لا أعرف كيف واتتك فكرة الصلة بين ذلك المكان الضئيل الكئيب المهمل وبيل، لكنك كنتَ محقًّا. لقد مكث هناك بالفعل.»
«وما هو ذلك المكان الضئيل الكئيب المهمل؟»
«فندق بينتلاند. كيف فكَّرت فيه؟»
«يتمتع بسمعةٍ عالمية.»
««ذلك» الفندق يتمتع بسمعةٍ عالمية؟»
«ويستمر الإنجليز في الذهاب إليه جيلًا بعد جيل.»
«ذلك ما يبدو عليه الأمر!»
«إذَن بيل كينريك مكث هناك. إنه يروق لي الآن أكثر من أي وقت مضى.»
فقال تاد بنبرةٍ أكثر هدوءًا: «أجل.» وتلاشت حمرة بهجته بالظفر عن وجنتَيه. ثم أضاف: «أتمنى لو أنك كنت تعرف بيل. أتمنى ذلك حقًّا. لا أحد أفضل من بيل.»
«اجلس وتناول بعضًا من القهوة لتعادل ما تناولت من مخفوق الحليب. أم ترغب في شراب؟»
فأضاف بدهشة: «لا، شكرًا، سأتناول القهوة. لقد سجَّل بيل خروجه في اليوم الثالث من الشهر. الثالث من شهر مارس.»
«هل سألت عما كان يحمل من أمتعة؟»
«بالتأكيد. لم يكونوا مهتمين بالأمر في الفندق في البداية. لكنهم في النهاية أخرجوا دفترًا بحجم دفتر الأحكام القضائية، وقالوا إن السيد كينريك لم يترك شيئًا في غرفة المخزن ولا في الخزانة.»
«يعني ذلك أنه أخذ أمتعته إلى غرفة حفظ أمتعة — إلى غرفة أمانات — لتكون في متناوله حين يعود من اسكتلندا. ولو أنه كان ينوي العودة بالطائرة، فأظن أنه كان سيتركها في يوستن ليأخذها في طريقه إلى المطار. ولو أنه كان ينوي الذهاب بحرًا، فقد يكون أخذها إلى محطة فيكتوريا قبل أن يذهب إلى يوستن. أكان يحب البحر؟»
«بين بين. لم يكن مولعًا به. لكنه كان مهووسًا بالعبَّارات.»
«العبَّارات؟»
«أجل. يبدو أن الأمر بدأ حين كان طفلًا في مكان يُدعى بومبي! أتعرف أين ذلك المكان؟» فأومأ جرانت بالإيجاب. «وكان يقضي كل وقته على عبَّارة أُجرتها بنس.»
«كانت أُجرتها نصف بنس.»
«حسنًا، أيًّا كان.»
«إذَن تظن أن عبَّارة القطارات ربما كانت ستُثير اهتمامه. حسنًا، لا يسعنا سوى أن نحاول. لكن إن كان سيتأخر على لقائك، فأظن أنه كان سيستقلُّ الطائرة أثناء عودته. أيمكنك أن تتعرف على الحقائب لو رأيتها؟»
«أوه، أجل. كنت أتشارك أنا وبيل في جناحٍ صغيرٍ تابع للشركة. وساعدته في حزم حقائبه. في الواقع واحدة منها تخصُّني. لم يأخذ معه سوى حقيبتَين. وقال إن اشترينا كثيرًا من الأشياء فيمكننا أن نشتري حقيبة …» ثم تلاشى صوت تاد فجأةً ودفن وجهه في كوب قهوته. كان الكوب مسطَّحًا جدًّا، وعليه أنماط صفصاف بلونٍ وردي، كانت مارتا هالارد قد أحضرته من السويد لأجل جرانت لأنه كان يحب تناول قهوته في أكوابٍ كبيرة، فأصبح هذا الكوب حائلًا جيدًا يحجب انفعالات تاد.
«ليس لدينا أي إيصال لاستعادة تلك الأمتعة. ولا يمكنني استخدام وسائلي الرسمية. لكنني أعرف معظم العاملين في صالات الوصول الكبرى، وربما يمكننا أن نتحسَّس طريقنا دون علم أحد. وستكون مهمتك التعرف على الحقائب. في رأيك، أكان بيل بطبيعته يفضِّل وضع الملصقات؟»
«أتوقع أنه كان سيضع ملصقات على الأشياء التي كان سيتركها هكذا. لماذا، في رأيك، لم يضع إيصال الأمتعة المتروكة في محفظته؟»
«فكَّرت في أنه ربما يكون أحدٌ ما قد أودع تلك الحقائب نيابةً عنه. الشخص الذي قابله في يوستن، على سبيل المثال.»
«الرجل الذي يُدعى مارتن؟»
«ربما. إن كان قد استعار الأوراق التعريفية من أجل تخفِّيه الغريب، كان سيتعين عليه أن يعيدها. ربما كان مارتن سيلتقي به في المطار، أو في محطة فيكتوريا، أو في المكان الذي خطط أن يغادر إنجلترا منه أيًّا كان، ومعه الحقائب ليأخذ منه أوراقه.»
«أجل. يبدو ذلك منطقيًّا. أظن أننا لا نستطيع طرح نوبةٍ مفاجئة من الإعلانات عن ذلك المدعو مارتن؟»
«لا أظن أن ذلك المدعو مارتن سيرغب في أن يجيب، بعدما أعار أوراقه الخاصة من أجل عملية احتيال وكونه الآن من دون هوية.»
«لا. ربما تكون محقًّا. لم يكن من بين نزلاء ذلك الفندق على أي حال.»
فسأله جرانت مندهشًا: «كيف عرفت ذلك؟»
«اطَّلعت على السجل؛ دفتر التسجيل. حين كنت أتعرَّف على توقيع بيل.»
«أنت تضيِّع مهاراتك في أورينتال كوميرشال يا تاد. ينبغي أن تأتي للعمل معنا.»
لكن تاد لم يكن مصغيًا. وقال: «ليس لديك أدنى فكرة عن الشعور الغريب الذي انتابني حين رأيت خط بيل فجأة وبهذا الشكل، من بين كل تلك الأسماء الغريبة. نوعًا ما أفقدني ذلك القدرة على التنفُّس.»
أخذ جرانت صورة لويد الملتقطة للفوَّهة ووضعها على الطاولة. «هذا ما يظن هيرون لويد أن بيل قد رآه.»
نظر تاد إلى الصورة باهتمام. «هذا غريب فعلًا، أليس كذلك؟ تبدو تمامًا كناطحات سحاب مدمَّرة. كنت أظن أن الولايات المتحدة هي من ابتكر ناطحات السحاب حتى رأيت شبه الجزيرة العربية. لكن بعض تلك البلدات العربية القديمة هي مجرد مبانٍ مشابهة لمبنى إمباير ستيت لكن على نطاقٍ أصغر. لكنك تقول إن ما رآه بيل لا يمكن أن يكون هذا.»
«لا. من الجو لا بد أن تكون ماهيته واضحةً تمامًا.»
«هل أخبرت لويد بذلك؟»
«لا. تركته يتحدث فحسب.»
«لماذا تبغض ذلك الرجل بهذا الشكل؟»
«لم أقل إنني أبغضته.»
«لا يتعين عليك أن تقولها.»
تردَّد جرانت، فكان مشغولًا كالعادة بتحليل ما كان يشعر به بالضبط.
«أجد الغرور بغيضًا ومنفِّرًا. إنني أمقته بصفتي إنسانًا، وأرتاب منه بصفتي رجل شرطة.»
فقال تاد بإيماءةٍ خفيفة من كتفه تدل على التساهل: «إنها نقطة ضعف غير ضارَّة.»
«هذا بالضبط ما أنت مخطئ فيه. إنه الصفة المدمِّرة تمامًا. حين تقول الغرور، فإنك تفكِّر في النوعية التي تزهو بنفسها أمام المرآة وتشتري الأشياء لتتأنق بها. لكن هذا مجرد خيلاء شخصي. الغرور الحقيقي شيءٌ مختلف تمامًا. مسألة تتعلق بالشخصية وليس بالشخص. يقول الغرور: «لا بد لي أن أحصل على هذا لأنني أنا من أنا.» وهذا أمرٌ مخيف لأنه غير قابل للعلاج. لا يمكنك أن تقنع المغرور أبدًا بأنه يوجد أحدٌ آخر له أدنى درجة من الأهمية، إنه لا يفهم ما تتحدث بشأنه. قد يقتل المغرور شخصًا من أجل أن يوفِّر على نفسه قضاء عقوبة مدتها ستة شهور في السجن.»
«لكن هذا جنون.»
«ليس طبقًا لطريقة تفكير المغرور. وليس بالمعنى الطبي بكل تأكيد. الأمر كله يتلخَّص في أن المغرور يكون منطقيًّا. إن الغرور صفةٌ مفزعة كما ذكرت، وهي أساس كل الشخصيات الإجرامية. فالمجرمون — المجرمون الحقيقيون، على النقيض من الرجل الضئيل الذي يغش في الحسابات في حالة طارئة، أو رجل يقتل زوجته حين يجدها في الفراش مع رجل غريب — المجرمون الحقيقيون يتباينون في مظهرهم وأذواقهم وذكائهم وطريقتهم تباينًا واسعًا بقدر تباين بقية العالم، لكن لديهم سمةً مميزةً واحدة لا تتغير، وهي غرورهم المرَضي.»
بدا تاد وكأنه لا يستمع بانتباه لأنه كان يطبِّق هذه المعلومات على شخص يعرفه شخصيًّا. فقال: «اسمع يا سيد جرانت، أتقول إننا لا ينبغي أن نثق بذلك المدعو لويد؟»
فكر جرانت في ذلك مليًّا.
ثم قال أخيرًا: «ليتني كنت أعرف. ليتني كنت أعرف.»
فقال تاد في تردد: «هذا يُضفي بالتأكيد طابعًا مختلفًا على الأمور.»
«لقد أمضيت وقتًا طويلًا جدًّا صباح اليوم أتساءل عما إذا كنتُ قد رأيتُ كثيرًا من الغرور في المجرمين لدرجة أنني بدأت أطوِّر «حاسة» بشأنه، بحيث أصبحت أرتاب منه بلا داعٍ. في ظاهر الأمر لا عيب في هيرون لويد. بل يتحلى بالكثير، إنه مثير للإعجاب. ولديه سجلٌّ حافل، ويعيش حياةً بسيطة، ويتمتع بذوقٍ ممتاز؛ الأمر الذي يعني إحساسه الطبيعي بعلو قدره، وقد أنجز الرجل ما يكفي فعلًا ليُشبع روحًا أنانية.»
«لكن في رأيك، هل هناك خطبٌ ما في مكانٍ ما؟»
«أتذكر رجلًا ضئيل الحجم في فندق مويمور أتاك للتبشير؟»
«اسكتلندا المضطهدة! الرجل الضئيل ذو التنانير الاسكتلندية.»
فقال جرانت بصورةٍ تلقائية: «التنورة الاسكتلندية. لسببٍ ما أشعر تجاه لويد بنفس الشعور الذي أشعر به تجاه أرتشي براون. هذا منافٍ للعقل، لكنه شعورٌ قوي. لديهما نفس …» ثم أخذ يبحث عن كلمةٍ مناسبة.
قال تاد: «الرائحة.»
«أجل. تقريبًا. لهما الرائحة نفسها.»
وبعد صمتٍ طويل قال تاد: «يا سيد جرانت، هل ما زلت تؤيد الرأي القائل بأن ما وقع لبيل كان حادثةً؟»
«أجل؛ لعدم وجود دليلٍ مُنافٍ لذلك. لكنني على استعداد لأن أعتقد أنها لم تكن حادثةً، إن رأيتُ سببًا لذلك. أيمكنك أن تنظِّف النوافذ؟»
«أيمكنني ماذا؟»
«أن تنظف النوافذ.»
قال تاد محدِّقًا بذهول: «أظن أنني أستطيع أن أجرب إن ضُغِط عليَّ بشدة لفعل ذلك. لماذا؟»
«ربما سيتعيَّن عليك ذلك قبل أن ينتهي هذا الأمر. لنذهب ونحصل على تلك الحقائب. يحدوني أمل أن تكون كل المعلومات التي نحتاجها فيها. لقد تذكَّرت للتو أن بيل حجَز مقصورة النوم تلك إلى سكون قبل أسبوع من سفره.»
«ربما لم يكن بوسع داعمه في اسكتلندا أن يقابله قبل الرابع من الشهر.»
«ربما. على أي حال، كل أوراقه الثبوتية وأغراضه الشخصية ستكون في واحدة من الحقائب، وآمل أن تشتمل على مفكرةٍ يومية.»
«ما كان بيل ليدوِّن يوميات!»
«ليس ذلك النوع. أعني المفكرة التي تُستخدم لتدوين المواعيد والملاحظات.»
«أوه، أجل، تلك النوعية. أتوقَّع أنه كانت ستكون لديه واحدة من مفكرات المواعيد تلك إن كان سيطوف في أرجاء لندن بحثًا عن داعم له. قد تكون تلك هي كل ما نحتاجه، يا أخي!»
««ستكون» كل ما نحتاجه. إن كانت موجودة.»
لكن لم يكن يوجد أي شيء.
لا شيء على الإطلاق.
في بادئ الأمر، شرعا في تفاؤلٍ كبير في البحث في الأماكن البديهية؛ يوستن، المطار، محطة فيكتوريا؛ مسرورَين بالأسلوب الذي أجدى نفعًا كبيرًا.
«مرحبًا أيها المفتش. كيف يمكنني أن أساعدك اليوم؟»
«ربما يمكنك أن تساعد صديقي الشاب من أمريكا.»
«أجل؟ أتريد تذكرة لقطار الساعة الثالثة والنصف؟»
«لدينا تذكرة لقطار الساعة الثالثة والنصف. يريد أن يعرف إن كان صديقه ترك حقيبتَين هنا. أتُمانع في أن يُلقي نظرةً بالأرجاء؟ لا نريد نقل أي شيء. نريد فقط أن نلقي نظرة.»
«حسنًا، ذاك شيء لا يزال مسموحًا به في هذا البلد أيها المفتش، صدِّق هذا أو لا تصدق. هلا تبعتماني؟»
وهكذا تبعاه. في كل مرة كانا يتبعانهم. وفي كل مرة كانت الأمتعة المتراصَّة تبادلهما النظر في ازدراء وانطوائية. بتجرد كما من شأن أغراض الآخرين أن تنظر.
ومن الأماكن المرجَّحة انتقلا في قلق وترقُّب إلى الأماكن التي كانت تشكِّل مجرد احتمال. كانا يأملان أن يجدا مفكرةً يومية أو أوراقًا شخصية. لكنهما الآن على استعداد لأن يكتفيا بمجرد إلقاء نظرةٍ واحدة على تلك الحقائب.
لكن لم يكن هناك حقائب مألوفة على أيٍّ من الأرفف.
ذُهِل تاد كثيرًا من هذا حتى إن جرانت وجد صعوبة في اقتياده بعيدًا عن النقاط التي توقفا فيها لاحقًا. أخذ تاد يتجول في ذهول واندهاش مرةً تلو أخرى حول الأرفف المملوءة بالأمتعة.
وظلَّ يقول: «لا بد أن تكون هنا. لا بد أن تكون هنا.»
لكنها لم تكن موجودة.
وحين خرجا إلى الشارع، في حيرة من أمرهما، وبعد أن ذهب رهانهما الأخير أدراج الرياح، قال تاد: «أيها المفتش، أقصد يا سيد جرانت، في أي مكانٍ آخر كنت ستترك فيه أمتعتك بعد أن تغادر أحد الفنادق؟ هل لديكم خزانات شخصية هنا؟»
«خزائن محدودة المدة فحسب. لمن يريد أن يترك حقيبته ساعة أو ساعتَين بينما ينجز أمرًا ما.»
«إذَن أين هي أغراض بيل، ولماذا ليست موجودة في أيٍّ من الأماكن البديهية؟»
«لا أعرف. ربما تكون مع فتاته.»
«أي فتاة؟»
«لا أعرف. كان شابًّا ووسيمًا وعَزبًا؛ سيكون أمامه مجموعةٌ واسعة من الخيارات.»
«أجل، بالطبع. ربما كان ذلك ما فعله بأغراضه. وهو ما يذكِّرني بشأنٍ ما.» ثم اختفت أمارات السخط والوجوم عن وجهه. وألقى نظرةً سريعة على ساعته. كانت قد قاربت على وقت العَشاء. واستطرد: «لديَّ موعد مع فتاة في حانة الحليب.» ثم نظر في عين جرانت وبدا خجِلًا بعض الشيء. وأضاف: «لكن يمكنني أن أؤجِّل الموعد إن كنت تظن أنني يمكن أن أعاونك.»
فصرفه جرانت ليلتقي بفتاته في حانة الحليب وقد اعتراه شعورٌ طفيف بالارتياح. كان الأمر أشبه بمرافقة جروٍ مفجوع هنا وهناك. وقد قرَّر جرانت نفسه أن يؤجِّل العشاء قليلًا، وأن يذهب ليلتقي ببعض أصدقائه اللندنيين.
توجَّه إلى داخل قسم شرطة أستويك ستريت، فقُوبل بالعبارة نفسها التي كان يسمعها طيلة فترتَي ما بعد الظهيرة والمساء: «مرحبًا أيها المفتش، كيف يمكننا مساعدتك؟»
قال جرانت إنه بوسعهم أن يخبروه بمن يتولى دورية بريت لين الآن.
كان الرجل الذي يتولى الدورية هو بي سي بيثيل، وإن أراد المفتش رؤيته فإنه في هذه اللحظة في المقصف يتناول النقانق والبطاطا المهروسة. ورقمه هو ٣٠.
وجد جرانت الرقم ثلاثين يجلس عند طاولة بمفرده في الطرف الأقصى من المكان. وعلى دعامةٍ أمامه كان يوجد كتاب عن قواعد اللغة الفرنسية. نظر إليه جرانت وهو يجلس منهمِكًا، وفكَّر في أن رجال شرطة لندن قد تغيَّروا من ناحية نوعيتهم في فترةٍ زمنية قصيرة بلغت خمسةً وعشرين عامًا. كان جرانت يعلم أنه هو نفسه يعدُّ خروجًا عن هذا النوع، وهي حقيقة كانت ذات نفعٍ كبير له في العديد من المناسبات. كان بي سي بيثيل فتًى نحيلًا داكن البشرة من مقاطعة داون، ذا جلدٍ شاحب غير أملس، يتحدث ببطء بحديثٍ وديٍّ مطمئن. وبين لسانه البطيء وقواعد اللغة الفرنسية، شعر جرانت أن بي سي بيثيل يتَّجه صوب أشياءَ عظيمة.
بدأ الفتى ينهض بعدما قدَّم جرانت نفسه، لكن جرانت جلس وقال: «ثَمة خدمةٌ صغيرة أودُّ أن تقوم بها من أجلي. أريد أن أعرف من ينظِّف نوافذ المنزل الكائن في ٥ بريت لين. يمكن أن تجري بعض التحريات حين …»
قال الفتى: «منزل السيد لويد؟ ريتشاردز يتولى ذلك.»
أجل، بالطبع، وبالطبع كان أمام بيثيل مستقبلٌ حافل ينتظره، ينبغي أن يبقي انتباهه على بي سي بيثيل.
«كيف تعرف ذلك؟»
«أُمضي وقت اليوم معه هنا وهناك أثناء دوريتي. إنه يضع عربته وأشياء أخرى في ذلك المنزل الصغير الذي يوجد في أقصى بريت لين.»
شكر جرانت مشرف الشرطة الواعد وذهب يبحث عن ريتشاردز. بدا أن ريتشاردز كان يعيش فوق حظيرته. كان جنديًّا سابقًا عَزبًا، ذا ساقٍ قصيرة، ولديه قطة، ومجموعة أكوابٍ خزفية، وولع بلعبة رمي السهام. لم يكن هناك شيء في نطاق دوريته في لندن لا يعرفه بي سي بيثيل؛ الذي أتى من مقاطعة داون من فترة ليست ببعيدة.
عند زاوية بريت لين كانت توجد حانة صن، حيث يلعب ريتشاردز لعبة رمي السهام، فتوجَّه جرانت إلى هناك. كان هذا الترتيب غير رسمي بالمرة؛ لذا كان يتطلَّب إجراءً غير رسمي للشروع فيه. لم يكن جرانت يعرف حانة صن ولا مالكها، لكن لم يكن عليه سوى أن يجلس ساكنًا ويحسن التصرف، وسرعان ما سيُدعى ليلعب رمي السهام، ولم يفصل هذا عن التحدث مع ريتشاردز في خصوصية سوى خطوةٍ واحدة.
استغرقت تلك الخطوة ساعتَين، كما تبيَّن لاحقًا، لكن في نهاية المطاف كان ريتشاردز طوعه في زاوية ومعه مشروب. كان جرانت في أخذٍ وردٍّ بينه وبين نفسه حول ما إذا كان ينبغي عليه إخراج بطاقته التعريفية واستخدام إثبات شخصيته الرسمي من أجل عملٍ غير رسمي، أو أن يجعل الأمر عبارة عن خدمة يقدِّمها أحد الجنود السابقين إلى جنديٍ سابقٍ زميل له لقاء مبلغٍ مالي صغير، حين قال ريتشاردز:
«لا يبدو عليك أن وزنك زاد بمرور السنوات يا سيدي.»
فسأله جرانت منزعجًا بعض الشيء لأنه نسي وجهه: «هل التقينا من قبلُ؟»
«كامبرلي. منذ سنوات أطول مما أود أن أفكر. ولا تقلق بشأن نسيانك لي. لأنني أشك في أنك رأيتني من قبلُ. كنتُ طباخًا. هل ما زلتَ في الجيش؟»
«لا، أنا شرطي.»
«كفى مزاحًا! مرحى مرحى. كنت سأقول إنك بكل تأكيد تعمل مع رئاسة هيئة الأركان العامة للإمبراطورية. أرى الآن لمَ كنت تتوق لأن تنفرد بي في زاوية. وأنا الذي كنت أظن أن طريقة رميي للأسهم هي ما لفت انتباهك!»
فضَحِك جرانت. وقال: «أجل، يمكنك أن تنجز شيئًا ما لأجلي، لكنه ليس رسميًّا. هلا أخذت معك غدًا تابعًا لقاء مبلغ مالي صغير؟»
سأله ريتشاردز بعد أن فكَّر لحظةً: «ليمسح نافذة بعينها؟»
«المنزل الكائن في ٥ بريت لين.»
قال ريتشاردز باندهاش: «هه! سأدفع له من أجل أن ينظفها؟»
«لماذا؟»
«ذلك الوغد لا يرضى أبدًا. لا شيء مشبوه حيال هذا الأمر، أليس كذلك؟»
«لا شيء البتة. لن يؤخذ أي شيء من المنزل، ولن يُعبَث بأي شيء. أضمن لك ذلك. وسأصوغ اتفاقًا مكتوبًا، إن كان هذا سيرضيك أكثر.»
«كلمتك تكفيني يا سيدي. ويمكن لرجلك أن يحظى بتنظيف نوافذ السيد لويد اللعين دون مقابل.» ثم رفع كوبه الخزفي. وأضاف: «نخب أيام الجيش الخوالي! في أي ساعة سيأتي فيها تابعك غدًا؟»
«هل الساعة العاشرة مناسبة؟»
«اجعلها العاشرة والنصف. فصاحبنا يخرج من بيته قرب الحادية عشرة معظم الأيام.»
«هذا تفكيرٌ مدروس من جانبك.»
«سأُنهي نوافذي وألقاه في منزلي — الكائن في ٣ بريت ميوز — في العاشرة والنصف.»
لم يكن من المجدي محاولة الاتصال بتاد كولين مرةً أخرى هذه الليلة؛ لذا ترك له جرانت رسالة في فندق ويستمرلاند يطلب منه فيها أن يأتي إلى الشقة بمجرد أن ينتهي من تناول إفطاره في الصباح.
ثم أخيرًا تناول جرانت عشاءه، وخلد قانعًا إلى الفراش.
وبينما كان يغفو قال له صوت في رأسه: «لأنه كان يعرف أنه لم يكن يوجد شيء يُكتَب عليه.»
فقال وهو ينتبه: «ماذا؟ من الذي كان يعرف؟»
فقال الصوت: «لويد. لقد قال: «على ماذا؟»»
«حسنًا. وبعد؟»
«قال ذلك لأنه كان مندهشًا.»
«بدا متفاجئًا بكل تأكيد.»
«لقد فوجئ لأنه كان يعرف أنه لم يكن يوجد شيء ليُكتَب عليه.»
رقد جرانت يفكِّر في هذا حتى راح في النوم.