الفصل الرابع عشر
كان الخطاب مؤرخًا في صباح يوم الخميس.
عزيزي السيد جرانت
أم ينبغي أن أقول المفتش؟ أوه، أجل، أعرف ذلك. لم يتطلب مني اكتشاف ذلك وقتًا طويلًا. فمحمود الرائع هذا هو محققٌ أفضل من أولئك الهواة السُّذَّج الذين لديكم في مقر قيادة الشرطة في إمبانكمنت. لكنني لن أخاطبك برتبتك؛ لأن خطابي هذا تواصلٌ اجتماعي. أكتب إليك بصفتي إنسانًا مميِّزًا يراسل إنسانًا مميزًا آخر جديرًا بأن يحظى باهتمامه. أضع بين يدَيك هذه الوقائع إليك وليس للصحافة؛ لأنك بالفعل الإنجليزي الوحيد الذي حرَّك بداخلي مشاعر إعجاب حتى ولو كانت لحظية.
وبالطبع لأنني متأكد من اهتمامك بالأمر.
تلقيت هذا الصباح خطابًا من تلميذي بول كينزي-هيويت، يعلن فيه عما حقَّقه من اكتشاف في شبه الجزيرة العربية. وكان الخطاب مرسَلًا من مكتب صحيفة «مورنينج نيوز» بناءً على طلب منه، ليستبق بذلك نشر الخبر صباح غد. وهي مجاملة أشعر بالامتنان تجاهه من أجلها. مما يبعث على السخرية أن كينريك الشاب كان هو الذي قدَّم إليه، هو الآخر، المعلومات التي تشير إلى وجود الوادي. لقد عرفت الكثير عن كينريك الشاب حين كان في لندن، ولم أجد فيه شيئًا يجعله مستحقًّا لمصيرٍ عظيم هكذا. كان شابًّا عاديًّا للغاية. لقد أمضى أيامه يطير في عدم اكتراث بآلةٍ ميكانيكيةٍ معقدة عبر صحاري اكتشفها الرجال بعد معاناة وإصرار. كان مقتنعًا تمام الاقتناع بخطة تقتضي أن أوفِّر له فيها وسيلة الانتقال، وأن يقودني إلى اكتشافه. لكن ذلك كان عبثيًّا بالطبع. لم أعِش حياتي وأصنع لنفسي اسمًا عظيمًا في الصحراء حتى ينتهي بي الحال إلى أن يقودني مراقب على آلة يتحدَّر من أزقَّة بورتسموث إلى أحد الاكتشافات، أو أن أكون متعهِّد نقل، أو مؤجِّر جِمال، من أجل رجلٍ آخر. لم يكن من الممكن تصور أن شابًّا تصادف، من خلال حادثةٍ مناخية ومصادفةٍ جغرافية، أن عثر على أحد أعظم الاكتشافات في العالم، أن يُسمَح له بأن يستفيد من هذا على حساب رجال وهَبوا حياتهم للاستكشاف.
وبقدر ما يسعني التقدير، كانت فضيلة الشاب الوحيدة (لماذا تُبدد شغفك على شخصٍ مملٍّ يوجد كثير من البشر مثله؟) هي قدرته على كبح شهوته. في الحديث بالطبع، لا تُسِئ فهمي من فضلك. ومن وجهة نظري كان من المهم ألا يتحرَّك ذلك اللسان، الذي كبح جماحه بقدرةٍ نادرة، بالقيل والقال.
كان قد رتَّب للقاء واحدٍ آخر ممن هم على شاكلته في باريس في الرابع من الشهر (لوتيتيا الجميلة البائسة، التي لطالما اغتصبها الهمج)؛ ومن ثَم كان أمامي أقل من أسبوعَين لأخطط لهذا. في الواقع لم أكن بحاجة إلى الأسبوعَين. كان بوسعي تحقيق غايتي في يومَين إن لزم الأمر.
في إحدى المرات، أثناء سفري إلى اسكتلندا ليلًا، ظللت مستيقظًا لأكتب بعض الخطابات وأرسلها إلى مدينة كرو حين يصل القطار إلى محطته الأولى. فكَّرت حينها، بينما كنت جالسًا أنظر إلى الرصيف بعد أن تخلَّصت من خطاباتي، أنه من السهل للغاية أن أغادر القطار من دون أن يلاحظ أحدٌ ذلك. كان المضيف قد نزل من القطار ليستقبل ركابًا متأخرين، ثم ذهب بعدها ليقضي أمورًا تخصه. كان الانتظار طويلًا على ذلك الرصيف المهجور الهادئ، بينما كان يجري تحميل الأمتعة في العربات البعيدة. إن كنت قد تمكَّنت من السفر دون أن يتعرف عليَّ أحدٌ كل هذه المسافة، فيمكنني أن أغادر القطار دون أن يعرف أحد أبدًا أنني كنت على متنه.
كانت تلك الخاطرة هي أولى ركيزتَين لإلهام خطتي.
أما الثانية فكانت وجود أوراق شارل مارتن في حوزتي.
كان شارل مارتن هو الميكانيكي الخاص بي. كان الأوروبيَّ الوحيد والفني الوحيد (يا لها من كلمةٍ باعثة على الأسى بحق!) الذي عيَّنته. استخدمته في أقل حملاتي الاستكشافية نجاحًا، الحملة التي كانت شبه ميكانيكية؛ لأن العرب الذين كانوا يعملون معي لم يكونوا مهرة في التعامل مع الآلات (رغم أنهم كانوا يتعلمون بسرعة، مع الأسف!). كان مخلوقًا منفِّرًا، ولم يكن يهمه شيء سوى الاحتراق الداخلي للمحركات وتجنُّب أداء حصته من مهام المخيَّم، ولم أكن أشعر بالأسف حياله حين مات وسط الصحراء. بحلول ذلك الوقت كنا قد اكتشفنا أن المركبات كانت تمثِّل عبئًا وليس عونًا، وكنا قد قرَّرنا التخلي عنها، وهكذا كان مارتن قد عاش أكثر مما يُرجى منه من منفعة. (لا، لم يكن لي يد في موته؛ فهذه المرة تخلص الرب منه بالطريقة الطبيعية.) لم يطلب أحدٌ أوراقه، وحيث إن الرحلة قطعت شبه الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فلم نعد قَط إلى المدينة التي كنت قد استأجرته فيها. كانت أوراقه في أمتعتي، وهو أمر لم يشغلني أو يشغل أي أحدٍ آخر، وعدت إلى إنجلترا وهي معي.
وتذكَّرت تلك الأوراق حين كان من الضروري إسكات الشاب كينريك. بدا كينريك قريب الشبه بشارل مارتن.
كانت خطة كينريك أن يعود إلى عمله في شركة كارتر-باترسون في الشرق حتى يأتي وقت انضمامي إليه هناك، بعدها ننطلق في رحلتنا الاستكشافية معًا. وكان يأتي لزيارتي كثيرًا في منزلي في بريت لين ليناقشني في أمر المسارات التي سنسلكها، ويمني نفسه بالمستقبل الذي ينتظره، وكنت أستمتع برؤيته وهو جالس يثرثر بهرائه حين حضَّرت له طريقة الموت الغريبة جدًّا.
كان قد رتَّب أن يذهب إلى باريس في الثالث من الشهر على متن العبَّارة الليلية. يبدو أنه كان «مولعًا» بالعبَّارات. كان من شأنه أن يحيد أميالًا كثيرة عن طريقه من أجل أن يعبر مسطحًا مائيًّا على متن قاربٍ صغير، في حين أنه كان بإمكانه أن يعبر جسرًا على بُعد بضع ياردات من موضعه. أظن أن عبَّارة دوفر كانت ستصبح العبَّارة رقم مائتين التي يركب على متنها. وحين أبلغني أنه حجز مقصورة نوم على متن عبارة القطارات، وما إن غادر حتى اتصلت لأحجز مقصورة نوم إلى بلدة سكون باسم شارل مارتن في الليلة نفسها.
وحين رأيته في المرة التالية اقترحت عليه، بما أنني كنت ذاهبًا إلى اسكتلندا في نفس الأمسية التي سيغادر فيها إلى باريس، أنه ينبغي أن يترك أمتعته (لم يكن معه سوى حقيبتَين) في غرفة حفظ الأمتعة في محطة فيكتوريا، وأن يتناول معي عشاءً مبكرًا في منزلي في بريت لين، وأن يودِّعني في محطة يوستن.
كان يسرُّه دائمًا أن ينفِّذ أي اقتراح أطرحه عليه باندفاع، فوافق على ذلك، وكنت أعلم أنه سيفعل. تناولنا العشاء، الذي كان طبق أرز وشرائح لحم ضلع ومشمشًا كان محمود قد علَّم السيدة لوكاس أن تُعدَّه (يتطلب هذا الطبق طهيًا طويلًا حتى يتشرب بنكهة المشمش)، وقاد محمود السيارة بنا إلى يوستن. وفي يوستن، أرسلت كينريك ليستلم تذكرة مقصورتي للنوم بينما مضيتُ قُدمًا. وبحلول الوقت الذي عاود فيه كينريك الانضمام إليَّ كنت قد وجدت مقصورتي، وأنتظر عودته على الرصيف. وإن حدث وتساءل عن سبب سفري باسم شارل مارتن كان مسوِّغي هو شهرتي، وأنني أريد السفر متخفيًا. لكنه لم يُدلِ بأي تعليق.
شعرت بأن الآلهة كانت تُساندني حين رأيت أن المضيف كان العجوز يوجورت. أنت لا تعرف العجوز يوجورت. لم يُعرَف عنه مطلقًا طوال حياته المهنية أنه يُبدي اهتمامًا بأي راكب أيًّا كان؛ إذ كان هدفه الرئيسي حين يكون في مناوبته أن يعود إلى مقصورته البغيضة في أبكر وقتٍ ممكن لينام.
كان أمامنا أقل من خمس دقائق قبل الموعد المحدَّد لمغادرة القطار. فوقفنا نتحدث قليلًا، وكان الباب مواربًا، وكينريك يقف مواجهًا الممر. بعد قليل قال كينريك إن من الأفضل أن ينزل من القطار، وإلا فقد يذهب إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية. فأشرت إلى حقيبتي الصغيرة التي كانت موضوعة على السرير إلى جواره وقلت: «إذا فتحت حقيبتي فستجد فيها شيئًا لك. تذكار حتى نلتقي مجددًا.»
انحنى في حماسةٍ شبه طفولية ليفتح القُفلَين. كانت وضعيته ممتازة. فأخرجت من جيبي أفضل سلاح ابتكره الإنسان للقضاء على عدوه وهو غافل. لم يكن الإنسان البدائي في البلاد الصحراوية يمتلك سكينًا ولا بندقية، لكنه جعل الرمال تؤدي الغرض. خرقة وبضع حفنات من الرمال، وستنكسر الجمجمة مثل قشرة بيضة، ستنكسر بدقةٍ كبيرة من دون دماء أو فوضى. نخر كينريك نخرةً صغيرة ووقع على وجهه فوق الحقيبة. أغلقت الباب وأوصدته بالمزلاج، ونظرت لأرى إن كان أنفه ينزف. لكنه لم يكن ينزف. فجررته من على السرير وكوَّمته تحته. كان هذا هو التقدير الخاطئ الوحيد الذي ارتكبته. كان عائقًا دائمًا يشغل نصف المساحة تحت السرير، ومع نحافة كينريك وخفة وزنه لم أتمكن من دفع ركبتَيه تحت السرير بعيدًا عن الأنظار. خلعت مِعطفي وألقيت به على السرير بحيث صار متدليًا وأخفى ساقَيه. وبينما كنت أرتِّب الأغطية بحيث تخفي كل ذلك، وفي نفس الوقت تبدو عفوية كما ينبغي، انطلقت الصافرة. وضعت تذكرة الذهاب إلى سكون مع تذكرة مقصورة النوم على الرف الصغير تحت المرآة حيث يمكن ليوجورت رؤيتها، وسِرت في الممر إلى المرحاض. لم يهتم أحد بأي شيء سوى لحظة المغادرة. أغلقت المرحاض على نفسي وانتظرت.
بعد حوالَي عشرين دقيقة سمعت إغلاقًا متتابعًا للأبواب، وهو ما كان يعني أن يوجورت كان يقوم بجولاته. وحين سمعته في المقصورة المجاورة بدأت أغتسل، في صخب. فطرق الباب بعد بضع لحظات، وسأل إن كنت أنا راكب المقصورة «بي ٧». فرددت بالإيجاب. فقال إنه وجد تذكرتَيَّ وأخذهما. وسمعته يمضي إلى العربة التالية ويبدأ في صفق الأبواب، وسِرت عائدًا إلى المقصورة «بي ٧»، وأوصدت الباب على نفسي.
بعد ذلك كان أمامي ثلاث ساعات دون مقاطعة لجعل كل شيء مثاليًّا.
إن أردت يومًا ما أن تضمن أن تبقى في سلام دون مقاطعة يا عزيزي السيد جرانت، فابتَع لنفسك تذكرة نوم إلى شمال اسكتلندا. لا يوجد في هذا العالم مكان يكون فيه المرء آمنًا من المقاطعة مثل أن يكون في مقصورة للنوم بمجرد أن يكون المضيف قد انتهى من جولته. ولا حتى في الصحراء.
أخرجت كينريك من تحت السرير، وحككت رأسه بحافة حوض غسل اليدين وأرقدته على السرير. ووجدت من فحصي لملابسه أنها كانت تبدو عالمية النزعة، وهو ما كان مفرحًا. وبدت ملابسه التحتية مغسولة على يد عامل غسيل هندي، وكانت بدلته مصنوعة في هونج كونج، وحذاؤه في كراتشي. أما ساعته فكانت ساعةً معدنيةً رخيصة، ولم يكن عليها اسم ولا أحرف أولى.
أفرغت محتويات جيوبه وأبدلتها بمحفظة شارل مارتن ومحتوياتها.
كان لا يزال على قيد الحياة، لكنه توقف عن التنفس بينما كنا نمرُّ عبر مراعي مدينة رجبي.
ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا أعددت المشهد كما يقولون في المسرح. ولا أظن أنني أغفلت أي شيء، أليس كذلك يا سيد جرانت؟ كانت التفاصيل مثالية، حتى الشعر المسحوق في حوض غسل اليدين وراحتَي يديه المتربتين. وفي الحقيبة التي تركتها كانت توجد ملابسُ قديمة تخصُّني، ارتديتها كثيرًا، وكانت مغسولة، ومن نوع كان معتادًا على ارتدائه، وأعطيت الأشياء طابعًا فرنسيًّا بقدر ما تمكنت من أشيائي؛ رواية وكتاب مقدس بالفرنسية. وبالطبع كانت الحقيبة تحتوي أيضًا على الزجاجة الأهم.
كان رأس كينريك صلبًا للغاية. وأقصد بذلك مسألة الشراب، بالطبع، وليس عواقب ضربه بكيس الرمل. كنت قد أغريته بالويسكي على العشاء، وقدَّمت له كأس وداعٍ بحجم كان أي رجل آخر سيصفرُّ لونه من مجرد رؤيته. نظر بالفعل إلى نصف كوب الويسكي النقي بقليل من الارتياب، ولكن، كما قلت، كان يتلهف دائمًا إلى إرضائي فتجرَّعه دون اعتراض. وظلَّ منتبهًا، أو هكذا بدا. لكن دمه ومعدته سيكونان مشبعَين بالويسكي حين يموت.
وكذلك كان حال مقصورته حين كنت قد انتهيت منها. فبينما بدأت أنوار مدينة كرو تمرُّ بنا كنت أضع اللمسة الأخيرة. إذ وضعت الزجاجة نصف الممتلئة على الأرض ودحرجتها جيئة وذهابًا على السجادة. وبينما كانت سرعة القطار تتباطأ فتحت قفل الباب وخرجت وأغلقته خلفي، وسِرت في القطار مبتعدًا حتى أصبح بيني وبين المقصورة «بي ٧» عدة عربات، فوقفت أنظر بطريقةٍ عفوية واهتمام إلى الازدحام على الرصيف، ثم ترجَّلت إلى الرصيف بطريقةٍ عفوية أيضًا وسرت عليه. في قبعتي ومعطفي لم تبدُ هيئتي كهيئة المسافرين، ولم يلاحظني أحد.
عدت إلى لندن على متن قطار منتصف الليل، ووصلت إلى محطة يوستن في الثالثة والنصف، وكنت مبتهجًا كثيرًا حتى إنني سرت حتى المنزل. كنت أسير وكأنني أطير في الهواء. فتحت باب المنزل ودخلت، وكنت نائمًا في هناءة حين أتى محمود في السابعة والنصف ليوقظني ويذكِّرني بأن لديَّ موعدًا لاستقبال ممثِّلي مجلة «باثيه» في التاسعة والنصف.
ولم أعرف بأمر الكلمات التي كُتبت على الصحيفة التي كانت في جيب معطفه حتى أتيتَ لمقابلتي. أعترف بأنني للحظة شعرت بالهلع من أن أكون قد أغفلت أي شيء، لكن تلك الزلَّة كانت طفيفة؛ مما أشعرني بالارتياح في الحال. إذ لم تنتقص بأي طريقة من إنجازي المميز ولم تعرضه للخطر. كنت قد تركته يحتفظ بمعطفه البائس البالي كجزء من إعداد المشهد. أما مسألة أنه ثبت أن الكلمات المكتوبة على الصحيفة كانت بخط يد كينريك، فلم تكن أمرًا يهم السلطات التي قبلت بأن الشاب هو شارل مارتن.
وفي المساء التالي، في ساعة الذروة، قدت السيارة إلى فيكتوريا، واستعدت حقيبتَي كينريك من غرفة حفظ الأمتعة. وأخذتهما إلى المنزل، وأزلت منهما كل علامات الصانع وكل الأشياء التي يُمكن التعرف عليها بسهولة، وحكتهما في قماش، وأرسلتهما بمحتوياتهما إلى منظمة لاجئين في الشرق الأدنى. إن أردت يومًا ما أن تتخلَّص من أي شيء يا عزيزي السيد جرانت، فلا تحرقه. بل أرسله بالبريد إلى جزيرةٍ نائية في البحار الجنوبية.
وبعد أن تأكدتُ من استمرار لسان كينريك الكتوم بصورةٍ مثيرة للإعجاب في كونه كتومًا، كنت أتطلَّع للاستمتاع بثمار عملي. وبالفعل تلقيت أمس تأكيدات بالدعم الكافي لحملتي الاستكشافية الجديدة، وكنت قد خططت للسفر بالطائرة الأسبوع المقبل. بالطبع غيَّر خطاب كينزي-هيويت هذا الصباح كل ذلك. لقد حُرِمت من ثمار إنجازي. لكن لا أحد يمكنه أن يحرمني الإنجاز نفسه. إن لم يكن من الممكن أن أُعرَف بأنني مكتشف عُبار، فسأشتهر بأنني منفِّذ جريمة القتل المثالية الوحيدة التي ارتُكبَت على الإطلاق.
لا يمكنني أن أبقى هنا لأكون شمعدانًا يحمل شموع انتصار كينزي-هيويت. كما أنني أصبحت أكبر سنًّا من أن أحظى بالمزيد من الانتصارات الخاصة بي. ولكن «يمكنني» أن أشعل نارًا ستجعل الشموع على مذبح كينزي-هيويت تبدو صغيرة وخافتة وغير مهمة. ستكون محرقتي الجنائزية منارةً تنير أوروبا كلها، وسيكون ما حققته من إنجاز في عملية الاغتيال موجة مد عارمة ستكتسح كينزي-هيويت وعُبار، وتلقي بهما في صناديق قمامة الصحافة العالمية.
هذا المساء، عند الغسق، سأشعل محرقتي، على أعلى منحدر في أعلى جبل في أوروبا. لا يعرف محمود بهذا. يظن أننا ذاهبان بالطائرة إلى أثينا. لكنه كان معي طيلة سنواتٍ كثيرة، وسيكون حزينًا كثيرًا من دوني. لذا سآخذه معي.
عزيزي السيد جرانت، وداعًا. يحزنني أن يضيِّع أحد في ذكائك مواهبه في مؤسسةٍ غبية كتلك الكائنة في إمبانكمنت. كانت مهارة منك أن تكتشف أن شارل مارتن لم يكن شارل مارتن، وأنه كان شخصًا يُدعى كينريك، وأحييك على ذلك. أما ما لم تكن ماهرًا بما يكفي لأن تكتشفه فهو أنه لم يمت جراء حادثة. الأمر الذي لن يكون أي أحد ماهرًا بما يكفي لأن يكتشفه هو أنني مَن قتله.
رجاءً، اعتبر خطابي هذا تعبيرًا عن تقديري ورسالة وداع. ستنشر السيدة لوكاس هذا صباح يوم الجمعة.
أدرك جرانت أن السيدة تينكر كانت تقود تاد كولين إلى داخل الحجرة، وأنه لا بد أنها سبق أن دخلت عليه دون أن يلاحظ؛ لأن المظروف الذي أتى من سكوتلانديارد كان بجواره على المكتب.
قال تاد، والغضب البالغ لا يزال باديًا على وجهه: «والآن؟ ما الخطوة التالية؟»
دفع جرانت بصفحات خطاب لويد إليه ليقرأها.
«ما كل هذا؟»
«اقرأه.»
رفع تاد الصفحات في تردد، وأخذ يبحث عن توقيع، ثم انغمس في قراءة الخطاب. أما جرانت فثبت المظروف الذي أرسله كاترايت بإبهامه وفتحه.
حين انتهى تاد من القراءة رفع ناظرَيه والصدمة بادية على وجهه، وأخذ يحدِّق في جرانت. وحين تحدَّث أخيرًا كان ما قاله: «أشعر بالتقزز.»
«أجل. إنه شيءٌ خبيث.»
«الغرور.»
«أجل.»
«كان ذلك هو حادث السقوط الذي ورد في الصحف المسائية ليلة أمس. الطائرة التي اشتعلت على جبل مون بلان.»
«أجل.»
«إذَن نجا بفعلته في النهاية.»
«لا.»
«لا؟ لقد فكر في كل شيء، أليس كذلك؟»
«لا يفكرون في كل شيء أبدًا.»
«من؟»
«القتلة. لقد نسي لويد أمرًا غاية في الوضوح؛ هو بصمات الإصبع.»
«تقصد أنه فعل فعلته دون أن يضع قفازات؟ لا أصدِّق ذلك!»
«بالطبع كان يضع قفازات. لا شيء من الأشياء التي مسَّها في تلك المقصورة سيحمل بصمته. الأمر الذي نسيَه هو أنه كان يوجد في تلك المقصورة شيء كان قد أمسك به من قبلُ.»
«وما هو ذلك؟»
«أوراق شارل مارتن.» نقر جرانت عليها بأنامله حيث كانت موضوعة على المكتب. «إنها مغطاة ببصمات لويد. لا يفكرون في كل شيء أبدًا.»