الفصل الثامن
رحل وي آرتشي صباح اليوم التالي حين أطلق «المركب» نداءه في طريقه لنشر النور في كل الأماكن المظلمة الأخرى في مجموعة الجزر. كان قد مكث لدى نيافة القس السيد ماكاي، كما اتضح، وتساءل جرانت عما سيظنه ذلك الأب طاهر الذيل المبعوث إلى أحد أجزاء منطقة المرتفعات إن علم حقيقة ما كان يأويه تحت سقف منزله. أم إن نيافة القس السيد ماكاي أيضًا كان مصابًا بمرض آرتشي براون؟
في العموم لم يكن جرانت يظن ذلك.
كان السيد ماكاي يتمتع بالسلطة التي يسعى إليها أي رجلٍ فانٍ؛ إذ كان يحصل على ترضية لغروره صباح كل يوم أحد؛ لقد رأى العالم، ورأى الحياة والموت، وأرواح الناس فيما يتعلق بكليهما، وكان مستبعدًا أن يكون لديه توقٌ إلى أمجادٍ خفية. كان ببساطة مضيفًا لشخصيةٍ اسكتلنديةٍ شهيرة. ذلك لأنه في بلدٍ صغير مثل اسكتلندا كان آرتشي يُصنَّف شخصيةً شهيرة، ولا شك في أن السيد ماكاي كان مسرورًا للغاية باستضافته.
لذا استحوذ جرانت على الجزيرة لنفسه، وطيلة خمسة أيام في صحبة الرياح الناعقة أقام في مملكته الموحِشة. كان الأمر أقرب الشبه بالسير بكلبٍ مُشاكِس؛ كلب يُهرَع ويسبقك في الممرات الضيقة، ويقفز عليك بنشوة حتى يكاد يُسقطك على ظهرك، ويجرُّك بعيدًا عن الاتجاه الذي تريد أن تسلكه. أمضى أمسياته وقدماه ممدودتان نحو نار غرفة المكتب وهو يستمع إلى قصص السيد تود عن امتلاك حانة في منطقة الأراضي المنخفضة. وكان يأكل بشراهة. فازداد وزنه بصورةٍ واضحة. وكان ينام بمجرد أن يضع رأسه على الوسادة، ولا يستيقظ إلا في الصباح. وبحلول نهاية اليوم الخامس كان مستعدًّا لأن يواجه مائة رحلةٍ جوية ولا يمضي اثنتَي عشرة ساعةً أخرى في هذا المكان.
وهكذا في صباح اليوم السادس وقف جرانت على مسطحٍ واسع من الرمال البيضاء في انتظار طائرةٍ صغيرة تُقلُّه في طريق عودتها من ستورنواي. وكان الشك الذي بدأ يدبُّ في أعماق نفسه يختلف تمام الاختلاف عن شعور التوجس المتغلغل الذي توقَّع أنه سيجتاحه في هذه اللحظة. وقف السيد تود معه، وإلى جواره على الرمال كانت توجد حقيبته الصغيرة. وعلى العشب، حيث ينتهي الطريق، كانت تقف سيارة فندق كلادا، الوحيدة على الجزيرة والوحيدة في فئتها في أي مكان في العالم. وقفوا هناك، أربعة أشياءَ ضئيلة قاتمة وسط الفراغ اللامع تراقب الشيء الصغير الذي يشبه الطائر وهو يهبط عليهم من السماء.
فكَّر جرانت في أن هذا المشهد كان أقرب إلى الفكرة الأصلية التي تُواتي المرء في هذه الآونة حين يفكِّر في أمر الطيران. وكما كان شخصٌ ما قد أشار سابقًا، حين راوَد حلم الطيران الإنسان للمرة الأولى، رأى نفسه يرتفع بجناحَيه الفضيَّين نحو القبة السماوية، لكن تبيَّن أن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق. ففي البداية نُقِل بتثاقل إلى قاعدة عسكرية، ثم أُغلِق عليه صندوق؛ فشعر بالذعر، ثم أصيب بالإعياء، ثم وصل إلى باريس. كان التقاطه من على الرمال من على حافة العالم القريبة من البحر بواسطة طائر يهبط هبوطًا غير متقن أقرب ما يمكن أن يصل إليه المرء لرؤية الإنسان الأصلية للتحليق الحر.
توقَّف الطائر الكبير أمامهم على الرمال، وشعر جرانت بالذعر للحظة. كان الطائر عبارة عن صندوق في نهاية المطاف. فخٌّ ضيقٌ مغلق. لكن عفوية كل شيء خفَّفت من تيبُّس عضلاته تقريبًا بمجرد أن بدأت تتصلَّب. ربما كان الذعر سيتغلب عليه لو كان يمرُّ بنظام وتعليمات المطار العملية حيث يكون موجَّهًا ومجبرًا. لكن هنا، على هذه المساحة المفتوحة من الرمال، حيث يقف الطيار على الدرجة العلوية من سلالم الطائرة بينما كان جرانت يتحدث إلى السيد تود، ووسط نعيق طيور النورس ورائحة البحر، كان الأمر شيئًا إما أن يقبل به المرء وإما أن يرفضه. لم يكن ثَمة إجبار يخشاه.
لذا حين حانت اللحظة وضع جرانت قدمه على الدرجة الأخيرة، ولم يكن يعتريه شيءٌ سوى تسارعٍ خفيف في نبضات قلبه. وقبل أن يتمكن من تحليل ردة فعله تجاه إغلاق الباب جذب شيءٌ آخرُ انتباهه. فأمامه، في الجانب الآخر من الممر، كان وي آرتشي يجلس.
بدا وي آرتشي وكأنه قد نهض من الفراش لتوِّه، وكأنه فعل ذلك أيضًا على عجل. كانت ملابسه غير المهندمة تبدو أكثر من ذي قبل، وكأنها ملابس شخصٍ آخر تمامًا. بدا وكأنه هيكلٌ مهمل ملقًى عليه بعض دعائم أحد الاستوديوهات. حيَّا وي آرتشي جرانت كصديقٍ قديم له، وتعالى عليه فيما يتعلق بجهله بالجزر الغربية، ونصحه بتعلم اللغة الغيلية باعتبارها لغةً سيُفيده تعلمها، ثم عاد إلى نومه. فجلس جرانت وأخذ ينظر إليه.
فكَّر في نفسه، يا لهذا الوضيع الضئيل. هذا الوضيع الضئيل التافه.
انفغر فم آرتشي وهو نائم، ولم تعد خصلات الشعر تُغطي المنطقة العارية من رأسه. أما ركبتاه فوق الجورب السميك الملوَّن فكانتا أشبه بعيناتٍ تشريحية أكثر من أي آليةٍ مصمَّمة لتسيير كائنٍ حي. لم تكونا ركبتَين، بل كانتا «مفصلَي ركبة». كان التعبير عنهما باستخدام كلمة «شظية» مثيرًا للاهتمام بصورةٍ خاصة.
ذلك الوضيع الضئيل الخبيث المختال. كانت لديه مهنةٌ تكفيه كمصدر للرزق، مهنة كانت ستجعله يحظى باحترامٍ كبير، مهنة كان سيظفر من ورائها بمثوبةٍ روحية. لكن هذا لم يُرضِ نفسه الأنانية. كان في حاجة لأن يكون محط الأنظار. لم يكن آرتشي يهتم بمن يدفع لقاء دعوته ما دام بوسعه أن يتبختر تحت الأضواء.
كان جرانت لا يزال يفكر في الدور الأساسي الذي لعبته الخيلاء والغرور في صناعة المجرم حين تفتَّح تحته نمطٌ هندسي وكأنه زهرةٌ يابانية تتفتح في الماء. فأبعد أفكاره عن الأمور النفسية من أجل أن يفكِّر في هذه الظاهرة الهندسية الإقليدية في عالم الطبيعة، ووجد أنها كانت تحيط بالمطار الموجود في البر الرئيسي. لقد استقل الطائرة عائدًا من كلادا، وبالكاد لاحظ وجودها.
نزل جرانت سلالم الطائرة إلى المدرج وتساءل عما سيحدث لو رقص رقصة الحرب من الفرح في التو واللحظة. أراد أن يتجوَّل في المطار راقصًا مبتهجًا كطفل يمتطي جواده اللعبة للمرة الأولى. بدلًا من ذلك، توجَّه إلى أكشاك الهاتف واتصل بتومي سائلًا إياه إن كان بإمكانه أن يُقلَّه من فندق كاليدونيان في بلدة سكون بعد ما يقرب من ساعتَين. كان ذلك في وسع تومي، وكان سيفعل.
وكان مذاق الطعام في مطعم المطار مثل مذاق الطعام في مطاعم لوكاس كارتون، وتور دا أرجنت، ولا كريميلير مجتمعة. لكن الرجل الجالس في الطاولة المجاورة له كان يشتكي بشدة بشأن الطعام. لكنه بالطبع لم يكن قد وُلِد من جديد بعد خمسة أشهُر من المعاناة وبعد سبعة أيام مع كاتي آن.
بدا وجه تومي المستدير الودود في استراحة فندق كاليدونيان أكثر استدارة وودًّا مما بدا عليه وجهه من قبلُ.
لم تكن توجد رياح.
لم تكن توجد رياح على الإطلاق.
كان عالمًا جميلًا.
فكَّر جرانت في أنه كم ستكون خيبة أمل بغيضة لو اجتاحه الذعر القديم حين يستقل السيارة مع تومي. ربما كان الذعر ينتظره في السيارة وهو يلعق شفتَيه مترقِّبًا.
لكن لم يكن ثَمة شيء في السيارة. فقط هو وتومي والجو اللطيف الهادئ لمحادثتهما المعتادة. مضيا بالسيارة عبر الريف، ريف أكثر خضرة بقدرٍ ملحوظ مما كان عليه قبل عشرة أيام، وكانت شمس المغيب ترسل أصابعها الذهبية الطويلة المتمثلة في الضوء عبر الحقول الهادئة.
سأل جرانت قائلًا: «ماذا حدث في مراسم مويمور؟ أعني تقديم باقة الزهور.»
قال تومي وهو يقوم بحركات وكأنه يمسح جبهته: «أوه يا إلهي: تقصد ذلك!»
«هل قدَّم الباقة؟»
«إن كان ترْكها تأخذ الباقة يكافئ تقديمها، فأظن أنه عمليًّا قد قدَّمها. لقد سلَّمها لها مع خطبة ألَّفها بنفسه.»
«أي خطبة؟»
«أظنُّ أنه كان يتدرب على إيجاد مخرجٍ ما من هذا الموقف منذ أقنعناه بالأمر بجعل زوي كينتالين متمردة من نوعٍ ما. بالمناسبة، كانت هذه فكرة لورا وليست فكرتي. ما حدث هو أنها حين انحنت لتأخذ منه باقة زهور القرنفل الكبيرة — فهي فارعة الطول — أبعدها عن متناولها للحظةٍ وقال بحزم: «ليكن في علمك أنني أقدِّم لكِ هذه الباقة لأنكِ رفيقةٌ ثائرة». فأخذتها دون أن يرمش لها جفن. وقالت: «أجل بالطبع. هذا لطفٌ كبيرٌ منك»، رغم أنها لم يكن لديها أدنى فكرة عما كان يتحدث بشأنه. لقد تركت فيه تأثيرًا كبيرًا بالمناسبة.»
«كيف ذلك؟»
«بالطريقة الأنثوية القديمة الناجعة. إن بات الآن يخوض غمار افتتانه الأول.»
تطلع جرانت لرؤية تلك الظاهرة.
كانت كلون تمتدُّ أمامه في سلام وسكينة في غورها الأخضر، فنظر جرانت إليها مثل بطلٍ ظافر في الحرب عائد إلى وطنه. آخر مرة استقل فيها السيارة على ذلك الطريق الرملي كان عبدًا، والآن صار رجلًا حرًّا. لقد ذهب يبحث عن راكب المقصورة «بي ٧» فوجد نفسه.
خرجت لورا تقابله عند عتبة الباب وقالت: «ألان، هل امتهنتَ بيع النصائح فيما يتعلق بسباقات الخيل مهنةً جانبية؟»
«لا، لماذا؟»
«أم تكتب في أحد تلك الأعمدة التي تحمل أسماءً مثل «القلوب الوحيدة»، أو شيء من هذا القبيل؟»
«لا.»
«لأن السيدة مير تقول إنه يوجد ملء حقيبةٍ كبيرة من الخطابات في انتظارك في مكتب البريد.»
«أوه، وكيف عرفت السيدة مير أن تلك الخطابات لي؟»
«قالت إنك الوحيد الذي يُدعى إيه جرانت في المنطقة. أفهم من هذا أنك لم تنشر إعلانًا تطلب فيه زوجة؟»
فقال وهو يدخل معها إلى حجرة الجلوس: «لا، طلبت بعض المعلومات فحسب.»
في وقتٍ مبكر من الغسق كانت الغرفة تعجُّ بضوء نار المدفأة وبظلالٍ متمايلة. ظنَّ أن الغرفة خالية حتى لاحظ أن شخصًا ما كان يجلس على الكرسي المنجد ذي الذراعين الكبير بجوار المدفأة. كان امرأة؛ طويلة ورفيعة بحيث بدت رشيقة كالظلال، وتعيَّن عليه أن ينظر مرةً أخرى إليها ليتأكد من أنها لم تكن في واقع الأمر ظلًّا.
جاء صوت لورا من خلفه يقول بنبرة تقديم: «الليدي كينتالين. لقد عادت زوي إلى كلون من أجل صيد السمك لبضعة أيام.»
مالت المرأة إلى الأمام لتصافحه ورأى أنها كانت شابة صغيرة.
فقالت تُحييه: «سيد جرانت، تقول لورا إنك تحب أن يناديك الناس بلقب سيد.»
«أجل. أجل، أحب ذلك. فلقب «مفتش» غير جذاب في الحياة الخاصة.»
فقالت بصوتها الرقيق الناعم: «ومصطنعٌ بعض الشيء أيضًا. كشيءٍ مأخوذ من قصةٍ بوليسية.»
«أجل؛ الناس يتوقعون من المرء أن يقول: «أين كنت في مساء ليلةٍ معينة من الشهر الحالي؟»» كيف يمكن لهذا المخلوق الملائكي أن يكون أمًّا لثلاثة أبناء أحدهم يكاد يكون كبيرًا بما يكفي للانتهاء من المدرسة؟ «هل صادفكِ حظٌّ سعيد في النهر؟»
«اصطدت سمكة سلمون لا بأس بها صباح اليوم. ستتناولها على العشاء.»
كانت تتمتع بذلك النوع من الجمال الذي يتيح لامرأة أن تُفرق شعرها من منتصف رأسها وينسدل عليها بسلاسة. رأس صغير داكن الشعر على رقبةٍ طويلةٍ ممشوقة.
تذكَّر فجأةً غرفة النوم التي كانت قد جُدِّدت حديثًا. إذَن كان الدهان الجديد من أجل زوي كينتالين، وليس من أجل آخر مرشحات لورا له. كان هذا مبعثَ ارتياحٍ كبير. كان من السيئ جدًّا أن يواجَه بالنساء اللواتي كانت لورا ترشحهن للزواج، لكنه أن يشاطر سقف المنزل نفسه مع آخر ترشيحاتها كان سيصبح أمرًا شاقًّا، وهذا أقل ما يُقال عن ذلك.
قالت لورا مُعلقةً على وصوله المبكِّر: «لا بد أن قطار أوبان وصل في موعده لأول مرة.»
فقال تومي وهو يلقي بقطعة حطبٍ أخرى في النار: «أوه، لقد عاد بالطائرة.» قالها توم بعفوية، بغير إدراك مدى أهمية ذلك الحدث.
نظر جرانت إلى لورا، ورأى وجهها وقد أشرق من السعادة. أدارت رأسها لتجده بين الظلال، ورأت أنه كان ينظر إليها، فابتسم. هل كان الأمر يعني لها الكثير إذَن؟ يا عزيزتي لالا. عزيزتي لالا الحنونة المتفهمة.
شرعوا يتحدثون عن الجزر الغربية. وقصَّ تومي قصةً لطيفة عن رجلٍ طارت قبعته بينما كان يصعد على متن قارب في بارا، ووجدها تنتظره على رصيف ميناء ماليج. وكانت لورا تلقي بالطُّرَف حول استحالة الحديث بلغة لا تحتوي على كلماتٍ عمرها أقل من مائتَي عام، وقدَّمت سردًا تخيليًّا لحادثة طريق. («كذا وكذا دراجة، كذا وكذا سبيند، كذا وكذا مكابح، كذا وكذا محرك جر، كذا وكذا سيارة إسعاف، كذا وكذا نقالة، كذا وكذا مخدِّرًا، كذا وكذا عنبرًا خاصًّا، كذا وكذا مخطَّط درجة حرارة، كذا وكذا زهور الأقحوان، زهرة فريزيا حوذان النرجس القرنفل …») كانت زوي قد أقامت في الجزر الغربية وهي طفلة، وكانت عليمة بصيد السلمون؛ وهو فنٌّ تعلمته على يد موهبةٍ محلية تحت أعين مراقب الصيد الخاص بمضيفها.
كان جرانت مسرورًا؛ إذ إن وجود هذه الضيفة لم يعكِّر صفو الجو الأسري في كلون بأي شكل من الأشكال. بدت المرأة غير مدركة لمدى جمالها، ولا تتوقع الاهتمام من أحد. ولم يندهش جرانت أنَّ بات أصبح مفتونًا بها.
ولم يذهب عقله إلى التفكير في حقيبة الخطابات التي تنتظره في مكتب البريد في مويمور إلا حين أُغلِق عليه باب غرفته وأصبح وحيدًا. حقيبة من الخطابات! حسنًا، في نهاية المطاف لم يكن ذلك مفاجئًا بصورة لا يمكن تحمُّلها. إن حياة المرء في دائرة المباحث الجنائية كيَّفت المرء على وجود هواة كتابة الخطابات. كان يوجد أشخاصٌ أكثر ما يهمهم في الحياة هو كتابة الخطابات. إلى الصحف، إلى الكُتَّاب، إلى الغرباء، إلى مجالس المدن، إلى الشرطة. لم يكن يهمُّ كثيرًا المُرسَل إليه الخطاب؛ إذ بدا أن الرضا الناتج عن الكتابة هو كل ما يهم. سبعة أثمان تلك الكومة من الخطابات ستكون نتاج أولئك الذين هوايتهم كتابة الخطابات.
لكن كان لا يزال هناك الثُّمن الأخير.
عمَّ سيُفصح الثُّمن الأخير؟
في الصباح شاهد الضيفة وهي تجهِّز أدواتها من أجل الذهاب إلى النهر، وتمنَّى لو كان ذاهبًا معها، ولكن كانت رغبته في الذهاب إلى مكتب البريد في مويمور أكبر. انطلقت من دون إثارة جلبة، مكتفيةً بذاتها ومتواريةً عن الأنظار، وحين كان جرانت يشاهدها وهي تسير على طول الطريق فكَّر أنها كانت أشبه بصبيٍّ مراهق منها بأرملةٍ نبيلة مُنتظَرة. كانت ترتدي بنطالًا في غاية الأناقة وسترةً قديمةً بالية كتلك التي يرتديها الحطَّابون، وعلَّق قائلًا لتومي إنها إحدى النساء القلائل اللائي يبدون جميلات حقًّا وهن يرتدين البنطال.
فقال تومي: «إنها المرأة الوحيدة في «العالم» التي تبدو جميلة وهي ترتدي بنطال التخويض.»
وهكذا غادر جرانت للقاء السيدة مير في مويمور. كانت السيدة مير تأمل في أن يكون لدى جرانت سكرتير، وقدَّمت له فتَّاحة خطابات. كانت الفتَّاحة فضيةً رفيعة، وملطخة للغاية بحيث فقدت بريقها ولمعانها، وكانت لها رأسٌ شائكٌ مصنوع من حجر الجَمشت. وحين أشار إلى أن الفتاحة مميزة وذات قيمةٍ عالية في هذه الأيام، وأنه لا يمكنه أن يقبل هدايا ثمينة من نساءٍ غريبات، قالت له:
«سيد جرانت، ذلك الشيء موجود في متجري منذ خمسة وعشرين عامًا. صُنِع ليُباع هديةً تذكاريةً أيام ما كان الناس يقرءون. والآن كل ما يفعلونه هو أنهم يشاهدون ويستمعون. وأنت أول شخص أقابله طوال ربع قرن يكون «في حاجة» إلى فتَّاحة خطابات. بالتأكيد، عندما تنتهي من فتح كل الخطابات الموجودة في تلك الحقيبة، ستكون في حاجة لما هو أكثر من فتاحة خطابات، على ما أظن. على أي حال، هذه هي المرة الأولى والأخيرة في هذا المكتب التي يصلني فيها حقيبة بريدٍ مرسَل لشخصٍ واحد، وأريد أن أجعل هذه المناسبة مميَّزة. لذا خذ الفتاحة الصغيرة!»
أخذها شاكرًا، ورفع الحقيبة في السيارة وعاد إلى كلون.
فقالت في إثر مغادرته: «الحقيبة من ممتلكات مكتب البريد؛ لذا عليك أن تعيدها!»
أخذ جرانت الحقيبة إلى غرفته الخاصة، وراح ينظِّف الفتاحة الصغيرة حتى صارت تلمع، في سعادة وامتنان، وكأنها مسرورة أنها حظيت بالاهتمام بعد كل تلك السنوات، ثم أفرغ جرانت محتويات الحقيبة على الأرض ودسَّ الفتاحة في أول خطاب تصل إليه يده. سألته صاحبة الخطاب الأول كيف تجرَّأ على لفت أنظار العامة إلى الكلمات التي كتبتها، وسط الكثير من الألم والتنقيب في النفس، في ربيع عام ١٩١١، بأوامر من مُرشدها الروحي أزول. كان الأمر يشبه أن يتعرَّى المرء أمام العامة، أن ترى أبياتها العزيزة مستباحة بهذا الطيش والاستهتار.
وفي ثلاثة عشر خطابًا أخرى ادَّعى أصحابها أنهم هم من كتبوا هذه الكلمات (بدون إرشادٍ روحي) وسألوا عن الأمر. وأرسل خمسة أشخاص القصيدة الكاملة — خمس قصائد مختلفة — وادَّعى كلٌّ منهم أنه مؤلفها. واتهمه ثلاثة بالتجديف والاستخفاف بالمقدسات، وقال سبعة إنه كان يسرق من سِفر رؤيا يوحنا اللاهوتي. وقال أحدهم: «أشكرك كثيرًا على تسلية هذا المساء أيها العجوز، وكيف هو حال الصيد في نهر تورلي هذا العام؟» ودلَّه أحدهم على كتب الأبوكريفا، وآخر على كتاب «ألف ليلة وليلة»، وثالث إلى كتب رايدر هاجارد، ورابع إلى عقيدة التصوف، وخامس إلى الأخدود العظيم، وخمسةٌ آخرون إلى مناطقَ متفرِّقة من أواسط وجنوبي أمريكا. وأرسل إليه تسعة أشخاص علاجات للإدمان على الكحول، كما أرسل إليه اثنان وعشرون شخصًا منشوراتٍ حول جماعاتٍ طائفيةٍ سرية. كما قدَّم له شخصان اشتراكات في مجلات الشعر، وعرض عليه واحدٌ تعليمه كيفية كتابة الشعر الرائج. وقال أحدهم: «إن كنتَ إيه جرانت الذي جلستُ معه أثناء هبوب الرياح الموسمية في بيشنوبور، فهذا هو عنواني الحالي.» وقالت إحداهن: «إن كنت أنت إيه جرانت الذي أمضيتُ الليلة معه في الفندق في أمالفي، فإنني أرسل هذا لألقي عليك التحية، وأتمنى لو كان زوجي يُضاهيك.» وأرسل أحدهم تفاصيل عن جمعية عشيرة جرانت. تسعة من تلك الخطابات كانت فاحشة وقذرة. وثلاثة منها كانت غير واضحة ولا يمكن قراءتها.
كان يوجد مائة وسبعة عشر خطابًا.
أما الخطاب الذي سرَّه كثيرًا فكان نصه: «لقد فهمت شفرتك، أيها الخائن اللعين، وسأبلغ الاستخبارات بشأنك.»
لم يحتوِ خطابٌ واحد من تلك الخطابات على أي شكل من أشكال العون.
أوه، حسنًا. لم يكن حقًّا يأمل في ذلك. كانت تلك محاولةً غير مضمونة النتائج.
على الأقل حظيَ بشيء من الترويح والتسلية من خلال هذا الأمر. والآن يمكنه أن يهدأ بالًا ويتجه للصيد حتى نهاية إجازته المرضية. وتساءل عن المدة التي ستَمكثها زوي كينتالين.
كانت الضيفة قد أخذت معها بعض الشطائر ولم تظهر على الغداء، لكن في الظهيرة أخذ جرانت صنارته وتبعها إلى النهر. من المحتمل أنها قد اصطادت في كل أنحاء بحيرة كلون، لكن ربما لم تكن تعرف تلك البحيرة بقدر ما كان يعرفها هو. ربما تُسعدها بعض النصائح غير المزعجة. بالطبع لم يكن جرانت ذاهبًا إلى النهر من أجل سببٍ واحد فقط وهو التحدث إليها. كان ذاهبًا ليصطاد. لكن سيتعيَّن عليه أن يجد أولًا الجزء الذي تصطاد هي فيه. وبعد أن يجدها، يمكنه أن يمرَّ بها ويلوِّح لها بيده بطريقةٍ عرَضية.
بالطبع لم يمرَّ بها مطلقًا. إذ جلس على الضفة يراقبها وهي تلقي بطعم جرين هايلاندر فوق تلك السمكة الكبيرة التي ظلت تسعى لصيدها بطعومٍ مختلفة طوالَ الساعة المنصرِمة. قالت المرأة: «هذه السمكة تستهزئ بي. لقد أصبح الأمر شخصيًّا بيننا.» كانت المرأة تتعامل مع صنارتها بسهولة كأنها تصطاد منذ نعومة أظفارها، وهي تكاد أن تكون في حالة من الشرود، كما كانت لورا تفعل. كانت مشاهدتها تبعث على الكثير من الرضا.
اصطاد السمكة لها بعد ساعة، وجلسا معًا على العشب وتناولا بقية شطائرها. سألته عن عمله، ولم يكن سؤالها بداعي أنه كان أمرًا مدهشًا، ولكن مثلما قد تسأل عنه لو كان مهندسًا معماريًّا أو سائق قاطرة، وأخبرته عن أولادها الثلاثة وما سيُصبحون عليه في المستقبل. كانت بساطتها راسخة، وعدم انشغالها بذاتها كان طفوليًّا في كماله.
قالت: «سيَضطرب نايجل حين يعرف أنني كنت أصطاد في نهر تورلي.» قالتها كما قد تقولها أي فتاة عن رفيق لها في المدرسة، واستنتج جرانت أن هذا يصف علاقتها بأبنائها بدقةٍ كبيرة.
كان لا يزال في النهار ساعات، لكن لم يُقدِم أيٌّ منهما على العودة إلى النهر. جلسا هناك على العشب ينظران إلى المياه البنية ويتحدثان. حاول جرانت أن يجد نظيرًا لها في رقعة معارفه الواسعة، وأخفق في ذلك. لم تكن أيٌّ من النساء الجميلات اللاتي قابلهن في حياته تتمتع بطابع الأميرة الجنية الذي تتمتع به؛ مسحة الشباب الأبدي لديها. فكَّر في نفسه أنها ضلَّت طريقها من «تير نان أوج». كان من المدهش أنها لا بد، حين يفكِّر المرء في الأمر بعقلانية، أن تكون في نفس عمر لورا.
«هل كنتِ على معرفة وثيقة بلورا في المدرسة؟»
«لم نكن أصدقاء مقرَّبين. كنت أشعر بمهابةٍ هائلة منها.»
«مهابة؟ من لورا؟»
«أجل. كانت ذكية للغاية كما تعلم، وماهرة في كل شيء، ولم يكن بإمكاني جمع اثنين زائد اثنين.»
وإذ كان جزء من ابتهاجه بها كان يتمثَّل في التباين بين طابعها الذي يشبه رسوم حكايات هانس أندرسن وبين طبيعتها العملية، فقد خلص إلى أن هذه كانت مبالغةً منها. لكن ربما كان صحيحًا أنها لم تكن تحظى بفروع، إن جاز التعبير. لم يكن لديها أوراقٌ كثيرة لتتنفس جو العالم. كان الجو العام لذهنها يتسم بأنه غير مُمحِّص. كما أن كلامها لم يكن يحتوي على أي شيء من تعليقات لورا المليئة بالتلميحات، لم يكن يحتوي على أي شيء من اهتمام لورا السريع وتحليلاتها.
قالت، حين كانا يتحدثان عن خبرات الصيد الأولى: «إننا محظوظون جدًّا، أنت ولورا وأنا، أننا عرفنا منطقة المرتفعات حين كنا أطفالًا. ذلك أقصى ما أتمنَّاه لطفل. أن ينعم بمناطقَ ريفيةٍ جميلة. حين قُتل ديفيد — زوجي — أرادوا مني أن أبيع منزل كينتالين. لم يكن لدينا كثير من المال، كما بدَّدَت ضرائب التركات الاحتياطي الذي كان يجعل المكان قابلًا للسكن. لكنني أردت أن أتمسَّك به على الأقل حتى يكبر كلٌّ من نايجل وتيمي وتشارلز. سيَكرهون فقده، لكن على الأقل سيكونون قد حظوا بعيش السنوات المهمة من حياتهم في ريفٍ جميل.»
نظر إليها وهي تضع أدواتها بعناية في صندوق الأدوات بحرص طفلٍ رصينٍ مهندم، وفكَّر في أن حل مشكلتها يكمن بلا شك في الزواج مرةً أخرى. كانت منطقة غرب لندن، التي يعرفها جيدًا، منطقةً حقيرة تعجُّ برجال متأنقين يقودون سياراتٍ لامعة، ويمكنهم الإبقاء على كينتالين دون الحاجة إلى بذل جهد أكثر مما يبذلونه في رعاية حديقة يابانية، والتي توجد في إحدى الغرف التي يطلقون عليها اسم غرف جلوس. لكنه رأى أن الصعوبة تكمن في أنه في عالم زوي كينتالين لم يكن المال مدخلًا ولا إبراءً.
تبدَّدَت أشعة شمس الربيع. وازداد سطوع السماء. وابتعدت التلال واستلقت، كما قالت لورا ذات مرة وهي طفلة، واصفةً في ثماني كلمات سهلة المنظر والجو العام بأكمله لأمسيةٍ ذات طقسٍ مستقر مبشرةً بيومٍ جديدٍ رائع.
قالت زوي: «يجب علينا أن نعود.»
وبينما كان يحمل أدوات الصيد من على الضفة فكَّر في أن عصر اليوم على ضفة نهر تورلي كان فيه سحرٌ يفوق ما في كل تلك الجزر الغربية التي يُروج لها كثيرًا.
قالت وهما يصعدان التل نحو كلون: «أنت تحب عملك، أليس كذلك؟ قالت لي لورا إنه كان بإمكانك التقاعد قبل سنوات لو أردت ذلك.»
فقال بقليل من الاندهاش: «أجل، أظن أنه كان بإمكاني التقاعد. لقد تركت لي خالتي إرثًا. إذ تزوجَت برجلٍ ميسور الحال في أستراليا ولم تُرزَق بأطفال.»
«ماذا ستفعل إن تقاعدتَ عن عملك؟»
«لا أعرف. لم أفكِّر في الأمر حتى.»