الفصل الرابع عشر
بعض كنائس السريان الكبرى في عصرهم الذهبي
أجمع المؤرخون وفي طليعتهم أوسابيوس القيصري (٢٦٥–٣٤٠م) أن النصرانية انتعشت خصوصًا
في
عهد قسطنطين الكبير (٣٠٦–٣٣٧م)؛ فإن ذلك القيصر الظافر وأمه هيلانة الرهاوية السريانية
أنفقا ما أنفقا من قناطير الفضة والذهب على تشييد الكنائس في أطراف مملكتهما الشاسعة،
وإذا
حصرنا الكلام بالبلاد السريانية، قلنا إن كلا الملكين ابتنيا في المدن والعواصم كنائس
فخمة
أطلق المسيحيون على بعضها اسم «قاثوليقية» أيْ جامعة، أو اسم «بازيليقا» أعني ملكية،
لا
يزال ذكرها أو أثرها باقيًا حتى الآن. وإليك نبذة وجيزة عن كنائس السريان الكبرى في عصرهم
الذهبي.
(١) كنيسة القسيان الكبرى في أنطاكية
هي كنيسة ماربطرس مؤسس الكرسي الأنطاكي، دُعِيت «القسيان» فيما قيل تيمُّنًا باسم
الملك الذي نال ابنه الشفاء على يد بطرس رئيس الحواريين، وقد ابتناها قسطنطين الكبير،
ووالدته الملكة هيلانة الرهاوية بطول مائة خطوة وعرض ثمانين خطوة.
١ وفي هذه الكنيسة الكبرى أقام البطاركة الأنطاكيون حفلاتهم البيعية، وفيها
عقدوا المجامع، نخص بالذكر منها مجمع أنطاكية المعروف باسم «مجمع التدشين» الذي حضره
سبعة وتسعون أسقفًا، وعلى رأسهم البطريرك فلاقلس (٣٤٢–٣٤٦م).
٢
ولما مُنِيت البيعة الأنطاكية بالشقاق المؤلم الذي مزَّق وحدتها في القرن الخامس،
استقلت الفرقة الملكية بكنيسة القسيان حتى السنة ١٠٨٥م، وفيها استولى عليها السلطان أبو
الفتح وحوَّلها إلى جامع، ثم استرجعها الصليبيون لما فتحوا أنطاكية في ٢ حزيران ١٩٠٨،
ونصبوا بطريركًا لأنطاكية من جنسهم يقال له برنردس، وعثروا في تلك البيعة عينها على
الحربة التي طُعِن بها جنب يسوع الفادي.
وفي ذلك العهد انطلق بعض بطاركة السريان إلى أنطاكية ليتفقدوا أبناء ملتهم، فخرج
الفرنج الصليبيون إلى استقبالهم وأدخلوهم إلى كنيسة القسيان بأبهة عظيمة، وأجلسوهم على
كرسي مار بطرس كما جلس عليه أسلافهم قبل عهد الشقاق المذكور. نذكر منهم البطريرك
أثناسيوس السابع (١٠٩١–١١٢٩)، وميخائيل الكبير (١١٦٧–١٢٠٠)، ويوحنا السادس عشر
(١٢٠٨–١٢٢٠)، وأغناطيوس داود (١٢٦٤–١٢٨٣)، وغيرهم.
(٢) كنيسة والدة الله الكبرى في أنطاكية
هذه الكنيسة الكبرى المثمنة الزوايا، أسَّسها قسطنطين الكبير وأمه هيلانة في أنطاكية
تيمُّنًا باسم والدة الله مريم، وثابر العَمَلة على الاشتغال في بنائها مدة خمس عشرة
سنة، وجرى الاحتفال بتدشينها في ٦ كانون الثاني صباح عيد ظهور السيد المسيح على نهر
الأردن.
٣
(٣) كنيسة أبجر الكبرى في الرها
أسَّس السريان هذه الكنيسة الملكية الفخمة على أنقاض هيكلٍ وثنيٍّ ابتناه سلوقس الملك
المقدوني في غربي الرها، وكان يشتمل على أسطوانات ضخمة من الرخام، فحوَّله السريان إلى
كنيسة وشيَّدوا فيه مذبحًا قدس عليه أدي الرسول أول قداس، وتقرب حين ذاك أبجر أول
الملوك المسيحيين،
٤ وجميع مَن تبعه في النصرانية. ثم أُطلِق على تلك الكنيسة اسم «كنيسة أبجر
الكبرى» أو «كنيسة فاروقان»، وهو لفظ سرياني معناه في العربية «مخلصنا».
٥ وتعتبر هذه الكنيسة الأبجرية الملكية أم جميع الكنائس وباكورتها في بلاد ما
بين النهرين.
(٤) كنيسة آجيا صوفيا الكبرى في الرها
عنيت الملكة هيلانة بتأسيس هذه الكنيسة العظمى في وطنها، وبالغت في إتقان هندستها
وزخرفتها، حتى عُدَّت في جملة عجائب الدنيا،
٦ وجرى ذلك في عهد إيثالاها مطران الرها (٣٢٤–٣٤٦م)، فأجزلت تلك الملكة
لكنيسة وطنها تحفًا ملكية، وأمرت أن يدبج داخلها بالذهب والزجاج والمرمر، وأن يرصَّع
بيت القربان وأعمدة المذبح وسائر أعمدة الكنيسة ومنبرها بفضة خالصة، بلغ وزنها مائة
واثني عشر ألف رطل.
٧
(٥) كنيسة الرسل وكنيسة مار سرجيس في الرها
على إثر وفاة مار ربولا مطران الرها (٤١٢–٤٣٥م) خلفه المطران يهيبا (٤٣٥–٤٥٧م) الذي
اشتهر برسائله وتصانيفه وشروحه، وهو الذي شيد في الرها كنيستين: أولاهما كنيسة الرسل
التي كانت — كما صرَّح المؤرخ الرهاوي — من أبدع كنائس الدنيا وأفخمها، وثانيتهما كنيسة
مار سرجيس الشهيد، شيَّدها عند الباب الشرقي على طراز كنيسة الرسل.
٨
(٦) كنيسة مار يوحنا المعمدان في الرها
ابتناها نونا مطران الرها (٤٥٧–٤٧١م) في مطلع عهد مطرانيته على سوار عجيبة من الرخام
الأحمر،
٩ وكانت تشتمل على زهاء مائة نافذة مشبكة بقضبان حديدية، يدخلها شعاع الشمس
ولا تدخلها الطير، وقد شغلها الفرنج الصليبيون عام ١٠٩٨ ودبجوها بأجمل زينة، ومع تداول
الزمان احتلها المسلمون وحوَّلوها إلى جامع، أطلقوا عليه اسم «جامع عين الزلخة».
(٧) كنيسة والدة الله الكبرى في الرها
هي من أقدم كنائس الرها وأبدعها وأوسعها، وقد جدَّد بنيانها أثناس برجوميا الرهاوي
في
عهد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي (٦٨٥–٧٠٥م)، وكان أثناس قابضًا على زمام الشئون
المالية في أنحاء مصر من قِبَل الخليفة المذكور، فجمع فضة وذهبًا كالتراب، واقتنى
عبيدًا ودورًا وحدائق وافرة، وابتنى كنيستين للسريان في الفسطاط بمصر، وكان له في الرها
مسقط رأسه ثلاثمائة حانوت وتسعة فنادق.
وشيد بالقرب من كنيسة والدة الله بيتًا للمعمودية، أجرى المياه فيه ضمن أقنية خاصة،
ثم زيَّنه بمرمر مرصَّع ودبجه بذهب وفضة.
١٠
(٨) سائر كنائس الرها
ما عدا الكنائس الكبرى السابقة الذكر، فقد أحصى المؤرخ الرهاوي كنائس أخرى عديدة
شيَّدها السريان في الرها عاصمتهم.
١١ أما البطريرك ميخائيل الكبير، فاقتصر على ذكر كنائس الرها التي دمَّرها
العرب وهي:
١٢ (١) الكنيسة الكبرى. (٢) كنيسة الرسل. (٣) كنيسة مار توما. (٤) كنيسة مار
ميخائيل. (٥) كنيسة مار قزما التي كان فيها المنديل المطبوع عليه وجه السيد المسيح. (٦)
كنيسة مار جرجس. (٧) كنيسة الفاروق. (٨) كنيسة والدة الله المعلقة. (٩ و١٠) كنيستان
أيضًا باسم والدة الله. (١١) كنيسة الأربعين شهيدًا الكبرى. (١٢) كنيسة ثانية باسم
الشهداء الأربعين. (١٣) كنيسة المعترفين غوريا وشمونا وحبيب، في باب الساعات. (١٤)
كنيسة مار إسطفان. (١٥) كنيسة مار ثئودورس إزاء القلعة. أما كنيسة مار أفرام فلم يحتلها
العرب لأنها خارج المدينة.
(٩) كنيسة مرتمريم القاثوليقية في دمشق
أطلق السريان عنوان «قاثوليقية» على عدة كنائس كبرى ابتنوها في المدن الشهيرة؛ لأنه
كان يتقاطر إليها جمهور من شتى الشعوب النصرانية، كالروم واليونان والفرس والأرمن
والأقباط والأحباش … إلخ، فدعيت كنيسة مرتمريم لهذا السبب، قاثوليقية أيْ جامعة، ولفظ
«مرتمريم» سرياني بحت، معناه «السيدة مريم»، وبهذا الاسم ذكر تلك الكنيسة يحيى الأنطاكي
مكمل تاريخ سعيد بن بطريق، قال: «ثار المسلمون في دمشق؛ فهدموا كنيسة «مرتمريم»
القاثوليقية، وكانت كنيسة عظيمة كبيرة حسنة، أُنفِق فيها مائتا ألف دينار، ونُهِب ما
كان فيها … من حلي وستور.»
١٣
(١٠) كنيسة حلب الكبرى
ظلت هذه الكنيسة الكبرى في حوزة السريان حتى القرن السادس، ثم استولى عليها الملكيون،
وهي التي ابتنتها الملكة هيلانة الرهاوية، ووصفها ابن الشحنة مؤرخ حلب بقوله: كان
موقعها بستانًا للكنيسة العظمى في أيام الروم، وهي منسوبة إلى هيلانة أم قسطنطين. وقال
أيضًا: إن موقعها كان تجاه الجامع الغربي المعروف بالجامع الكبير، وكانت معظَّمة عند
النصارى، حتى قيل إنه كان يقف على بابها يوم الأحد كذا وكذا بغلة لرؤساء النصارى من
الكتَّاب والمتصرفين.
١٤
(١١) كنيسة الرقة القاثوليقية
أُطلِق على هذه الكنيسة أيضًا اسم «قاثوليقية» للسبب الذي ذكرناه آنفًا، وبقيت عامرة
زاهرة إلى ما بعد القرن التاسع، وفيها عقد أساقفة السريان مجمعًا ورقوا إلى الكرامة
البطريركية الراهب ديونيسيوس التلمحري (٨١٨–٨٤٥م)، وكان عددهم ثمانية وأربعين أسقفًا.
وذكر غير واحد من مؤرخي السريان كنائس غيرها بهذا العنوان «قاثوليقية» دلالة على
فخامتها وضخامتها.
١٥
(١٢) كنيسة أوسابيوس الشهيد في سميساط
سميساط مدينة كبرى على شط الفرات كانت عامرة بالسريان، لهم فيها مطران، واشتهر
أوسابيوس مطرانها في القرن الرابع، وابتنى كنيستها العظمى طبقًا لهندسة رَسَمَ له
مساحتها ملاك سماوي، واستغرق بنيانها أربع عشرة سنة، وكان المؤمنون في تلك الأطراف
يبعثون إليها بالأحجار والأخشاب والكلس في الزوارق دون أجرة، ولما اكتمل بناؤها حضر
تدشينها أساقفة عديدون، في جملتهم مار يعقوب أسقف نصيبين.
١٦
(١٣) كنيسة والدة الله القاثوليقية في رومي قلعة
نضم إلى الكنائس القاثوليقية السابقة الذكر كنيسة والدة الله، شيَّدها البطريرك يوحنا
السادس عشر (١٢٠٨–١٢٢٠) في بلدة رومي قلعة الواقعة على ضفة الفرات، قال ابن العبري ما
تعريبه: «إن القس يشوع أخبر البطريرك يوحنا أن السريان ازداد عددهم في رومي قلعة،
وأصبحوا المتقدمين بين سائر النصارى وأصحاب ثروة، وهم محتاجون إلى كنيسة تسعهم، فأوفد
البطريرك من قِبَله مهندسين ووكلاء في أموال كافية، فابتنوا في مدة قصيرة كنيسة مجيدة
لفخر السريان، وابتنى هذا البطريرك عينه جامعًا للمسلمين استجلابًا لخواطرهم، وانطلق
إلى أنطاكية وأدهش الفرنج بعطاياه، واشترى حرشًا فسيحًا في الناحية العليا من تلك
المدينة، وابتنى فيه كنيسة بديعة وقبة فاخرة لسكناه.
١٧
(١٤) كنيسة مار يوحنا الكبرى في ملطية
كانت ملطية إحدى حواضر السريان في القرون الوسطى، لهم فيها عشرات الكنائس، وقد أنشئوا
هناك كنيسة كبرى أطلقوا عليها اسم مار يوحنا المعمدان «الساعي» قدام السيد المسيح،
وأصبحت تلك البيعة «مباءة» للعلم الديني واللغوي في أوائل المائة الحادية عشرة، وخبا
نجمها في أوائل المئة الثالثة عشرة.»
١٨
(١٥) كنيسة سيس الكبرى
قام بهندستها عيسى الرهاوي عام ١٢٤٤، وتبرَّع بجميع نفقات بنيانها، وفيها رقي أبو
الفرج ابن العبري المشهور إلى الرتبة المفريانية بتاريخ ١٩ كانون الثاني ١٢٦٤ كما سلف
القول، ودُعِي غريغوريوس، وشهد تلك الحفلة الرائعة حاتم ملك الأرمن وأولاده وعظماء
المملكة، وأساقفة السريان والأرمن، ورهط من العلماء.
١٩
(١٦) الكنيسة الخضراء في تكريت
كانت كاتدرائية فخمة شيَّدها المفريان دنحا الثاني (٦٨٨–٧٢٨) تيمُّنًا باسم سالفه
أحودامه أول المفارنة الذين سكنوا تكريت، ثم أُطلِق عليها اسم «الكنيسة الخضراء»
واتخذها المفارنة منذ القرن الثامن مركزًا لهم، فبالغوا في تزيينها وتنميقها، إلا أنها
نُهِبت في السنة ١٠٨٩، ونزعت أملاكها وحللها الفاخرة واستحلها الفاتحون وملكوها، وما
برحت أطلالها ماثلة إلى الآن.
٢٠
الخلاصة
هذا نزر من الكنائس السريانية القديمة العهد التي ورد ذكرها تحت عنوان «كبرى» أو
«قاثوليقية»، ولو شئنا التوسع في وصف سائر الكنائس المهمة التي ابتناها السريان في
المدن والدساكر لطال بنا المجال، وفيما كتبناه مئونة كافية للدلالة على ما كان لهم في
عصرهم الذهبي من المكانة والبسطة والثقافة، فضلًا عن كثرة عددهم.
ولا نرى أن نغمض عن ذكر كنائس متعددة ابتناها السريان في مدينة واحدة أو قطر واحد،
فما عدا بعض كنائس الرها التي أثبتنا أسماءها كنيسة فكنيسة، وما عدا كنائس طور عبدين
وجبل الأزل الوافرة العدد، فإن السريان أنشئوا في مدينة ملطية وحدها ستًّا وخمسين كنيسة
بقيت إلى القرن الحادي عشر، وبذلك شهد الأنبا ميخائيل القبطي أسقف تنيس الذي زار
البطريرك يوحنا بن عبدون (١٠٠٤–١٠٣٠) في كرسيه بالمدينة المذكورة،
٢١ وعلى رغم ما تهدم من كنائس السريان بالزلازل والحروب ونوازل الدهر، فقد
بقيت لهم عام ١٢٣٦ عشرون ألف كنيسة كما كتب كيرلس الثالث البطريرك القبطي إلى البطريرك
أغناطيوس الثالث السرياني في القرن الثالث عشر.
٢٢
هوامش