مكتبات السريان في عصرهم الذهبي
عديدة هي المخطوطات التي نمقتها قديمًا أيدي العلماء والمؤلفين والنسَّاخ في اللسان السرياني؛ لأن سوق المعارف كانت رائجة بينهم رواجًا عظيمًا كما أثبتنا في فصول سابقة، فكان ذلك داعيًا إلى إنشاء المكتبات الوافرة وإقبال الخاصة والعامة على ارتيادها والانتفاع من كنوزها.
غير أن الرزايا الجسيمة التي حلَّت بديار الشرق في مختلف العصور أجهزت على كل ما فيها ومَن فيها فلم تُبْقِ ولم تَذَرْ. وحسبنا أن نذكر أسماء الطغاة زنكي وهولاكو وجنكزخان وتيمورلنك وأشباههم ممَّن أعملوا السيف والنار في البلاد حتى جعلوها خرابًا يبابًا، هكذا تَلِفَتْ تلك الذخائر العلمية التي صرف مؤلفوها وناسخوها والمولعون بها قرونًا طويلة في وضعها وجمعها، فذهبت كالهباء المنثور.
(١) مكتبة الرها الملكية
بلغت مدينة الرها أوج المجد في عصر مدرستها الشهيرة الذي سمَّاه العلماء «عصر الرها الذهبي»، واستمرت العلوم زاهرة في تلك المدرسة الذائعة الصيت حتى انطفأ سراجها الوهاج عام ٤٨٦ بأمر زينون الملك. أما مكتبتها الملكية التي أنشأها الملوك الأباجرة، فكانت مرجعًا يؤمه الكَتَبة والأئمة والأدباء من مختلف الأقطار الشرقية والغربية، وينقلون عن مخطوطاتها الثمينة ما احتاجوا إليه.
وقد احتاج غير واحد من مشاهير الكَتَبة والمؤلفين إلى استنساخ الشيء الكثير من مخطوطات تلك المكتبة الملكية ومحفوظاتها، ولبثت المكتبة الرهاوية عامرة زاهرة في عصر السريان الذهبي يؤمها الطلاب ورواد الأدب من كل ناحية، ذلك ما حملنا على أن نتغنى بها في بيتين من الشعر نظمناهما، واستكتبناهما بحروف ضخمة مفضضة، وجعلناهما فوق مدخل دار الكتب اللبنانية التي أنشأناها في بيروت، وهما:
وبتوالي الأزمنة جدَّد السريان في الرها مكتبةً حَوَتْ مخطوطات كثيرة نفيسة، نقلوا قسمًا صالحًا منها من دير أبحاي المجاور لكركر الذي ظل عامرًا حتى القرن الثامن عشر، وقد نسخ قسم من تلك المخطوطات على رق غزال، بينها «تاريخ الأزمنة» تأليف البطريرك ميخائيل الكبير، وواعظ يوحنا فم الذهب، ومار باسيليوس القيصري، وتصانيف أخرى نفيسة. وعندما أُجلي السريان كسائر النصارى من مدينة الرها عام ١٩٢٢ بأمر الحكومة التركية، نقلوا معهم تلك المخطوطات إلى حلب وإلى غيرها من المدن التي استوطنوها.
(٢) مكتبة المفارنة في تكريت
لم تكن مكتبة تكريت أقل شأنًا من مكتبة الرها، بل اغتنت بثروة علمية بفضل المفارنة السريان الذين تسلسلوا في كرسيها. واشتهر في تلك المدينة من العلماء ماروثا المفريان (†٦٤٩م)، وأنطون البليغ (٨٢٠م)، ويحيى بن عدي (†٩٧٤م)، ويحيى بن جرير وأخوه الفضل وهما من أعلام القرن الحادي عشر وغيرهم.
وكانت خزانة المفارنة غاصَّةً بالمخطوطات النادرة القديمة العهد، وعلى رغم إجهاز الغزاة البرابرة عليها فقد تمكَّن أدباء تكريت أن يخفوا منها ما استطاعوا إليه سبيلًا، وخيفة أن تلحق الرزايا بتلك البقية العلمية الأثرية نقلوا بعضها إلى دير مار متى الشيخ بجوار الموصل، وبعضها الآخَر إلى دير والدة الله في وادي النطرون بمصر، وإلى غيرهما من الأديار.
(٣) مكتبة آمد (ديار بكر)
(٤) مكتبة مذيات
(٥) أشهر مكتبات السريان في أديارهم
(٥-١) مكتبة دير مار متى الشيخ
(٥-٢) مكتبة دير قرتمين
(٥-٣) مكتبة دير والدة الله في وادي النطرون بمصر
وفي السنة ٩٢٧م سافر القس موسى النصيبيني رئيس الدير إلى بلاد سوريا وما بين النهرين، فجمع مائتين وخمسين مجلدًا من أنفس المخطوطات وأندرها وأعتقها، ثم نقلها إلى ديره عام ٩٣٢، وهناك ابتنى لها قاعة خصوصية ونظمها تنظيمًا محكمًا. ويرتقي عهد بعض تلك المخطوطات إلى القرن الخامس والسادس للميلاد مما يندر وجوده اليوم في أعظم دور الكتب وأهمها.
وروى لنا مرارًا العلَّامة البطريرك أفرام رحماني أن الإنكليز ابتاعوا من مخطوطات دير والدة الله ما يوازي ثقلها ذهبًا، فكان الرهبان يضعون كل مخطوط منها في كفة الميزان، وكان المستر تاتام يضع ذهبًا في كفة الميزان الأخرى!
(٥-٤) مكتبة دير سرجيسية
(٥-٥) مكتبة دير الزعفران
أنشئت في القرن الثامن بهمة مار حنانيا مؤسس الدير، ثم جدَّدها وأضاف إليها يوحنا مطران ماردين الرهاوي (†١١٦٥م)، وازدادت مخطوطاتها عندما صار الدير مقرًّا للبطاركة، واحتوت تلك المكتبة في أيام عزها على أسفار قديمة ضُرِبت بها الأمثال، بينها ما كُتِب على رق غزال بحروف سطرنجيلية، وأثمنها مصاحف دُبجت بصور بديعة ملوَّنة.
ومن أثمن ما حوته المكتبة الزعفرانية: إنجيلان سطرنجيليان مكتوبان على رق غزال، ومنها سبعة مجلدات ضخمة مكتوبة كذلك على رق غزال تضمَّنت ميامر مار يعقوب السروجي (†٥٢١م)، وشرح إيريثاوس، ونسختان من كتاب أخبار القديسين مكتوبتان بحروف سطرنجيلية، وغير ذلك من المخطوطات المكتوبة على الرق أيضًا.
(٥-٦) مكتبة دير مار مرقس في القدس
هي مكتبة قديمة العهد اعتنى بتكوينها وتعزيزها مطارنة الكرسي الأورشليمي، وأضيفت إليها في القرن الرابع عشر بقايا خزانة دير المجدلية بالقدس بعد اندثاره، وإليها نُقِلت أيضًا بعض مخطوطات دير الزعفران بعد الحرب العظمى (١٩١٤–١٩١٨) وللبحَّاثة الربان يوحنا دولباني وصف دقيق لأهم مخطوطات الخزانة المرقسية، نشره على صفحات المجلة البطريركية السريانية في أورشليم.
ومما حوته هذه الخزانة المرقسية ذخائر ثمينة مكتوبة على رق الغزال بخطوط سطرنجيلية بديعة، عددها اثنان وثلاثون مجلدًا، بينها ميامر مار يعقوب السروجي في ثلاثة مجلدات ضخمة، تبلغ سماكة كلٍّ منها ٣٠ سنتمترًا في طول ٤٠ وعرض ٢٥س. وتشتمل كل صفحة على خمسة حقول بخط جلي ظريف. أما فهارسها فهي مكتوبة في صفحات شتى مدبجة بألوان بنفسجية وحمراء وزرقاء وخضراء وبرتقالية … إلخ.
وحوت الخزانة المرقسية علاوة على ذلك صكوكًا ووثائق وحججًا قديمة العهد، يحافظ عليها رؤساء الدير ورهبانه بكل حرص وإجلال.
(٥-٧) بقايا مخطوطات كنيسة مار بطرس ومار بولس في الرها
كانت هذه الكنيسة تشتمل على خزائن مخطوطات سطرنجيلية وسريانية غالية الأثمان قديمة الأجيال نادرة المثال، لكنها تضعضعت مع كرور الزمان، ولم يَبْقَ منها إلا النزر اليسير. وعندما اضطر الأتراك نصارى الرها أن يرتحلوا عن وطنهم سنة ١٩٢١، نقل السريان بقايا مكتبتهم إلى حلب، وجعلوا بعضها في موفه الكنيسة التي ابتنوها حديثًا، وصانوا البعض الآخَر في صناديق مقفلة أودعوها عند كبار أعيانهم. ومن جملة تلك المخطوطات: تاريخ ميخائيل الكبير، وميامر مار أفرام، ومار يعقوب في السطرنجيلية، وبعض مخطوطات السريان الملكيين … إلخ.
(٥-٨) مكتبة دير الشاغورة في صيدنايا
ولم يسلم من تلك المكتبة العامرة إلا بضع مخطوطات سبق المستشرقون والسياح فاشتروها، وزيَّنوا بها مكتباتهم في بلاد أوروبا، ولا سيما المكتبة الواتكانية، فيا للخسارة الباهظة ويا للجهالة!
(٥-٩) بعض مكتبات السريان المندثرة
كان للسريان في عصرهم الذهبي مكتبات عامرة في أغلب أديارهم التي أربى عددها على المئات، كأديار جبل الرها، وطور عبدين، وجبل الأزل، وأنطاكية، ولبنان، نخص بالذكر منها: دير مار بسوس، ودير تل عدا، ودير أوسيبونا، ودير كفربيل، ودير الجب الخارجي في أطراف أنطاكية، ودير مار يوحنا في زغبة، ودير قنسرين، ودير مار موسى الحبشي في النبك، ودير مار يوليان الشيخ في القريتين، ودير تل بسم غربي ماردين، ودير العمود قرب الرقة، ودير قرقفتا عند رأس العين، ودير قنقرات بآمد، ودير برصوما بملطية، ودير ابن جاجي، ودير زوقنين، ودير مار بهنام بالموصل … إلخ. فهذه الديورة بأسرها كانت تشتمل على مكتبات عظيمة مزدانة بأقدم الصحف وأثمن المخطوطات.