علاوة على اتساع بطريركية السريان في مختلف الأصقاع، فإنهم أحرزوا في القرون الوسطى
مكانة
علمية وشهرة عالمية لدى أقطاب الدين وأرباب الدنيا، وبهذه الوسيلة عمَّت عقيدتهم بالطبيعة
الواحدة شعوبًا جمة غير شعبهم السرياني كالأقباط، والأحباش، والأرمن، والعرب، ونصارى
الملبار وغيرهم، وهذا ما حمل جمهورًا من الكتبة على أن يطلقوا على ذلك العصر «عصر السريان
الذهبي».
(١) السريان والأقباط
على أثر استقلال السريان استقلالًا بيعيًّا استحكمت عرى العلاقات بينهم وبين الأقباط
مشايعيهم في معتقدهم بالطبيعة الواحدة، وبتوالي الأيام ازدادت تلك العلاقات متانة، حتى
إننا نشاهد في سلسلة بطاركة الأقباط في الكرسي الإسكندري أسماء أربعة منهم كانوا من
عنصر سرياني، وهم: البطريرك دميانس الرهاوي في القرن السادس
١ والبطريرك سيمون الأول سنة ٦٨٩ للميلاد،
٢ والبطريرك أبرام أو أفرام (٩٧٦–٩٧٩)،
٣ والبطريرك مرقس الثالث (١١٦٦–١١٨٩).
٤
وقد نقل الأقباط عن السريان في نافورة قداسهم ميمر مار يعقوب السروجي و«رتبة كسر
القربانة» تأليف ديونيسيوس يعقوب بن الصليبي (†١١٧١م)،
٥ وما برحوا يذكرون في قداسهم أسماء بعض أئمة السريان، كأفرام وسويرا
البطريرك، والأنبا برصوما وماروثا،
٦ ويحتفلون لسويرا البطريرك بأربعة أعياد في السنة.
٧
ومما يبرهن على نفوذ اللغة السريانية في طقس الأقباط، استعمالهم كلمات سريانية في
طقوسهم وليترجياتهم، كقولهم «طوبانيتين»، و«طوباني»، و«نيح»، و«لتأت ملكوتك»، و«الأخذ»
أيْ التناول، و«ميمر»، و«رشم»، و«رشومات»، و«عتيد»، و«تنيحوا»، و«حياصة»
٨ … إلخ.
وانتشر السريان بين الأقباط في أنحاء القطر المصري انتشارًا عظيمًا، فابتنوا في المدن
والدساكر عشرات الكنائس، نذكر منها: كنيستين في الفسطاط،
٩ وكنيسة قريبة من السد،
١٠ وكنيسة مار ماروثا بناحية شمسطا،
١١ وكنيستين في الخندق،
١٢ وكنيسة في سنموطية،
١٣ وكنيسة مار بهنام في مصر العتيقة،
١٤ وقد زرناها عام ١٨٩٩، وهي اليوم بيد الأقباط … إلخ.
أما الأديار السريانية في القطر المصري، فلم يكن عددها بأقل من عدد الكنائس، وقد
حفظت
لنا الآثار التاريخية أسماء ثمانية عشر ديرًا من أديار السريان الوافرة العدد، يرتقي
عهد بعضها إلى القرن السادس للميلاد،
١٥ وكانت تلك الأديار حافلة بجماهير من الرهبان والزهاد والعلماء، انقطع فريق
منهم إلى التأليف والنسخ، وانصرف الفريق الآخَر إلى إنشاء مكتبات نفيسة أشهرها مكتبة
دير والدة الله في وادي النطرون.
وكانت تلك المكتبة تحوي مخطوطات سريانية قديمة ثمينة، يرتقي عهد بعضها إلى القرن
الخامس والسادس،
١٦ بينها زهاء ثلاثمائة كتاب مخطوطة على رق غزال،
١٧ وقد اشترى بعضها القس إلياس السمعاني والعلامة يوسف سمعان السمعاني، ثم
ابتاع ما تبقَّى منها المستر تاتام سنة ١٨٤٢، ونقلها إلى المتحف البريطاني في لندن كما
سترى، ونشر علماء الإنكليز فهارسها في ثلاثة مجلدات.
وقد ازدانت مكتبات الفاتيكان ولندن وباريس وبرلين وميلانو وأكسفرد وكمبردج وغيرها
بقسط وافر من تلك الكتب السريانية، كما يستفاد من فهارس مخطوطاتها. هذا ما عدا مخطوطات
نُسِخت في ذلك الدير وحُفِظت إلى هذا العهد في مكتبات أخرى، كمكتبة دير الشرفة بلبنان،
ودير مار مرقس بالقدس الشريف، ومكتبة الكلدان بماردين … إلخ.
(٢) السريان والأحباش
للسريان فضل عظيم في تنصير الأحباش بسعي ثئودورا الملكة (٥٢٧–٥٤٨م) زوجة يسطينان
الأول قيصر الروم (٥٢٧–٥٦٥م). وكانت ثئودورا سريانية المحتد، منبجية المولد، ناصرت
القائلين بالطبيعة الواحدة، وقد سبقت فأوفدت إلى بلاد الحبشة القس يوليان السرياني؛
فأذاع فيها العقيدة المنوفيزينية، وظل هناك سنتين يقصد الصهاريج ويعمد الناس كل يوم من
الساعة الثالثة حتى الساعة العاشرة؛ فتنصر الأحباش على يده وفي مقدمتهم ملك الحبشة
وأرباب دولته.
١٨
وما قلناه عن الطقس القبطي يصدق في الطقس الحبشي أيضًا، ولا يزال الأحباش يستعملون
في
قداسهم نافورة مار يعقوب السروجي السرياني (†٥٢١م)، فضلًا عن صلوات كثيرة نقلوها إلى
لغتهم عن السريانية وألحقوها بليترجياتهم.
١٩
وكانت تربط الشعبين السرياني والحبشي روابط العقيدة الواحدة، وما كانت الفوارق
اللغوية أو الحواجز الجغرافية أو الاختلافات الجنسية لتقوى يومًا على فصم عرى تلك
الروابط التي نشأت عنها في مختلف العصور بعض العلاقات بين الأحباش والسريان؛ فالتاريخ
يروي أن الأمير جرجس ابن نجاشي الحبشة انطلق سنة ٨٣٦ إلى بغداد عاصمة العباسيين لتحية
الخليفة المعتصم بالله؛ فاجتمع هناك في شهر آب بالبطريرك ديونيسيوس الأول التلمحوي،
وبناء على رغبته ناوله هذا البطريرك السرياني القربان المقدس، ثم قدَّم له بعض الهدايا
كذكرى لتلك المقابلة التاريخية.
٢٠
(٣) السريان والأرمن
كان الأرمن قبل استنباطهم الحروف الأرمنية يستعملون القلم السرياني في كتاباتهم،
وأول
مَن فكَّر منهم في وضع الحروف الأرمنية هو القديس مسروب في أوائل القرن الخامس، فإنه
قصد مدينة الرها مع بعض تلامذته وتخرجوا قاطبة في مدرستها الشهيرة بالآداب السريانية
على يد دانيال مطرانها العلَّامة،
٢١ وعني مسروب، وإسحاق جاثليق الأرمن (٣٩٠–٤٣٩) بنقل الأسفار
المقدسة،
٢٢ وترجم شرح مار فرام الملفان لكتاب «الدياطسرون» عن اللغة السريانية إلى
اللغة الأرمنية، ثم نقل الأرمن تسع عشرة مقالة من كتاب «البراهين» تأليف القديس يعقوب
أفرهاط وغير ذلك، عن اللغة السريانية إلى اللغة الأرمنية.
٢٣
وابتنى السريان في أرمينيا كنائس عديدة وأديارًا زاهرة، نذكر منها كنيستين فخمتين
في
سيس عاصمة ملوك الأرمن وكرسي بطريركيتهم، ثم ديرين كبيرين قرب طرسوس.
٢٤ وكانت مدينة آطنة المجاورة لتلك العاصمة آهِلة في القرن الثاني عشر
بالسريان دون سواهم، يرعاهم مطران من جنسهم ومعتقدهم.
٢٥
وكان للسريان في أرمينيا أبرشيات وافرة العدد، تسلسل فيها الأساقفة جيلًا بعد جيل
حتى
القرن الثالث عشر، وقد ذكرها ميخائيل الكبير في لائحة الأساقفة التي ألحقها بتاريخه
كأبرشيات سيس، وطرسوس، وعين زربا، وخلاط، وآطنة … إلخ.
ومما يستحق الذكر أن البطريرك أغناطيوس الرابع (١٢٦٤–١٢٨٣) احتفل احتفالًا شائقًا
في
كاتدرائية سيس السريانية بترقية غريغوريوس بن العبري إلى الرتبة المفريانية، بحضور
أساقفة السريان والأرمن، وبعد الاحتفال رحَّب حاتم ملك قيليقيا الأرمني في بلاطه
بالبطريرك والمفريان والأحبار والأعيان.
٢٦
(٤) السريان والعرب
مثلما نشر السريان عقيدتهم بالطبيعة الواحدة بين الأقباط والأحباش والأرمن، نشروها
كذلك بين العرب جيرانهم بني غسان ونجران وتغلب ومعد وبني كلب وغيرهم، وكان بطاركة
السريان ينصبون أسقفًا أو أكثر لكل قبيلة من تلك القبائل العربية، ودُعِي بعضهم بأساقفة
«المضارب»، فكانوا يرافقون القبائل العربية المتنقلة ويقيمون الرتب الدينية تحت
الخيام.
٢٧ ومن أساقفة العرب نذكر:
شمعون أسقف بيث أرشم،
٢٨ وثئودور أسقف حيرة النعمان،
٢٩ وقد وضع اليد عليه يعقوب البرادعي الأسقف المسكوني.
ثم إن البطريرك يوليان الثالث (٦٨٨–٧٠٩م) نصب أسقفًا للعرب التغالبة يقال له
يوسف،
٣٠ ونصب قرياقس البطريرك (٧٩٣–٨١٧م) ثلاثة أساقفة للعرب: أولهم الأسقف يوحنا
للكوفة، ثانيهم الأسقف داود وقد وضع عليه اليد في «دقلا» عاصمة التغالبة،
٣١ وثالثهم الأسقف عثمان، وهو الخامس والأربعون في عداد أساقفته.
ونصب البطريرك ديونيسيوس الأول التلمحري (٨١٨–٨٤٥م) خمسة أساقفة لقبائل العرب
التغلبيين، ووضع يوحنا الخامس (٨٤٧–٨٩٤م) اليد على سبعة أساقفة للعرب بني معد وبني تغلب
ونجران. وقس على من ذكرنا: البطاركة أغناطيوس الثاني، وثئودوسيوس، وديوليسيوس الثاني،
ويوحنا السادس، وباسيل الثاني، منذ السنة ٨٧٨ حتى السنة ٩٣٥م.
وإلى السريان يعود الفضل في نقل الكتاب المقدس عن لغتهم إلى اللغة العربية على يد
بطريركهم يوحنا الثالث (٦٣١–٦٤٩م)،
٣٢ وإليهم كذلك يرجع الفضل في نقلهم إلى اللغة العربية علومهم وعلوم اليونان
خصوصًا في عهد العباسيين؛ فإن أولئك الخلفاء استعانوا بنوابغ السريان واتخذوهم أساتذة
لهم
٣٣ فمهَّدوا للعرب سُبُل الثقافة ومرنوهم على اقتباس أصناف المعارف.