الفصل التاسع
السريان وملوك الصليبيين
مثلما كان لأئمة السريان في عصرهم الذهبي صلات مع ملوك الفرس، والخلفاء المسلمين،
وقياصرة
الروم، كان لهم كذلك علاقات مع ملوك الصليبيين في أثناء إقامتهم في بلاد المشرق.
وغير خافٍ أن أولئك الملوك عاملوا جماعات السريان وأحبارهم معاملة طيبة في الأمصار
التي
ملكوها؛ فشملوهم بعطفهم ولم يتعرضوا لهم في كنائسهم وأديارهم وجميع شئونهم على رغم مخالفتهم
لهم في المعتقد. قال ميخائيل الكبير: «تمتع أساقفة السريان وكهنتهم بالراحة والسكينة
في عهد
دولة الصليبيين، فلم يلحقوا بنا أدنى أذى؛ لأنهم كانوا يعتبرون جميع الساجدين للصليب
على حد
سواء، لا يماحكونهم بالمسائل الدينية كما كان يماحكهم أساقفة الروم.»
١
وأول مَن جرت له صلات مع الصليبيين من السريان هو أثناسيوس السابع البطريرك الأنطاكي
(١٠٩١–١١٢٩م)؛ فإنه زار غير مرة جوسلين ملك الصليبيين في «تل باشر»
٢ عاصمته، وأقام في بلاطه عدة أيام محفوفًا بالتوقير والإجلال.
٣
ولما توفي البطريرك المشار إليه كتب جوسلين إلى أساقفة السريان في الحضور إلى تل
باشر
عاصمته لانتخاب بطريرك جديد، فلبوا طلبة الملك وعقدوا مجمعًا في كنيسة الفرنج ترأسه
المفريان ديونيسيوس موسى (١١٢١–١١٤٢)، وأجمعت كلمتهم في ١٧ شباط ١١٢٩ على انتخاب الراهب
موديانا رئيس دير «الدوائر» المجاور لأنطاكية بطريركًا أنطاكيًّا، وسمَّوه يوحنا الخامس
عشر
(١١٢٩–١١٣٧)، واحتفلوا في تلك الكنيسة برتبة التنصيب احتفالًا عظيمًا، وسلموا إليه العكاز
البطريركي بحضور الملك جوسلين ووزرائه وأرباب مملكته، وفي جملة أولئك الوزراء كان ميخائيل
بن شومنا شقيق باسيل مطران الرها.
٤
وأثبت ابن العبري أن جوسلين لما شعر بدنوِّ أجله عام ١١٥٧ وهو في سجن حلب، استأذن
الحاكم
المسلم في الذهاب إلى كنيسة السريان، وهناك قام بفروضه الدينية لدى إغناطيوس مطرانها
السرياني، وتناول الأسرار من يده،
٥ وبعد ذلك عاد جوسلين إلى السجن وفيه توفاه الله تعالى، ثم أقيم له مأتم حافل
اشترك فيه المسلمون والمسيحيون، وشيعوه قاطبة إلى تلك الكنيسة ودفنوه ضمنها في ضريح
خاص.
وابتنى السريان كنيسة جديدة لأبناء جماعتهم في أنطاكية ما عدا كنيستَيْهم القديمتين،
وقد
باركها بأبهة عظيمة بطريركهم أثناسيوس الثامن (١١٣٩–١١٦٦)، وتصدرت تلك الحفلة الكبرى
إيزابيل الملكة، يحف بها أركان البلاط الملكي، وجمهور غفير من الأحبار والقسان والرهبان
الفرنج والسريان.
٦
وفي السنة ١١٦٨ كتب إيمريك بطريرك أنطاكية اللاتيني (١١٥٧–١١٨٠م) رسالة إلى بطريرك
السريان ميخائيل الكبير (١١٦٧–١٢٠٠) يكلِّفه الحضور إلى أنطاكية، فأجاب البطريرك ميخائيل
إلى دعوته، وما كاد يصل إلى أنطاكية حتى خرج إلى لقائه أقطاب الحكومة وأئمة الدين في
ألوف
من أهالي تلك العاصمة، ورافقوه باحتفال رائع إلى كنيسة «القسيان»، وهي كبرى كنائس أنطاكية،
وأجلسوه على الكرسي البطرسي الذي كان من خشب النخل مصفَّحًا بالفضة.
٧
وفي السنة ١١٧٩ أقبل البطريرك ميخائيل عينه إلى أنطاكية مرة ثانية، ومنها ارتحل إلى
بيت
المقدس، وعند مروره بعكا زار الملك بغدوين الصغير، وأطلعه على رسالة بعث بها إليه البابا
إسكندر الثالث (١١٥٩–١١٨١) يدعوه إلى مجمع يُعقَد في روما، فرحَّب الملك بالبطريرك وبالغ
في
تكريمه، ثم حمَّله كتاب توصية إلى أورشليم.
ومن بطاركة السريان الذين جرت لهم علاقات مع الفرنج الصليبيين أغناطيوس الثالث
(١٢٢٢–١٢٥٢) الذي انطلق إلى أنطاكية مصحوبًا برهط من أساقفته، ومن هناك سار إلى فلسطين،
ولما دخل إلى أورشليم خرج إلى استقباله سكانها، وفي طليعتهم الأخوة الهيكليون الذين حملوه
على أيديهم وطافوا به من باب العمود إلى دير مريم المجدلية، فحل فيه البطريرك وأساقفته
وحاشيته، وكان يقطنه يومئذٍ سبعون راهبًا من الرهبان السريان.
٨
واشتهر في تلك الحقبة الحكيم السرياني الأنطاكي الذي تعاطى مع بعض الملوك وتقرَّب
إليهم،
وأقطعه أحد ملوك الصليبيين فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا (١٢١١–١٢٥٠) مدينةً كما هي
بأعمالها.
٩
وقد أشار بطريركنا مار أغناطيوس بطرس السادس (١٦٧٨–١٧٠٢) شهبادين إلى صلات السريان
القديمة بالملوك الصليبيين وأمرائهم، فكتب إلى لويس الرابع عشر ملك فرنسا (١٦٤٣–١٧١٥)
في
ذلك يقول: «ليكن معلومًا لدى عظمتكم العالية ما صنع السريان القدماء مع الأمراء الفرنساوية
في محروسة القدس الشريف والمحبة، والاتفاق بغاية المودة التي أبدوها أمام السلاطين العظام
الذين حكموا عليها.»
١٠
وكان للسريان في عهد الإمارات الصليبية حظوة في أعين ولاة الأمور، وكان إقليرسهم
متضلعًا
من الآداب السريانية والعربية واليونانية،
١١ وانضم أطباؤهم وصيادلتهم إلى الجيوش والمعسكرات الصليبية، وانحصرت بيدهم أعمال
الترجمة في الدوائر التي أعجبت ابن جبير بترتيبها وحسن معاملتها.
١٢
هوامش