أول خفقة قلب
نشأ ثروت أباظة في بيت عز وكرم وثراء، وترعرع في جوٍّ كله مبادئ وأخلاق، وفي جو كله سياسة ووطنية، وفي محيط كله شعر وأدب، فجرى كل ذلك في دمه، وتكوَّنت شخصيته الحرة الأصيلة التي لا تقبل إلا الحق ولا ترضى عن الحرية بديلًا. كان دسوقي أباظة باشا في شبابه من شباب الأسرة النابهين، وكان يتَّسم بالذكاء والرزانة ورجاحة العقل والتفاني في خدمة الناس، وكان مُغرمًا بالشعر والأدب منذ فجر شبابه، تخرج من مدرسة الحقوق سنة ١٩١١م، وعُيِّن وكيلًا لنيابة الجيزة، وتصادف أن وقعت فظائع الجنود الإنجليز أثناء ثورة ١٩١٩م في العزيزية والبدرشين والشوبك من سلب ونهب؛ ففتح — بصفته وكيلًا للنيابة — محضرًا للتحقيق في هذه الوقائع، وكان هو الوحيد في القُطر المصري الذي أجرى التحقيق في محاضرَ رسميةٍ على رغم أن الإنجليز قد اقترفوا مثل هذه الجرائم في أنحاء البلاد، ثم وزَّع محاضر التحقيق في جميع أنحاء مصر، وطبعها على حسابه الخاص باللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية ليُثير سخط المصريين والأجانب، ورأى الإنجليز أن هذا التصرف غير مقبول خاصةً وأنه موظف في الحكومة؛ فاستقال من النيابة بعد أن اطمأن إلى أن جميع المصريين قد أُحيطوا علمًا بجرائم الإنجليز. ولما تأسس حزب الأحرار الدستوريين سنة ١٩٢٢م، اختير عضوًا بمجلس إدارته، ثم سكرتيرًا عامًّا له. وقد ظل عضوًا بمجلس النواب منذ ١٩٢٦م إلى سنة ١٩٥٢م، واختير وكيلًا لمجلس النواب سنة ١٩٣٤م إلى سنة ١٩٣٨م، ثم اختير وزيرًا للشئون الاجتماعية سنة ١٩٤١م، ثم وزيرًا للأوقاف ثم وزيرًا للخارجية.
وعندما كان وزيرًا للخارجية رفض البدلات قائلًا: إنني أدعو الأجانب والمصريين في منزلي الخاص فكيف آخذ تكاليف ذلك من الحكومة؟ وكان منزله يعجُّ بالكبراء والوزراء والشعراء، وكان رئيسًا لجمعية أدباء العروبة، وكان منهم العوضي الوكيل، ومحمود غنيم، وأحمد الغزالي، وأحمد مخيمر، ومصطفى حمام، وطاهر أبو فاشا.
تزوج دسوقي أباظة سنة ١٩٤٤م من كبرى كريمات عمه عبد الله بك أباظة، وكانت من جميلات الأسرة، حتى إن المغنية التي أحيت فرحها قالت متعجبة: إنني لم أرَ عروسًا واثقة من نفسها إلى هذا الحد؛ فهي لم تضع على وجهها أي شيء من أدوات الزينة، وكانت نِعم الزوجة المُشرفة، ونِعم الأم الراعية، ورزقها الله بأربعة أولاد: ثروت وشامل وزينات ثم كوثر.
وكان بيت دسوقي باشا في العباسية مكونًا من ثلاثة طوابق: الطابق الأرضي يسكنه العاملون في المنزل وكلهم من غزالة وبلغ عددهم ٣٢ شخصًا، فكل واحد منهم يعيش مع أسرته معزَّزًا مكرَّمًا … أما الطابق الأول فكان مُعدًّا للاستقبال، وبه حجرة مكتب دسوقي باشا، وحجرة مكتب ثروت، وأخرى لأخيه الأصغر شامل، وحجرة نوم للضيوف وللأقارب من الشباب الذين يأتون من الزقازيق؛ ليكملوا دراستهم الجامعية في القاهرة. وكانت تقوم بطبيعة الحال بين الشباب الضيوف وأصحاب البيت صداقات دامت مدى الحياة.
وأما الطابق الثاني فكان للنوم واستقبال الأقارب المقربين. وكان شامل وابن عمته سامح وابن عمه سمير يُكوِّنون جبهة لا تفترق قط، وكان زعيمهم في الشقاوة شامل، وزعيمهم في التخطيط سامح، وأما سمير فكان متفوقًا دائمًا في دراسته، وكان الثلاثة من شباب حزب الأحرار الدستوريين، ونشئوا على الاهتمام بالسياسة وتفهُّمها، ويُعدُّ سامح الآن مرجعًا في تاريخ السياسة، ومشت بهم الحياة واختار كلٌّ منهم طريقه، ولكن كلما اجتمعوا تجددت ذكريات الطفولة الجميلة.
وأما الأختان زينات وكوثر فقد كانتا لا تفارقان ابنة عمهما سلوى، فقد نشأن معًا، وقضين معًا أسعد أيام الطفولة، ولم يكن لهن أية صلة بما يدور في الدور الأول، ولا بمن يأتي من ضيوف من أدباء وشعراء، كان لهما عالمٌ آخر، وكان والدهما يصحبهما في سيارته ويذهب إلى اجتماع مجلس وزراء مثلًا، والابنتان تنتظران في السيارة ساعة أو أكثر، وكانتا تسعدان بهذه النزهة، أما السينما فكانتا تذهبان إليها بصحبة الخالات أو العمات ولكن بعد مفاوضاتٍ طويلة مع الوالد، وتنتظران نتيجة المفاوضات على أحرَّ من الجمر.
لم يكن ثروت طفلًا مثل باقي الأطفال؛ فهو لم يتمتع بطفولته ولم يلعب كثيرًا معهم، وإنما كان يصاحب والده في كل مكان يذهب إليه، فكان يجالس الوزراء والكبراء والأدباء والشعراء؛ ولذلك فهو لم يتهيَّب المناصب في كبره؛ لأنه نشأ بينها. صَحِبه والده أكثر من مرة إلى مجلس النواب، وجلس في شرفة الزوار، واستمع إلى المناقشات السياسية، وتفتَّحت عيناه على ما يدور في المجالس النيابية؛ فجمع مع حب الأدب تفهُّم السياسة فكانت كتاباته — عندما بلغ سن الشباب — خليطًا من الأدب والسياسة، وكان في نظر إخوته الذين يصغرونه بسنواتٍ بسيطة هو الأخ الأكبر الذي له الحق في مجالسة الكبار وفي مكانته المميزة عند أبويه، ولعل ذلك يرجع إلى أنه أكبر الأولاد، ورُزِقا به بعد ثلاث سنوات من الانتظار والقلق.
ولم يكن ثروت من المتفوِّقين في الدراسة على رغم ذكائه وقوة ملاحظته، بل كان ينجح فحسب ولا مانع من أن ينجح في الدور الثاني.
ولما انتهى من الكتابة سأل: من يقرأ هذه الأبيات؟ فقام ثروت وقال: أنا حفظتها، فاندهش المدرس وقال: أدر ظهرك للسبورة وسمِّع، ففعل ما أمر به الأستاذ وسمَّع الأبيات كلها بدون تردد. وفي مرةٍ أخرى كتب له والده كلمات باللغة الإنجليزية ومعناها بالعربية وطلب منه أن يحفظها وبعد دقائقَ قليلةٍ قال لقد حفظتها، فقال والده: لو أخطأت فسأعاقبك فأنت لم تأخذ الوقت الكافي لحفظها، وإذا لم تخطئ فسأعطيك ريالًا. وكان الريال في هذه الأيام ثروة بالنسبة للأطفال، وفاز بالريال، ولكن مع ذلك لم يكن من التقدميين ولا المتفوقين في الدراسة.
وقد حدث مرة وهو في المدرسة الابتدائية أن أيقظوه على الرغم منه ليذهب إلى المدرسة؛ فما كان منه إلا أن ارتدى ملابسه ونزل إلى الطابق الأول وتوجَّه إلى غرفة الضيوف واستأنف النوم. وتكرَّر منه ذلك فصمَّم كبير الخدم (عم أحمد بخيت) أن يخبر والدته بالأمر؛ لأنه يعتبر نفسه من المسئولين عن أهل البيت.
وذات صباح سمع ثروت خبطًا مروِّعًا على باب حجرة الضيوف وكاد الباب أن ينخلع؛ فانزعج وفتح الباب فوجد نفسه وجهًا لوجه أمام والدته، فعنفته بشدة وأرسلته في الحال إلى المدرسة، ولما عاد لم يجد كبير الخدم الذي أفشى سره وعلم أنه سافر إلى قريته «غزالة» لأن ضميره لم يسمح له بالسكوت وفي نفس الوقت أحسَّ أنه أغضب «ثروت». وعبثًا حاولت الأم أن تطلب منه العودة، ولكنه قال لها في التليفون: لن أعود إلا إذا كلمني ثروت، وفعلًا اتصل به وقال له إنه لا يحمل له حقدًا أو ضغينة، ورجاه أن يعود فورًا، وظل هذا الصفاء يلازمه طوال حياته، وقد أتم دراسته الجامعية دون مشاكل.
وكانت عائلة دسوقي باشا معتادة أن تقضي شهرين من الصيف في قريتهم «غزالة» وشهرًا في رأس البر، ومن هنا اختلط ثروت بالفلاحين ودخل في أعماقهم، ولم تخفَ عليه خافية من حياتهم ولا من طباعهم، وعرف أن ما يقوله الكتَّاب عن الفلاح بأنه ساذج وصفٌ خاطئ؛ فالفلاح المصري ذكي وحريص، وبناءً على معرفته العميقة له كتب رواية عن القرية وهي «هارب من الأيام» التي قال عنها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين: إنها أحسن ما كُتب عن القرية في الأدب العربي.
وكان دسوقي باشا يجلس في «السلاملك» وحوله الفلاحون من غزالة ومن القرى المجاورة للتحية ولقضاء أشغالهم، ولم يدَّخر دسوقي باشا وسعًا لمساعدتهم وخدمتهم حتى إن أحفادهم يحملون الجميل ويذكرونه حتى اليوم.
في أيام الانتخابات كان منزل دسوقي باشا يمتلئ بالناس منذ الصباح الباكر وحتى آخر الليل ويقدم لهم كل الإكرام والترحيب، وكان دسوقي باشا ينجح في الانتخابات دائمًا، إلى أن جاءت وزارةٌ وفدية في الأربعينيات وساعدت خصم دسوقي الوفدي مساعداتٍ سافرةً بدون أدنى تحفُّظ وبلا حدود، وعلى الرغم من ذلك نجح دسوقي باشا، وقد تكاتفت الأسرة شبابها وشيوخها وانتشرت في جميع أنحاء الدائرة للمراقبة والمساعدة إلى أن اطمأنوا على نجاح عميدهم. وقد تعرَّض فكري باشا أباظة لمضايقاتٍ بسيطة أثناء هذه الحملة الانتخابية، وقد كتب الشاعر الأستاذ العوضي الوكيل قصيدة يهنئ فيها دسوقي باشا ويسخر من فشل مناورات الحكومة، مطلعها:
وكانت كوثر صغرى بنات دسوقي باشا تُلقيها وهي في السابعة من عمرها أمام الجموع التي تتواجد في بيت والدها، وكان منزله عبارة عن منزل أدب وشعر.
وفي الدور العلوي كانت تجيء الفلاحات ويجلسن حول سيدة البيت، وكانت تكلمهن وتسأل عن أولادهن واحدًا واحدًا بالاسم، وكانت تحل لهن المشاكل العائلية، حتى إنه جاءت فلاحة تشكو زوجها فقالت لها: أشركي قريبًا من أقاربه، فقالت لقد فعلت وحاولت بكل الطرق إصلاحه ولكن لا فائدة.
– اذهبي إلى العمدة ليصلحه بالشدة.
– فعلتُ ولكن لا فائدة.
– إذن تحمَّلي من أجل أولادك واتركي عقابه لله.
– يا سيدتي لم أعدْ أستطيع التحمل (قالتها بلهجتها الريفية).
واهتم ثروت بأمر هذه الفلاحة المسكينة وأحضر زوجها وقال له: امضِ على تعهد أنك لن تؤذي زوجتك.
– أنا لا أعرف الكتابة يا بيه.
– إذن فاذهب وامحُ أميتك.
– ليه يا بيه أنا حلو كده (بكسر اللام).
وظل حلوًا إلى آخر يوم في حياته و«وحشًا» (بكسر الواو الثانية أو فتحها) بالنسبة لزوجته.
ولم يتركه ثروت إلا وقد أخذ منه تعهدًا شفويًّا بحُسن معاملة زوجته.
ومن غزالة كان يذهب إلى زيارة جدته لأمه وأخواله في الزقازيق، التي تبعد عن قريته بمقدار خمسة كيلومترات، وكان يقضي معهم بضعة أيام، وكان منزل سليمان بك إسماعيل أباظة ملاصقًا لمنزل جدته، وكان صديقًا لأولاده: إسماعيل ونبيل وعايدة ونوال، وكانوا يقضون وقتهم في مرح وسعادة. وكان لهم مربية اسمها «أم حميدة» تحب ثروت وتخصُّه «بالسندوتشات». ولما كبروا كانوا يتذكرون أيام الطفولة الجميلة ويسود الضحك والمعاكسات، وسألهم مرة ثروت عن «أم حميدة» فقالوا: إنها توفيت؛ فانزعج وبكاها بكاءً مُرًّا بعث في نفسه كل ذكريات الطفولة، وهذه الدموع سالت وهو في سن الخمسين؛ فالإنسان يحنُّ إلى من أحاطه بالحب والحنان في بداية العمر.
وكان ثروت ينظر إلى أبي نظرة كلها إعجاب، واتخذه مثلًا أعلى له، واقترب منه سواء بالزيارات أو بالتليفونات، وبادَلَه أبي حبًّا بحب، وأحسَّ فيه بشحنةٍ أدبية تريد أن تنطلق، وكان أبي مديرًا لمديرية أسيوط (محافظًا) فكلفه أن يحضر «بروفات» مسرحيته الشعرية «العباسة» وكانت تمثلها الفرقة القومية على مسرح الأوبرا الملكية، وطلب منه أن يُصحِّح للممثلين النطق والتشكيل، وقام بما كُلِّف به خير قيام، واطمأن أبي على شعره من أن يُفسِد النطقُ الخاطئُ الوزنَ، وزادت ثقته به وزاد الحب أيضًا.
وكان ثروت يكلم أبي في أسيوط ليطمئنه على مسرحيته، وكان أبي قبل نهاية المكالمة يعطيني السماعة ويقول له كلم «عفاف» باعتبار أنني من جيله وأحب الأدب، وكان سني حينذاك ستة عشر عامًا، وكان يحلو لثروت بعد زواجنا أن يقول: إنني كنت أكلم عمي عزيز في أسيوط في عمل، فلماذا كان يعطي لك السماعة؟ يريد أن يقول: إن أبي هو الذي أوحى إليه بفكرة الخطوبة. وترك أبي الوظيفة، واستقرَّ بنا المقام في القاهرة، وكثرت زياراته لنا، وابتدأت بيننا صداقة وتبادل الكتب والمطارحة الشعرية، ثم بدأ الود من ناحيته وطلبتني والدته من زوجة أبي، ولما سئلتُ لم يكن لي عليه اعتراض إلا صِغر سنه والفارق البسيط بيننا في السن.
وفي يومٍ رنَّ جرس التليفون وسأل ثروت: لم لا تردين على التليفون منذ مدةٍ طويلة؟ هل تتعمدين ذلك؟
– نعم.
– لماذا؟
– …
– إنني أطلبكم أكثر من مرة يوميًّا ومع ذلك لا أسمع صوتك!
– إن الامتحانات قد اقتربت وأفضل ألا أشغلك عنها.
– أنت تكتمين عني أمرًا وتدَّخرينه إلى ما بعد الامتحان.
– الحقيقة … نعم.
– فهمت.
كانت هذه المكالمة التليفونية هي بداية قصتنا، فقد صور لي غرور الشباب أنني إذا رفضته وأخبرته قبل الامتحان فسوف أقضي على مستقبله، وأصدمه صدمة لا يفيق منها، ويضيع عليه ليسانس الحقوق وأكون أنا السبب؛ فآثرت أن أبتعد عن طريقه حتى لا يسألني هل قبلتُه أو لا؟
وكنا نستعدُّ لحضور حفلٍ كبير تقيمه جمعية مبرة محمد علي في سميراميس، وذهبت إليه مع أبي وزوجته وأخي، وهناك التقينا به. لم يطُل بي المقام في الحفل وعلى رغم الاستعدادات التي سبقته، وعلى رغم الفستان الجديد الذي اشتريته خصيصًا لهذه المناسبة، وعلى رغم «الكوافير» والتجميل والانتظار؛ فقد أمرني عمي عثمان — وكنت أناديه بابا — بالعودة إلى البيت. ولم أكن قد أمضيت في الحفل أكثر من نصف ساعة؛ ففي رأيه أنه لا يجوز للفتيات أن يوجدن في هذه المحافل العامة، وانصعتُ لأمر عمي ولم أنبس ببنت شفة لأن حق عمي عليَّ هو نفس حق والدي عليَّ.
وفي طريقنا إلى السيارة خرج معنا الشاب المتقدم لخطبتي، وذهب أخي للبحث عن السائق ووقفنا معًا بين السيارات وكان هذا أول موقفٍ عاطفي بيننا.
– أرجو أن تعيدي التفكير، هذا كل ما أطلبه منك. فهل تعدينني بذلك؟
ولم يكن في استطاعتي إلا أن أَعِد، وكان وعدي صمتًا وارتباكًا. ومرت الأيام ونجح في الليسانس، وجاء أبي وعيناه الصغيرتان تشعان سعادة يسألني: ما رأيك فيه؟ لقد كلمني والده اليوم ثانيةً في أمر زواجك، فقولي رأيك؛ فالأمر يخصك أولًا وأخيرًا.
– …
– أنا بالنسبة لك أب وأم؛ فقولي رأيك بصراحة.
– وما رأيكَ أنت؟
– رأيي بعد رأيك. هل لديكِ عليه اعتراض؟ إنه من أحسن الشباب وأكملهم، ثم إن صلته الروحية بي قوية، ونوع تربيته يعجبني.
في الواقع لم يكن لديَّ اعتراض على الشاب نفسه؛ فهو طيب القلب، صافي النفس، لا يشرب، ولا يعرف النساء، وعلى خُلق.
– ولكن يا أبي فارق السن بيننا بسيط، وفي اعتقادي أنه يجب أن يكون الزوج أكثر تجربة وأكثر اختبارًا للحياة؛ ليمكنه أن يقود سفينته برفق، وليمكنه أن يحل ببساطة المشاكل التي تبدو للزوجة صعبة الحل شديدة التعقيد.
– إنني أنا ووالدتك كنا أسعد زوجَين وتمتعنا بسعادة لا يحلم بها أحد، ومع ذلك فقد كان السن بيننا متقاربًا.
لم أجرؤ أن أقول: إن الحب الذي كان يجمع بينكما هو الذي تغلَّب على كل المشاكل وأذاب كل العقبات.
يا بابا، إذا تقارب السن يشعر كل من الزوجين بعدم الثقة في عقلية الآخر، ويصور له غروره أنه هو المتفرد بالرجاحة والاتزان.
– شاوري مخدتك وأجيبيني غدًا. وحتى إذا تمت الخطبة ولم تشعري بالارتياح فيمكن التراجع فيها.
وبقيتُ طوال الليل تنازعني أفكارٌ كثيرة، وتصارعني عواطفُ مختلفة. إنها لأكبر حيرة تملَّكتني، ماذا أفعل؟ ما الذي يقضيه عليَّ الواجب؟ ما الذي يفرضه عليَّ العقل؟
– مبروك؟
قالها أبي وعيناه تلمعان فرحًا.
لم أرَ هذا الرجل في مثل هذه السعادة، إنها ملأت كيانه، وتبدَّت في كل حركة من حركاته وفي كل سكنة من سكناته.
إنه ليهزُّ مشاعري أن أحسَّ أنني السبب في إسعاد الرجل الذي ليس لي في الدنيا سواه، إنني أومن بالحب، ولكنني لا أحس به، ولكن أفلا تعادل فرحة أبي خفقة قلب المحبين؟ والله إنها …
ليس معنى هذا أنني أكره هذا الشاب أو أعترض عليه، لا والله فإنني أحبه كثيرًا وأراه متكاملًا، إلا أنني أشعر بتباعدٍ كبير في أفكارنا؛ فهو إنسانٌ مطمئن النفس لا يرى الدنيا إلا في قالبها الوردي، وأراها أنا قاتمة الوجه، فكيف يُجمع بين النور والحلكة وبين البساطة والتعقيد؟ ثم هو يريد — ككل شاب — أن يكون أبًا ويرى أولاده يمرحون من حوله ويملئون دنياه حبًّا وسعادة، أما أنا فأرى في إيجاد الأطفال جريمة — وهذا الرأي خاص بي — فمن منا يضمن أنه سيعيش حتى يربي أولاده؟ ومن منا يستطيع أن يمنع ما يراه أطفاله بعده من هوانٍ وعذاب؟ ثم إذا جاء الطفل مشوهًا أو متخلِّفًا كيف أغفر لنفسي أنني أنا السبب في ذلك؟ ومن الغريب أن يكون تفكيري على هذا النحو من التشاؤم ولم أكن قد تجاوزت الثامنة عشرة، ولكن قد يكون موت أمي وأنا في العاشرة هو الذي جعلني أصدم في الدنيا وأصدم في الناس، وجعلني أرى ما يخفى عن الأطفال، فالأم تحمي أولادها كالمظلة تقيهم الحر والبرد والمطر، فإن ذهبت كشرت الدنيا عن أنيابها وزمجرت.
تمت الخطبة في منزل والدي بالزمالك في حفلٍ عائلي نظَّمته زوجة أبي أمينة صدقي ابنة رئيس الوزراء السابق ما قبل الثورة إسماعيل باشا صدقي، وأضفتْ عليه من ذوقها الرفيع الرائع جمالًا وأناقة وبقلب ينبض بحب وأمومة.
وقارنتُ بين نفسي المضطربة وبين نفسه المطمئنة الآمنة وخشيت الأيام، كانت فترة الخطوبة عبارة عن تحفُّظٍ دائم من ناحيتي، وعن حبٍّ متدفق كالشباب من ناحيته، كنت أراه كل يوم يتناول غداءه معنا كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ثم يعود في المساء بابتسامةٍ هادئة وبقلبٍ ملتهب.
وفي يوم دخل ثروت إلى الصالون وكنت أطلي أظافري، فجلس إلى جانبي وطلب مني أن يقوم هو بذلك، وطبعًا المقصود لم يكن المساعدة، وإنما المقصود هو تلامس الأيدي، وكان هذا هو نوع الغزل في فترة الخطوبة، وكنا لا نخرج وحدنا أبدًا أيام الخطوبة التي دامت سنتين، وإنما كان خروجنا مع أبي وزوجته ومع أعمامي وزوجاتهم، هكذا كانت التقاليد في هذا الزمن.
وكنت أسأل نفسي هل أستحق منه هذا الحب؟ وكنت دائمًا أجيبها بغرور الشباب واعتقادي أن مثلي يجب أن يُحَبَّ إلى هذه الدرجة بل وأكثر. ولكن مثلي دائمًا تهزُّه العواطف الجياشة الصادقة التي يحسُّها من قلب محب، فلقد وجدتني يومًا وبدون سابق إنذار أشعر بتناقضٍ غريب في مشاعري؛ أحسست بأن هذا الثلج الذي تراكم على قلبي كاد أن يذوب، إنني لم أكن أتصور أن قلبي سيخفق يومًا بالحب، ولكن إذا بي وبعد شهور أسأل ابن خالي وكان أخًا وصديقًا: هل يمكن أن يكون تفكيري الدائم فيه حبًّا؟ وهذا القلق إذا غاب والفرح إذا أقبل أيكون هذا هو ما يسميه الناس بالحب؟ وهذه الخفقات التي تعلو حتى يكاد يسمعها الناس من حولي وهذا اللهيب الذي يطفو من القلب إذا هو ناداني أو نطق باسمي، إذا كان هذا هو الحب فأهلًا به بعد طول الغياب.
وكانت أيام الخطوبة تعني بالنسبة لي لهفة وحبًّا من الخطيب، وهدوءًا ورزانة من الخطيبة، وليس عليها أن تُبدي مشاعرها بل عليها أن تستقبل المشاعر الجياشة بشيء من الكبرياء، وكنت لا أسمع منه إلا الكلمات الحلوة الرقيقة، ولكن للأسف لم يكن في مقدوري أن أُسمعه بدوري كلماتٍ جميلة؛ فقد كانت تقف في حلقي وتظل حبيسة به. وبقيتُ على هذه الحال بعد زواجي بسنوات طويلة. ولو كان يسمع نغمات قلبي وخفقاته لشعر بالزهو والثقة بالنفس. وإني لأندم الآن لأنني حرمته من المشاعر التي يحب الشباب أن يشعروا بها، وأنني ظلمته. ومشكلتي كانت في كبريائي وخجلي، وما حيلتي؟ فهذا هو قدري. ومع أني ألوم نفسي الآن بعد ما علت بي السن، وأقول يا ليتني ويا ليتني … غير أنني واثقة أنه لو عاد بي الزمن إلى الوراء ما كنتُ غير الذي كنته، وتذكرت بيت الشعر الذي تعلمته من أبي وأنا طفلة وهو:
فما حاجتي للكلمات؟
وقد لامني إخوتي على ذلك؛ أختي الكبرى فردوس وأخي واثق، وقالا لي: إنك تعاملينه بشراسة، وهذا طبعك منذ طفولتك؛ فقد كنتِ دائمة الشجار معنا ومع أقاربك الذين من سنك، ولم أفصح لهما بالطبع عن أسباب هذه المعاملة.
وبدأ الإعداد للزواج، ولم يقبل أبي المهر من دسوقي باشا كما فعل مع أختي الكبرى، ولكن زوجة أبي — ولا أحب أن أدعوها كذلك لأنها أمٌّ بكل ما تحوي هذه الكلمة من معانٍ — تدخَّلت وأصرَّت أن يحترم أبي التقاليد؛ فوافق أبي على مضض واشترى لي بالمهر «بروشًا» من الماس، ولكن للأسف لم أتزيَّن به لأنه كان كبير الحجم وأكبر بكثير من «البروشات» التي تتزين بها صديقاتي، وأُقيمَ الفرح في منزل دسوقي باشا، وكان المدعوون من السيدات فقط، وأما الرجال فكانوا أقرب المقربين لي ولثروت، وكانت «الكوشة» عبارة عن ستائر من الحرير الأبيض مُطرَّزة بالخيوط الذهبية، وكانت زوجة أبي قد قضت صباح يوم الفرح في إعدادها.
وبدأت الزفة، وهي في نظري الدقائق العصيبة التي تمرُّ بها كل فتاة، يقولون: إن هذه الدقائق لا تُحسَب من العمر، وهي فعلًا لا تُحسَب من العمر لأنها تُخرج الفتاة عن الشعور بالحياة، فأمام كل هذه العيون التي تنظر في لحظةٍ واحدة إلى شيءٍ واحد لا يسعها إلا أن تكفَّ عن الحياة، وبينما أنا خارج الحياة لم أرَ إلا عيون أبي تتابعني وبجانبه أم كلثوم، واستطعت أن أسمع أغنية الزفاف التي سمعتها أجيالٌ من قبلي وسيسمعها أجيالٌ من بعدي. وبعد انتهاء السهرة جاءت زوجة عمي أحمد وقالت لي: هيا غيِّري ملابسك لتذهبي مع زوجك إلى فندق مينا هاوس، فقلت لها: ولكنني لم أستأذن أبي ولا أعمامي، فنظرتْ إليَّ طويلًا لتتأكد أنني لست بلهاء. وفي اليوم التالي ذهبنا إلى الإسكندرية، وبدأ شهر العسل، ونزلنا في فندق البوريفاج، وهو من أهم الفنادق هناك، وأخذنا نتجوَّل في البلد، وذهبنا إلى محل هانو، وكان صورة طبق الأصل من محلات باريس، ولفت نظري نوع من العطر، وقلت: إنني أحب هذا العطر ولم أشتره لأنني كنت قد اشتريت في جهازي كل ما أريده ولا ينقصني شيء، ولما عدنا إلى الفندق قدَّم لي ثروت هذا العطر الذي أُعجبت به، وبدلًا من أن أفرح به وأشكره قلت له في سخافة: لماذا اشتريته؟ فقد كنت أستطيع أنا أن أشتريه، ولكني تذكرت أن عندي منه ما يزيد عن حاجتي. ولن أقول ماذا حدث، غير أنني أستحق منه أي رد فعل ممكن؛ فهو شاب في الثالثة والعشرين من عمره وتزوج منذ يومين ويريد أن يشعر أنه زوج وأنه مسئول عن زوجته، فقد صدمت عنده كل هذه المشاعر بغطرستي، وقضينا أسبوعًا ولم أكن أتناول فيه من الطعام إلا الشاي، ونزل وزني خمسة كيلوجرامات؛ لأنه في اعتقادي أنه لا يصح أن يتكفل هو بمصاريفي، إلى أن جاء عمي أحمد وزوجته إلى الإسكندرية ودعونا على العشاء في مطعمٍ معروف هو «سانتا لوتشيا» وأكلتُ وعوضت الأيام التي لم أتناول فيها الطعام لأن عمي هو الذي دفع. وكان يحلو لثروت أن يروي هذه القصة فيما بعدُ ويقول يا ليتها بقيت كما كانت في شهر العسل. وطبعًا مع مرور الزمن تغيَّرت هذه الأفكار نهائيًّا.
وانتهى شهر العسل على خير وعُدْنا إلى بيتنا الجديد في الزمالك في شارع الكامل محمد، وكانت شقة أثثتْها زوجة أبي بذوقها الرفيع. وفي أوائل أيام زواجنا ذهب ثروت إلى أبي ليسأله عن المبلغ الذي يكفي مصاريف بيتنا في شهر، فكان أبي رحيمًا به وحدَّد مبلغًا يكفينا أكثر من أسبوع؛ لأننا كنا نذهب إلى السينما مرتَين في اليوم على الأقل، ونذهب إلى المسرح مرتَين أو ثلاثة في الأسبوع، ونتناول غداءنا أحيانًا في مطعم «نيو كورسال» وعشاءنا في كازينو الحمام، وبعدما تنفد مرتباتنا يمسك كل منا التليفون لأبيه فيلقنوننا درسًا طويلًا في التدبير ثم يهبُّون إلى نجدتنا.
وابتدأنا نستضيف شقيقتَي ثروت، وقد أحببتهما وأحبتاني، وكنا ننتظر زيارتهما بفارغ الصبر كل أسبوع، كانتا في بواكير الشباب في الخامسة عشرة والثالثة عشرة من عمرهما، وكانتا تعتبران زيارتهما لنا حلمًا من الأحلام؛ ففي بيت أبيهما لا يخرجان إلا مرة كل شهر، وبعد رجاء مُلحٍّ منهما وترددٍ طويل من الأهل، فقد كان خروج البنات في ذلك الوقت نادرًا، وبلغ من شدة سعادتهما أن اصطحبتا معهما في الأسابيع التالية ابنة عمهما سلوى وكنت أقول لهما ضاحكة: من قال لكما إننا سنتحمل الضيف الثالث؟ ألا يكفي ضيفتان؟ أهو ذنبنا أننا رحبنا بكما، وكانت الضيفات الثلاث مستعدات أن يتحملن هذه المداعبات بل وأكثر منها ما دمن يخرجن ويسهرن ويتسلَّين.
وبعد يومٍ مشحون بالأفلام والمسرحيات ذهبن إلى فراشهن ونادين عليَّ لأسهر معهن وأخذنا الحديث والسمر إلى ما بعد منتصف الليل، ولما أردت العودة إلى حجرتي كن يمنعنني باحتجاجٍ شديد، ولما حاولتُ الخروج أقفلن الباب بالمفتاح، لنستأنف معًا الضحك والمرح، ولم يكتفين بهذا بل كن يقصصن على أبيهن أخبار السينما، فكان يعنف زوجي ويمنعه من اصطحابهن بهذه الكثرة إلى الملاهي، وكان زوجي يقول لهن: أنا لا أجني من إكرامي لكن إلا التعب والتعنيف. وحدث أن احتاج زوجي لجراحة استئصال الزائدة وكانت عمليةً كبيرة نظرًا لتأخر التشخيص وتأخر التنفيذ.
وحدَّدنا اليوم وذهبنا إلى المستشفى بتشجيعي وتشجيع زوجة أبي؛ فقد كنا نراه متعبًا متألمًا وعصبيًّا، وأُجريت العملية، التي تستغرق في العادة نصف ساعة، في ساعتين، وتوترت أعصابنا جميعًا وخفقت قلوبنا، ولم أحتمل نظرات والدته اللائمة؛ فهي طبعًا لم تكن موافقة على الجراحة، واعتبرتني بطيبة قلبها وتلقائيتها مسئولة عن هذا الموقف الدقيق. وخرج أخيرًا إلى غرفته وهو ما زال تحت تأثير المخدِّر الثقيل، لا يكاد ينطق إلا باسمي. ودخل أبوه وقلبه يملؤه القلق، ووقف إلى جانب سرير ابنه ينظر إليه، ويسمعه يناديني ويمدُّ لي في الهواء ذراعيه؛ فطلب مني الأب أن أقترب، وكنت واقفة بعيدًا محرجة من هذا الموقف العاطفي أمام الأهل، واقتربتُ بعد تردُّد وبحذرٍ شديد، وأخذ يكلِّم — وهو نصف نائم — الممرضة الإنجليزية بلُغتها ويحكي لها عن حبه لي. وما إن أفاق واستعاد نفسه حتى بدأت المناقشات من جديد، وكان الصراع بين الكبرياء والكبرياء، بين الحب والحب، واستمر سنوات وسنوات كنت أحسُّ بحبه الجارف لي؛ فتجبَّرت وأخذت أثبت وجودي وأدافع عن كياني بقوة الشباب. عاتبته على الهفوة، آخذته على نغمة الصوت وعلى خائنة الأعين وما تخفي الصدور، تخاصمنا، وتقاطعنا، وترك كل منا البيت، ولكن الحب الكامن في قلبينا كان يشفع لكل هذا، وكان الحب المتدفِّق يعيدنا إلى البيت دائمًا.
وكانت عقدة حياتي هي أنني أريد أن يعاملني كخطيبة وليس كزوجة، فقد كان الصوت خافتًا والكلمات رقيقة، أما بعد الزواج فيرتفع الصوت من القرار إلى الجواب والرقة تقلُّ تدريجيًّا، وكان كلما كلَّمني بطريقة الأزواج تصدم مشاعري فأجيبه بعدوانية، وهو طبعًا لا يفهم السبب، فيحار ويتعجَّب، ثم يغضب — ومعه الحق — ولولا هذه العقدة لسارت حياتنا في مسارٍ أهدأ، وبقينا على هذه الحال سنوات، ولكن أحمد لله أن مدَّ في عمر زواجنا واستطعتُ أن أقبل الأمر الواقع، وأن أكون زوجة ككل الزوجات وأن أُعوِّضه عن بعض ما فات، ولكن كنا قد وصلنا إلى الكهولة، وشتان ما بين الشباب والكهولة!
وفي أوائل سنوات الزواج كان معتادًا أن يسافر إلى قريته «غزالة» من وقت لآخر، وسافر مرة وكلمني بالتليفون عند وصوله إلى هناك مساءً، وفي أثناء المكالمة احتدَّ أحدنا على الآخر؛ فأغلق التليفون في وجهي، وجُنَّ جنوني، ولم يكن عندنا اشتراك للاتصال بخارج القاهرة، وبقيتُ والدم يغلي في عروقي إلى أن طلبني ثانيةً فأسرعتُ وأقفلت التليفون في وجهه؛ واستطعت أن أنام. وعندما عاد وزال الغضب قال لي: إنني طلبتك ثانيةً لأنني أعرف أنك لن تنامي قبل أن تردِّي الإهانة؛ فأردت أن أمكِّنك من ذلك، وهذه القصة على رغم بساطتها إلا أنها أثَّرت في نفسي ولا أزال أذكرها حتى الآن.
ذهبنا يومًا لزيارة عمة لنا، وأثناء مرورنا بالحديقة تعثرت قدمي وكدت أن أقع؛ فصرخ زوجي صرخةً عالية خوفًا عليَّ ولهفة، ولكن ما كان مني إلا أن قلتُ له: لا تصرخ هكذا! فتملكته الدهشة واعتبر هذا برودًا مني، وقال لي إنني لا أستحق منه هذه اللهفة.
والواقع الذي لم يفهمه زوجي إلى آخر وقت من عمره هو أنني خجلت أن يسمع أحد صرخته ويعرف ما بيننا من مشاعر، وأظن أنه لم يخطر بباله هذا الخاطر، ولكن هذا ما شعرت به وخجلت أيضًا أن أشرح له حتى بعد مضي السنين، إلا أنها أثرت في نفسه، وكنا نقضي شهور الصيف في الإسكندرية ولم نكن قد رُزقنا بأبنائنا بعدُ فكنا أحرارًا كالطيور في السماء نذهب حيثما نشاء في أي وقت نشاء، وكان مكاننا المفضل هو نادي السيارات حيث نشاهد غروب الشمس ونتابعها وهي تغيب رويدًا رويدًا وبتؤدة وجلال في البحر، وكان منظرها يملأ نفوسنا سعادة وانشراحًا، وبعد المغيب نقضي الوقت في ترديد الشعر؛ يقول كلٌّ منا أجمل ما يحفظه منه، أنا أقول شعر أبي في الغزل وهو يقول شعر شوقي.
ويمضي الوقت ولا نكاد نشعر بمروره، وكان زوجي يقول لي إنه حفظ الشوقيات في رأس البر، وإنه كان يقرؤها في ضوء القمر، وكنت أقول له: إن أبي كان يعلمنا الشعر ونحن أطفال؛ أختي وأخي وأنا، وكان يقوله ونحن نردده وراءه حتى نحفظه، وكنا نحفظ الشعر خصيصًا لنستعمله في المطارحة الشعرية التي كنا نقتل بها ملل السفر الطويل.
وسافرنا مرة إلى أسوان والمسافة طويلة بينها وبين القاهرة، وقطعنا الوقت بالحديث والقراءة، ثم أخذ هو يقول الشعر، وهو من أكثر الناس حفظًا للشعر، وأخذ يتغنى ساعاتٍ طويلة بشعر أمير الشعراء أحمد شوقي؛ إلى أن استبدَّ بي الغضب وتجهَّم وجهي على الرغم مني، ولما سألني عن السبب لم أقُلْ له شيئًا، ولكن الواقع أنه لم يذكر بيتًا واحدًا من شعر أبي، وأنا أعرف أنه يحفظ منه الكثير، ويعجب به أشد الإعجاب.
ووصلنا إلى أسوان «بتكشيرةٍ» كبيرة مني ودهشة وتعجب منه. وفي أوائل شهور زواجنا طلب عمي أحمد — وأنا أناديه يا بابا كعادة أهل الريف — من زوجي أن يذهب إلى منزل فنانة معروفة جدًّا حينذاك، وكان يُقال إنها لا تقاوَم، فحاولت أن أعترض ولكني لا أستطيع أن أردَّ لعمي طلبًا، وطلب منه أن يُتمَّ معها إجراءات شراء سيارتها، وكانت قد عرضتها للبيع حينما تلقَّتها هدية من أميرٍ عربي. وذهب ثروت في الميعاد واستقبلته الفنانة بقميص نوم و«روب» شفافَين يظهران أكثر مما يستران، وتمت الصفقة وأعطته مفاتيح السيارة، وكان مكتوبًا على السلسلة غزل في عيون الفنانة. وحكى ثروت لعمي ما رآه، وندم عمي على أنه لم يذهب بنفسه، وعاد زوجي إلى بيته سالمًا.
ومن مداعبات بابا أحمد لنا هذه القصة؛ فقد كنا نخرج كثيرًا في أوائل سنوات الزواج، وكنا نذهب إلى السينما مرتَين في اليوم، وكانت لي صديقةٌ شابةٌ مطلقة وعلى خُلقٍ عظيم، فكنا دائمًا ندعوها للخروج معنا؛ لأنه في ذلك الوقت لم يكن مسموحًا لشابة في سنها أن تخرج وحدها أو حتى مع صديقات لها؛ فكانت تخرج يوميًّا معنا، وكنا جميعًا سعداء بذلك. وفي يوم كنت أزور عمي فقال لي أتخرجين دائمًا مع صديقتك فلانة؟ قلت له نعم، فقال لي: إن والدتها قالت لي إنها تتمنى لو أن ابنتها تتزوج من ثروت.
على رغم أنني أعرف أنه يمزح إلا أنني قلت لنفسي وما أدراني لعلهم يفكرون في ذلك فعلًا؛ فإذا بي أنقلب ١٨٠ درجة من ناحية صاحبتي المظلومة، وقررت ألا أدعوها للخروج معنا بعد ذلك. وفي يوم قال لي زوجي: هيا نذهب إلى السينما وكلمي صديقتك لتأتي معنا، فإذا بي أنفجر فيه وأحاصره بالأسئلة؛ فبُهت ولم يجب. وهكذا كانت دعابة عمي سببًا في حرمان صديقتي من الخروج. ولكن صداقتنا بقيت كما هي؛ فهي لا ذنب لها إلا أنني أخذت دعابة عمي مأخذ الجد، وظلت هي حبيسة المنزل إلى أن تزوجت مرةً أخرى وأُفرج عنها.
وأول مرة سافرنا فيها معًا إلى أوروبا كانت في يناير سنة ١٩٦٧م، فقد فاجأنا صديقنا «محمود خضر» وكان عضوًا بارزًا في المخابرات العامة، وفي نفس الوقت كان زوجًا لراوية أباظة وهي من أقرب المقربين لنا؛ فاجأنا حين قال لثروت: «استطعت أن آخذ لك ولزوجتك إذنًا بالسفر إلى الخارج.» وكان السفر في هذا الوقت من أصعب الأشياء، وكان في أضيق الحدود لا يُسمح به إلا للمرضى، وحتى المريض الذي يحتاج إلى العلاج في الخارج يُعرض على «قومسيون» طبي للتأكد من مرضه، وقد يُعقَد هذا «القومسيون» بعد أن تسوء حالة المريض، ولكنه يضطر للانتظار حتى يأتي دوره، ولا يحصل على قرار «القومسيون» إلا المريض سعيد الحظ. كان هذا بالنسبة للمريض فما بالك بالسليم؟ تملكتنا فرحةٌ غامرة وكنا لا نكاد نصدق أنفسنا؛ فلسنا ضباطًا أو مشرفين على الموت حتى يُسمح لنا بالسفر، وشكرنا صديقنا «محمود خضر» ولم ننسَ له هذا الجميل إلى الآن. وبعد الفرحة والسعادة تذكَّرنا أننا لا نملك تكاليف السفر، وما هي إلا ثوانٍ ووجدتني أذهب إلى أبي وأقصُّ عليه ما حدث؛ فقال دون تردد: «دي فرصة ما تتسابش.» وتكفَّل على الفور بتكاليف سفري أنا وثروت، فأخذ يبحث عن وسيلة إلى أن اهتدى إلى طريقة تحقق له هذا السفر، فقد اتصل بناشر لبناني كان قد نشر له كتابًا وطلب منه، بوسيلة أو بأخرى أن يحول مستحقاته من لبنان إلى سويسرا على بنك في جنيف، وهذا البنك يتعامل معه صديق له.
وتم الاتفاق وسافرنا، وكان سفرًا مباركًا، ففي روما أول محطة لنا وجدنا السيدة «قوت القلوب الدمرداش» وهي صديقة للعائلة الأباظية، وكانت قد غارت مصر مع أولادها بعد الثورة لأنها كانت من أغنى الأغنياء، ووُضعت تحت الحراسة واستولت الحكومة على بيتها الذي كان يطلُّ على كوبري قصر النيل. خصصت لنا هذه السيدة الكريمة سيارة «مرسيدس» يقودها ابنها الأكبر لنتجول بها في روما، وكان ثروت مُصرًّا أن يرى تمثال «موسى» لمايكل أنجلو، ولم يكن موجودًا في متحف إنما كان في مكان على ربوة في وسط المدينة، فأخذ سائقنا وهو ابن صديقتنا يسأل ويبحث إلى أن وجدناه. ولهذا التمثال قصةٌ شهيرة حكاها لي أبي وأنا طفلة «وهي أن صانعه الفنان العظيم بعد أن أتم نحته نظر إليه فأُخذ بعظمته فلم يتمالك من أن يأخذ عصاه ويضربها على التمثال ويقول له: انطق!» وتم لزوجي ما أراد. وكان سفير مصر في إيطاليا هو المربي الكبير «نجيب هاشم» الذي كان ناظرًا على ثروت في المدرسة الثانوية، ويعرفه جيدًا لأنه كان يشكوه دائمًا لوالده دسوقي باشا لتأخره عن ميعاد الدخول صباحًا. وعاملنا «نجيب بك هاشم» كوالد وعرَّفنا بعائلته الكريمة وأحببناهم جميعًا. ولا أنسى سفيرنا في الفاتيكان «محمد التابعي» وزوجته فهما أصدقاء الأسرة أيضًا، وكيف اهتما بأمرنا، وتبادلت زوجت السفيرة «نجيب بك هاشم» وزوجة السفير «محمد بك التابعي» الاهتمام بي وخصوصًا في الذهاب إلى المحلات، وكانت كلٌّ منهما تصحبني إلى المحل المُفضَّل عندها، وكنت أجد نفسي مضطرة للشراء مجاملةً لهما مع أن الميزانية لم تكن في منتهى الازدهار. وعند سفرنا من روما إلى باريس أوصلنا مستشار السفارة وكان زميلًا لثروت في المدرسة بسيارته «المرسيدس» إلى المطار، وفي باريس قابلنا «إبراهيم الدسوقي أباظة» الذي كان يُحضِّر الدكتوراه هناك وهو المحامي والكاتب الكبير الآن في جريدة الوفد، وقد تنازل لنا عن شقته الكائنة في شارع «جان جاك روسو» واستعار سيارة صديق له لنتجول بها في باريس وضواحيها. واستقبلنا في مطار باريس أيضًا «إبراهيم أباظة» وكان يعمل في شركة مصر للطيران، وكان يلازمنا دائمًا ويدعونا إلى منزله على أكلاتٍ مصرية تصنعها زوجته الجميلة أمينة. ومن باريس ذهبنا إلى لندن، وهناك وجدنا صديق زوجي المقرب جدًّا إليه وقد ترجما معًا أعمال «همنجواي» و«شتاينبك» وهو «عبد الله البشير» وكان ملحقًا ثقافيًّا هناك ويملك ناصية اللغة الإنجليزية، وقد تولى أمرنا طوال إقامتنا في لندن. كل هذا الإكرام في هذه الرحلة كان راجعًا للصداقة الشخصية فقط، ووجد ثروت كل شيء سهلًا ميسَّرًا على الرغم من أن المسافر لأول مرة يجد صعوبة في التعرف على معالم المدينة وفي المواصلات. وكنت أقول له: إن صفاء نفسك وطيبة قلبك جعلنا نسافر كالملوك على رغم أنه ليس لك أية صفةٍ رسمية وإنما أنت محاط بحب الناس واحترامهم.
وكتبتُ لأبي أشكره وأطمئنه علينا فهو يعلم أننا نسافر لأول مرة، وقلت له: إننا سعداء جدًّا وننتقل في جولاتنا من مرسيدس إلى مرسيدس.
ولما عدنا إلى القاهرة استقبلَنا أولادنا في المطار، وكان دسوقي يحمل في يده «برطمانًا» صغيرًا لوَّح به في وجهنا وهو في غاية السعادة، وقال: «لقد عملت عملية المصران، أهو في البطرمان.» فانزعجنا وضمه أبوه إلى صدره وقال له: «لن أغيب عنك أبدًا مرة ثانية.» فبكى دسوقي وكان في الثامنة من عمره، فنظر إليَّ ثروت وقال لي بيتَين من شعر أمير الشعراء عن أولاده:
ولما بدأ في كتابة القصص القصيرة كتب قصةً قصيرة، أخذ يتغزَّل فيها في جمال بطلتها وفي شعرها الذهبي المنسدل على جبينها وعلى كتفيها، وفي عينيها الزرقاوين الواسعتين؛ فتملكني الغيظ لأن هذه الأوصاف لا تنطبق عليَّ على الإطلاق، فخبأت القصة في حصن حصين لأُثير غضبه.
وعندما عاد من الخارج سأل عن «الكشكول» الذي كتب فيه قصته فقلت له: إنني لم أره. فثارت ثائرته، ولما بلغتُ مأربي في إثارته أظهرتُ له القصة، وقلت له: «أنت عندك عقدة الخواجة.» هل تعتقد أن الشعر الذهبي والعيون الزرقاء هي الشرط الوحيد للجمال؟ فقال لي منتقمًا أنا أعجب كثيرًا بالشقراوات.
وكان لا يحب المرأة المتكلِّفة التي تبالغ في إظهار زينتها، ويحب فيها أناقتها وبساطتها، ولا يحب المرأة التي تتكلم في المواضيع العامة كالسياسة مثلًا بحدَّة مثل الرجال، ولا يحبها أن تحاول في مناقشتها أن تحل مشاكل الشرق الأوسط. وكان له مناقشةٌ قاسية مع سيدة تتكلم عن الذرَّة والإشعاع وهي ليست متخصصة، ولم تشفع لها أنوثتها عنده.
وأحب أن أضيف أنه كلما رأى المذيعة الجميلة نجوى إبراهيم على شاشة التليفزيون كان يقول لها من على المقعد وهي على الشاشة ولا يبالي بوجودي ويقول بصوت عالٍ: «أنت قمر!» ويتكرر هذا الإعجاب كلما ظهرت أمامه.
كان لا يفوته مسلسل في «التليفزيون» وكان يتابعه باهتمامٍ شديد ويقول لي: «هذا بالنسبة لي شغل.» أما أعماله «التليفزيونية» فقد اعتاد أن يرى بعضها مختلفةً تمامًا عما كتب، ولكنه كان يقول: «أنا مسئول عن كتابتي فقط.» وكان له مسلسل في السبعينيات فيه طفلٌ حديث الولادة تحمله أمه بين ذراعَيها، وكان والده في سنة أولى في كلية الطب، وتخرَّج الأب بعد سبع سنوات ولا يزال الطفل محمولًا على ذراع أمه، وفي نفس حجمه عندما وُلد، ولم يتمالك زوجي أن يطلب المُعدَّ ويصرخ فيه: ماذا فعلتم بكتابي؟! وعُرض له فيلمٌ سينمائي لا يمتُّ لكتابه بأية صلة ولكنه فقط يحمل اسمه.
وكان يحب أن يشاهد أفلام الفيديو ويقول: إنني أنا الذي أُقرِّر ما أريد أن أراه، لا يتحكم فيَّ أحد (يقصد التليفزيون)، ويطلب مني دائمًا أن أذهب إلى مكتب الفيديو في الزمالك لأختار له أفلامًا مسلية وخفيفة، ويقول لي: عندما أعود من عملي لا أحب أن أتعب ذهني فاختاري لي أَتْفه الأفلام. فأذهب إلى مكتب الفيديو وأختار فيلمًا تافهًا، فترشِّح البائعة فيلمًا جادًّا فأقول لها: أعطيني فيلم «الفول صديقي» وفي يومٍ آخر تعرض عليَّ فيلمًا تاريخيًّا معروفًا فأقول لها بل أعطيني فيلم «تجيبها كده تجيلها كده هي كده»، وفي اليوم التالي لم أذهب بنفسي وإنما أرسلت السائق، فلما عاد قال في انفعال ظاهر: البائعة قالت لي «كلام وحش أوي».
– ماذا قالت؟
– قالت كيف يستطيع ثروت أباظة أن يعيش مع هذه السيدة وهي بهذه العقلية التافهة؟
فضحكتُ لأني لم أشاهد هذه الأفلام بالمرة، بل أحيانًا أنظر إليها ولا أتتبعها فأنا لا أطيق التفاهة بطبعي، ولكني أتفهَّم رغبة زوجي في مشاهدة هذه الأفلام، فرأسه مشحون بقضايا كثيرةٍ متنوعة، وهي مسئولية كبيرة تتعب تفكيره وترهقه؛ فيحاول أن يخفِّف منها قبل النوم، ولكن حاسته الفنية كانت تغلبه، وكان يسعى إلى مشاهدة أفلام نجيب الريحاني كلها في الفيديو، كل ليلة يشاهد فيلمًا ولما تنتهي الأفلام كلها يعيدها من جديد، وكان يحفظ كثيرًا من حوارها، وعلى رغم إعجابي الشديد بنجيب الريحاني إلا أنني لم أكن أحب أن يشاركنا حياتنا بهذا الشكل.