مواقف للأستاذ أنيس منصور
ذهب رجلٌ شجاعٌ فصيحٌ بليغ، هدفه الصدق، وأسلوبه الأدب، وأمله الشرف، وبرغم اشتغاله بالصحافة فقد عمل بشروطه هو؛ فكان قوي العبارة، متين البناء، وقدَّم إلى الأقلام عبارات القدماء التي لم يعُدْ أحد يستخدمها بهذه القوة والجمال؛ حرصًا منه على إحياء القديم الأنيق في لغتنا البديعة، وكثيرًا ما كان يستدعي شعراء قدامى لمعنًى جديد، فأسعفه الشعراء والبلغاء، ولم يكن استعراضًا لكنوزه الأدبية واللغوية والفقهية والقانونية، وإنما هي قدرته على أن يوظِّف الماضي في خدمة الحاضر، ولم يكفَّ عن نقد فلول الناصرية والشيوعية، وعلى الرغم من أن الشيوعية قد تلاشت من الدنيا فلا زال لها ذيول وبؤرٌ سامة في مصر.
فلم يكن كاتبنا الكبير ثروت أباظة ضيق الأفق، أو متعصبًا ضد الشيوعيين أو الناصرين أو الهجاصين، وإنما كان ضد القيود، وضد التعصب، وضد الكذب، وكلها صفاتهم. وكما كان ثروت أباظة غيورًا على الفن والصدق والجمال؛ كان غيورًا على الإسلام ودينه، ولم يغفل لحظةً واحدة عن المتربصين بالإسلام باسم الإسلام أيضًا، وكان ثروت أباظة جنديًّا منضبطًا برغم مرضه الثقيل عليه وعلينا؛ فلم يتخلَّف عن جلسات مجلس الشورى إلا نادرًا، وكنا نشفق عليه داخلًا خارجًا، لكنه قرَّر أن يمشي على قدميه إلى قبره، لم ينتظر النهاية وإنما كان إذا أحسَّ بدنوِّها اتجه إليها، فما أقرب الألم لصاحب القلم!
والذين لم يعرفوا «ثروت أباظة» إلا أخيرًا، لم يدركوا فيه المرح والنكتة والحكايات التاريخية وميلاد أكثر الأدباء والفنانين في بيت أبيه الأديب دسوقي باشا أباظة، ولا عرفوا ولائم «العدس الأباظي»، ولا كيف احتفل بأول مكافأة عن أول قصة نشرتها له في مجلة «الجيل» سنة ١٩٦١م، أما الأجر فكان خمسة جنيهات، وأصرَّ على أن يتقاضاه، وأقام وليمة تكلفت مئات الجنيهات! فالفلوس لا تهمُّ ولكن المكافأة عن العمل الجميل المنشور هي التي تهمُّ كثيرًا. مات فلاح الباشوات وباشا الأدباء، وفارس الصدق، وعابد الجمال. إنه الألم مراد القلم.