أبوَّة حانية وتدليل
وبعد مضي خمس سنوات رزقَنا الله بأول طفلة وأسميناها أمينة على اسم زوجة أبي أمينة صدقي، وهي الأم التي أكرمنا بها الله بعد وفاة أمنا، وقد أسميناها على اسمها، وهو أقل ما نستطيع أن نُظهِر لها به مشاعرنا. ومضى العهد الذي تصرَّفنا فيه كشبابٍ مدلَّل، وبدأ كل منا يمد يده للآخر ويسانده بكل ما أوتي من قوة، ويعتبر كلٌّ منا الآخر كهفه الذي يحميه من الأيام. ولكن بدأ الخلاف على تربية الأولاد؛ فويل للأم من أول طفل، وويل للطفل من أول أمومة؛ فالطفل الأول يعاني من عدم خبرة أمه، والأم تعاني بدورها لأنها لم تتعامل قبل ذلك مع هذه المخلوقات الصغيرة؛ فكلاهما مُعذَّب.
بعد عامَين جاءنا دسوقي وهو على اسم دسوقي باشا والد ثروت، بدأت الخلافات لأنني كنت أريد الدقة في المواعيد وفقًا لما قرأتُ في كتب تربية الأطفال، وكان زوجي يسخر من مواعيدي ومني ويوقظ الأولاد بعد أن يناموا لأنه اشتاق لهم، وكان عليَّ أن أُكرِّر المجهود الشاقَّ الذي تعرفه كل أمٍّ عندما تُنيم أطفالها، ولم يكن أطفالي ممن ينامون بسهولة. كنت أُبالغ في التمسُّك بالقواعد الصحية وكان زوجي يقول لي: الريف فيه أطفالٌ أكثر مما يجب، ولا يراعي أحد هناك القواعد الصحية. وتمر الأيام ويتكوَّن في بيتنا حزبان؛ حزب فيه زوجي والأولاد، وحزب أنا فيه وحدي؛ هم يريدون الفوضى وأنا أريد النظام، هم يريدون التسامح في الغلط وأنا أريد الضرب على أيدي هؤلاء الأشقياء الصغار، هم يريدون التربية الحديثة وأنا أريد التربية القديمة، هم يريدون السهر أمام شاشة التليفزيون في السن الصغيرة وأنا أريد النوم المبكر، هم يريدون — وبخفَّة دمٍ — الحرية وأنا أريد — بجدية — الضبط والربط. وكنت أحيانًا أشك في أدائي لأنني وحدي ضد الأغلبية.
وكنتُ كلما حاولتُ أن أوجههم فقط على المائدة غضب ثروت وقال: دعينا (أي هو والأولاد) في حالنا وكفى نكدًا.
– ولمَ تُدخل نفسك مع الأطفال وأنا لم أوجه إليك الحديث؟
– أنت دائمة الانتقاد ولا تدعين الأولاد وشأنهم.
– إنه واجبي، ويجب عليَّ أن أعلمهم كيف يأكلون، وإذا لم أفعل فمن يفعل؟ وإذا لم أقم بواجبي فما جدوى وجودي في الدنيا؟
– إنني لا أحتمل أن أرى أولادي باكين دائمًا.
– إنني أربيهم.
– بالله دعينا وشأننا.
وتنتهي المناقشة بأن أترك الغرفة محتجة وأجلس وحدي، ويبقى هو والأولاد سعداء هانئين.
ويرى زوجي أنني إذا طلبت من أمينة طلبًا ورفضت وعاقبتها أنا وعنفتها فأنا ظالمة، وإذا شكت لي ناظرة المدرسة أحد الأولاد وأخذتُ جانبها فأنا أمٌّ غير طبيعية وأريد أن أدعي العدل؛ وما عليَّ إذن إلا أن أتحمَّل اعتراضات زوجي وتمرد أولادي ولكن لا أكفُّ عن التوجيه.
كانت عادتنا في الشتاء أن نأخذ أولادنا معنا في الغرفة وأمامنا التليفزيون في ليلة الأحد وهي ليلة عطلة المدرسة، وفي مرة حرمت أمينة — وكان عمرها أربع سنوات — من مشاهدة التليفزيون معنا عقابًا لها على ذنب لا أذكره الآن، وكانت تفتح الباب علينا وتقول في عذوبة مصطنعة: أنا غلطانة، أنا وحشة.
ثم تغلق الباب وتختفي قليلًا ثم تعود وتقول في رقة تمثيلية: لك حق تذنبيني يا مامي.
وتغلق الباب وتختفي ثانيةً؛ فنظر إليَّ ثروت في تحدٍّ وقال: إن لم تأتِ أمينة معنا الآن فسأبكي.
وهكذا كان عطفه وحبه لأولاده زائدًا عن الحد.
وتستطيع الشيطانة الصغيرة أن تناقش ساعات وساعات دون ملل، شعارها «أنا وبعدي الطوفان.» وتعود وتقول وهي في الخامسة عشرة: هاتي يا ماما العطر الذي تستعملينه.
– لماذا؟ إنني أحبه.
– وأنا أيضًا، ثم إن عندك غيره.
– وأنت أيضًا.
– أعطيني نصفه.
– أهذا استخسار؟
– إذن أعطيني هذه الأسورة التي في يدك.
– أنت لا تلبسين ولكنك تضيعين.
– أعطيني ظل العين.
– إن حجرتك تفيض بأدوات الماكياج، فهل هذه الأدوات القليلة هي التي تعجبك؟
– أنا شابةٌ صغيرة.
– وأنا ما زلت على قيد الحياة ومن حقي أن أتجمَّل ما دمت لا أحرمك من شيء.
– أعطيني الكتاب الذي تقرئين.
– إنني لا أستطيع أن أحصي عدد الكتب التي بدأتها ولم أكملها بسبب مصادرتك لها، قولي بالمرة: إنك تريدين الهواء الذي أتنفسه.
– أريد الهواء الذي تتنفَّسينه.
وتبتسم ابتسامة فداؤها الحياة.
ودخل أبوها وهي تطلب مني الهواء الذي أتنفسه فضحك من أعماق قلبه وربت على شعرها، وأظن أنه لم يرَ أن أمينة تطلب أمرًا عجيبًا.
وأقول لابني دسوقي عند عودته من المدرسة: هيا احفظ القرآن فعندك امتحان غدًا.
– إنني حفظته في المدرسة وسأقرؤه عليك.
وقرأه كلامًا غير مفهوم ليس فيه حرف واحد سليم، وأخطاء في التشكيل وفي النطق.
– اقرأ بالتشكيل.
– إن المُدرِّسة لا تطالبنا بذلك فلماذا تصمِّمين أنت عليه؟
– لأن القرآن كلام الله ويجب أن نقرأه قراءةً صحيحة، ثم إن أسلوبه جميل وأنت بنطقك هذا تجعلني لا أريد أن أسمعه.
– إننا نكتبه في الامتحان ولا ننطقه؛ فلماذا أتعب نفسي؟ هل أنتِ أكثر معرفة وأكثر دقة من المُدرِّسة؟
ولأن موضوع النقاش بيني وبين ابني يدور حول القرآن واللغة؛ لهذا السبب فقط تدخل الأب وهاله استهانة ابنه بحفظه، وعدم اهتمامه بالنطق والشكل؛ فعنَّفه بشدة، وبقي معه إلى أن قرأ القرآن كما يجب أن يُقرأ. وكانت جدته لأبيه تحبه حبًّا عارمًا؛ فقد سُمي على اسم زوجها الذي كان كل حياتها، ولأنه صبي، وكانت الجدات في هذا الوقت يفضلن الذكور على الإناث، وكانت تقول لأبي بكل فخر: دسوقي يقرأ القرآن كما أُنزل. ولما كبر دسوقي تعمق في دينه وتمسك بتعاليمه في السر أكثر منه في العلن.
عندما كان دسوقي في الثالثة عشرة من عمره أراد أن يهرب من مدرس اللغة العربية بحجة أن المدرس تأخر، فغضبت وأصررتُ أن ينتظره إلى أن جاء متأخرًا عن ميعاده ساعتين، فكتم دسوقي غيظه ولكنه خاصمني، وفي مساء ذلك اليوم حدثت مشادة بيني وبين أبيه لا أذكر سببها ولكن الذي أذكره أن ثروت خرج من الغرفة غاضبًا وذهب ليقضي الليلة في غرفة أخرى، وذهلت عندما رأيت ابني الذي أغضبته منذ قليل يروح ويجيء بهمة ونشاط بين حجرتي وحجرة أبيه؛ لا ليقرب وجهات النظر وإنما لنقل «راديو» أبيه إلى الغرفة الجديدة، ثم يعود مسرعًا وهو يغني ليأخذ «الأباجورة» والكتاب، ثم يرجع مهرولًا لأنه نسي أن يأخذ «الترموس»، وهو يعلم جيدًا أنني لا أطيق هذه المظاهر أمام أهل البيت ولكنه مع ذلك أصرَّ على أن يُظهر لي شماتته؛ فثارت ثائرتي وقلت لنفسي: لأنهين تلك الأعمال الصبيانية ولأشمتن أنا فيه. ولأول مرة أتصرف على عكس مشاعري وذهبت إلى زوجي في حجرته بابتسامة متشنِّجة وقلت له: إن ما تفعله أكثر مما يحتمل الأمر، سأنقل كل هذا إلى مكانه وكأن شيئًا لم يكن.
– إنني أتعب طول النهار وعندما أعود تتشاجرين معي.
– لقد انتهت المشاجرة الآن ولا داعي لكل ذلك.
وعُدنا إلى غرفتنا هو يمسك بالراديو والكتاب وأنا أمسك بالأباجورة والترمس، ومشينا بهذا الموكب أمام الشرير الصغير، وفرحت في نفسي أن ابني لم تتم فرحته فيَّ.
ويستغل أولاده طيبته وحبَّه الذي لا نهاية له ويمكرون عليه؛ فقد أرادت أمينة أن تسافر في رحلة تمر بموانئ البحر الأبيض فرفضت لأنني لا أحب أن تسافر وحدها وهي في السادسة عشرة من عمرها في رحلة مع آخرين لا أعرفهم، ولكن ابنتي أمينة لا تيئس، فأعادت الطلب ولكن من أبيها وقالت له إن صديقتها ووالدتها ستكونان في هذه الرحلة فلمَ لا تذهب في حمايتهما؟ فرحبتُ حينئذٍ بالفكرة ولو أني لا أعرف الصديقة ولا والدتها ولكنها ستكون في رعاية أمٍّ مثلي على كل حال. ودفعنا مصاريف الرحلة وتحدد ميعاد السفر فاتصلتُ بوالدة صديقتها تليفونيًّا لأوصيها أن ترعى أمينة كما ترعى ابنتها، وجاءني في التليفون صوتٌ هامس فيه نعومة واستكانة؛ صوت مدرَّب ومثقف ثقافة معينة؛ صوت اقشعر منه بدني؛ فقررت في التوِّ واللحظة أن أمينة لن تسافر مع هذا الصوت، ورويت القصة لزوجي؛ فسخر مني: هل تحرمين البنت من رحلة تتمناها وتنتظرها بلهفة؛ لأن أذنك لم ترتَحْ للصوت؟
فقلت ضاحكة: أنا لا أخطئ، هذا الصوت لا يمكن أن يكون إلا لامرأة من نوعٍ معين.
– ارحمي ابنتك.
– أأرحم ابنتي إذا أرسلتها في رحلة مع هذا الصوت؟
– البنت ستُجنُّ، ارحمي.
– لا لن أرحم.
ولم تذهب أمينة إلى الرحلة على رغم احتجاجها وثورتها وبكائها. ولما هدأت ثائرتها جاءت وجلست بجانبي وقالت: أتعرفين يا مامي أم صديقتي تعمل …؟
– يا خبر أسود، وكنتِ تعرفين؟
– طبعًا، ولكن ماذا يضيرني؟ إنني لست محتاجة لمن يحافظ عليَّ؛ فأنا التي أحافظ على نفسي.
– وترمينني بالظلم وأنت تعرفين أنني على حق وأن أُذني لم تخطئ؟
– الرحلة تستاهل.
وقلت ضاحكة: سأقول لأبيك ليكفَّ عن الوقوف بجانبك.
– أتعرف ابنتك كانت ستسافر مع من؟
– مع من؟!
– مع سيدة تعمل …
– يا خبر أسود!
– لست في حاجة أن أقول إنني كنت على حق.
ولم يدرِ كيف يدافع عن ابنته.
وكان يعطي أولاده من وقته الكثير، ويذهب معهم إلى حديقة الحيوان وإلى حديقة مينا هاوس، وكنا نصطحب معنا «أمين أباظة» ابن عمي وكان في سن دسوقي، ونعتبره ابنًا ثانيًا لنا، وكان له مربيةٌ دميمة، فلما وصلنا إلى مينا هاوس لم يستطع ثروت أن يصبر وطلب والدة أمين وهي ابنة خاله وقال لها: حرام عليكِ، أهذا منظر تأتين به إلى منزلك؟ أهذا منظر ترسلينه لي في نزهة مع الأولاد؟! أهذا وجه يكون إلى جانب ابنك أمين طوال الوقت؟! حرام عليكِ والله، وأغلق الهاتف وعاد إلينا وقد شفى غليله. و«أمين أباظة» وُلد وحجمه أكبر بثلاثة أضعاف من حجم الطفل العادي حتى إنهم ألبسوه قميصًا من الأمام وقميصًا من الخلف حتى يغطي جسمه، وفي يوم ذهب ثروت لزيارة ابنة خاله والدة أمين وأخذ يعلق على سمنة ابنها، ويمزح معها حتى راودها القلق، وشرب ثروت معها القهوة وخرج، ولما خرج عادت المربية إلى فنجان القهوة وأخذت قليلًا منه ورسمت رسومات على جبين أمين، وكان يُشاع أن هذه الرسومات تمنع الحسد، وتصادف أن عاد ثروت إلى الحجرة، ورأى ما حدث؛ فقال لابنة خاله: هذه القهوة قهوتي أنا، فقالت ضاحكة إن عينَيك ملونتان، ويقال إن العيون الملونة عيونٌ حاسدة. وضحك معها ولم يُمسَّ الطفل بسوء ولم يحسد إنما زادت سمنته.
وأمين أباظة أصبح الآن شابًّا رشيقًا ووسيمًا، عمل في البنك الأهلي والبنك المصري الخليجي، ولفت الأنظار إليه لكفاءته ولذكائه، ثم دخل مجال القطن، وما إن مرت فترةٌ وجيزة إلا وقد ألمَّ بدخائله وعرف أسراره؛ وأصبح يرأس مؤتمرات القطن في الشرق والغرب.
وعودًا إلى اهتمام ثروت بالأولاد وخروجه معهم إلى الأماكن التي يعرف أنها تُدخل السرور على قلوبهم، كان البحر هامًّا جدًّا عنده، ولا يعترف باليوم الذي يمنعه طارئ من الذهاب إلى «الشاطئ»، ولكن قبل الذهاب إلى البحر ومن الساعة العاشرة صباحًا وحتى الثانية عشرة ظهرًا كان عنده موعدٌ مقدس وهو الذهاب إلى قهوة بترو للقاء الأستاذ الكبير نجيب محفوظ والأستاذ الكبير توفيق الحكيم، ويبقى معهم إلى أن أمرَّ عليه أنا والأولاد ونذهب معًا إلى البحر، وعند ذهاب أمينة ودسوقي ليخبرا أباهما أن ميعاد البلاج قد حان يصمم توفيق بك الحكيم على أن يشربا كوكاكولا على حسابه ثم يقول لهما: ميعادنا الصيف القادم فأنا لا أدفع لكما الكوكاكولا إلا مرة في السنة. ثم نذهب معًا إلى المنتزه حيث نجد في البحر الدكتور الدمرداش أحمد وهو صديقٌ ذواقة، يأخذهما الحديث في الأدب والشعر والسياسة إلى أن يحين موعد العودة إلى المنزل.
وفي البحر كان يلتفُّ حوله شباب الأسرة وهم جميعًا في المرحلة الثانوية والإعدادية، وكان يكلمهم عن طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، فسألته إحدى الفتيات قائلة: «ومن هو عبد الرحمن الشرقاوي؟» أجاب: «اغربي عن وجهي واتركينا الآن حالًا.» فذهلت الفتاة، ولكن طاهر أباظة وهو من المداومين على هذه الندوة الشبابية قال لها: «اخرجي من البحر الآن وعودي بعد قليل.» وعندما كان يكلمهم عن السياسة والسياسيين تكلم عن تشرشل فسأله طاهر أباظة: «ومن هو تشرشيل؟» فكان ردُّه عليه بمثل ما ردَّ على الفتاة منذ قليل. وعلى رغم ذلك كان هؤلاء الشباب يتمتعون بهذه الندوات اليومية التي تعقد في عرض البحر، وكان يشجع الأولاد على القراءة، وكان رأيه أن يقرأ الأولاد في كل شيء وفي أي موضوع حتى لو لم يكن مناسبًا لسنِّهم؛ فقد كان رأيه أن يقرءوا فحسب، ولا أملُّ من أن أقول إن هذا لم يكن من رأيي.
وكبرت الأولاد بعد مشوارٍ طويل في الدراسة ودخلت أمينة كلية الآداب قسم لغة فرنسية وكانت تنجح بأعجوبة؛ فهي لا تفتح كتابًا إلا قبل الامتحانات بشهرٍ واحد. وفي «الليسانس» حدث نفس الشيء ولما ظهرت النتيجة كلم عميد الكلية أباها وقال له مبروك أمينة نجحت، ففرح ثروت في أول رد فعل ثم طلب العميد ثانية ليتأكد منه، وأعاد العميد نفس الكلام، وما كان من ثروت إلا أن أخذ سيارته وتوجه إلى كلية الآداب ولم يهدأ إلا عندما رأى اسمها مع الناجحين.
وبعد التخرج عملت في المصرف العربي الدولي وانتعشت حالتها المالية هناك، ولكنها لم تجد نفسها في البنوك؛ فاستقالت. وأرسلها والدها إلى الأستاذ الكبير موسى صبري في الأخبار، فذهب معها بنفسه إلى مكتب الأستاذ الكبير رشدي صالح وعملت معه في مجلة آخر ساعة سنةً كاملة، وكتبت تحقيقًا عن العوامات وساكنيها، وعن المدبح. ولما علم الأستاذ رشدي صالح عن موضوع المدبح قال لها: يجب أن تكتبي عن الزهور وعن جمال الطبيعة وليس عن المدبح. وكلم موسى صبري أباها وقال له ابنتك لطيفة وجميلة ولكنها «روشتني» لأنها سريعة الخاطر، سريعة الكلام، سريعة الحركة، وحينما عدت إلى منزلي قلت لزوجتي ابنة ثروت أباظة «روشتني». واستقالت أيضًا من آخر ساعة وعملت في الإذاعة في قسم مراقبة الأفلام، ثم انتقلت إلى قسم الترجمة في القناة الفضائية تترجم من العربية إلى الفرنسية التي تملك ناصيتها، ثم فكرت أن تفتح مستشفًى صغيرًا لإيواء الكلاب الضالة وحمايتهم من الأطفال الذين دأبوا على رميهم بالطوب ولا أحد يدري السبب، فهذه الحيوانات أرواح خلقها الله يجب أن تُعامل بإنسانية، في حين نرى الطفل الأجنبي يمسح بيده على ظهر الكلب ويربِّت على رأسه في حب وحنان. وهي تأخذ هذه الكلاب وتعالجهم وتطعمهم وتجد كثيرًا من الناس يقولون لها: لماذا لا يكون هذا المستشفى للأطفال؟ فتقول: إن الأطفال يجدون الحضانات المدفوعة وغير المدفوعة، ولكن لا أحد يفكر في هذه الحيوانات المُعذَّبة من سوء المعاملة، وقد جمعت سورًا من القرآن الكريم، وأحاديث عن النبي ﷺ يحثُّ فيها على الرفق بالحيوان لتقنع بها من يعارضونها، ويساندها في ذلك الكاتب الكبير أحمد بهجت والدكتور صلاح عبد الستار الأستاذ في جامعة السويس.
تزوجت أمينة من رجل الأعمال رءوف مشرفي وهو رجل غاية في الرقة والأدب والرقي، يجمع بين الثقافة العربية والفرنسية والإنجليزية واستقرَّ بها الأمر في حياةٍ زوجية هادئة.
لابنتي أمينة صديقاتٌ فرنسيات يعملن بالتدريس، وهن على درايةٍ واسعة بالحركة الأدبية عندنا، فقد قرأن لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وثروت أباظة، ودائمًا يقلن لها: إن الشعب الفرنسي يقدر الأدباء ويعتبرهم أرقى البشر ويصنع لهم هالة من التقديس، ويتعجبن كيف أن أمينة لا تتباهى بما أعطاها الله؟! فلها أبٌ كاتبٌ معروف، هيأ لها مقابلة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وكبار الكتاب.
وأما دسوقي فبعد حصوله على الثانوية العامة أراد أن يدخل كلية الآداب قسم فلسفة ولكن والده نصحه بكلية الحقوق، ولما طال بينهما النقاش اقترح ثروت أن يُشرك الأستاذ الكبير نجيب محفوظ في الأمر، وقال نجيب بك لدسوقي: «جميل جدًّا أن تدخل فلسفة ولكن لتستطيع أن تكون شيئًا في الحياة يجب أن تكون من الأوائل.» ففكر دسوقي وقرر أن يدخل كلية الحقوق، وتخرج منها ودخل المركز القومي للدراسات القضائية الذي افتُتح في هذه السنة بالذات، وكان رئيسه المستشار سمير ناجي، وكان هذا المركز صورةً مصغرة لمثيله في باريس من ناحية الشكل والأداء، ورفض سمير بك أن يأخذ مقابلًا لإدارة هذا المركز، وكان دسوقي الأول على دفعته وعددها ٢٦٠ وكيلًا للنيابة؛ فأرسله سمير بك في مهمة مدتها ستة أشهر إلى باريس، وعند السفر ودَّعنا دسوقي وداعًا حارًّا والدموع في عينيه ويضم شفتيه بقوة حتى لا تنهمر تلك الدموع، ولكن بعد شهرين من وصوله إلى باريس فوجئنا بتليفون منه يطلب من أبيه أن يمدَّ البعثة إلى سنة، ولكن أباه رفض رفضًا باتًّا. وعاد دسوقي وعمل وكيلًا للنائب العام في النيابات المختلفة، ثم اختاره المستشار سمير بك ناجي ليعمل رئيسًا للمكتب الفني، وليدرس لوكلاء النيابة الجدد اللغة الفرنسية فقبل، وأراد أن يتمثل بأستاذه وأن يرفض مقابلًا لهذا العمل ولكن سمير بك رفض هذا الطلب. وظل دسوقي في القضاء وأحب عمله؛ ولذلك نجح فيه. وعمل لسنوات عديدة ثم ترك السلك القضائي وعمل في الجامعة العربية.
ولدسوقي أسلوبٌ رصين في الكتابة، نشرت له جريدة الأهرام عدة مقالات، آخرها مقالة يودِّع فيها الداعية الجليل محمد متولي الشعراوي. وهو قارئ منذ فجر شبابه، ويقرأ في الدين وفي الآداب والشعر، وهو يحفظ كثيرًا من شعر أحمد شوقي ومن شعر جده عزيز أباظة.
وتجده دائمًا إلى جانب اليائس والذي تتعثر معه الأيام، وقد تحمَّل المسئولية بعد أبيه بصبر وسماحة نفس.
وتزوج دسوقي من جيهان حتاتة كريمة منير بك حتاتة المحامي المشهور، وهي زوجة وأم وسيدة منزل ممتازة، وأنجبا «ياسمين وعفاف وملك».
وقد أخذ دسوقي وأمينة عن أبيهما القيم والأخلاق والصدق والسعي في مساعدة الناس بكل قواهما، وأخذا أيضًا حب الخير والعطف على المحتاجين ونجدتهم.
وظل ثروت يرعى أولاده ويغدق عليهم من حبه وحنوِّه ولم يبخل عليهم بماله ولا بجاهه، وكان حصنهم الحصين، وأما أحفاده فكانوا النور الذي يضيء حياته وينسيه كل متاعبه.
وهم بدورهم يرتمون في أحضانه ويجدون عنده الأمن والأمان، ومن اللافت للنظر أن هذا هو حال كل الأطفال معه وليس فقط أحفاده، فالطفل يحسُّ بالنقاء والصفاء فيلجأ إليهما لحمايته، وحتى الحيوانات المنزلية الأليفة كانت تختار مكانها تحت أقدامه وتنام وهي هادئة مطمئنة راضية.
أما أول أعمال ثروت الأدبية فكانت بعد زواجنا بقليل، طلب منه المخرج المشهور الأستاذ فتوح نشاطي أن يشترك معه في كتابة مسرحية عن ابن عمار والمعتمد بن عباد؛ لأن قصتهما مثيرة وتستحق أن يُكتب عنها، ولكن الظروف لم تساعد على إتمام هذا العمل وظلت الفكرة تراوده وتداعب ذهنه، وبدأ يفكر في أن يكتب كتابًا عن ابن عمار، والقصة التاريخية معروفة وكتبها فعلًا. وفي رأيي أن أسلوبها العربي الرصين كان سببًا لأن تقرر وزارة التربية والتعليم تدريسها أوائل الستينيات على تلاميذ الشهادة الإعدادية. وكان لا يحرم في رواياته المجرم والفاسد من الضمير نهائيًّا، وإنما دائمًا يترك لهم شعاعًا منه ليحاسبهم حتى وإن لم تصل إليهم يد العدالة؛ على اعتبار أن الأمل في الندم والتوبة موجود دائمًا.
وبعد ذلك كتب «هارب من الأيام» وهو يصور فيها شرذمة من الأشرار روعت قرية وسلبت أموال أهلها وعاثت في الأرض فسادًا، وكان هدفه من هذه الرواية هو الحرية وتصوير الرعب والمناداة بالخلاص من نير الاستعباد، وكانت الحرية هي شغله الشاغل في كل كتاباته، ولما تقرر أن يتحول كتاب «لقاء هناك» إلى فيلمٍ سينمائي والذي يتكلم عن الصراع بين المادة والإيمان وعن المصالحة بين الأديان، كان على ثروت أن يذهب إلى شيخ الأزهر «الشيخ عبد الحليم محمود» وإلى «البابا شنودة» ليوافقا على عرض الفيلم، وكانت هناك مناقشات بين شيخ الأزهر وبابا الأقباط اللذين حضرا العرض الأول للاطمئنان على سلامة التنفيذ. وقد نجح الفيلم نجاحًا كبيرًا، وقد عبر عن الوحدة الوطنية أجمل وأصدق تعبير.
وكانت له حاسةٌ سياسيةٌ صادقة، وكثيرًا ما تنبأ بأحداثٍ سياسية قبل وقوعها؛ فقد تنبأ بحرب ٥٦ في اللحظة التي أعلن فيها الرئيس جمال عبد الناصر تأميم القنال، وعمل رهانًا مع توفيق بك الحكيم على ذلك وكان مستبعدًا تمامًا للحرب، وتناقش كثيرًا مع محسن أباظة السفير في ذلك الوقت وكان متأكدًا من عدم نشوب حرب، وعندما بدأ العدوان الثلاثي اعترف بحاسته السياسية، وتنبأ أيضًا بانهيار الاتحاد السوفييتي في مقال نشره في الأهرام سنة ١٩٧٠م، ولعل نشأته في بيت كله سياسة ساعدت على تنمية هذه الحاسة فيه.
وكان دائمًا يصف الإخوان المسلمين في مقالاته بأنهم بداية الإرهاب، ويهاجم الناصريين وينقل حيثيات من أحكام المحاكم تثبت بطشهم، ويهاجم الشيوعيين أيضًا، وعبثًا حاولنا — أولاده وأنا — أن نُخفِّف من هجومه، ولكنه رفض أن يُقلِّل منه، وكان يقول: أنا مع الحق إلى أن أموت.
وفي أوائل حياتنا الزوجية لم يكن أيضًا عندنا «تكييف» ولم يكن منتشرًا كل هذا الانتشار، فكان يهرب إلى سينما ريفولي وكانت قد افتتحت أول كافتيريا مكيفة في القاهرة، وكتب هناك رواية «هارب من الأيام» وكان يكلمني من وقت لآخر ليقرأ لي ما كتب. وبعد صدور الرواية كان الأقارب والأصدقاء يقولون لي مجاملين أنت التي ألهمته هذه القصة الشيقة، وكنت أقول لنفسي: بل تكييف سينما ريفولي هو الذي ألهمه. وقد نال على هذه الرواية الجائزة التشجيعية سنة ١٩٥٨م، وكان هذا أول تكريمٍ رسمي يحصل عليه. ثم كتب بعد ذلك «شيء من الخوف» ونُشرت في مجلة صباح الخير على حلقات، ثم اختارها الفنان صلاح ذو الفقار لينتجها فيلمًا سينمائيًّا، وتم إعداد السيناريو في منزلنا وكان يجتمع المنتج بالمخرج العظيم حسين كمال والسيناريست صبري عزت للمشاورة وتبادل الآراء؛ ولذلك خرج الفيلم بهذا الجمال، وكان للموسيقى والتصوير والتمثيل فضلٌ كبير في نجاحه.
ولهذا الفيلم بالذات قصة، فقد اعترض عليه وكيلا وزارة الثقافة حسن بك عبد المنعم وعبد المنعم بك الصاوي وطلبا أن يراه الوزير، وكان الدكتور ثروت عكاشة هو وزير الثقافة في ذلك الحين. ولما رآه وأحسَّ بما فيه من إسقاطات وتلميحات على الحكم طلب بدوره أن يُعرض الفيلم على رئيس الجمهورية شخصيًّا. وقد كان تعليق الرئيس جمال عبد الناصر: «لو كنت أنا مثل هذا الرجل لقتلني الشعب.» وسمح بعرضه. وأما التكريم الذي ناله ثروت فهو تكريم الجمهور الذي أحسَّ بنفسه وأحسَّ بالمرارة التي تملؤه تحت نير الطغيان، وكانت الناس تتعجب كيف ظهر هذا الفيلم؟! كيف كُتب له أن يرى النور؟! وحتى الآن لا يزال يُعرض ويُقابَل بنفس الإعجاب وبنفس التقدير. والحقيقة أن «شيء من الخوف» كان صرخةً مدوية تنادي بالحرية.
ثم جاءنا «التكييف» وكتب باقي رواياته في حجرة مكتبه في المنزل، وكتب كثيرًا منها في سويسرا وبالتحديد في لوزان، وكان يستوحي رواياته من الواقع المحيط به وينتهي من كتابتها في سنة تقريبًا، وكنت أُحاول أن أُقنعه بأن يخفِّف قليلًا من عنف مقالاته ولكنه كان لا يتزحزح عن مواقفه ويقول لي: «أنت خلقتِ كما أنت، وأنا خلقت هكذا.» وحدث أن هاجمه أحد الكتاب في صحيفةٍ حزبية، وهاجم أباه دسوقي باشا بألفاظ لا تمتُّ للأدب بصلة؛ فصمم أن يلجأ إلى القضاء، وكلف المحامي المعروف منير بك حتاتة — حما ابنه — أن يترافع في القضية، وكسبها، وحُكم على الكاتب الصحفي بالسجن، وتدخل صحفيون وشخصياتٌ معروفة لإقناعه بالتنازل عن القضية ولكنه صمد لكل هذه الضغوط، وقال لي: «قد أتنازل عن حقي، ولكن لن أتنازل عن حق أبي.» وكل كتاباته كان يكتبها في حجرة مكتبه في المنزل، ويغلق عليه الباب ولا يسمح لأحد بالدخول، ولا يحب أن ندخل عليه لنسأله إذا كان يريد قهوة أو شايًا، إنما يحب أن يطلب هو في الوقت الذي يريده. وكان قد ذاع اسمه فسعى إليه الناشرون للنشر في المطابع المختلفة، ثم بعد ذلك عهد بكل أعماله دون استثناء لدار المعارف.
وإذا كان لي أن أصف أخلاقه فأشهد أنه كان عنده صفاء نفس كصفاء الأطفال، لا يعرف قلبه الحسد ولا الحقد، ولا ينطق إلا صدقًا، طاهر القلب واليد والضمير، يسعد لسعادة الناس، وكان شموخه وهيبته تُجبِر الناس على احترامه وحبه في نفس الوقت، وكانت زوجة ابني دسوقي «جيهان» تقول: «إذا نطقنا باسم عمي ثروت فإن اسمه يكون كالكلمة السحرية؛ يُسهِّل كل صعب ويُذلِّل كل مشكلة في جميع المجالات، وفي جميع الأوساط، وهذا فضل من الله عليه.»
وقال لي المخرج المعروف منير التوني — وكانت تجمعه بثروت أعمالٌ تليفزيونيةٌ كثيرة — قال لي: إنه طلب من ثروت طلبات لتعيين أقارب له وأصدقاء، وما إن سمع ثروت الطلب حتى رفع سماعة التليفون واتصل بالمسئولين وهو على علاقةٍ طيبة بهم جميعًا وفعلًا أجابوه إلى طلبه في الحال.
وهذه قصة تستحق أن تُروى، فالصحفي فاروق أباظة كان كاتبًا في مجلة «المصور» ودأب على أن يهاجم «ثروت» على صفحات مجلته على مدى سنوات، ولكنه حين فاجأه مرضٌ خطير يحتاج إلى العلاج في الخارج لم يلجأ إلا إلى ثروت أباظة الذي لم يتوانَ عن مساعدته، وطلب رئيس الوزراء في الحال ورجاه أن يسافر الصحفي على نفقة الدولة؛ وقد كان، وعاد إلى بلده سليمًا معافًى وعاد أيضًا بحب وبتقدير لثروت. وإحقاقًا للحق أنه عندما هاجم الأستاذُ جلال أمين «ثروت» بعد وفاته مباشرةً بهجومٍ غير موضوعي بالمرة — ويكفي أنه يهاجم إنسانًا ليس في إمكانه أن يردَّ عليه، وكان هذا الهجوم على صفحتين من جريدة العربي — تصدَّى له فاروق أباظة مدافعًا عن ثروت بكل صدق وشهامة.
والأستاذ جلال أمين له سابقة مع ثروت ولكن في حياته؛ فقد كتب مقالًا ينتقد فيه «ثروت» نقدًا غير موضوعي يحسُّ فيه بالحقد والكراهية، ولم يشأ ثروت أن يرد عليه أو العنف به، والمعروف أنه كان عنيفًا في خصومته، ولكنه آثر الصمت إكرامًا لذكرى والد الأستاذ جلال أمين الأستاذ العالم الجليل أحمد بك أمين.
وقد كان أحمد بك أمين أول من أفسح لثروت صفحات مجلة الثقافة الشهيرة التي كان يرأس تحريرها في الأربعينيات، وكان ثروت لا يزال في البكالوريا — الثانوية العامة الآن — وبالطبع لم ينسَ لأستاذه أُبوَّته ورعايته وتشجيعه.
وكانت كلمته عقدًا ووعده حقًّا؛ فقد حدث أن باع قطنه في بلدته غزالة، واتفق مع التاجر على ثمنٍ محدَّد ولكنه لم يكتب عقدًا وإنما كان الاتفاق بكلمة، وفي اليوم التالي جاءه تاجرٌ آخر بسعرٍ أعلى بكثير، فقال له دون تردُّد: «أنا أعطيت كلمة أمس.» وعبثًا حاول الذين حوله أن يذكروه بأنه لم يكتب عقدًا، ولكنه أصرَّ، وهذا هو خُلقه.
وبما أننا نتكلم عن غزالة، فقد كان عاشقًا للقرية التي نشأ فيها، ونعم بأرضها وسمائها، وتعلَّم فيها وغاص في أعماقها؛ فقد تبرَّع بقطعة أرض لإنشاء مركز للشباب بها، كما سعى بعد ذلك لإنشاء مدرسةٍ ابتدائية، وأدخل السنترال، وأهدى الجامع الذي بناه والده دسوقي باشا إلى وزارة الأوقاف، فهدمته وأنشأت بدلًا منه جامعًا كبيرًا، وكان والده قد تبرع من قبلُ بقطعة أرض ليبني عليها معاهدَ دينية ابتدائي وإعدادي وثانوي. وأسوق هنا قصةً غريبة وهي أميل إلى الطرفة، ولكنها حدثت فعلًا؛ فقد اشترى «يوسف عبد القادر الكلاف» في القرية من ثروت قطعة أرض صغيرة في الخمسينيات وكان سعر الفدان زهيدًا، فقد اشترى قيراطين ليبني بيتًا صغيرًا، واتفق مع ثروت أن يدفع جزءًا من ثمنها والباقي على أقساط، ولكن الذي حدث أنه عجز عن دفع القسط الأول فاقترح أن يسمن ديكًا روميًّا ويدفعه بدلًا من كل قسط، ووافق ثروت، واستمر الأمر على هذه الحال حتى سدَّد ثمن القيراطين كاملًا.
وإن دلَّت هذه القصة على شيء فعلى أن قلبه منسوج من البر والرحمة.
تعرَّض منزله في قرية غزالة للسرقة؛ فكبُر على نفسه أن يُسرَق بيته من أهل غزالة التي نشأ على حبها، وأمسك التليفون فورًا واتصل بمدير الأمن بالزقازيق ولما سأله المدير عن عنوان غزالة قال «غزالة الخيس.» ولم ينسَ وهو في أوج انفعاله وثورته أنه عاشق للغة العربية فقال لمدير الأمن «الخيس معناه بيت الأسد.» ثم ظهر أن اللصوص ليسوا من أهل غزالة.
وكان إيمانه بالله لا حدود له، يسلم له أمره، ولا تساوره الهواجس أو القلق، إنما هو مؤمن وتغمره الثقة أن الله لن يضيره أبدًا.
وكان يتهمني بضعف إيماني؛ وذلك لأني أخاف من «الأسانسير» وأخاف من الظلام، وأخاف على أولادي إذا تأخروا، وأتخيل سيناريوهاتٍ كلها مؤلمة، وكنت لا أقول لزوجي، ولكنه كان يلاحظ على وجهي ما أُخفيه من فزع فيقول لي: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا وكنت أخاف من الطائرة وكان يمكن أن ينام هو ونحن مُعلَّقون بين السماء والأرض، في حين أظل أنا مستيقظة أُنصت إلى صوت المحركات وأراقبها. وفي مرة أحسستُ بانخفاض في صوت المحركات بعدما كانت مدوية؛ فأصابني الهلع، وبعد ثوانٍ خرج مساعد الطيار ممسكًا في يده فنجانًا من القهوة وكأنه ليس في الأمر شيء، وقال: إننا مضطرون إلى الهبوط في أثينا لسوء الأحوال الجوية في جنيف وهي مقصدنا؛ فتأكدتُ أن كارثة على وشك الوقوع. وفي أثناء الهبوط سأل زوجي هذا المساعد عن السبب الحقيقي فقال: «إن محركًا من محركات الطائرة قد توقَّف.» فأدركت أن من شدة خوفي أحسست بانخفاض صوت المحركات، وكان ثروت هادئًا يحاول أن يهدئ من روعي وكنت أحسده لأنه لا يهاب الموت، وإنما إيمانه ينشر السكينة في قلبه.
وكان دائمًا ينتقدني لأنني عندما تعجبني مقالة وتدخل إلى أعماقي أتحمَّس وأحب أن أكلم صاحبها لأهنئه، وإذا رأيت فنانًا أجاد دوره وبرع فيه كالفنان العظيم محمود ياسين في مسلسل «أبي حنيفة النعمان» الذي أذهلتني براعته وتعمقه في الشخصية وأردت أيضًا أن أهنئه، أعجبت بدور الفنان العملاق نور الشريف في مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» فقد كان أداؤه فوق القمة، ودور الفنان عمر الحرير في مسلسل «عمر بن عبد العزيز» الذي جسد فيه عبد الملك بن مروان؛ كان رائعًا، وفي رأيي كان يستحق عليه جائزة، ودور الحجاج في نفس المسلسل الذي قام به الفنان الكبير عبد الرحمن أبو زهرة بقوة واقتدار.
وأعجبت بمطربةٍ شابة ذات صوتٍ جميلٍ أصيل، ولكنها كانت ترتدي فستانًا لا يناسب سنها، ويظهر من كتفها ما كنت أُفضِّل أن يُستَر، وعلى رغم أن الفستان ليس عاريًا إلا أنني كنت أحب أن أقول لها: «إن صوتك وحده سيبلغ بك إلى أعلى الآفاق؛ فلا داعي لإظهار القليل من كتفك، فصوتك لا يحتاج إلى أية مساعدة من مظهرك، فكوني بسيطة في أزيائك واحرصي على أن تناسب سنك.» أما الفنانة الكبيرة سميرة أحمد فقد رأيتها في رمضان تتحدث في برنامج «على الورق» قالت: «إذا أردت أن أتكلم عن الفنانات في مصر فإنني أستثني الفنانة العظيمة «فاتن حمامة» فلا أحد منا يستطيع أن يصل إلى مستوى فنها وعبقريتها.» أردت أن أهنئها على هذه البساطة وعلى إنكار الذات.
ولما قلت لزوجي: إنني سأهنئهم جميعًا شبهني بسيدة نعرفها وننتقدها دائمًا لأن لها رأيها الخاص في كل المواضيع العامة، وتتصرف بناءً على هذا الرأي، فهي تكلم التليفزيون وتهاجمه بشدة وإذا صدر في الصحف قرار لا يعجبها تتصل بصاحب القرار وتناقشه وتهاجمه، وكان زوجي يقول عنها: إنها تدس أنفها في كل شيء! ولا يكفُّ عن السخرية من ضعف عزيمتي، ولم أكلم أحدًا بعد هذا التشبيه.
قرأت يومًا في الستينيات في مجلة المصور مقالًا كتب صاحبه وهو شاعر غير معروف من شعراء الشعر الحديث أن أغراض الشعر المعروفة وهي الغزل والفخر والمدح قد عفى عليها الزمن، ويجب أن يكون أغراض الشعر هي معاناة الناس في الجمعيات الاستهلاكية، ومعاناتهم أمام طابور الجمعية؛ فشعرت بغصة في حلقي؛ فقد نشأت على الشعر الجميل، وموسيقى الشعر الساحرة؛ فكيف يريدنا أن نسمع شعرًا يتكلم عن طابور الجمعية! فكتبت للأستاذ الشاعر صالح جودت وكان رئيس تحرير مجلة المصور؛ رسالة، وقلت له فيها: «إذا كان الشاعر يريد أن يتكلَّم الشعر عن الجمعية والدجاج فلتدعْ ذلك للشعر الحديث وليتكلم الشعر العمودي الأصيل عن الحب والجمال والخيال.» فنشر صالح جودت هذه الرسالة وكانت بدون إمضاء. قدمتُ لزوجي مجلة المصور وقلت له ما كان، وعلى رغم أن رأيه من رأيي إلا أنه اعترض على تحمسي وعلى مسارعتي بالرد على الشاعر، وقال لي: «ليس هذا من شأن النساء!» ولا أذيع سرًّا إذا قلت إنه شبهني بمن يدسُّ أنفسه في كل شيء، وكان لا يحب هذا الحماس ولا هذا التصرف من المرأة.
وكان يستطيع أن يفتح موضوعاتٍ للحديث، ولا يستعصي عليه أن يكلم شخصًا قابله لأول مرة في شتى المواضيع، وله قدرة أن يثير مناقشات تشغل الحاضرين ويندمجون فيها. وحدث أن دُعينا مرة عند عمي أحمد على العشاء، وكان من ضمن المدعوين أميرٌ عربي، وظل هذا الأمير صامتًا لا ينطق على رغم محاولة الجميع في فتح حوار معه، وأراد ثروت أن يُشرك الأمير في الحديث؛ فأخذ يسأله ويحاوره إلى أن اضطر الأمير اضطرارًا إلى أن يخرج عن صمته، بل أخذ يتحدث معه في مواضيعَ شتى. وجاء محمود ابن عمي أحمد وقال لي ضاحكًا: «عمي ثروت يستطيع أن يكلم طوب الأرض.» وتذكرني هذه الواقعة بواقعةٍ شبيهة على رغم اختلاف الشخصيات؛ فقد دعانا «حسن الطاهي» الذي يعمل عندنا؛ لحضور عقد قرانه في قريته في طنطا، فذهبنا بطبيعة الحال، وأخذنا معنا الشربات وصينية حلوى، تمامًا كما فعلنا يوم عقد قران ابننا دسوقي، وكان قد تزوج حديثًا، ولما وصلنا دخلنا داره وهي مبنية من الطوب اللبن، واستقبلَنا والده، وهو فلاح طبعًا، وأخذ ثروت يحدثه، وأعتقد أن أحسن موضوع يتكلم فيه الفلاحون هو الزراعة، فسأله: كم قنطارًا من القطن يرمي الفدان هنا؟
– لا أعرف.
– كم إردبًا من القمح يرمي الفدان؟
– لا أعرف.
كان هذا هو الرد دائمًا على أسئلة ثروت؛ فأسقط في يده! وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يفشل فيها في إجراء حوار مع شخصٍ ما، ثم دعونا لتناول العشاء وأكرمونا ما وسعهم ذلك، ثم ودَّعونا بكل امتنان.
ووصلنا للكهولة وذهبت الخلافات الصبيانية، والواقع أن الحب كان دائمًا سبب الخلاف، وكان دائمًا هو سبب الصلح، وهدأت العصبية وحلَّ محلها الهدوء، وأصبح كلٌّ منا يرعى الآخر ويسانده بكل ما أوتي من قوة، واطمأن زوجي إلى أنه ليس الزوج المنقاد لزوجته، وأصبح أكثر ليونة، وأصبح لا يجد حرجًا في أن يكشف لي بكلماتٍ رقيقةٍ حلوة عما يختلج في نفسه دون أن يخشى أن أتسلَّط عليه وإن استغل حبه لي، وكان هذا الخوف يُقلِقه ويلازمه منذ بداية زواجنا، وتصرفاته العصبية أغلبها نتيجة لهذا الخوف. ولكنه طوال حياته كان يحب بيته ويحترمه ويقدر زوجته ويتفانى في إسعاد أولاده، وفي الكهولة أيضًا تحتاج الزوجة بعد طول المسئولية أن تستشير طبيبًا كبيرًا في أحوال صحتها؛ فذهبتُ إلى الدكتور العظيم محسن إبراهيم، وبعد خروجي من عيادته وقبل وصولي إلى المنزل كان ثروت يطلبه في التليفون ليستفسر عن صحتي وليطمئن عليَّ، ولم يكن يعرف بعدُ الدكتور محسن إبراهيم وإنما كان كل منهما يسمع عن الآخر ولكن بدون معرفة شخصية.
وفي يوم جاء الدكتور محسن إبراهيم إلى منزلنا للكشف على ثروت، وكان قد أصبح الطبيب المعالج له بعد وفاة الدكتور عبد العزيز الشريف، جاء إلى منزلنا وحضر مناقشةً حادة بيني وبين زوجي؛ فهو من شدة تفاؤله يُخفِّف من وصف حالته للطبيب وأنا أريد أن أصف الحالة كما هي. فقال لي الدكتور محسن لا تناقشيه ولا تغضبيه فإنه الزوج الوحيد الذي يسألني عن صحة زوجته بعد الكشف عليها، وأنا طبيب منذ عشرات السنين ولم أسمع صوت زوجٍ واحد يسألني عن صحة زوجته بعد الكشف عليها.
وكان صريحًا ليس عنده ميل أو مواربة، وأكبر دليل على صراحته الزائدة ووطنيته المتعصبة هذه الواقعة، فقد دعانا سمو الأمير تركي بن عبد العزيز وسمو الأميرة هند إلى السعودية لأداء العمرة، وأقمنا في فنادقَ فاخرةٍ، وأحاطنا كالعادة برعايته واهتمامه، وحدث أن دعانا ناشرٌ سعودي يطبع لثروت كتابًا؛ على العشاء في منزله، وبينما نحن على المائدة بدأ الداعي يُقطِّع الخروف الذي هو علامة من علامات الحفاوة هناك، وسأل ثروت: هل رأيتَ كورنيش جدة؟
– نعم؟
– أليس أجمل من كورنيش القاهرة؟
فهبَّ ثروت وارتفع صوته وقال له: إن مصر ليس عندها أول كورنيش فقط، وإنما عندها أول حضارة في العالم عمرها ٧٠٠٠ سنة فلا تقارن بينها وبين غيرها.
فبُهت الداعي ولكنه أمَّن على هذا الكلام باللفظ والإشارة.
ودُعي مرةً أخرى إلى مسقط لإلقاء محاضرة عن القصة في الأدب العربي، وذهبنا إلى هناك وقوبل بحفاوةٍ كبيرة، ودعاه السفير المصري للتعرف على أدباء مسقط وعلى المصريين المقيمين هناك، وجاء موعد المحاضرة وتكلَّم ثروت عن القصة في الأدب العربي بادئًا برواية زينب للكاتب الكبير حسين هيكل باشا، والحب الضائع ثم شجرة البؤس لعميد الأدب العربي طه حسين باشا، ثم تكلم عن محمود تيمور، وتوفيق الحكيم، والأديب العالمي نجيب محفوظ. وبينما هو منهمك في الحديث قام أحد الأدباء العمانيين وقال بانفعالٍ شديد: «ألا يوجد أدب إلا في مصر؟!»
وقبل أن يكمل المُقاطع المُحتجُّ كلامه ردَّ عليه ثروت على الفور: ألأنكم دعوتموني إلى بلدكم وأكرمتموني اعتقدتم أنكم اشتريتموني؟! نعم، مصر هي منارة الأدب والشعر والفن، ومن إشعاعها وصل إلى كل البلاد العربية النور بعد طول الظلام الدامس.
زار الأهرام شخصيةٌ عربية هامة في السبعينيات، وتكلم الضيف في الندوة، وقال: إن مصر باعت القضية واستسلمت؛ فهبَّ ثروت واقفًا وقال بانفعالٍ شديد: إن مصر لم تبعِ القضية ولم تستسلم وإنما استرجعت أرضها بالحرب ثم بالسلم، ولماذا تكون أرضكم عزيزة عليكم وتعجبون أن تكون أرض مصر عزيزة علينا؟ فغضب الضيف العربي الكبير وشكا ما كان من ثروت، ولما سُئل أجاب كيف أسمع تحقير بلادي ولا أردُّ؟
وكان مؤيدًا ومن كل قلبه للرئيس أنور السادات بعد حرب ٧٣ ثم مؤيدًا وبكل حماس وصدق للرئيس محمد حسني مبارك، وكان يُعلِن تأييده على صفحات الأهرام في مقالاته الأسبوعية، وطلب منه ابنه دسوقي أن يخفِّف من حماسه لأن خصومه يتهمونه بأنه منافق (ويعلم الله أنه لا يعرف النفاق) فردَّ عليه قائلًا: لو كنت منافقًا لنافقت عهد الطغيان، ولو كنت منافقًا ما شاركت الأستاذ الكبير نجيب محفوظ والأستاذ الكبير توفيق الحكيم في إرسال بيان جريء إلى الرئيس أنور السادات قبل حرب ٧٣ نقول فيه: «ما دام ليس هناك حرب فلا داعي لشعار لا صوت يعلو على صوت المعركة.» وقد أقالني الرئيس من الاتحاد الاشتراكي — مع أني لم أكن عضوًا فيه في يوم من الأيام — ولكن كان هذا لإظهار الغضب، ولو كنت منافقًا ما دافعت عن بشوات ما قبل الثورة؛ لأن الدفاع عنهم يعتبر جريمة لا تغتفر، والثورة بحديدها ونارها وجبروتها وعنفوانها لم تستطع أن تثبت الخيانة على واحد من باشوات مصر وفديًّا كان أم سعديًّا أم مستقلًّا، ولو كنت منافقًا ما قال عني الأديب العالمي نجيب محفوظ: إن ثروت لم يكن يومًا من الأيام ممن ينافقون السلطة؛ ولذلك بقي بلا عمل حتى اقترب من الخمسين.
وكان وجه الشبه بيننا أن كلًّا منا له ضميرٌ حساس ويجري في دمائه حب الشرف، وكلانا يحب الشعر، ومن حُسن حظِّه أنني أحب الأدب وأحسُّ بكل ما يكتبه، وكلانا يحب كل ما هو جميل.
أما أوجه الاختلاف بيننا فكانت في الحياة اليومية وليس في الخطوط العريضة؛ فقد كان هو صريحًا إلى أبعد درجة، ويواجه الناس بالحقائق في غير مواربة، وكنت أغضب شفقة عليهم، وأحيانًا أتبنَّى رأيهم حتى ولو لم يكن رأيي، وهذا كان أساس خلافاتنا خصوصًا في أول الزواج. وكنا نختلف أيضًا في طريقة تربية الأولاد؛ فهو أب يملأ قلبه الحنان والعطف على أولاده، لا يحب أن يراهم يبكون، ولا يحب أن يعاقبهم أحد، وكنت أرى أن من واجبي أن أُوجِّههم وأعلمهم باللين أولًا ثم بالشدة ثانيًا وكانت هذه الشدة مثار الخلاف بيني وبين زوجي.
وكنا نقضي سهرة رأس السنة في غرفتنا وعلى مدى ٥٢ عامًا هي عمر زواجنا، سهرنا خارج المنزل مرة عند الفنان العظيم صلاح طاهر، وكانت تربطنا به وبزوجته العظيمة صداقةٌ وطيدة، ومرة عند الكاتب الكبير أنيس منصور، وكنا على ودٍّ وصداقةٍ جميلة وعرفنا زوجته السيدة الفاضلة الجميلة شكلًا وخُلقًا، أما باقي السنوات فكنا كما ذكرتُ نقضيها في غرفتنا ومعنا أمينة ودسوقي وهما أطفال صغار، وكان احتفالنا بالسنة الجديدة أن نشتري «تورتة» نأكلها معًا ثم نقبل أولادنا الساعة ١٢ ونتسابق جميعًا لننام.
ولما وصل أبناؤنا إلى سن ١٢، ١٤ سنة كانا يتهكمان على هذه السهرة العائلية ويحكيان لأقاربهما وأصدقائهما ما يحدث ليلة رأس السنة عندنا، ويسخرون من الطقوس التي نتبعها دائمًا في نفس هذا اليوم.
إلى أن كبرا وتزوجا، وبقينا وحدنا واستغنينا عن «التورتة» واكتفينا بمشاهدة التليفزيون والنظر في الساعة كل خمس دقائق متعجِّلَين نهاية السهرة، وعندما نتأكد أن إشراقة السنة الجديدة قد هلَّت علينا يتمنى كل منا للآخر سنةً سعيدة.
وكنا نقضي شهر سبتمبر من كل سنة في سويسرا على مدى سنواتٍ طويلة، وكان يكتب رواية كل مرة في لوزان ويكملها في أسبوعين، في حين تستغرق في مصر عامًا بأكمله؛ فهناك الهدوء والجو الجميل والمناظر الساحرة توحي بالأعمال الجميلة، بالإضافة إلى عدم قطع الكتابة بتليفون أو بمتطلبات الحياة عندنا. وكنا نستأجر شقةً صغيرة صاحبتها سيدة في التسعين ولكنها بصحةٍ ممتازة ونشاط يلفت النظر، وكانت عندما تدخل عليه وهو يكتب تنظر بانبهار إلى الصفحات المكتوبة ويزداد انبهارها وتقول «سيد أباظة يكتب بثبات ولا أرى أية كلمة مشطوبة بالمرة!» وهناك في أوروبا ينظرون إلى الكُتاب والمؤلفين نظرة كلها إعجاب بل وتقديس.
وإني الآن وأنا أكتب أعجب مما يحدث؛ فأنا أشطب في كل صفحة وأعيد كتاباتها أكثر من ثلاث مرات، وأظن أن سبب هذا أنني لست كاتبة ولا محترفة، وكان زوجي عندما كنت أكتب كتاب «أبي عزيز أباظة» سنة ١٩٧٣م، وعند عودته من عمله مساءً يدخل غرفة النوم فيجدني جالسة على السرير وأوراقي مبعثرة حولي، تضيع مني ورقة؛ فأكتب غيرها، ثم بعد ذلك أجدها، وكان يضحك من منظري وأنا أتقمَّص دور المؤلفة، ويا ليته يراني الآن بعد مرور ثلاثين عامًا وأنا أكتب عنه بعد رحيله بنفس الطريقة الفوضوية، ولكن بنفس الحماس وبنفس الصدق.
وغيَّرنا هذه الشقة وفضَّلنا أن ننتقل إلى فندقٍ بسيط في لوزان يُطلُّ على بحيرة «ليمان» وكنت أستيقظ في الصباح الباكر وأنزل «كافتيريا» الفندق وأتناول إفطاري وأستمتع بفنجان القهوة باللبن المشهور في أوروبا لتكسبني نشاطًا أستطيع أن أقوم بمهامي، وعندما يستيقظ زوجي أطلب له الإفطار في الغرفة وعليَّ أن أصبَّ الشاي واللبن في الفنجان وأُقلِّب السكر وآتي بالسجائر والولاعة، وقبل ذلك كله أُجهِّز الدواء قبل الأكل وبعده، وكان هذا روتينًا في أوروبا فقط، وكان كثيرًا ما يقول لي: «لماذا لا تتناولين إفطارك معي؟» فأقول له: «لو تناولته معك ما استطعت أن أسدي لك أية خدمة من هذه الخدمات، فلا بد لي أن أشرب القهوة أولًا وبعد ذلك أستطيع أن أساعدك.»
ثم أساعده على ارتداء ملابسه، ونخرج معًا إلى ميدان «سان فرنسوا» في وسط المدينة، حيث توجد قهوة اعتاد أن يجلس فيها سنواتٍ طويلةً ومعه أوراقه، ويترك لنفسه العنان في الكتابة؛ أتركه في حالة الإبداع وأتجول أنا في المحلات، وأعود إليه في ميعاد الغداء، فنترك القهوة ونتوجه إلى مطعم من اثنين أحدهما معتدل السعر وهو «الموفينبيك» والثاني أرقى بكثير وهو فندق «البوريفاج» الذي يُذكِّرنا بالفخامة القديمة، فإذا دخلنا بهوًا فهو يسلمنا إلى بهوٍ آخر، إذا دخلنا غرفة الطعام نجدها تؤدي إلى شرفةٍ مترامية الأطراف تطل على البحيرة، وكنا نحب أن نستمتع من آنٍ لآخر بهذه الفخامة العريقة، وكنا أحيانًا نأخذ المركب من أمام الفندق ويسير بنا إلى اتجاه فيفي ومنترو، ونظل ننظر بانبهار إلى الجبال الخضراء وإلى البيوت المبعثرة فوقها ذات الأسطح الهرمية الحمراء التي تميزها، ونظل نُسبِّح الله على ما أعطاه لهذا البلد من جمال وكنت من فرط سعادتي أُردِّد كلمات الشاعر الغنائي عبد الوهاب محمد:
وكان ينظر إليَّ باسمًا سعيدًا لسعادتي.
وعلى رغم أننا نأخذ رحلة المركب كل عام إلا أننا لا نكفُّ عن الانبهار بجميل صنع الله. ونعود إلى الفندق، فيأوي إلى فراشه للراحة بعد الغداء، وأستأنف أنا جولاتي في «السوبر ماركت» لإعداد طلبات العشاء، ثم أعود مع الغروب فأجده قد استيقظ وجلس في الشرفة الواسعة المطلة على البحيرة، راميًا ببصره إلى سلسلة الجبال التي تلوح على الشاطئ الآخر منها وهي منتج «إيفيان» في فرنسا، ثم لا تلبث الأنوار أن تتلألأ هناك، ويكتمل جمال المنظر، ويوحي للكاتب بكل ما هو جميل، وتتسابق الكلمات إلى رأسه، ومنها إلى قلمه، ويناجي الله، ثم يحلو له أن يردد قصيدة أمير الشعراء «صحبة الكتب» التي يحفظها عن ظهر قلب ثم ينام على أحلى نغم؛ على أنغام الشعر الجميل.
ولنا في لوزان أصدقاء سويسريون، ولكن في أخلاقهم دفء الشرق، وهذا ليس بمألوف في سويسرا، وكانوا يعتبرون أنفسهم أوصياء علينا؛ فهم دائمًا يعرضون خدماتهم، ويضعون وقتهم وسياراتهم تحت تصرفنا، ويحملوننا عند العودة أنواع «الشيكولاته» للأولاد والأحفاد.
أما السفير المصري في الأمم المتحدة منير بك زهران والسيدة حرمه فكانا يدعواننا إلى منزلهما في جنيف أو يأتيان إلى لوزان ليدعوانا على الشاي في اﻟ «بوريفاج»، وفي يوم عودتنا إلى القاهرة نتناول الغداء عندهم في جنيف، ويرحبان بنا ترحيبًا لن ننساه مدى الحياة، ثم يصحباننا إلى المطار، ويتولى موظف في السفارة عنا إجراءات السفر ولخمة الحقائب، ونصل إلى الطائرة خفاقًا لا نشعر بتعب السفر بالمرة.
وكان السفير يُفتح له قاعة كبار الزوار في الوصول وفي العودة، ومن سويسرا كنا نزور لندن، وكنا نحب عراقتها وجمالها وطابعها الخاص، وكنا نحرص على أن نزور الريف ونستمتع بجماله كلما أمكننا ذلك، وفي المساء نذهب إلى المسرح، ويبهرنا التمثيل، وأحيانًا توضح لنا حركات الممثلين وروعة أدائهم ما يكون قد استعصى علينا فهمه.
وقد قال لي الأستاذ الأديب علي شلش وكان يقيم في لندن: «إنني قابلت كثيرًا من الأدباء والكتاب هنا، ولم يفكر أحد منهم في الذهاب إلى المسارح، مع أن المسرح الإنجليزي من أعظم منارات الثقافة في العالم.»
وكان ثروت دائم الزيارة للصحفي الكبير الأستاذ علي أمين في محل إقامته، وكان مقيمًا أو منفيًّا في لندن، وكان شقيقه أبو الصحفيين الأستاذ مصطفى أمين محبوسًا في القاهرة، وكانت هذه الزيارة تعتبر من الجرائم التي لا تغتفر، وبعث علي أمين مع ثروت برسائل إلى زوجته الصحفية المعروفة خيرية خيري؛ ليطمئنها على نفسه وهو وحيد في بلدٍ غريب.
ولما علت بنا السن كنا نذهب إلى الإسكندرية، ولكن بدلًا من السباحة كل يوم أصبحنا نذهب إلى قهوة التريانو في محطة الرمل وهي على الرصيف، ويختار زوجي مائدةً محدَّدة تحت شمسية ويقضي فيها فترة الصباح. وعلى رغم أن رسائل التهديد بقتله كانت تصله في هذه الأيام إلا أنه كان يصر على أن يجلس على هذا الرصيف المكشوف من كل جهة، وعبثًا حاولت أنا وحارسه الخاص أن نرجوه أن نذهب إلى مكانٍ مغلق ولكن لا فائدة، حتى إن الحارس قال له: «أنا مكلَّف بحمايتك، ولكني أريد أن أرى ابني الذي لم يرَ النور بعدُ وفي هذا المكان المكشوف لا آمن على حياتك.» وبقينا على رصيف التريانو طوال المدة، وكان يسعد عندما يُحييه المارة ويُعرِّفونه بأنفسهم، ويتكلمون معه، ويبدون إعجابهم بمقالاته، وكانوا من مستوياتٍ مختلفة ومن جميع الأوساط والأعمار؛ فكان منهم أساتذة في الجامعة، ومنهم طلبة من الشباب، ومنهم سيدات وآنسات، ومنهم «سائقو تاكسي وسائقو ترام» يحيونه بحرارة وبابتسامةٍ عريضة، وكنت أتساءل: «كيف لهؤلاء السائقين وهم على قدرٍ بسيط من التعليم أن يعرفوا كُتاب المقالات الأدبية والسياسية؟» وكان يقول لي: «الحمد لله أن حياتي لم تذهب هباءً.»
وكانت تأتي معنا حفيدتنا «ياسمين» وهي في التاسعة من عمرها، ولتقطع الملل كانت تحصي عدد الذين يُسلِّمون على جدها ويحيُّونه، ويظل هذا هو شغلها الشاغل طوال إقامتها معنا في الإسكندرية، وأما في المنزل فكانت تتسلَّى بأن تصنع «كيكة» لا تؤكل، أو «تورته» لا تُنظر، أو شيكولاته مخفوقة. والغريبة أنها تكون أيضًا مُرة المذاق. وكنت أقول لها ارحمينا! في حين كان جدها يقول لها إنه لم يذقْ شيئًا أحلى مما تصنعه، على رغم أنه لا ينطق إلا صدقًا.
وكان معروفًا عن ثروت عند الأصدقاء أنه لا يحب أن يبقى في الأفراح أكثر من ربع ساعة أو نصف ساعة إذا اضطر أن يجامل من معه على المائدة. دُعينا مرة إلى فرح وتأخرنا فيه، ولما نزلنا سألَنا السائق متعجبًا ماذا حدث؟ فقلنا له السبب، وهو أن الداعي ظل على الباب ينتظر رئيس الوزراء، ورئيس الوزراء تأخر؛ فاضطررنا للبقاء حتى يترك الباب ونستطيع الهروب.
وفي فرحٍ آخر في مصر الجديدة قطعنا مسافة في ساعة تقريبًا وقبل الوصول بدقائق أعلن المذيع في الراديو عن حلقة من حلقات «عازف الحب والألم» وهي قصة حياة أبي في أواخر السبعينيات، وطبعًا كنت أحب أن أسمعها، ولكننا وصلنا، وقبل أن ندخل من باب المبنى رأيت الزفة تسير أمام الباب الخارجي ولكن من الداخل ورأيت أم العروس، وهي صديقتي، فوقفت على الباب وقبلتها وهنأتها وعدت إلى مكاني لأنتظر انتهاء الزفة لنستطيع الدخول، وإذا بثروت يقول لي: ألم تُقبِّلي صديقتك؟
– بلى.
– ألم تهنئيها؟
– بلى.
– إذن هيا بنا.
كل هذا ونحن على الباب الخارجي لم ندخل بعدُ، وعدنا أدراجنا واستمعنا إلى الحلقة في الراديو ونحن في طريق العودة. والمفروض أن السيدات تحب أن تستعدَّ للأفراح؛ فتُفكِّر فيما تلبس، ومتى تذهب إلى «الكوافير»، ومتى تتجمل أو تحاول أن تتجمل، كل هذا يأخذ وقتًا طويلًا فهل تساوي الدقائق القليلة التي قضيناها على باب الفرح كل هذا التعب؟!
والحمد لله أنه قرَّر بعد ذلك عدم الذهاب إلى الأفراح نهائيًّا، ولكنْ هناك أفراح لا نستطيع أن نرفضها؛ فأصحابها من أعز الأصدقاء وأقربهم إلى قلوبنا، وكنت أقوم أنا بهذه المهمة وحدي مندوبة عنه، ولم تكن هذه الأفراح كثيرة بل كانت في أضيق الحدود.
وكان دائمًا يهتم بملبسه، ويختار الألوان المتناسقة، ويقول: «إن هذا الاهتمام معناه احترام الذات واحترام الغير.» وعندما يخرج من البيت صباحًا مرتديًا «بذلته» البيضاء كان كثير من أصدقائه وزوجاتهم يقولون له: «إن «البذلة» البيضاء لائقة عليك جدًّا.» وعندما يعود إلى المنزل يعيد عليَّ الإطراء الذي سمعه، فأجيبه: «فعلًا أنت تبدو جميلًا في «البذلة» البيضاء.» وهذه الكلمات الحلوة لم أنطق بها إلا عندما وصلنا للكهولة، وأظن أنها لم تكن ذات تأثير يُذكر عنده.
وكان يعنف شباب الأسرة إذا وجد مظهرهم ليس كما يجب، وكان يحب أن يرى شعرهم في شكلٍ لائق ولا يهملون في حلاقة ذقنهم. وحدث أن اجتمع أربعة من شباب الأسرة وكانت مهمتهم أن يوزعوا دعاوى فرح «عمر رضوان» ووصلوا إلى باب منزلنا، وأخذ ينظر كلٌّ منهم للآخر ليختاروا الأليق منظرًا؛ حتى يتفادوا تعنيف ثروت، وأخيرًا اختاروا «طاهر أباظة»، وسلَّمه الدعوى، ولكنه لم ينجُ من الانتقادات الحادة، ولكنها أبوية، وكانوا يتقبلونها برحابة صدر وبحبٍّ كبير.
ولما كبر أبناؤه ظل يتابعهم وكان يقرُّ عينًا إذا رآهم بخير، ويشتعل قلبه بالوجل إذا مسهم سوء، ولكن «دسوقي» تولى عنه إدارة أرضه في «غزالة» وحمل عنه هذا العبء، وأصلح منزل الأسرة هناك، الذي كان آيلًا للسقوط؛ على مسئوليته الشخصية، وجعل من الحديقة آية في الجمال والتنسيق، ودسوقي ابنٌ بارٌّ يحسُّ بكل ما يقضُّ مضجع أبيه، ويسارع إلى مشاركته فيه وتخفيف الوطأة عنه، وفي مرة حاولتُ أن أقنع زوجي أن نسافر أسبوعين إلى سويسرا كما هي عادتنا، ولكن «دسوقي» قال لي: لا تُلحِّي عليه؛ فقد وهن جسده ولا يحتمل متاعب السفر مهما كانت التسهيلات التي تُقدَّم له عندما يسافر هنا أو في جنيف.
وفي الشهور الأخيرة من مرضه استأذن «دسوقي» من عمله ولازم أباه وبقي إلى جانبه يحايله ويلاطفه حتى ينفذ أوامر الأطباء؛ فقد كان له دراية ليست عندي في إقناعه بأن يأكل وهو مُضرِب عن ذلك، وفي أن يوافق على العلاج الطبيعي الذي يرفضه، وفي أن يقنعه بأخذ الدواء الذي يضيق به، كل هذا بصبر وبرفق، وفي نفس الوقت كان يحاول أن يهيئني للمصير الذي لا مفرَّ منه. أما أمينة فهي تجسد المثل الذي يقول «كل فتاة بأبيها معجبة» فهي معجبة بمبادئه وأخلاقه، ومعجبة بأدبه الذي ينادي بالحرية دائمًا، وبالتفاؤل الجميل الذي تتسم به طباعه، وينضح على كل كتاباته، وتحب فيه صراحته ومرحه وسرعة بديهته، وتشترك معه في هذه الصفات، والتشابه كبير بينهما، فهما دائما النقاش، ولكن كلًّا منهما يُقدِّر الآخر، وأمينة لها قلبٌ كبير يتسع لحب الناس جميعًا، والحيوانات أيضًا، ويعتبر حبها لأبيها حبًّا ممزوجًا بالتقدير والإعجاب، أمينة شفافة النفس، مرهفة الحس، طاهرة القلب، تقرأ باللغتين العربية والفرنسية منذ طفولتها، وهي أديبة ومُحبة للجمال، يصل كرمها إلى حدٍّ مبالَغ فيه، وتساعد المكروبين ما وسعها ذلك، ويحبها الأطفال لنقاء سريرتها ومرحها، وهي لها أفكارٌ خاصة بها لا يتفهَّمها كل الناس؛ فهي واسعة الأفق لا تعترف بالصغائر، وذلك يجعلها في نقاشٍ دائم مع بعض الناس، وفي المجموع هي إنسانةٌ رقيقة طيبة القلب رفيعة الخُلق.
أما معاملته لأهل بيته من العاملين فهي معاملة الأب لأولاده، ويسمح لهم بأن يناقشوه ويفصحوا عن آرائهم السياسية، ويُصحِّح لهم الفكر الخاطئ، لكن برحمة، والرحمة عنده لا تتعارض مع الصوت العالي.
وفي السنوات الأخيرة احتاج إلى من يساعده في ارتداء ملابسه، ويحفظ أدويته الكثيرة ولا يخطئ فيها، وكان هذا الشخص هو «عادل» وهو يعمل عندنا منذ عشرين عامًا، وإذا جاء طبيب ننادي «عادل» ليذكر له أسماء الأدوية ومواعيدها؛ حتى يزيدها أو ينقصها. وكان «عادل» لا يدَّخر وسعًا في خدمة زوجي، وفي الشهور الأخيرة كان لا ينام الليل، ويسهر على راحته مع الممرضات إذا كان في المستشفى، وكان أمينًا غاية الأمانة؛ فقد حدث أن جاء طبيبٌ كبير إلى البيت وبعد أن كشف همَّ بالانصراف، فمشيت معه إلى الباب الخارجي وأعطيته ظرفًا به الأتعاب المناسبة لمكانته وعدت إلى الغرفة، وإذا «بعادل» يعطيني مبلغًا من المال ويقول لي: وجدت هذا المبلغ على الأرض أمام الباب فأدركت أنها الأتعاب سقطت من الظرف؛ فأسرعت إلى التليفون وشرحت للطبيب ما حدث، فلو أن «عادل» لم يكن أمينًا لكان موقفنا محرجًا للغاية، وقد كتب ثروت هذه القصة في الأهرام.
وكان «ناصر» شقيق عادل يخدم «ثروت» في غياب أخيه، وله نفس الخبرة، وكانا يتبادلان المبيت في المستشفى؛ لأنهما أعلم من الممرضات بما يريح «ثروت»، وكان الأخوان يناقشانه في الدين ويستمع لهما، ولكن إذا لم يعجبه الكلام فإنه يشرح لهما «يسِّر ولا تُعسِّر!»
أما حسن الطاهي وأخوه أحمد فقد بدأت خدمتهم له منذ عشرين عامًا، رعاهما وأحسن معاملتهما وقدم لهما خدمات لا ينسيانها طوال العمر، ومجاملة لحسن سافر من القاهرة إلى طنطا ليحضر عقد قرانه، وعند رحيل ثروت مباشرةً توافد إلى بيتنا مئات المُعزِّين، وكان عمل حسن وأحمد من الصباح إلى منتصف الليل، وبقي الحال كذلك أربعين يومًا ورفضا بإباء وإصرار أن يأخذا مكافأةً مالية على العمل الشاق الطويل.
وإما إبراهيم السائق فقد كان يسمح له بالتدخين في المسافات الطويلة؛ لأنه يعرف كيف يكون حال المدخن إذا لم يستطع التدخين. ولإبراهيم قصة، ففي يوم اجتماع الجمعية العمومية لاتحاد الكتاب — وكان ثروت رئيسًا له حينذاك — دخل السائق بين الأعضاء فسمع أحدهم يصف «ثروت» بما ليس فيه؛ فثارت ثائرته، وردَّ على العضو بعنف وجرأة؛ فغضب العضو وذهب إلى مكتب ثروت وشكا له السائق، فأمر ثروت بإحضاره وقال له كيف تجرؤ أن تكلم الأعضاء بهذه الجرأة؟ فقال له: «إنه وصفك بما ليس فيك.» فأجابه: «المفروض أن تكلم الأعضاء بكل توقير واحترام!» وأجبره على الاعتذار، وقَبِل العضو، ومرَّت المشكلة بهدوء دون أن يحاسِب العضو أو حتى يعاتبه.
وقد حكى لي إبراهيم السائق أيضًا بكل زهو أنه أوصل «ثروت» إلى البنك الأهلي ولم يجد مكانًا يوقف فيه السيارة إلا في صفٍّ ثانٍ، ولما جاء عسكري المرور وضع على السيارات التي أمام سيارته مخالفة وعلى السيارات التي خلف سيارته مخالفات وترك سيارته ولم يقترب منها، ولما عاد ثروت ورأى كمية المخالفات الموضوعة ورأى سيارته بدون مخالفة تعجَّب وقال للسائق: كيف يكون ذلك؟! فأجاب السائق: لما رأى العسكري هيبتك ووقارك لم يقترب من سيارتك. فما كان منه إلا أن نادى على العسكري وسأله لماذا لم تضع مخالفة على سيارتي؟ فارتبك العسكري ولم يجب فقال له: تعالَ وأدِّ عملك كما يجب، وقل لي: كم قيمة المخالفة؟ ثم دفعها وأمر السائق بالسير بين دهشة العسكري وذهوله، وقال السائق: إن مثل هذه الحادثة تكررت أكثر من مرة وعلى طرقٍ مختلفة.
وقال لي السائق أيضًا: إن سيارة ثروت كانت ١٣١ ومرت بجانبه سيارة «مرسيدس» على أحدث طراز فقال السائق: أما كان يجب أن تركب أنت المرسيدس؟ فأجابه ثروت على الفور: أنا ثروت أباظة سواء ركبت المرسيدس أم ركبت عجلة. والسائق يحكي وكله فخر بأنه يعمل عند إنسان يعرف واجباته ويعطي البلد حقها، ولا يستغل الحكومة حتى في مخالفة.
وكان كل العاملين في المنزل يقولون: إنهم لم يشعروا قط أنهم خدم، وكلهم يعملون عنده منذ أكثر من عشرين عامًا ولم يشعروا منه إلا بكل حب ورعاية.