أبي ثروت أباظة
كان أبي بالنسبة لي الحب والحنان والحماية والحصن الذي أتحصن به من الناس والأيام، ولكني هنا لا أريد أن أتحدَّث عن علاقتي بأبي؛ فإني أعتبرها خصوصيات لا أحب أن أتناولها، وإنما ما أريد التحدث فيه هو جانب من جوانب شخصيته، وهو الشجاعة والجسارة وقول الحق، وهي ميزات نادرًا ما نجدها في الناس، فكلمة الحق قالها ثروت أباظة حينما كان الحق لا يُقال بل لا يجرؤ أحد على التفكير فيه، قالها في فترة كانت السجون مفتوحة على مصراعيها، والمعتقلات تفتح ذراعيها للداخلين، والمخابرات تعمل بجد ونشاط للتجسس على المصريين، وليس على الأعداء، كان التصنت على التليفونات شيئًا عاديًّا حتى إن الناس كانت تتكلم ﺑ «السيم». في هذه الفترة اعتُقلت ابنة خالتي زينب في مدرستها ولم تكن تتجاوز الخامسة عشرة، وكانت المدرسة من أهم المدارس في الإسكندرية، تدار بإدارة إنجليزية؛ اعتُلقت لأنها قالت لزميلتها في الفصل ابنة الليثي عبد الناصر «إن عمكِ جرَّد الناس من أموالهم وأخذ مال النبي.» وأغلقوا عليها غرفتها لمدة شهر، لا يخرجونها إلا لتذهب إلى المحافظة لاستجوابها، إلى أن استطاع أخوها أن يفكَّ أسرها. هكذا كانت مصرنا في الستينيات، لم يمدح ثروت أباظة وقتها السلطة، ولم يتملَّقها، وإنما حاربها ولم يعترف بها أبدًا، واعتبر أن السلطة قد اغتصبت البلاد اغتصابًا، وقد قالها في روايته «شيء من الخوف» وصاح بأعلى صوت: «جواز عتريس من فؤادة باطل!» هكذا كان أبي، كان يقول الحقيقة ويعلم الله كم كانت الحقيقة محفوفة بالمخاطر! ويعلم الله كم من ضحايا كلمة الحق سقطوا في أيدي الزبانية وذاقوا التعذيب والأهوال وهم شهود على هذه الفترة العصيبة من تاريخ مصر! وقد اتهم بعض الناس أبي بأنه تملَّق الرئيس أنور السادات والرئيس حسني مبارك، أما كان الأجدر به يتملق ويسترضي حكم الطغيان الذي كان يقصف الأقلام بل ويقصف الأعمار أيضًا حتى يأمن جانبه؟ لكنه أيَّد الرئيس السادات والرئيس مبارك عن اقتناع لأنهما أعادا للإنسان المصري إنسانيته، وللمواطن حريته، ولم يتدخَّلا في رأي جريدةٍ مؤيدةً كانت أو معارضة. ترى أكان من الممكن أن تصدر جريدة مثل جريدة الأسبوع أو جريدة العربي اللتين تفردان صفحاتٍ متعددةً للهجوم على الوزراء وانتقاداتٍ حادة لكثير من المسئولين؟! هل كان يمكن تصور هذا في الستينيات؟!
من المؤكد أن المحررين كان سيكون مآلهم وراء الشمس.