الفصل الأول
لم تستطِع تذكُّر وقتٍ لم تعرف فيه القصة؛ فقد كبرَتْ وهي تعرفها. قَدَّرَت أنه لا بد أن أحدًا ما قد حكاها لها في وقتٍ ما، لكنها لم تستطِع تذكُّر السرد. كانت قد تخطَّت مرحلة أن تُحاول أن تصرِف دموعها بأن تطرِف بعينها حين كانت تفكِّر في تلك الأمور التي ذكرتها القصة، لكنها حين كانت تشعر بأنها أصغر وأكثر رثاثةً من المعتاد، في المدينة الكبيرة النابضة بالحياة الواقعة عاليًا في تلال مملكة دامار، كانت لا تزال تجد نفسها تتأمَّل تلك الأمورَ وتُطيل التفكير فيها؛ وأحيانًا ما كانت إطالة التفكير تجلِب معها شعورًا بصداعٍ قوي حول صدغَيها، شعورًا أشبه بدموعٍ مكبوتة.
أطالت التفكير، وهي تُطِل إلى الخارج من فوق العتبة العريضة المُنخفضة لإطار النافذة الحجري؛ ثم رفعت ناظرَيها إلى التلال؛ لأن سطح الفِناء المزجَّج كان لامعًا جدًّا في أوقات مُنتصف النهار، فلم يكن يُمكن التحديق فيه طويلًا. وسلك ذهنها مسلكًا قديمًا مألوفًا: تُرى مَن ذا الذي حكى لها القصة؟ كان من المُستبعَد أن يكون والدُها هو مَن حكاها لها؛ لأنه نادرًا ما كان يتحدَّث إليها بأكثر من بضع كلماتٍ مجتمعة حين كانت أصغر سنًّا؛ كان أكثر ما كانت تعرفه عنه هو ابتساماته الرصينة الحنونة ومظهره الذي يُوحي بأنه منشغل قليلًا. كانت تعرف على الدَّوام أن والدها شغوف بها، وهو ما كان حقيقيًّا؛ لكنه لم يجعلها موضعَ اهتمامِه إلا مؤخرًا، وقد حدَث هذا بصورة غير متوقَّعة، كما أخبرها والدها بنفسه. إن والدها هو أصلح مَن يُخبرها قصة ولادتها، وصاحب الحق الأوحد في ذلك، لكن كان من المُستبعَد أن يكون قد فعل.
وكذلك كان من المستبعَد أن يكون الخدَم هم مَن أخبروها بالقصة؛ فدائمًا ما كانوا مُهذَّبين معها بطريقتهم الحذرة، وكانوا مُتحفِّظين ولا يتحدَّثون إليها إلا عن شئون المنزل. أدهشها أنهم كانوا لا يزالون يتذكَّرون أن يكونوا حذرين معها؛ إذ كانت قد أثبتت لهم منذ وقتٍ طويل أنها لم تكن تملك شيئًا يحذرون بشأنه. عادةً ما كان أطفال العائلة الملكية مُقلقين نوعًا ما في التعامل اليومي معهم؛ لأنه كثيرًا ما كانت تتدفَّق «مواهبهم» بطرُقٍ مفاجئة وغير متوقَّعة. وكان من المدهش قليلًا أنَّ الخدَم كانوا يكلِّفون أنفسهم عناءَ معاملتها باحترام؛ وذلك لأن مسألة كونها من صُلب أبيها لم يكن يدعمها شيء عدا أن زوجةَ أبيها قد وُجِدَت حُبلى بها. لكن مع كلِّ ما قيل عن والدتها، لم يُلمِح أحدٌ قَط إلى أنها لم تكن زوجةً مخلصة.
وما كانت هي لتُهرع وتختلِق الأقاويل عن أيٍّ من الخدَم الذين كانوا يزدرونها، كما كان من شأن جالانا أن تفعل — وكانت تفعل ذلك باستمرار، على الرغم من أن الجميع كانوا يُعاملونها بأكبر قدرٍ من الاحترام يمكن لإنسان إظهاره. وقد انتشرت شائعة ساخرة مفادُها أن «موهبة» جالانا هي أنه مُحالٌ إرضاؤها. لكن ربما كان من وجهة نظر الخدَم أنه لا يجدُر المخاطرة باكتشاف أيِّ أوجهِ تشابُهٍ أو اختلاف بينها وبين جالانا؛ ولا شك أن الخِدْمة في منزلٍ يضمُّ بين جنباته جالانا جعلت مَن صمد فيه حذِرًا بتلقائية وموقِّرًا لأي شيءٍ يتحرَّك. ابتسمت إيرين. إذ رأت الرياح تُحرِّك قممَ الأشجار؛ ذلك أن سطح التلال بدا وكأنه يتموَّج تحت السماء الزرقاء؛ وحمل النسيم رائحةَ أوراق الشجر حين انسلَّ عبْر نافذتها.
وفي واقع الأمر، من المُرجَّح جدًّا أن تكون جالانا هي مَن حكَت لها القصة. وكان هذا من شيَمِها؛ فقد كانت جالانا تكرهها دومًا، وما زالت تكرهها، مع أنها الآن قد كبِرَت، وعِلاوة على ذلك متزوجة من بيرليث، أمير دامار الثاني. ولم يكن يعلو هذه الرُّتبة سوى ولي العهد والملك؛ لكن جالانا كانت قد تطلَّعت إلى الزواج من تور، الذي كان وليَّ العهد والذي سيُصبح المَلك في يومٍ من الأيام. ومع ذلك ما كان تور ليتزوَّج من جالانا حتى لو كانت هي العذراء الملَكية الوحيدة المتاحة؛ «كنتُ سأهرُب إلى التلال وأُصبح قاطعَ طريقٍ ولن أفعل ذلك»، هكذا قال تور حينما كان صغيرًا جدًّا، لقريبتِه التي تَصغره كثيرًا، والتي انفجرت عندئذٍ في نوباتٍ من القهقهة على فكرة أن يرتديَ تور أسمالًا وعصابةً زرقاء ويرقص طلبًا للحظِّ الطيب في كل تربيعٍ من تربيعات القمر. في ذلك الوقت كان تور، الذي تملَّك منه الرعب جرَّاء المحاولات المتَّسمة بالإصرار التي كانت تبذلها جالانا لإيقاعه في شَرَكها، قد استرخى بما يكفي ليبتسِمَ لها ويُخبرها أنها لا تتمتَّع بما يليق من الاحترام، وأنها طائشة لا تستحيي. وقد ردَّت عليه من دون تردُّد أنْ «أجل.» وقد كان تور يتعامل بطريقةٍ رسمية بصورة مُفرِطة مع أي أحدٍ آخر عداها، وذلك بغضِّ النظر عن الأسباب؛ لكن كونه وليَّ العهد لملكٍ وقور ترمَّل مرَّتَين ويحكم مملكةً تُخيِّم عليها الكآبة، ربما أثَّر ذلك على شابٍّ يفوق تور طيشًا وعبثًا بكثير. وقد ظنَّت هي أنه كان مُمتنًّا لوجودها بقدْر امتنانها لوجوده؛ فإحدى أولى ذكرياتها أنها كانت تركب على كتفَي تور في حقيبة للأطفال فيما يعدو هو بفرسه ويقفز فوق سلسلة من العقبات؛ وكانت تصرخ سرورًا وفرحًا، كذا جُرحت يدُها الرقيقة الصغيرة من شعره الأسود الكثيف. وقد غضبت تيكا لذلك لاحقًا؛ لكن تور، الذي كان عادةً ما يتلقَّى أيَّ اتهام، بأدنى إهمالٍ للواجب، بشفاهٍ شاحبة ووجهٍ جامد، لم يزِد على أن ضحك.
لكن متى ما قرَّرت أن جالانا هي مَن أخبرتها أولًا بالقصة، وجدت أنها لا تستطيع أن تُصدِّق ذلك من جانبها في نهاية المطاف. إن كانت قد أخبرتها بها لتَغيظها ولتتعمَّد أذيتها فبلى؛ لكن القصة نفسها كانت تحمل الكثيرَ من الجلال المُتسم بالحزن. لكن ربما كان ما دعاها إلى الشعور بذلك أن القصة كانت عن والدتها؛ ربما تكون قد غيَّرتها في ذهنها، فاختلقت مأساةً من مجرد شائعات فظة وكريهة. لكن أن تعمد جالانا إلى قضاء وقت طويل بصحبتها لتخبرها بالقصة كان تصرفًا غيرَ مألوف منها؛ إذ كانت جالانا تفضِّل، متى كان ذلك ممكنًا، أن تتعمَّد تجاهُل أدنى أقربائها مكانةً، ووجهها يحمل تعبيراتٍ تُوحي وكأن ثمَّة ذبابةً ميتة على عتبة النافذة فلمَ لم يُزِلها الخدَم؟ حين كانت جالانا تُجبَر على الحديث إليها من الأساس، فعادةً ما يكون ذلك بدافع الانتقام الفوري. وما كانت حكاية زوجة أرلبيث الثانية لتخدم أغراضها بسبب طبيعتها غير المباشرة والمُعقَّدة. لكن يظل التخمين الأفضل أن يكون أحد أقربائها هو مَن قصَّ القصة عليها. ليس تور بالطبع. وإنما أحد أقربائها الآخرين.
مالت بجسدها إلى خارج النافذة ونظرت إلى الأسفل. كان من الصعب التعرُّف على الناس من أعلى رءوسهم، وعلى بُعد عدة طوابق. ولكن لم يكن هذا ينطبق على تور؛ إذ كانت تتعرَّف عليه على الدوام، حتى ولو كان كلُّ ما ستراه منه هو كوعه ممتدًّا من هيكل الباب بمسافة بوصةٍ واحدة أو اثنتَين. على الأرجح أنَّ من يقف تحتها الآن هو بيرليث؛ كانت تلك المِشية الواثقة مُمَيِّزةً له حتى من أعلى، وأكَّدت ذلك الطريقةُ التي يتبعه بها ثلاثة من الخدَم الذين يرتدون كسوةً أنيقة، ليس لسببٍ سوى أن يُضيفوا بحضورهم إلى ما يتمتَّع به سيدهم من أهمية. كان تور يتحرك وحيدًا، كلما أمكن له ذلك؛ فقد أخبرها متجهِّمًا أنه حظي بما يكفي من الرفقة أثناء أدائه مهامَّ ولي العهد، وأن آخِر ما كان يريده في الأوقات غير الرسمية هو حاشية غير رسمية. وكانت تُحب أن ترى والدها يجرُّ إمَّعاتٍ مكتسين بالمخمل في إثره، وكأنه طفل يجرُّ لعبةً بخيط.
رأت من أعلى بيرليث يتحدَّث إلى شخصٍ آخرَ ذي شعر داكن، وكان الخدَم ينتظرون في إجلال على مسافةِ بضع أذرعٍ منهما؛ ثم برز شخصٌ يمتطي حصانًا من عند الزاوية؛ لم يكن باستطاعتها تمييزُ الأصوات لكنها سمِعت طقطقة الحوافر. كان الراكب يرتدي كسوةَ رسول، ودلَّ طِراز سَرْجه على أنه أتى من جهة الغرب. التفت له كِلا الرأسين وأطلَّا نحوه، فتسنَّى لها رؤية وجهيهما الشاحبين الغائمين وهما يتحدثان إليه. ثم أوقف الفارس خببَ حصانه، فكان الحصان يضع أقدامه بحرص شديد؛ فقد كان من الخطير السيرُ بسرعة عبر أرجاء الفناء؛ ثم اختفى بيرليث والرجل الآخر وحاشية بيرليث من أمام ناظريها.
ولم يكن يتعيَّن عليها أن تسمع ما قاله أحدهم للآخر لتعرف ما يدور؛ لكنها لم تسعد بمعرفتها لِما دار؛ ذلك أن معرفتها تلك جلبت لها ارتباكًا وخيبةَ أملٍ مريرة. كان الارتباك أو خيبة الأمل هي ما أبقى عليها مُحتجَزة ووحيدة في مقرها، الآن.
لم ترَ والدها أو تور طَوال الأسبوع المنصرم إلا لِمامًا؛ إذ كانا يتلقيان الكثيرَ من الرسائل والكثير من الرسل، حيث كانا يُحاولان إبطاءَ حدوثِ ما كان سيقع على أي حال، وفي أثناء ذلك كانا يُحاولان أن يقرِّرا ما يلزم فِعله بعد حدوثه. كان بارونات الغرب — وهم الأمراء من المرتبة الرابعة — يُثيرون المتاعب. سَرت شائعة مفادها أن أحدًا من الشمال — إما أنه كان بشريًّا أو بشريًّا بما يكفي ليبدوَ بمظهر البشري — كان قد حمل معه جنوبًا عبر الحدود شيئًا من شرٍّ شيطاني وأطلقه في اجتماع مجلس البارونات الذي انعقد في الربيع. كان نيرلول هو رئيس المجلس، ليس لسببٍ وجيه سوى أن والده كان الرئيس من قَبله؛ لكن والده كان رجلًا أكثرَ صلاحًا وحكمة. ولم يكن يُعرف عن نيرلول ذكاؤه، وعُرِف عنه سرعةُ انفعاله وطبعه الحاد: كان الهدفَ الأمثل للشر الشيطاني.
لو أن والد نيرلول كان مكانه لأدرك حقيقةَ الأمر. لكن نيرلول لم يتبيَّن أي شيء؛ بدا الأمر ببساطةٍ فكرةً رائعة أن ينشقَّ عن دامار وعن حكمِ أرلبيث ملكِ دامار والأمير تور ويُنصِّب نفسَه الملكَ نيرلول؛ وأن يفرض ضرائبَ جديدةً على مزارعيه ليؤمِّن تكوينَ جيش، ليستوليَ في نهاية المطاف على بقيةِ دامار من أرلبيث وتور، اللذين لم يكونا يحكمانها جيدًا بقدرِ ما يمكن له أن يحكمها. وتمكَّن من إقناعِ عددٍ من رفاقه البارونات بعبقرية خطَّته، بينما شوَّش الشر الشيطاني على أذهانهم (فبمجرد أن يصيب الشر الشيطاني أحدَ البشر، عادةً ما ينتشر كالطاعون). وكان ثمَّة شائعةٌ أخرى أقل انتشارًا، مُفادها أن نيرلول اكتسب فجأةً قدرةً ساحرة على التأثير فيمن يستمعون له يتحدَّث بفكرته الرائعة، وكانت هذه الشائعة أكثرَ إزعاجًا وإثارةً للقلق بكثير؛ ذلك أنها لو كانت صحيحة فإن الشر الشيطاني كان فعلًا قويًّا للغاية.
وقد اختار أرلبيث ألا يوليَ الشائعة الثانية أيَّ اهتمام؛ أو بالأحرى أن يوليَها اهتمامًا كافيًا فقط لدحضها، حتى لا يظنَّ أحد أتباعه أنه اجتنبها خوفًا. لكنه أعلن أن المتاعب كانت كافية لأن يتحتَّم عليه أن يحلَّ المسألة بشخصه؛ وأن تور سيذهب معه، وسيأخذ جزءًا كبيرًا من الجيش، وجزءًا كبيرًا بنفس القدْر من أفراد الحاشية، ومعهم مُخملهم ومجوهراتهم لتقديم استعراض كبير وأنيق بكياسة، ليتظاهر بإخفاء الجيش من خلفه. لكن كِلا الطرفين يعرف أن الجيش هو الجيش، وأن الاستعراض ما هو إلا استعراض. ما خطَّط أرلبيث لفعله كان صعبًا، وخطيرًا أيضًا؛ ذلك أنه أراد أن يمنع حربًا أهلية، لا أن يفتعل واحدةً. وسيختار مَن سيذهبون معه بكل حيطة وحذر.
«لكنك ستصطحب بيرليث؟» هكذا سأَلَت تور مستنكرة، حين التقته مصادفةً ذات يوم في الخارج خلف الحظائر، حيث يمكن لها أن تُظهِر استنكارها.
تجهَّم تور. وقال: «أعرف أن بيرليث ليس إنسانًا ذا شأن، لكنه في واقع الأمر مؤثِّر للغاية في هذا النوع من الأمور؛ لأنه بارع في الكذب، كما تعرفين، ولأنه يستطيع قول أشنع الأشياء بأكثر الأساليب لطفًا.»
ولم يكن جيش أرلبيث يضم نساءً. قد يُسمح لبعض الزوجات الأكثر جسارةً أن يرافقن أزواجهن، أولئك اللائي يستطعنَ ركوبَ الخيل وتلقَّين تدريبات سلاح الفرسان؛ وأولئك اللائي يمكن الوثوق بأن يبتسمنَ حتى في وجه نيرلول (يتوقَّف هذا على كيفية سيرِ المفاوضات) وينحنين له احترامًا كما يليق بِرُتبته بصفته أميرًا من المرتبة الرابعة، بل حتى أن يُراقِصنه إن طلب ذلك. لكن كان من المتوقَّع ألا تذهب زوجةٌ مع زوجها إلا إذا طلب منها زوجُها هذا، وما من زوجٍ كان سيطلب هذا إلا إذا كان قد طلَبه من الملك أولًا.
ومن المؤكَّد أن جالانا لن تذهب، حتى لو كان بيرليث مُستعدًّا لخوضِ عناء أن يحصل على الإذن من أرلبيث (وعلى الأرجح أنه ما كان سيحصل عليه). ومن حُسن حظ كل المعنِيِّين بالأمر، أن جالانا لم تكن مهتمةً بالذهاب؛ فأيُّ شيءٍ من قبيل المصاعب لم يكن يستميلها على الإطلاق، وكانت هي واثقة أن لا شيءَ في الغرب البربري يمكن أن يستحق وقتَها وجمالها.
يمكن لابنة الملك الذهابُ أيضًا؛ ابنة الملك التي ربما تكون قد أثبتت جدارتها بطرقٍ بسيطة؛ والتي تعلَّمت أن تُبقي فمَها مطبقًا، وأن تبتسم لدى الإشارة إليها بذلك؛ ابنة الملك التي صادفَ أنها ذُريته الوحيدة. كانت تعلم أنهم لن يسمحوا لها؛ كانت تعلم أن أرلبيث ما كان ليجرؤ على أن يمنحها الإذنَ حتى ولو أراد ذلك، ولم تكن تعلم إن كان قد أراد ذلك أم لا. لكنه ما كان ليجرؤ على اصطحاب ابنة الساحرة لمواجهة فِعال شر شيطاني؛ ما كان شعبه ليسمح له أبدًا، وقد كان هو في أمسِّ الحاجة لحُسن نية شعبه.
لكنها لم يكن بوسعها ألا تطلُب أن ترافق أبيها؛ في تصوُّرها بقدْر عدم قدرة نيرلول الغبي البائس على ألا يفقد صوابه حين مسَّه الشر الشيطاني. كانت قد حاولت أن تختار توقيت طلبها، لكنَّ والدها وتور كانا مَشغولَين كثيرًا في الآونة الأخيرة حتى إنه تعيَّن عليها الانتظار، والانتظار مُجددًا حتى كاد ينقضي الوقت المتاح أمامها. وكانت قد قدَّمت طلبها أخيرًا بعد عشاء يوم أمس؛ وذهبت إلى غُرفتها بعد ذلك ولم تخرج من حينها.
«أبي.» علا صوتها كما كان يعلو حين تكون خائفة. كانت النسوة الأخريات وأفراد البلاط الأقل شأنًا قد غادروا القاعة الطويلة بالفعل؛ وكان أرلبيث وتور وقلةٌ من الأقارب، ومن بينهم بيرليث، يستعدُّون لأمسيةٍ متعبة أخرى من النقاش حول ما ارتكبه نيرلول من حماقة. صمتوا جميعًا والتفتوا ينظرون إليها، وتمَنَّت لو لم يكونوا حاضرين بهذه الكثرة. ازدردت ريقها. كانت قد قرَّرت ألا تقدِّم طلبها إلى والدها في ساعة متأخرة في غرفته، حيث كان من المؤكد أنها كانت ستجده وحيدًا، لأنها كانت تخشى أن يتعامل معها بعطف فحسب وألا يأخذ حديثها على مَحمل الجِد. إن كان من المؤكَّد أنها ستتعرَّض للإحراج — وكانت تعرف، أو قالت لنفسها إنها تعرف أن طلبها سيلقى الرفض — فعلى الأقل ستُريه كم كان الأمر يعني لها، أن تقدِّم له طلبها وأن يَلقى طلبُها الرفض على مرأًى من الآخرين.
التفت إليها أرلبيث بابتسامته المُتمهِّلة المعتادة، لكنها كانت أكثرَ تمهلًا من المعتاد وامتدَّ أثرها إلى عينِه بأقلَّ من المعتاد. لم يقل: «أسرعي، أنا مشغول» كما كان ليفعل — ولو فعل ما لامه أحد، هكذا فكَّرت في نفسها بأسًى.
«أستمضي إلى الغرب، قريبًا؟ لتعالج مسألة نيرلول؟» كان بإمكانها الشعورُ بأنظار تور موجَّهة إليها، لكنها أبقت عينيها مثبَّتتين على أبيها.
قال أبوها: «أعالج مسألة؟ إن ذهبنا، فسنذهب بجيش يشهد على المعاهدة.» تسلل شيءٌ من ابتسامته إلى عينَيه في النهاية. «أنت تتعلَّمين لغة البلاط يا عزيزتي. أجل، سنذهب «لنعالج مسألة» نيرلول.»
قال تور: «ولدينا بعضُ الأمل في أن نأسِر الشر» — لم يكن المرء لينطِق بكلمة «شيطان» إن استطاع تفاديها — «وأن نحتويَه ونعيده من حيث أتى. لا يزال هذا الأمل يراودنا حتى الآن. هذا لن يوقِف المتاعب، لكنه سيمنع أن تتفاقم الأمور. إن كان نيرلول لا يشعر بالخزي والضيق من هذا الشر، فقد يعود إلى سابق عهده ويصبح مجددًا نيرلول الحاذق الفاتن الذي نعرفه جميعًا ونوقِّره.» وافترَّ فمُ تور عن ابتسامة ساخرة.
نظرَت إليه واختلجَت زاويتا فمِها. كان من شيَم تور أن يُجيبها وكأنها عضوٌ حقيقي في البلاط الملكي، بل حتى كعضو في المداولات الرسمية، وليس باعتبارها مصدرَ مقاطعة أو إزعاج. ربما كان تور سيسمح لها حتى بأن تذهب معهم؛ فلم يكن مُتقدمًا في السن بما يكفي ليهتم كثيرًا برأي شعبِهِ كما فعل أرلبيث؛ وعِلاوة على ذلك، كان تور عنيدًا. لكن القرار لم يكن قرارَ تور. فعاودت النظر إلى والدها.
«حين تذهبون، هل يُمكنني الذهاب معكم؟» كان صوتها أعلى قليلًا من كونه حادًّا، وتمنَّت لو كانت إلى جوار جدارٍ أو باب بوسعها أن تستندَ إليه، بدلًا من كونها في منتصف قاعة الطعام الكبيرة الخاوية، وركبتاها تُحاولان الانهيار من تحتها وكأنها مُهرة لا يزيد عمرها عن ساعة واحدة.
فجأةً أصبح الصمت أثقلَ، وصارت وجوه الرجالِ الماثلين أمامها جامدة؛ أو هكذا صار وجهُ أرلبيث ومن بعده مَن هم خلفه، ذلك أنها تجنَّبت بكل حزمٍ أن تنظر إلى تور. قالت في نفسها إنها لا تستطيع أن تتحمَّل أن يتخلَّى عنها أيضًا صديقُها الوفي الوحيد؛ ولم يسبق لها مطلقًا أن حاولت أن تكتشف مدى ما يتَّصف به تور من عناد. ثم كُسِر الصمت بضحكات بيرليث العالية النبرة.
«حسنًا، وماذا توقَّعت من السماح لها باتباع هواها في السنوات الماضية؟ من الجيد جدًّا أن تجعلها منشغلةً عنك وتمنعها من أن تكون مصدرًا لإزعاجك، لكن كان حريًّا بك أن تُفكِّر في أنَّ الثمن الذي دفعْتَه للتخلُّص منها ربما كان مرتفعًا بعضَ الارتفاع. ماذا توقَّعت حين يُعطيها فخامةُ ولي العهد دروسًا في المبارزة وتندفِع هي في الأرجاء على ذلك الجواد الثلاثي الأرجل وكأنها صَبيُّ مزارع من التلال، دون أن يُنكر أحدٌ عليها ذلك أبدًا عدا توبيخٍ تتلقَّاه من تلك المرأة السليطة التي تعمل خادمة لها؟ ألم تفكِّر فيما هو قادم من حساب؟ كانت في حاجة للتأديب، وليس للتشجيع، منذ سنوات؛ وأظنُّ أنها الآن في حاجة للتأديب. ربما لم يفُت الأوان بعد.»
«كفى.» هكذا جاء صوت تور مزمجرًا.
كانت ساقاها ترتعِشان الآن كثيرًا حتى إنها تعيَّن عليها أن تُحرِّك قدمَيها، مُتململةً في مكانها، لتُبقي مفاصلها ثابتةً حتى تحمِلها وتُبقيها واقفة. وشعرت بالدم يتدفَّق إلى وجهها بفعل كلمات بيرليث، لكنها ما كانت لتدَعَه يحملها على الذهاب من دون إجابة. «ما قولك يا أبي؟»
فقال بيرليث محاكيًا لها: «أبي. صحيح أن ابنة الملك يمكن أن تكون ذات نفعٍ في مواجهةِ ما أرسله الشمال علينا؛ ابنة الملك التي تجري في عروقها دماءٌ ملكية حقيقية.»
مدَّ أرلبيث ذراعه، في حركةٍ غير ملكية على الإطلاق، وأمسك تور قبل أن يكتشفَ أي أحدٍ ما كان سينجم عن حركة ولي العهد المفاجئة تجاه بيرليث. «بيرليث، أنت تخون شرف منزلة الأمير الثاني بحديثك هكذا.»
فقال تور بنبرة مخنوقة: «سيعتذر، وإلا لقنتُه درسًا في المبارزة لن يروق له على الإطلاق.»
شرعت هي تقول في غضب: «تور، لا تكُن …» لكن قاطعها صوت الملك. «بيرليث، ثمَّة إنصافٌ فيما طالب به وليُّ العهد.»
ساد صمتٌ طويل كرِهت هي فيه جميع الحاضرين دون تمييز؛ كرهت تور لأنه تصرَّف كابن مزارعٍ أُهينت دجاجتُه الأليفة للتو؛ وكرهت أباها لأنه تصرَّف بطريقةٍ ملكية راسخة؛ وكرهت بيرليث لكونه بيرليث. كان هذا أسوأ حتى مما توقَّعَت؛ وعند هذه المرحلة ستكون مُمتنة لو أنها هربت وحسب، لكن كان الأوان قد فات.
فقال بيرليث في الأخير: «أعتذر، أيتها الأميرة إيرين. لأني قلت الحقيقة»، هكذا أضاف في خبثٍ، ثم دار على عقِبَيه وسار عبْر القاعة. وعند الباب توقَّف والتفت ليصيح فيهم: «اذهبي واقتُلي تنينًا يا سيدتي! السيدة إيرين، قاتلة التنانين!»
خيَّم الصمت عليهم، ولم يَعُد باستطاعتها حتى أن ترفع ناظريها في وجه أبيها.
قال أرلبيث: «إيرين …»
أنبأتها الرقةُ في نبرةِ صوته بما كانت تحتاج إلى معرفته، فاستدارت وسارت مُبتعدةً نحو الجانب الآخر من القاعة، في الجهة المقابلة من الباب الذي خرج منه بيرليث. كانت تُدرك كم هو طويل الطريق الذي تعيَّن عليها أن تسلكه؛ لأن بيرليث كان قد سلك الطريقَ الأقصر، وقد كرهته أكثرَ لهذا؛ وكانت واعيةً لكل الأنظار التي تتوجَّه نحوها، وواعية لأن ساقيها لا تزالان ترتجفان وأن مَسارها الذي قطعته لم يكن مُستقيمًا. لم يُنادِها أبوها ليطلب منها العودة. ولم يفعل تور كذلك. وحين وصلت إلى الباب أخيرًا، كانت كلمات بيرليث لا تزال تتردَّد في أذنيها: «ابنة الملِك التي تجري في عروقها دماءٌ ملكية حقيقية … السيدة إيرين، قاتلة التنانين!» كانت كلماته مثل كلاب صيد مُنطلِقة في أثرها تتبعها بلا كلل.