الفصل العاشر
ركبَت إيرين إلى المنزل سعيدةً ومُبتهجة. ولم يستطِع الوقت المُستغرَق، ولا الصابون الذي تطلَّبه الأمر لإزالة الدهان الأصفر من شعرِها، أن يُثبِّطا معنوياتها (لحُسن الحظ أنها كانت قد فكَّرت في أن تحضِر معها قَدْرًا وافرًا من صابون تنظيف الأرضيات الخشن) أكثر من الليلة الباردة التي قضَتْها ولم يكن بحوزتها خلالها سوى بطانية واحدة خفيفة.
ولم يستطِع حتى أحدُ شئون البلاط البغيضة، والعشاء الدبلوماسيُّ الطويلُ والمُملُّ بعده، أن يَمحقا سعادتها، وحين سُئلت للمرةِ الثالثةِ في غضون نصف ساعةٍ عن عطرها الجديد — إذ كان ثمَّة رائحة عشبية خفيفة ورائحة فحم بسيطة لا تزال عالقةً بها — لم يسَعها إلا أن تضحك بصوتٍ مرتفع. أما السيدة، التي ما برِحت تُحاول أن تُجريَ معها محادثة، فابتسمت لها ابتسامة جامدة وانصرفت عنها، ذلك أنها كرهت أن يضحك منها شخص مِن المُفترَض أنها تَرثي له وتعطف عليه.
تنهَّدت إيرين لأنها فهمت مَغزى الابتسامة الجامدة، وتساءلت إن كانت رائحتها ستظلُّ دائمًا رائحةَ أعشاب ونار — وشيئًا من رائحة أرضية نظيفة.
كان ثمَّة نشاط غير طبيعي في بلاط والدها في الوقت الراهن؛ فلم يكن ثوربيد سوى مُقدمة لأعدادٍ غفيرة من الزُّوَّار الرسمِيِّين، كلٌّ منهم أكثر انفعالًا من سابقِه، وقد نزع بعضهم لأن يكونوا عدوانِيِّين. كانت الأنشطة المتزايدة على حدود دامار الشمالية تُقلِق الجميع ممن يعرفون بما يكفي، أو ممن رغبوا أن يُولُوا الأمرَ اهتمامًا؛ وكان السفر والتَّرحال بين القرى والمدن الصغيرة ومدينة الملك أكثرَ ممَّا كان من قبلُ وبِقدْر ما تستطيع إيرين أن تتذكَّر، وكانت مآدب العشاء في البلاط الملكي — التي دائمًا ما تكون مُتوتِّرة بفعل المراسم — تمتدُّ الآن فتصِل إلى نقطة الانهيار بفعل شيءٍ كالخوف.
وكانت إيرين قد بدأت تأتي والدها على الإفطار بين الحين والحين — بعد ذلك الصباح الذي أعطاها فيه إذنَه بأن تنطلق وحدَها مع تالات — ودائمًا ما بدا مسرورًا لرؤيتها. وفي بعض الأحيان كان تور يتناول معهما الإفطار، وإن كان أرلبيث قد لاحظ أن تور ينضمُّ إلى إفطاره أيضًا أكثرَ من ذي قبل، بعدما صارت ثمَّة فرصة لأن يرى إيرين أيضًا، ولم يقُل شيئًا. وكان تور يقضي معظم الوقت في القلعة؛ لأن أرلبيث كان في حاجةٍ له على مقربة منه.
وواصلت إيرين كونها غير واعية بالطريقة التي ينظر بها تور إليها، لكنها كانت تعي تمامًا أن المحادثات بينهما كانت محرِجة في أفضل الأحوال في هذه الآونة؛ إذ بدا أن عائقًا جديدًا صار بينهما منذ أخبر تور قريبتَه عن تاج البطل. وقد قرَّرت إيرين أن الارتباك الحديث العهد بينهما ربما له علاقة باضطراره أخيرًا إلى الاعتذار عن مبارزتها. وقد تفهَّمت تمامًا ذلك الأمر في ظلِّ ضغط العمل الذي يتعيَّن عليه أن يؤديَه؛ لذا حاولت أن تكون مهذَّبة لتُظهِر له أنها لا تُولي الأمرَ اهتمامًا. وحين بدا أن هذا لا يجدي نفعًا، صارت تتجاهله وتتحدَّث إلى والدها. وقد بدا بالفعل غريبًا أن أخذ تور الأمرَ على محمل الجِد — فلا شك في أنه قَدَّر لها بعض التفهُّم لطبيعة حياة ولي العهد، أليس كذلك؟ — لكن إن أراد أن يتحلَّى بالجمود والرسمية، فهذه مشكلته.
وهكذا كان ثلاثتهم ذات صباح يشربون من ثلاث كئوس من المالاك بتباطؤ حين دخل عليهم أول مُقدِّمي الالتماسات ليتحدَّث إلى الملك.
أبلغ مقدِّم الالتماس عن وجود تنِّين، يُدمِّر المحاصيل ويقتل الدجاج. كما أصاب التنين طفلًا، كان قد اكتشف عرينه بالصدفة، بحروق شديدة، وإن كان الطفل قد أُنقِذ في الوقت المناسب مما سمح بإنقاذ حياته.
تنهَّد أرلبيث وفرك جبهته بيده. «حسنًا. سنُرسل مَن يتعامل معه.»
فانحنى الرجل وانصرف.
قال تور: «سيأتي المزيد من هؤلاء الآن، مع وجود المتاعب على حدودنا. يبدو أن هذه الهوام تتكاثَر بصورةٍ أسرعَ حين تهبُّ ريح الشمال.»
فردَّ أرلبيث: «يؤسِفني أن أقول إنك مُحق. ولا يَسعنا أن نستغنيَ عن أحدٍ في هذه الآونة.»
فقال تور: «سأذهب أنا.»
فعاجلَه الملك: «لا تكن أحمقَ»، ثم أردف من فوره: «عذرًا. أنت آخِر مَن يُمكنني الاستغناء عنهم … كما تعرف. لم تَعُد التنانين تقتُل الناس كثيرًا في هذه الآونة، لكن نادرًا ما يعود صائدو التنانين من دون بضعةِ حروق شديدة.»
قال تور بابتسامةٍ ساخرة: «ذات يوم حين لا يكون لدَينا شيء أفضل نفعله، ينبغي أن نأتيَ بحلٍّ أفضل للتعامُل مع التنانين. من الصعب أخذُهم على محمل الجِد — لكنهم مصدر إزعاج خطير.»
جلست إيرين ساكنة تمامًا.
قال أرلبيث: «أجل.» وقطَّب وهو ينظر إلى كأسه. واستطرد: «سأطلب غدًا من نصف دزينة من المتطوِّعين أن يذهبوا ليتولَّوا هذه المسألة. لعلَّه تنين عجوز وبطيء.»
كانت إيرين تأمُل أيضًا أن يكون التنين عجوزًا وبطيئًا فيما كانت تنسلُّ مُنسحبة. إذ لم يكن أمامها سوى يومٍ واحدٍ كمهلة؛ لذا كانت في حاجةٍ لأن تُغادر من فورها؛ ولحُسن الحظ كانت قد زارت القرية المذكورة مرةً من قبل في رحلةٍ رسمية مع والدها؛ لذا كانت تعرف نوعًا ما كيف تصِل إليها. وكانت القرية تبعُد مسافة بضع ساعات ركوبًا.
ارتعشت يداها وهي تُسرِّج تالات وتَحزم إليه البزة المضادة للتنانين والكينيت، وسيفًا ورمحًا، لم تكن تعرف كيف تستخدمهما، حيث كانت قد علَّمت نفسها بنفسها باستثناء بضعة دروس تلقَّتْها من تور حين كانت في الثامنة أو التاسعة من عمرها. ثم تعيَّن عليها أن تتدبَّر طريقَها مرورًا بالإسطبل والقلعة ثم على طريق الملك وإلى خارج المدينة من دون أن يُحاول أحدٌ أن يُوقفها؛ وكان من الصعب بعض الشيء إخفاء السيف والرمح، رغم الرداء الطويل الذي غطَّتهما به.
كان حظها — أو شيء من هذا القبيل — جيدًا. كانت قلِقة للغاية بشأنِ ما ستقوله إن أوقفها أحدُهم حتى إنها أحسَّت بصداع؛ لكن وفيما انطلقت بجوادها، بدا أن الجميع لم يكونوا يَنظرون نحوها — ظنَّت في نفسها أنه وكأن الناس لم يكن بوسعهم رؤيتها. وقد شعرت جراء ذلك بالارتياب. لكنها خرجت من المدينة من دون أن يعترِضها أحد.
وقد انقشع عنها الصُّداع والشعور الغريب ما إنِ انطلقت هي وتالات في الغابة أدنى المدينة. كانت الشمس ساطعة، وبدت الطيور وكأنها تُغرِّد لها وحدَها. تسارعت خطوات تالات فصارت خببًا، وتركته يعدو بعض الوقت، فكانت الرياح تنسابُ من خلال شعرها، وقصبة الرمح تقرع خفيفًا على ساقها، تُذكِّرها أنها في طريقها لإنجاز شيءٍ مفيد.
توقَّفت إيرين على مسافةٍ قليلةٍ من القرية الموبوءة بالتنين لترتديَ بزتَها — التي لم تَعُد دهنيةً كثيرًا؛ إذ ربما كانت قد وصلت إلى مرحلة التشبُّع، ثم تكيَّفت مع الدهان كما يتكيَّف الحذاء الذي نُقِع في الزيت جيدًا مع القَدم التي تلبَسه. كانت بزَّتها لا تزال تطفئ المشاعل، لكنها أصبحت ناعمة وليِّنة كالملابس، وكادت تماثلها في سهولة ارتدائها. ودهنت إيرين الدهان على وجهها وعلى جوادها، ولبِست كذلك قُفَّازَيها الطويلَين. ودلفت إلى القرية وهي تَلمع تحت ضوء الشمس وتفوح منها رائحة أعشاب لاذعة.
وكان تالات بحقٍّ جوادَ حرب، حتى من منظور شخصٍ لم يرَ في حياته جوادَ حرب، وعيَّن شعرُ إيرين الأحمرَ هويَّتها على الفور بأنها الأميرة الأولى. وقف صبيٌّ صغير على عتبة بابه وصاح: «لقد أتَوا من أجل التنين!» ثم تجمَّع مجموعة من الناس، ثم ازدادت المجموعة في الشارع، ينظرون إليها ثم يبحثون مُتحيِّرين عن الخمسة أو الستة الذين كان يجب عليهم أن يرافقوها.
قالت إيرين: «أنا وحدي»؛ كانت ترغب في أن تشرح لهم، أنها ليست هنا من دون عِلم أبيها، ولكنها هنا وحدَها لأنها منيعة على التنانين (كما كانت تأمُل) ولم تكن في حاجةٍ لأي مساعدة. لكنَّ شجاعتها لم تُسعِفها، ولم تشرح لهم. في واقع الأمر، أتى ما رآه القرويون كبرياءَ ملَكيةً بنفعِه، وحرصوا على ألَّا يَظهروا بمظهرِ غيرِ المصدقين لأن الأميرة الأولى (حتى ولو كانت أميرةً هجينة) تستطيع تَولِّي أمر التنين بمفردها (وإن كانت أمها ساحرة فعلًا، فلربما كان ثمَّة شيء من خيرٍ في كونها هجينةً في نهاية المطاف)، فتحدَّث عديدون منهم في الحال، يَعرضون أن يُبيِّنوا لها أين اتخذ التنين عرينَه، وحرصوا جميعًا على ألا يُعاوِدوا النظر في الطريق خلفها.
كانت تتساءل في نفسها كيف لها أن تُخبرهم في كياسة أنها لا تريد منهم أن يحوموا في الأرجاء ليشاهدوا ما سيحدث، حيث لم تكن واثقةً تمامًا إلى أي مدًى من المُرجَّح أن يكون أولُ لقاءٍ لها بتنِّينٍ حقيقي محمودًا (أو ناجعًا). لكنَّ القرويين الذين رافقوها ليُبيِّنوا لها الطريق لم يعتزموا البقاءَ في أي مكانٍ بالقُرب من مسرح المعركة؛ فالتنين إذا حوصِر لن يُولي اهتمامًا للمارة غير المُقاتلين الذين تصادف أن طالتهم لفحةُ ناره التي لم تُصِب هدفها. دلَّها القرويون على الطريق، ثم عادوا إلى القرية في انتظارِ ما سيحدث.
علَّقت إيرين سيفها حول خَصرها، وثبَّتت الرُّمحَ في ثنية ذراعها. ومشى تالات وأُذنه مُنتصبة بحدةٍ جهةَ الأمام، وحين نخر وجدت إيرين رائحةً أيضًا؛ رائحة نار، وشيئًا آخر. كانت رائحةً جديدة، رائحةَ مخلوق لم يعبأ إن كان اللحمُ الذي يتناوله طازجًا أو غير ذلك، ويبعثر العظام بعد تناوُل اللحم منها. كانت رائحة تنين.
وبعدما نخر تالات نخْرَتَه التحذيرية، تقدَّم بحذر. وسرعان ما وصلا إلى فسحةٍ بها ربوةٌ حجرية عند حافتها. وكان بالربوة حفرة، حدُّها العُلوي محفوفٌ بدخانٍ مُشحَّم. كانت بقايا وجبات التنين السابقة مُتناثِرة في أرجاء المرج الذي كان فيما مضى أخضر، وخطر لإيرين أن رسوخ حوافر الحصان الصُّلبة سيكون أسوأ من رسوخ مخالب التِّنِّين ذات الأوتار القوية.
توقَّف تالات عن السير، ووقفا مكانهما، وأخذت إيرين تحدِّق إلى داخل الحفرة القاتمة في الربوة. مرَّت دقيقة أو اثنتان وتساءلت فجأةً عن الكيفية التي يحمل بها المرء التنين على أن يُعيره انتباهًا في المقام الأول. هل يتعيَّن عليها أن توقظه؟ هل تصرخ فيه؟ أم تُلقي بالماء عليه في الكهف؟
وفي نفس اللحظة التي تراخى فيها رأس رمحها في ارتياب، اندفع التنِّين من عرينه نحوهما مباشرةً؛ وفتح فمه ونفخ فيهما ناره، إلا أنَّ تالات لم يكن قد خامره الشك مطلقًا، وكان على استعدادٍ لأن يبتعِد عن طريقه برشاقةٍ فيما لوَّحت إيرين برمحها وقبضت على عُرف تالات لتمنع نفسها من السقوط على ظهر التنين. أخذ التنين يدور؛ كان يُقارب ركبتَي تالات طولًا، وكان كبير الحجم بالنسبة إلى تنين، وكان سريعًا سرعة مُخيفةً وهو يجري على أقدامه ذات البراثن الصفراء، ونفث نارَه نحوهما ثانيةً. لفحت النار ذراعَ إيرين هذه المرة وإن كان تالات قد أنقذهما من أسوأ ما في الأمر. رأت إيرين النارَ تغمر مقبضَ الرمح وتُومِض على مرفقها، لكنها لم تشعر بها؛ وقد أمدَّها عِلمها بأن دهانها يُحقِّق الغرض منه بالقوة وصفاء الذهن. فثبَّتت عقِب الرُّمح ووكزت تالات بأحد كاحِلَيها؛ وفيما انحرف تالات ودار التنين حولهم ثانيةً سدَّدت رُمحَها.
لم تكن تسديدتها لتكون صائبةً جدًّا لأحد الصيادين أو لصياد تنانين مُخضرم، لكن التسديدة أدَّت غرَضها. إذ انغرز الرُّمح في رقبة التنين، في البقعة الليِّنة بين الرقبة والكتف حيث كانت الحراشف ضعيفة، وأبطأ هذا حركته. انتفض التنِّين وضرب بذيلِهِ وزمجر فيها، لكنها كانت تعرف أنها لم تُصبْهُ بجرحٍ مُميت؛ ولو أنها تركته يهرُب مُتواريًا في عرينه، فإنه في نهاية المطاف سيُشفى وسيُعاود الظهور، أشَرَّ من ذي قبل.
الْتوى التنِّين حول الكتف المُصاب وحاول أن يقبض على الرُّمح بأسنانه، وكانت أسنانه طويلة ورفيعة ومُدبَّبة ولا تُلائم الإمساك بأيِّ شيءٍ بهذه النعومة والصلابة والحجم الضئيل كقصبة الرمح. ترجَّلت إيرين من فوق صهوة تالات واستلَّت سيفها واقتربت من التنين بحذر. تجاهلها التنين، أو بدا أنه كذلك، حتى أصبحت قريبةً جدًّا منه؛ فالتفت نحوها بسرعةٍ برأسه الطويل النحيل ونفث ناره.
أصابتها النار على نحوٍ مباشر؛ ولم تكن نار التنين مُعتدلةً كنار الخشب المُشتعل إلى جوار النهر. كانت نار التنين تُنازعها، تبتغي حياتها؛ خدشت النار جِلدها الشاحب اللامع، وكذلك الجلد اللَّيِّن الذي ترتديه؛ وفي حين لم تَضُرَّها حرارتها، فقد أضرَّتها حرارة شراستها؛ وفيما تجاوزتها النار واختفت، وقفت إيرين جامدةً في صدمة، وحدَّقت أمامها مباشرةً، ولم تتحرك.
عرف التنين أنه قد قتلها. كان تنينًا عجوزًا، وكان قد قتلَ إنسانًا أو اثنين من قبل، وكان يعرف أنه أصابها في مَقتل إصابةً مباشرة. وكان التنين مُتحيِّرًا بعض الشيء من أنها لم تصرخ حين أحرقت النار ذراعها، وأنها لم تصرخ الآن كذلك ولم تسقُط على الأرض تتلوَّى؛ لكن هذا لم يكن يُهِم. لن تُسبب له المزيد من المتاعب، ويمكن له أن يعتني بكتفِه المتألِّمة.
تقدَّمت إيرين ستَّ خطواتٍ مُتيبسةً نحو الأمام وأمسكت بعَقِبِ الرمح ودفعت التنين بقوة إلى الأرض ورفعت سيفَها ثم هوت به وقطعت رأس التنين.
ثم جاء صوت تالات وهو يصرخ غاضبًا، فالتفتت وكان الدمُّ الحارُّ المسفوك توًّا من رأس التنين المقتول ينبعث كالبخار ويُشوِّش عليها الرؤية: لكنها رأت نيران تنين، ورأت تالات يشبُّ ويضرب بقائمتَيه الأماميتَين.
هُرعت إيرين نحوهما وفكَّرت في سريرتها، فلتُساعِديني أيتها الآلهة، إن له قرينًا؛ لقد نسيت، فعادةً ما يُوجَد اثنان من هذه المخلوقات؛ وهوت بالسيف على ذيل التنين الثاني وأخطأت الهدف. أخذ التنين يلتفُّ حولهما وينفث النار وشعرت إيرين بحرارة ناره في حلقها، ثم هاجمه تالات مُجددًا. وضربها التنين بذيلِهِ حين التفتَ ليُواجِه الجواد مجددًا، فتعثَّرت إيرين ووقعت، وعلى الفور صار التنين فوقها، تخمش مَخالِبُه سُترتَها الجلدية وتبحث أسنانه الطويلة عن رقبتها. وقد آذاها الدُّخان الصادر من أنف التنين في عينيها. فصرخت صراخًا محمومًا وأخذت تتلوَّى بصعوبةٍ تحت ثِقل التنين؛ وسمعت شيئًا يتمزَّق، وعرفت أن نار التنين لو طالتها ثانيةً فإنها ستُحرقها.
ثم ضرب تالات بقائمتَيه الخلفيتَين جنب التنين بقوةٍ فرفعت قوة الضربة كلًّا من التنين وإيرين — ذلك أن براثن التنِّين كانت مُشتبكةً بالشرائط الجلدية — وسقطا على الأرض بقوة. سعل التنين لكن لم تخرج نار؛ وكانت إيرين قد سقطت تقريبًا فوق المخلوق. وقد خدشها التنين بذيلِهِ المُدبَّب فتمزَّق شيء آخر؛ وانطبقت أسنانه على بُعد إنشات من وجهها. كان سيفها طويلًا أكثرَ مما ينبغي؛ فلم تتمكَّن من جعلِه على مقربةٍ بما يكفي لتطعن به، وكانت كتفها تؤلِمها. ألقت إيرين بالسيف وكافحت تحاول الوصول إلى حذائها الأيمن، حيث كان به خنجر قصير، لكنَّ التنين أخذ يتمايل فلم تصل يدُها إلى الخنجر.
ثم عاد تالات يُهاجم مجددًا، فعضَّ التنِّين من فوق عينه الحمراء الصغيرة، حيث ثقب الأذن؛ فلوى التنين عُنقَه يريد أن ينفث نحوه النار، لكنه كان لا يزال دائخًا جراء السقطة، ولم يُخرِج من فمه سوى القليل من النار. ودسَّ تالات وجهه في خيط الدخان وقبض على التنين من أنفه وجرَّ رأسه نحو الخلف؛ وأخذ يجرُّه أكثر إلى الوراء. فارتفعت قائمتا التنِّين وصدره عن الأرض، وأخذ التنين يركل ويضرب، وتحرَّرت ساقا إيرين فاستلَّت الخنجر من حذائها وأقحمَتْه في صدر التنين العاري من الحراشف. صرخ التنين، وانكتم صراخُه جراء قبض تالات على أنفه، وترنَّحت إيرين تُريد التقاط سيفها.
أخذ تالات يهزُّ التنين المُحتضَر وضرب جسده بإحدى قائمتَيه الأماميتَين، وصارت عضلات رقبته الضخمة مُتعرِّقة وبها لطخات من رماد. رفعت إيرين السيف وشقَّت بطن التنين، فاهتزَّ التنين بعُنف مرةً، ثم اختلج، ومات. أسقط تالات جثةَ التنين ووقف ورأسه مُطأطأً يرتعش، وأدركت إيرين ما فعلته، وأنها لم تكن تعرف إلا قليلًا بشأنِ ما سينطوي عليه الأمر، وكم كانت قريبة من الإخفاق؛ فانقلبت مَعِدتها، وأفرغت ما بقي من إفطارها على جثة التنين الثاني المشوَّهة التي كان ينبعث منها الدخان.
سارت مبتعدةً بضع خطوات حتى وصلت إلى شجرة، فتحسَّست بيدها على جذعها حتى وجدت الأرض فجلست ورُكبتاها مرفوعتان ورأسها بينهما بضع دقائق. بدأ ذهنها يصفى، وبدأت أنفاسها تتباطأ، وبينما رفعت نظرها وأخذت ترمش وهي تنظر إلى الأوراق فوقها، سمِعت وقْع حوافر تالات خلفها. فمدَّت يدها ودَّس أنفه الدامي في كفِّها، وظلَّا على هذه الحال بضع لحظات أخرى، ثم تنهَّدت إيرين ووقفت. «حتى التنانين تحتاج إلى الماء. هيا نبحث عن مجرًى مائي.»
وكانا محظوظين مُجددًا؛ فقد كان ثمَّة مجرًى مائي بالجوار. غسلت إيرين وجهَ تالات بحذَر، ووجدت أن مُعظم الدماء تعود للتنين، وإن كانت ناصيته قد أصيبت بحروق حتى منتصفها. وتمتمت في نفسها: «وأنا التي كدتُ ألا أُكلِّف نفسي عناء وضع الكينيت على رأسك. كنت أظنُّ أن الأمر سيكون يسيرًا.» ثم نزعت سَرج تالات عنه لتُنظِّفه جيدًا، وبعد هذا تسلَّق هو ضفة المجرى ووجد بقعةً خشنة من التراب فتمرَّغ فيها بنشاطٍ وحيوية ووقف ثانية وقد استحال لونه طينيًّا. قالت إيرين: «يا إلهي.» ونثرت الماء على وجهها ويدَيها وفجأة خلعت كلَّ ملابسها التي أفسدها التنين وغاصت في الماء. وخرجت منه ثانيةً حين احتاجت إلى التنفُّس، ثم طاردت تالات ليعود إلى الماء لتغسل عنه الطين، ثم فرَّشته وفركته بقوة حتى استدفأت وجفَّ جسدُها من عملها ولم يكن هو بأكثر من رطبٍ على الأقل.
ارتدَت إيرين ملابسها على مهلٍ وفي نفور، وعادا إلى ساحة المعركة. وحاولت أن تتذكَّر ما كان ينبغي لها أن تُفكِّر فيه بشأن التنانين. البَيض؟ إن كان ثمَّة بيض، فإنه سيموت، ذلك أنَّ التنانين الحديثة الفقس تعتمد على والِدَيها عدةَ أشهر. وإن كان ثمَّة تنانين صغيرة، فمن المؤكد أننا كنا سنراها …
وفي نفورٍ أكبر بكثير، جمعت بعض الأغصان وربطتها إلى بعضها وأشعلت فيها النار بمساعدة صندوق الإشعال الخاص بها واقتربت من الحفرة المُظلِمة الكريهة الرائحة. كان عليها أن تنحني لكي تدلف إلى الكهف، وقد اشتعلت نار شُعلتها وكادت أن تنطفئ. وكان لديها انطباعٌ عن كهفٍ أجوفَ جدرانه غير مُمهَّدة من الحجر والوحل، وأرضيته محصَّبة؛ لكنها لم تستطِع تحمُّل الرائحة، أو معرفة أن المخلوقات المُروِّعة التي قتلتها للتوِّ كانت تعيش هنا، فهُرعت منطلقةً عائدةً نحو الخارج إلى ضوء الشمس ثانيةً وألقت الشعلةَ وأطفأت نارها. لم تظنَّ إيرين أن ثمة أيَّ بيض أو صغار تنانين. سيتعيَّن عليها أن تأمُل أنه لم يكن يُوجَد أيٌّ من هذا.
وفكَّرت في نفسها: «ينبغي لي أن آخُذ معي رأسيهما. فالصيَّادون دائمًا ما يُحضِرون الرءوس، وهذا يبرهن على الأمر من دون كثيرٍ من الحديث بشأنه. لا أظنُّ أن بإمكاني الحديث عن الأمر.» ومن ثمَّ التقطت سيفها ثانيةً وضربت رأس التنين الثاني فقطعتها ثم غسلت سيفها وخنجرها في الماء وأعادتهما إلى غمدهما وربطت الرمح خلف السَّرج. بدت التنانين الآن صغيرة، بلا رأس وبلا حَراك، أكبرَ بقليلٍ من الأرانب ولا تُمثل خطرًا أكبر منها؛ وبدت رءوسها القبيحة بأنوفها الطويلة وأسنانها المُدبَّبة وكأنها مُزيَّفة، كأقنعةٍ في مسرحية للأطفال عن الوحوش أثناء أعياد المدينة، حيث ينطوي جزءٌ من المتعة على أن تكون خائفًا، لكن ليس كثيرًا. فمن ذا الذي يُمكن أن يخاف من تنين؟
فكَّرت في نفسها أنها تخاف منه.
ربطت إيرين الرأسَين في القماش الثقيل الذي حملت فيه بزَّتها الجلدية، وامتطت صهوةَ تالات وعادا على مهلٍ إلى القرية.
كان أهل القرية جميعهم ينتظرون، ما يزيد على مائة منهم مجتمعين عند حدود البلدة؛ وكانت الحقول التي تتجاوز القرية فارغة، والرجال والنساء في ثياب العمل يَبدون غريبين في سكونهم؛ إذ وقف جميعهم يرقُبون الطريق الذي اختفت فيه إيرين وتالات قبل ساعة واحدة وحسب. وقد سارت همهمةً فيما وقعت أنظار الصف الأول منهم عليهما، فرفع تالات رأسه وقوَّس رقبته ذلك أنه تذكَّر كيف ينبغي له أن يتصرَّف وهو عائد إلى المنزل من المعركة حاملًا أخبار النصر. تقدَّم الناس، وفيما خرج تالات من بين الأشجار أحاطوا به ورفعوا أنظارهم إلى إيرين: فقط فتاة واحدة وحصانها القوي، من المؤكد أنهما لم يواجها التنين، لأنهما غير مُصابَين بأي جروح؛ وكان الناس خجِلين من أن يأمُلوا أن تكون الأميرة مصابةً بحروق، لكنهم كانوا يتمنَّون نهايةَ التنين بشدة.
قال أحد الرجال في تردُّد: «سيدتي، هل التقيتِ بالتنين؟»
وأدركت إيرين أنَّ صمتَهم كان ينمُّ عن الريبة؛ كانت قد خشيت فجأةً ألا يَقبَلوا حتى بجميلِ قتلِ التنين من ابنة ساحرة، فابتسمت في ارتياح، وابتسم لها أهلُ القرية مُتعجِّبين. «أجل، التقيتُ التنين؛ وكذلك قرينتَه.» ومدَّت يدَها خلفها وسحبت القماش الذي يغلِّف رءوس التنينين، فسقط الرأسان على الأرض؛ تدحرج أحدهما فتفرَّق أهل القرية أمامه وكأنه لا يزال به من القوة ما يُمكن أن يُؤذيَهم. حينها ضحكوا ببعض الجبن من أنفسهم؛ ثم التفَت الجميع حين قال الصبيُّ الذي كان قد أعلن عن وصول إيرين: «انظروا!»
كان سبعة فرسان يدخلون القريةَ على صهوة جيادهم كما دخلتها إيرين. وغمغمت إيرين: «لم يكن من المُفترَض أن تصِلوا هنا إلا غدًا»، ذلك أنها تعرَّفت إلى جيبيث وميك وأورين، الذين كانوا من أبناء عمومتها المُبعَدين بضع مراتٍ وأعضاء في البلاط الملكي لوالدها، بالإضافة إلى أربعة من رجالهم. كان جيبيث وأورين قد خرجا كثيرًا من قبلُ لصيد التنانين؛ كانا وفيَّين وجديرين بالثقة، ولم يَعتبرا أمرَ صيد التنانين أدنى من مكانتهما، ذلك أنه شيء كان يتعيَّن فِعله، وهو خدمة يُمكنهم تقديمُها لمليكهم.
قال جيبيث: «الأميرة إيرين»؛ وكان صوتُه ينطوي على اندهاش، وإجلال — لوالدها وليس لها هي — واستنكار. فما كان جيبيث ليزدريَها أمام أهل القرية، لكنه بكل تأكيدٍ سيقصُّ لاحقًا على أرلبيث قصةً زائفة للغاية.
قالت إيرين: «جيبيث.» وأخذت تَرقُبه في سرورٍ ساخر فيما حاول أن يفكِّر في طريقةٍ يسألها بها عما تفعله هنا؛ ثم من خلفه قال أورين شيئًا وأشار إلى الأرض حيث كان رأسا التنينين الصغيرَين في التراب. حوَّل جيبيث نظره عن ابنة مولاه البغيضة اليافعة التي كانت ترتدي ثيابًا كثياب الفتية المُحاربين الذين مرَّت بهم أيامٌ أفضلُ من هذه، وأدرك ما كان ينظر إليه، ثم ردَّ بصرَه سريعًا ليحدِّق منكِرًا، في إيرين الحمراء الشَّعر وبزَّتها الجلدية الممزَّقة.
قالت إيرين: «لقد … لقد تخلصتُ من التنينَين بالفعل، إن كان هذا ما تقصده.»
هبط جيبيث من فوق صهوة جواده ببطء، وببطءٍ انحنى ليحدِّق إلى غنيمتَيها. كان فكُّ أحدهما مفغورًا والأسنان الحادة بارزة منه. ولم يكن جيبيث سريع البديهة أو مُبدع الفكر، وقد ظلَّ جالسًا القرفصاء على عقِبَيه يُحدِّق في الرأسين المريعين طويلًا بعدما احتاج فقط لأن يَتحقَّق من أنهما رأسا تنينَين. وكما انحنى ببطءٍ اعتدل ثانيةً ببطءٍ وانحنى في تصلُّب وتصنُّع إلى إيرين وهو يقول: «سيدتي، أُحييكِ.» وتحرَّكت أصابعه في إشارةٍ عرفيَّة أو نحو ذلك، لكن لم تستطِع إيرين أن تُحدِّد التحية التي كان يُحيِّيها بها، بل وتشكَّكت في أنه كان يعرف أي واحدةٍ أراد أن يُحيِّيها بها. فقالت في رزانة ووقار: «شكرًا لك.»
استدار جيبيث ووقعت عيناه على عينَي أحد رجاله، الذي نزل بدوره من فوق جواده ولفَّ رأسَي التنينين في قماشهما ثانيةً؛ ثم بتردُّد، وحيث لم يُشِر له جيبيث بغير ذلك، اقترب الرجل من تالات في نهاية المطاف وربط الحزمة خلف سَرج إيرين.
تحاشى جيبيث وجهَ إيرين بحرص، قائلًا وهو يرفع ناظرَيه ليُحدِّق في أُذني تالات المُنتصِبتَين غير المُلجَّمتَين بلجام: «هل تسمحين لنا بمرافقتكِ إلى الديار يا سيدتي؟».
فقالت ثانيةً: «شكرًا لك»، وامتطى جيبيث صهوةَ جواده واستدار به نحو المدينة وانتظر، حتى تتولَّى إيرين الصدارة؛ فتقدَّم تالات الذي كان يعرف عن قيادة الأرتال من دون أي إشارة من راكِبَتِه.
هلَّل أهل القرية تهليلًا ضعيفًا فيما أخذ تالات يبتعد، غير واثقِين مما شهدوه للتو؛ وفجأة هُرع الصبيُّ الذي أعلن عن وصول الفرسان ليُربِّت على كتف تالات، فأخفض تالات خَطْمه تعبيرًا عن شُكره وسمح بهذه الألفة. وتقدَّمت فتاةٌ أكبرُ من الطفل بسنوات قليلة لتلحقَ بإيرين وقالت بنبرة واضحة: «نشكركِ.» فابتسمت إيرين وقالت: «الشرف لي.» وكبِرت الفتاة وصارت شابَّةً بالِغة وهي تذكُر ابتسامةَ الأميرة الأولى ومجلسها على حصانها الأبيض الشامخ.