الفصل السادس عشر
لم تستطِع أن تُفكِّر أين كانت حين استيقظت. كانت جالسةً على كرسيٍّ خشبي، وكانت نار تشتعل في موقدٍ ليس بعيدًا عن قدمَيها الممدودتَين؛ وكانت في قاعةٍ شاسعة حتى إنها لم تستطِع رؤية السقف. ولم تتذكَّر كلَّ ما مرَّت به إلَّا حين خطا لوث بينها وبين الموقد ليضعَ قطعة خشبٍ أخرى في النار؛ فأطلقت تنهيدة.
التفت لوث نحوَها على الفور، وكان وجهه لا يزال جادًّا وعابسًا. سألت إيرين: «كيف حال تالات؟» وكأنه كان دائمًا أول ما يخطر ببالها. قال لوث في استياء: «إن كنتِ لا تثِقين كثيرًا في قُدرتي على الاعتناء بفحلٍ بدينٍ وعجوز ومُتكبِّر، فسأُريكِ دليلًا على ذلك.» ثم انحنى عليها مُجددًا ورفعها، وسار بها خارج القاعة الرمادية الكبيرة.
قالت إيرين في ترفُّع: «يُمكنني أن أسيرَ.»
ردَّ لوث من فوق رأسها: «كلَّا، لا يُمكنكِ ذلك. وإن كنتِ ستحظَين بفرصة إعادة تعلُّم ذلك في وقتٍ ما في المستقبل القريب.»
وأجلسها، أخيرًا، على قدمَيها، عند حافة مرعًى شاسع لا أسوار له؛ كان به عدة أبقار بُنِّية اللون ترعى، وعند طرفه الأقصى رأت وعلًا أو وعلَين يرفعان رأسيهما وينظران إليها؛ لكن لم يبدُ عليهما الارتياع.
ثم سمِعت صهيل تالات القوي الرنَّان، وجاء يعدو نحوهما، وانزلق وهو يتوقَّف في اللحظة الأخيرة (غمغم لوث بشيءٍ بدا مثل «مُتباهٍ») وبلَّل قميصها بلعابه. قال لوث في اشمئزاز: «يا للجياد!» لكن إيرين خطَت خطوةً بعيدًا عن يده المُثبَّتة لها لتلفَّ ذراعها حول حَارِك تالات غير الموجود.
قال لوث: «ها أنت ذا. يمكن لك أن تكون مفيدًا.» رفعها على ظهرِ تالات الحسَن الاستدارة وابتعد. وقال من فوق كتفِه: «اتبعني من هذا الطريق»، فانتصبت أُذنا تالات وتبِعه مُذعنًا. لكنَّ ساقَي لوث الطويلتَين كانتا تقطعان الأرض بخطوات واسعة، فكان على تالات أن يمدَّ جسده ليُجاريَ خطوته؛ لأنه سيخسر هيبتَه ووقارَه لو بدأ يمضي خببًا؛ ومن ثمَّ ارتخت أُذناه بعض الارتخاء نحو الخلف تعبيرًا عن اعتراضه على هذه السرعة الفظَّة. وضحِكت إيرين ضحكتها الصغيرة، حتى لا يُصيبها السعال.
وسرعان ما وصلوا إلى بحيرةٍ فضيَّة واسعة. رمشت إيرين بعينَيها الواهنتَين؛ فقد كان من الصعب أن تُحدِّد أين انتهت الأرض وبدأت البحيرة؛ فلم تكن أحجار الشاطئ مسطَّحة وباهتة أكثرَ بكثير من سطح الماء المتلألئ. توقَّف تالات حين سحقت حوافره الحصى؛ وكان هذا هو أسوأ شيء يمكن أن يخطوَ عليه حصان ذو ساق مصابة. واستمر لوث في سيره حتى وصل إلى حافة الماء تمامًا، وعندما توقَّف مباشرةً قبل أن يطول البلل قدمَيه، تموَّج الماء فجأةً تموُّجًا ضئيلًا مفاجئًا، فامتد من الماء قدْر قليل تناثرَ على أصابع قدميه. غمغم لوث بشيء غير مسموع وردَّ الماء بأن تحدَّب إلى قمم، وتسلَّلت بضع حواف مَوجية صغيرة على شاطئ البحيرة، لكن لم يلمَس شيءٌ منها قدَمه. ونادى لوث: «هنا.»
انزلقت إيرين من فوق ظهر تالات، لكنها وجدت في غضون خطوتَين أن لوث كان محقًّا، وأنها فعلًا لا تستطيع المشي. فغاصت حيث كانت تقف، وتحدَّب تالات بالقرب منها وأنزل أنفه لتضع عليه يدَها، واتخذت أُذناه مظهرًا قلِقًا وكأنه يقول: «هذا خطئي — لا تُهمني حقًّا هذه الأحجار الصغيرة التافهة — أرجوكِ قفي ثانيةً وسأحملكِ.»
بعد ذلك كان لوث راكعًا إلى جوارها، وحمَلها بين ذراعيه ثانيةً؛ وكانت يداه مُبللتين حتى مِرفقَيه. أجلسها بحرصِ عند حافة البحيرة، فتموَّج الماء تموُّجاتٍ صغيرة مرةً أخرى، واندفع إلى الصخور نحوَها وكأنه يشعر بالفضول؛ لكنه لم يَمسَسْها. غمس لوث يدَه في الماء ثانية ورفعها وهي تسرِّب ماء إلى شفتَيها.
وقال لها: «اشربي.»
فقالت، وهي تُحاول أن تبتسِم: «أهذا مشروبٌ مُنوِّم آخرُ؟» لكن لم يبدُ عليه إلا الحزن والتجهُّم.
ردَّ عليها: «كلَّا.» تقطَّر الماء على ساقها، وكانت لمستُه عبْر الملابس لمسةً خاصة بطريقةٍ ما، فكانت مُسكِّنة ومُلطِّفة وكأنها يدُ صديق.
شرِبت إيرين الماء على نحوٍ أخرقَ من فوق إبهامه، وكان الماء فِضِّيًّا يكاد يكون أبيضَ، حتى في يد لوث ذات الجِلد الباهت؛ وكان له مذاقٌ حلو قليلًا، وبارد وجامح بصورةٍ ما، جموحًا بقدْرٍ لم تستطِع أن تجد له وصفًا يتجاوز هذه الكلمة: «جامح». وبدا أن الماء يسلُك مسارَه في حلقِها حسب مشيئته الخاصة، وأنه يُزبد في مَعِدتها. رفعت إيرين ناظرَيها فالتقَيا بعينَي لوث الزرقاوَين المُحدِّقتَين فيها، وكان مُقطِّبًا فيما كان مُنحنيًا فوقها وضامًّا يدَيه إحداهما إلى الأخرى كالوعاء. سألته إيرين: «ما هذا …؟ هذا ليس بماء»، ثم اختفى هو والبحيرة ومذاق الماء على لسانها؛ لكن وقبل أن ينجرفَ ذهنها بعيدًا عن كل شيءٍ شعرت بيدَين تُطبِقان على كتفَيها، يدين مُبلَّلتَين؛ إذ كان بوسعها أن تشعر بالبلل عبْر أكمامها، وجرجرتها هاتان اليدان فأوقفتاها على قدمَيها. وجاءها صوتٌ من بعيدٍ جدًّا يُنادي: «إيرين»، ثم لم يَعُد لها ساقان، ولا أذنان.
«إيرين.»
كانت رئتاها تشتعِلان وكأنهما رئتا سبَّاح أمضى وقتًا طويلًا جدًّا تحت الماء، وأخذت تشقُّ طرُقَها، وكأنها تنبش بمخالبَ لها، نحو السطح ونحو الصوت الذي ظلَّ ينادي باسمها؛ وبدا أن وجهَها اخترق سطح الماء الذي كانت حبيسةً تحته، وظلَّت تلهث لحظة. وتكرَّر الصوت.
«إيرين.»
فتحت إيرين عينَيها، ولم تَعُد على ضفاف بحيرةٍ فضية اللون، وإن كان ثمَّة رجلٌ طويل البِنية يقف إلى جوارها ويُناديها باسمها ويقدِّم إليها قدحًا. قال لها الرجل: «اشربي».
مدَّت يدها لتأخُذ القدح؛ مدَّت يدَها اليُسرى لتأخذه بها، ولاحظت في اندهاشٍ بسيط أن ذراعها كانت سليمةً وقوية. وفكَّرت بذكاءٍ وحكمة: أنا أحلُم مجددًا؛ لكنها توقَّفت قبل أن تأخذ القدح، ونظرت حولَها. كانت واقفةً في غرفةٍ شاسعة ظنَّت لأول وهلة أنها مستديرة، حتى أدركت أن الجدران كانت مُستقيمة، وأن بها خمسة جدران. ورفعت عينَيها وكان ثمَّة وزن ثقيل من شَعرٍ مجعَّد على رأسها، فشغل هذا بالها؛ لذا لم تتفحَّص المخلوقات الغريبة ذات المخالب التي كانت تتلوَّى على السقف، مخلوقات سوداء وحمراء وصفراء. أطرقت إيرين برأسها ثانيةً في حيرة؛ لأنها لم يسبق لها من قبلُ مُطلقًا أن كانت في هذه الغرفة، ومع ذلك بدت جدرانها الحمراء مألوفة لها.
قال الرجل ثانيةً: «اشربي»، وكان صوتُه مُتلهِّفًا. «اشربي.» ارتعش القدح في يدِها الممدودة قليلًا جدًّا، وتساءلت عن سببِ تلهُّف الرجل الشديد لكي تشربَ من القدح.
حاولت أن ترفع ناظرَيها إلى وجهه، لكنه كان يرتدي رداءً له قلنسوة، رداءً أحمرَ اللون، ذا لونٍ فاقع يُؤذي العين، وكانت القلنسوة عميقة جدًّا حتى إنها لم تستطِع أن ترى الوجه بداخلها. قال الرجل: «اشربي»، وكان نفاد صبره قد بدأ يجعله يغضب، وخطر لها في نهاية المطاف أن الذي تقف أمامه لم يكن لوث.
«اشربي.»
ثم نظرت مُجددًا إلى ذراعِها اليُسرى وفكَّرت في هدوء، هذه ليست يدي؛ هذه اليد أصغر، والأصابع أدقُّ مما كانت عليه يدي من قبل. سحبت إيرين يدَها، ووضعتْها على رأسها وشدَّت خُصلةً من شعرها فاقتلعتها وأمسكت بها أمام عينَيها. كان لونه هو اللون الذي كان عليه، قبل أن يحرقه ماور؛ لكن الشعرات كانت أدقَّ.
قال الرجل الأحمر: «إيرين، ستأخُذين هذا وستشربينه.»
فردَّت عليه بصوتٍ لم يكن صوتها: «كلَّا.» إلا أن صوتها كان به جزعٌ وقد لاحظ الرجل الأحمر هذا فيه، وقدَّم إليها القدح بتلهُّف أكبر، مُدركًا أنه سيفلح. «اشربي.»
ببطءٍ وعجز، امتدَّت يدُها اليُسرى ثانيةً، وأخذت القدح وقرَّبته إلى شفتَيها؛ لكنها لم تذُق ما كان به؛ لأنها سمِعت اسمها ثانيةً، وتوقَّفت.
«إيرين.»
لم يكن هذا صوتَ الرجل الأحمر، بل كان صوتًا آخرَ مألوفًا لها. «إيرين.» كان الصوت هو صوتَ لوث، وكان مضطربًا.
سمِع الرجل الأحمر هو الآخر صوت لوث، فاستدار؛ دارت العباءة على كتفَيه، ومع ذلك لم ترَ شيئًا من وجهه. صاح الرجل: «لوث! لن تأخذها!»
فجاء صوت لوث يضحك في وهن. «لا، لن آخُذها؛ لكني سآخُذ الأخرى؛ لن تأخذ كلتَيهما.»
ثم ساد من حولها هديرٌ، وبدا أن الجدران الحمراء للغرفة الخُماسية الجوانب كانت كأفواهٍ حمراء غاضبة؛ وبعد ذلك استحال اللون الأحمر رماديًّا، لكن ظلَّ الهدير مُستمرًّا؛ وفجأةً أصبح اللون الرمادي هو لون الجدران الصخرية، ليس بشحوب حجارة قاعة لوث، لكنه لون مدينتها الرمادي والرمادي الأكثر قتامةً والأحمر الباهت والأسود؛ لكن أمام جدرانها امتدَّ سهلٌ صحراوي خاوٍ وقاحل، كانت ثلاثة من الأعمدة الصخرية المتراصَّة الأربعة التي تُميِّز جدران المدينة مطروحةً على جوانبها، ولم ترَ إيرين أي بشَر في أي مكان. فتَحَت فمَها لتصرخ، لكن فمَها كان مَملوءًا بماءٍ فضي، فاختنقت، وضربت بيدَيها؛ وشعرت بضوء الشمس على وجهها. بعد ذلك أدركت أن رقبتَها مُتيبِّسة؛ ثم وجدت أن جسدها كلَّه كان متيبسًا، من الرقاد … على الحجارة.
لا عجب أنها كانت مُتألِّمة. تلاشت أحلامها تحت سطوة إرهاقها الجسدي. ثنَت مِرفقها لتستندَ عليه لتنهض، ثم خطر لها أن تفتح عينَيها أولًا. أشجار، وسماء زرقاء. وصخور. شدَّت نفسها مرتكزةً على مِرفقها. صخور وأشجار، وسماء زرقاء. وبحيرة. ولوث.
كان جالسًا إلى جوارها. أطلق لوث لفظةً تنِمُّ عن الانتباه الطفيف وأخذ يتمطَّى باحتراس. كان مُبتلًّا تمامًا؛ وخطر لها حينها أنها كانت مُبتلةً تمامًا هي الأخرى، على الرغم من أنهما كانا على مسافةٍ من حافة الماء؛ كانا في واقع الأمر أقربَ إلى الأشجار. ثم جاء من خلفها صوتُ دوس ونفخ مألوف، فمدَّت يدَها من دون أن تنظر لتجد وجنةَ تالات الناعمة.
كان لوث ينهض واقفًا على قدمَيه؛ وقد بدا مُتيبسًا بقدْر ما شعرت هي أنها متيبسة. ونظر إليها نظراتٍ غامضة فيما ترنَّحت وهي تقوم واقفة إلى جواره. كان سطح البحيرة أملسَ كالزجاج. وكان المكان حيث يقفان هادئًا هدوءًا غريبًا؛ فلم تسمع إيرين شيئًا سوى زقزقةِ طائر بعيدةٍ وحركةِ ذيل تالات الخاطفة بين الحين والآخر.
عدا ذلك لم تكن تسمع شيئًا.
همست قائلة: «بإمكاني أن أتنفَّس.»
قال لوث: «آه. أجل، كنتُ آمُل ذلك.»
ثم عادت بسرعةٍ ضوضاءُ أحلامها تُراودها. الرجل الأحمر الذي تجاهلته، لكن … «مدينتي …»
استقرَّت نظرة لوث الغامضة على وجهه وكأنها كانت على وجهه طَوال حياته. «لاحقًا.»
قالت: «لاحقًا؟ نهاية أرضي، ومدينتي، وقومي؟ لاحقًا؟» وراودَتْها فكرةٌ قصيَّة هازئة: أرضي. مدينتي. قومي.
فأجاب في خشونة: «أجل، لاحقًا. لم تحدُث بعدُ، ومصيركِ يكمُن في مكانٍ آخرَ.»
وقفت راسخةً في الأرض، تُحدِّق فيه. وقالت بنبرة عالية: «مصيري يكمُن في مكانٍ آخر. دائمًا ما كان مصيري … في مكان آخر.»
لانت ملامح وجه لوث. وقال: «أجل، هذا صحيح، لكن ليس بالطريقة التي تحسبينها. تعالي. سأخبركِ بما يُمكنني أن أُخبركِ به؛ بما أنتِ في حاجة إلى معرفته. وسنأمُل أن يكون ذلك كافيًا.»
فقالت في شراسة: «سيتعيَّن أن يكون كافيًا»، وحينما نظر لوث إلى عينَيها كانتا تلمعان من لهيب أحلامها؛ حينها خشِيَ لوث مغبةَ ما فعله. وتمتم في نفسه: «لم أكن أملِك خيارًا آخرَ»، لكن إيرين، التي كانت لا تزال شرسة من خوفها، قالت له: «لا يمكنني أن أسمعك. ماذا تقول؟»
هزَّ لوث رأسه. «لا شيء سيجديكِ نفعًا أن تسمعيه. هيا إذن. ما حدث لكِ ليس سيئًا من كل جوانبه.»