الفصل السابع عشر
كان نظرها قد برَأ كما برأت رئتاها، ومثلما كانت تبتسِم لا إراديًّا في كل مرةٍ كانت تأخذ فيها نفسًا عميقًا، كانت مُنبهرة أيضًا برؤية أشياءَ مثل أوراق الأشجار أو الطريقة التي تتحرك بها عضلات تالات تحت جلدِه حين يعدو عبْر مَرعاه، فيركل ويرفس كمهرٍ صغير. خرجت إيرين في نزهاتٍ طويلة بلا وجهة عبْر غابات وادي لوث الجبلي، أو سارت على حافة البحيرة الفضية تُشاهد انعكاس أقواس قُزَح صغيرة على الماء. وإن ظلَّت غائبةً طويلًا جدًّا، كان لوث يأتي ليُحضِرها؛ وقد بدا أنه قادر دائمًا على العثور عليها دون أن يُواجِه مشكلة في ذلك، مهما ابتعدت في تجوالها. وأحيانًا ما كان يخرج معها حين تخرج في جولاتها تلك.
وكانت إيرين قد توقَّفت تُحدِّق في شجرة تُشبه أشجارًا أخرى كثيرة، إلا أن أوراقها كانت تُلَوِّح لها؛ كل ورقة خضراء صغيرة ودقيقة وحادة الحواف كانت تهتزُّ لها وحدَها حين يَمَسُّها النسيم؛ وكانت تبدِّل وجهها حتى يتسنَّى لإيرين أن ترى كِلا جانبَيها، والزخارف الشجرية المنمنمة للأوردة الخضراء، والتراكُب البديع للفروع على الجذع وللغصون على الفروع والاندماج الرائع للفروع في الساق. وقد تعلَّقت كرمة خضراء بالشجرة والتفت حولها، وكانت أوراق الكرمة أيضًا تتحرَّك مع الريح.
قصف لوث بفتورٍ غُصَينًا من الكرمة وأعطاه إيَّاها. وأخذته إيرين دون تفكير ثم عرفت ماهيته — إنه السوركا — فزال كل سرورها، وانحشرت أنفاسها في حلقها؛ وصارت أصابعها خدرة جدًّا حتى إنها عجزت عن إسقاط ما كانت مُمسكةً به.
زجرها لوث قائلًا: «أمسِكيه. أحكِمي قبضتكِ وكأنه نبات قرَّاص.»
فانضغطت أصابعها المُضطربة بعضها على بعض حتى انكسر الغُصَين وتسلَّل النُّسغ الأخضر الباهت على راحتها. كان ملمسُه دافئًا بعض الشيء ومُسببًا للدغدغة، ففتحت يدها في دهشة، فسار عنكبوت كبيرٌ مُشعِر على معصمها وتوقَّف، وهو يُلوِّح لها برجلَيه الأماميتَين.
أطلقت صوتًا ينِمُّ عن المفاجأة واهتزَّ مِعصمها فوقع العنكبوت على الأرض ومشى على مهلٍ مبتعدًا. ولم تكن ثمة علامة على وجود غُصَين السوركا المكسور.
نخَر لوث وهو يضحك، وحاول أن يُحوِّل ضحكته إلى سعالٍ فشهق شهيقًا في اللحظة الخاطئة ثم سعَل فعلًا. وقال أخيرًا: «حقًّا يُمكن لنبتة السوركا أن تكون أداةً مفيدة. ولا يمكنكِ أن تُحمِّليها فَواجِع طفولتكِ. إذا حاولتِ أن تتنفَّسي الماء، فلن تتحوَّلي إلى شجرة، بل ستغرقين؛ لكن يظلُّ شرب الماء جيدًا.»
قالت إيرين: «حسنًا»، وهي لا تزال تنتفِض وتنتظر لحظة إصابتها بالغثيان أو الدُّوار أو شيء من هذا القبيل؛ لم تكن قد أمسكت بالنبتة طويلًا، لكنها أمسكت بها طويلًا بما يكفي لأن يحدُث لها شيءٌ مريع. «مذاق الماء لا يقتُل مَن لا ينتمون إلى العائلة الملكية.»
«حسنًا. لكن حقيقة الأمر أن مسَّ نُسغ السوركا أيضًا لا يقتُل مَن ليسوا من العائلة الملكية، وإن كان تناوُله سيُصيبهم بسُقمٍ شديد ولا شك، والنبتة الملكية تُشكِّل قصةً شائقة. إن الكيلار في دمكِ هو ما يُظهِر الخصائص الغريبة لنبتة السوركا؛ على الرغم من أن ميرث العجوز المسكين قتل نفسَه بها بكلِّ تأكيد. كما كنتِ ستقتُلين نفسكِ لولا أن دماء والدتكِ تسري في عروقكِ؛ وأنتِ تستحقِّين ذلك لأنكِ كنتِ حمقاء جدًّا بشأن تلك المدعوة جالوني. فأي شيءٍ قوي هو أيضًا خطير، ويَجدُر أن تتعاملي معه باحترامٍ أكبرَ من مجرد كونه حيلةً طفولية غبية كتلك.»
«تقصد جالانا.»
«أيًّا يكن. إنها لا تستخدِم هبَتها إلا في تعظيم ذاتها، مع القليل من الأذى غير المُوَجَّه. إن تور لا يُدرك كيف نجا بصعوبة؛ لو كانت تتمتَّع بهِبةٍ أكبرَ بشيءٍ طفيف، وكانت هبَته أقلَّ بنفس المقدار لكان قد تزوَّجها، طوعًا أو كرهًا، ولظلَّ يتساءل بقيةَ حياته عن سبب تعاستِه.» ولم يبدُ أن ذلك الاحتمال قد سبَّب للوث أي حزن. «لكنكِ ليس لديكِ عُذر لتقَعِي في شِراكها.»
«ما هو الكيلار؟»
أخذ لوث مجموعةً من أوراق السوركا وبدأ يغزلها معًا. «إنه ما تُطلِق عليه عائلتكِ اسم «الهبة». ولم يتبقَّ لهم من ذلك الكثير. أنتِ مُتيبِّسة فيما تتمتَّعين به من هبة — صمتًا. لم أنتهِ بعد — لأنكِ حاولتِ أن تَخنُقيها بجرعةٍ زائدة من السوركا.» ورمقها بنظرة. «على الأرجح أنكِ ستُعانِين دومًا حساسيةً طفيفة تجاهها بسبب ذلك؛ لكن ما زلتُ أعتقد أن بإمكانكِ أن تُسيطري عليها.»
«كنتُ في الخامسة عشرة من عمري حين أكلتُ السوركا و…»
«كلما كانت الهبَة أقوى، تأخَّرت أكثرَ في الظهور، وقد نسِيَ أفراد أُسرتك المعدومو البصيرة كلَّ ذلك فحسب؛ وذلك لأنهم لم يتعاملوا مع هِبةٍ قويةٍ منذ زمنٍ طويل جدًّا. هِبة أُمِّكِ ظهرت متأخرة. وكذلك هِبة عمك.» ثم قطَّب لوث حاجبَيه وهو ينظر إلى الإكليل في يدَيه.
«أُمي.»
«إن معظم ما تتمتَّعين به من الكيلار هو إرث منها.»
قالت إيرين بتمهُّل: «كانت أُمِّي من الشمال. فهل كانت إذن ساحرة — أو شيطانة — كما يقولون؟»
قال لوث بنبرة صارمة: «لم تكن شيطانة. ساحرة؟ بحقكِ. عجائز قريتكِ، الذين يبيعون الكمَّادات ليُداووا الثآليل، سحرة.»
«أكانت بشرية؟»
لم يُجِبها لوث من فوره. «يتوقَّف هذا على ما تقصدين بكلمة بشَر.»
حدَّقت فيه إيرين، وكانت كل القصص التي سمِعتها في طفولتها تملأ عينَيها بظلالٍ من الكآبة.
عاد الغموض يكسو ملامح لوث، وإن لم يُركِّز نظره إلا على إكليل السوركا في يده. «في الماضي، كان أناس غير بشريين كثيرون يعيشون في هذه الأرض. ولم يكن ذلك منذ زمنٍ بعيد. لكنَّ البشَر لم ترُقْهم تلك الفكرة، وكانوا يتجاهلون غير البشريين حين كانوا يلتقون بهم، والآن …» هنا تلاشى الغموض عن ملامحه، ورفع عينَيه عن يدَيه ونظر إلى الشجر، وتذكَّرت إيرين رسومات المخلوقات على جدران القاعة التي تنام فيها.
قال لوث بتأنٍّ: «لستُ أُفضِّل مَن يطرح الأسئلة بشأن أشياء كالطبيعة البشرية. فأنا نفسي لستُ بشريًّا بالكامل.» ورمقها بنظرة. ثم أكمل: «حان وقت إطعامكِ مرةً أخرى.»
هزَّت إيرين رأسها، لكن مَعِدتها زمجرت فيها؛ لم تكن مَعِدتُها تتوقَّف عن الإحساس بالجوع منذ سبحت في البحيرة الفضية. وبدا أن لوث يستمتع بإطعامها استمتاعًا ساخرًا وغريبًا؛ لم يكن طباخًا ماهرًا، لكن لم يبدُ أن لهذا علاقة بالتفاخر بقُدراته في الطبخ. بدا وكأن مهامَّ المشعوذ لم تكن غالبًا تمتدُّ لتشمل الإشراف على المرضى المُتماثِلين للشفاء، وكان يتعيَّن باهتمامه، الذي أبداه في دوره المتواضع بوصفه مُعيلًا لها، أن يكون مُهينًا لكرامته، وكان خَجِلًا بعض الشيء عندما اكتشف أن الأمر لم يكن على هذا النحو.
«إيرين.»
رفعت ناظرَيها، لكن ظلال كآبة طفولتها كانت لا تزال في عينَيها. ابتسم كما لو أن ذلك آلَمَه، وقال: «لا عليكِ.» ثم ألقى بإكليل السوركا على رأسها. استقرَّ الإكليل حول كتفَيها ثم تموَّج فتحوَّل إلى طياتٍ فضية طويلة سقطت من كتفَيها إلى قدمَيها، وتلألأت كأضواء نجومٍ حين تحرَّكت إيرين.
فقال لوث: «تبدين كملكة.»
قالت إيرين في مرارة، وهي تبحث عن إبزيم لتحلَّ به العباءة المُتلألئة: «لا تفعل. أرجوك لا تفعل.»
فردَّ لوث: «آسف»، وسقطت العباءة عنها، ولم يبقَ في يدَيها إلا رمادٌ فضيٌّ. أنزلت يدَيها إلى جانبَيها، وشعرت بالخجل. «أنا أيضًا آسفة. سامِحني.»
قال لوث: «لا يُهِم»، لكنها مدَّت يدَها وفي تردُّد وضعت إحدى يدَيها على ذراعه، فغطَّى يدَها بإحدى يدَيه. وقال: «لربما كانت ثمَّة طريقة أفضل من ماء ميلدتار لإنقاذ حياتكِ. لكن تلك كانت هي الطريقة الوحيدة التي أعرفها؛ كما أنكِ لم تترُكي لي مُتسعًا من الوقت. … فأنا لم أتلقَّ تدريبًا لأكون مُعالجًا.» وأغمض لوث عينَيه، إلا أن يدَه ظلَّت على يدِها. «عادةً لا يكون المشعوذون مُعالِجين. فهذا ليس بالشيء الباهر بما يكفي حسبما أظن؛ كما أننا قوم مُختالون إلى حدٍّ كبير.» وفتح عينَيه مُجددًا وحاول أن يبتسِم.
«إن ميلدتار هو ماء البصيرة، وينبوعه يصبُّ في البحيرة هنا، «بحيرة الأحلام». نحن نعيش — هنا — على مقربةٍ كبيرة من مجرى ميلدتار، لكن البحيرة تمسُّ شطآنًا أخرى أيضًا وتنهل من ينابيعَ أخرى، لا أعرف أسماءها كلها. أخبرتكِ أني لستُ معالجًا و… حين وصلتِ إلى هنا، أخيرًا، كنتُ أكاد أرى ضوء الشمس من خلالكِ. فلولا تالات، لظننتُكِ شبحًا. أوحى لي ماء ميلدتار أن أُعطِيَكِ قدرًا من ماء البحيرة؛ فماء البصيرة نفسه كان سينزع روحكِ مما تبقى من جسدكِ.»
«لكن البحيرة … حتى أنا لا أفهم كلَّ ما يجري في تلك البحيرة.» ثم سكت، وأبعد يدَه عن يدِها، لكن أنفاسه حرَّكت الشَّعر الذي سقط على جبهتها. وأخيرًا قال: «يؤسِفني أن أقول إنكِ لم تعودي … فانية.»
حدَّقت فيه إيرين، وتلاشت ظلال كآبة الطفولة لتحلَّ محلَّها ظلال كآبة آجالٍ مُستقبلية مجهولة كثيرة.
«إن كان في ذلك أيُّ عزاء لكِ، أنا أيضًا لستُ فانيًا. يتعلَّم المرء أن يتعايش مع هذا الأمر؛ لكن في غضون وقتٍ قصير إلى حدٍّ ما يجد المرء نفسه تشتاق إلى وادٍ خاوٍ أو إلى قمة جبل. لقد كنتُ هنا …»
«من مدةٍ طويلة بما يكفي لتتذكَّر التنين الأسود.»
«أجل. من فترةٍ طويلة بما يكفي لأتذكَّر التنين الأسود.»
فهمست قائلة: «هل أنت متأكد؟»
فردَّ في عنف: «لا يمكن للمرء أن يكون متأكدًا من أي شيء»؛ لكنها كانت قد عرفت أن غضبَه لم يكن مُوجهًا إليها، بل إلى مخاوفه، فانتظرت. أغمض لوث عينَيه مجددًا، وأخذ يفكِّر: إنها تصبر عليَّ. بحق الآلهة ماذا أصابني؟ إنني مُشعوذ مُجيد منذ أن وضع جوريولو العجوز العلامة عليَّ، وبإمكانه هو أن يتذكَّر المرة الأولى التي ظهر فيها القمر في السماء. وهذه الفتاة ذات الشعر الأحمر تنظر إليَّ مرةً واحدة بهاتَين العينَين الكحيلتَين المحمومتَين فيُصيبني الهلع وأغمرها في البحيرة. ما خطْبي؟
فتح عينَيه مجددًا وأطرق بنظرِه إليها. كانت عيناها لا تزالان كحيلتَين بلونٍ أخضرَ بُندقي، وكانتا لا تزالان تتوهَّجان بين الحين والحين بلهيبٍ كهرماني، لكنهما لم تعودا مَحمومتَين، وصدمَه هدوء عينَيها الآن بشدةٍ بقدْرِ ما صدمه فيما مضى البريق المُحتضر فيهما. «لقد تبعتكِ، حين كنتِ تحت سطح الماء. تعيَّن … تعيَّن عليَّ أن أُجريَ مساومةً سيئةً إلى حدٍّ ما لأُعيدكِ ثانيةً. ولم أكن أتوقَّع أن أُضطرَّ إلى إجراء مساومة.» ثم سكت هنيهة. وأضاف: «أنا واثق جدًّا.»
اضطربت عيناها وأطرقت. ونظرت إلى يدِها الموضوعة على ذراع لوث، ثم رفعت الأخرى لتلحق بها؛ وبلُطفٍ — وكأنها قد يروقُها عزاؤه بقدرِ ما راقَها ما وهبَها إيَّاه — وضع لوث ذراعه الأخرى حولها؛ ومالت في تمهُّل إلى الأمام وأراحت رأسها على كتفِه. قال لوث لها: «أنا آسف.»
ضحِكت إيرين ضحكةً هامسة. وقالت: «لم أكُن مستعدةً بعدُ لأن أموت؛ حسنًا، سأعيش أطولَ مما تمنَّيت.»
ثمَّ تحرَّكت إيرين وابتعدَت عنه وسقطت ذراعاها؛ لكن حين أمسك إحدى يدَيها في يده لم تحاول أن تسحبها. وأثارت الريح حفيفًا خفيضًا بين أوراق الشجر. وقالت بنبرة خفيضة: «لقد وعدتني بطعام.»
«أجل. تعالَي معي، إذن.»
كان طريق العودة نحو قاعة لوث ضيقًا؛ إذ كانا يَسيران جنبًا إلى جنب، لأن لوث لم يكن ليترك يدَها، تعيَّن عليهما أن يَسيرا أحدهما على مقربةٍ جدًّا من الآخر. وسُرَّت إيرين لمَّا رأت صخرةَ القاعة الرمادية تظهر عاليةً أمامها، وعند حافة الفناء الصغير انفصلت عن الرجل الذي كان إلى جوارها، وقطعت الدَّرَج المُنخفِض جريًا ودلفت إلى الغرفة الكبيرة العالية؛ وحين لحِق بها كانت مشغولةً بالتظاهُر بأنها تُدفِّئ يدَيها عند الموقد. لكنها لم تكن في حاجةٍ إلى دفء النار؛ لأن دمها كان مُضطربًا بصورة غريبة، وكانت الحُمرة على وجهها ترجع إلى ما هو أكثر من حمرة ضوء النار.
وأثناء تناولها طعامَ العشاء قالت: «لم أسمع أحدًا آخرَ يُطلِق عليها تسمية كيلار. كانوا يُسمُّونها الهِبة وحسب، أو الدم الملكي.»
شَعرَ لوث بالامتنان لأنها اختارت أن تكسِر الصمت وأجابها بسرعة: «أجل، هذا صحيح، وإن كانت أُسرتكِ قد أصبحت ملكيةً بناءً على تلك الهِبة، وليس العكس. وقد أتت في الأصل من الشَّمال.» ابتسم لوث لمَّا رأى الصدمةَ بادية على وجهها. «أجل؛ إنكم والكائنات الشيطانية تتشاركون أحدَ الأسلاف، وقد عشتم تحملون الكيلار عبْر أجيالٍ كثيرة. وأنتم في حاجةٍ لذلك السلف المُشترك؛ فمِن دون القوة غير الجسمانية التي تمنحكم الكيلار إيَّاها، لَما استطعتم أن تقاتلوا الكائنات الشيطانية، ولَما أصبح لدامار وجود.»
ضحِكت إيرين ضحكتها الهامسة ثانيةً، وقالت: «هذه لطمة ساحقة لأولئك الذين يُحبون أن يُشيروا إلى وضعي بأني هجينة.»
فقال لوث: «بالفعل»، ثم ومضَ سريعًا على وجهه الغضب الذي أصبحت مُعتادة إيَّاه متى ما تحدَّثا عن بلاط أبيها الملَكي. وأكمل: «إن جهلهم هائل حتى إنهم يرتعبون من لمحةٍ من الحقيقة؛ وأنتِ في حدِّ ذاتكِ لمحة من الحقيقة.»
ردَّت إيرين: «أنت تُبالِغ بشأني. قد أكون كلَّ ما تقول عنِّي الآن، لكني لم أكن من قبلُ شيئًا يُذكر، لم أكن سوى مصدر إزعاج وضرر؛ كنت مصدر ضررٍ على وجه الخصوص بسبب نِقمة أن الملك أنجبني، حيث لم يكن بالإمكان أن يتجاهلوني كما كنتُ أستحق.»
قال لوث: «يتجاهلونكِ. ينبغي أن تكوني ملِكةً بعدَ والدكِ. إن تور الموثوق والرصين هو مجرد غاصب.»
فأجابته حانقة: «كلَّا. تور موثوق ورصين وسيكون ملِكًا أفضل منِّي بكثيرٍ إن صرت ملكة. وهذا من حُسن الطالع؛ لأنه لدَيه ميلٌ إلى أن يصير ملِكًا، أما أنا فلا.»
سألها لوث: «ولِمَ لا؟ إنكِ أنتِ ابنة أرلبيث.»
أجابته إيرين: «من زيجته الثانية. لو أنَّ الملِكة تاتوريا أنجبت طفلًا، بالطبع ذلك الطفل كان سيَحكم خلفًا لأرلبيث؛ أو لا شك في أنه كان سيحكم لو كان ذكرًا. لكنها لم تفعل. فقد ماتت. وليس من المُفترَض أن يتزوَّج الملوك ثانيةً على أي حال، ولكنهم قد يفعلون ذلك في ظلِّ ظروفٍ قسرية بالِغة، كأن يكون الملك أرملَ ولا ولدَ له؛ لكن لا يمكن للملوك أن يتزوجوا من نساء غريبات مجهولات من سلالة هي موضعُ شك. أنا واثقة من أن الأمر كان مبعثَ ارتياحٍ عظيم لجميع المَعنيِّين حين وضعت تلك الغريبةُ أُنثى؛ فعادةً ما يتمكَّنون مِن منْعِ حتى الابنة الأولى من ذوي الأنساب التي لا غبار عليها من أن ترِث؛ لذا كانت تَنحِيَتي جانبًا بسهولةِ القَسَمَ بالآلهة السبعة المنزَّهة.»
«تُفضِّل جالانا أن تظنَّ أنني لقيطة، لكنِّي رأيت دفتر السجلَّات، وأنا ابنة شرعية، لكني لا أرقى إلى أن أكون وريثةً شرعية للعرش. إذ اختار الكهنة أن يُطلقوا على زواجِ أبي الثاني زواجًا مرغنطيًّا (زواج الشريف من امرأةٍ من العوام)؛ فلم يُسمَح لأُمِّي حتى أن تحظى بلقب «زوجة مُكَرَّمة». تحسبًا في حال أنجبت ولدًا.»
•••
كان إحساس إيرين بمرور الوقت مشوَّشًا منذ واجهت ماور؛ وحين تعافت في وادي لوث الجبلي، كانت لا تزال تجِد صعوبةً في تصديق أنَّ للأيام والأسابيع أيَّ معنًى. وحين خطر لها أن أحد المواسم كان قد انتهى وأن آخرَ على مشارف الانتهاء، وأن تلك أشياءُ كان ينبغي لها أن تُحيط بها عِلمًا، تراجعت عن تلك المعرفة ثانيةً؛ لأنه حينئذٍ كان ما أخبرها به لوث، عن الثَّمن الذي دفعته لتستعيدَ حياتها ثانيةً، يظهر أمامها ويسخر منها. كان الخلود ثمنًا أفظعَ بكثيرٍ مما كان يُمكنها أن تتخيَّل.
وبينما كان الهواء يزداد برودةً والعشب في المرعى يتحوَّل إلى اللون البُني والبنفسجي الباهت، وبينما توقَّفت الأزهار عن التفتُّح، تظاهرت إيرين بأنها تُحيط بهذه الأشياء علمًا باعتبارها ظواهرَ مُنفردة. وأخذ لوث يُراقبها، وكان يعرف الكثيرَ مما كانت تُفكِّر فيه، لكنَّه لم يكن يملِك لها أيَّ تعزية؛ كان كلُّ ما باستطاعته أن يُقدِّمه إليها هو معرفته، بالسِّحر، وبالتاريخ، وبدامار؛ وبالعوالم التي ارتحل إليها، وبالأعاجيب التي عاد بها. علَّمها لوث بحماسة، وتعلَّمت هي عنه بتلهُّف، فكان كلٌّ منهما يُشتِّت الآخر عن شيءٍ لم يستطِع كلٌّ منهما بعدُ أن يُواجهه. وتساقط الثلج، فأمضى تالات والماشية والأغنام أيامَهم في الحظيرة المفتوحة المُنخفضة عند طرَف مرعاهم؛ وفي بعض الأحيان كانت بعض الأيائل تنضمُّ إليهم لدى تناولهم التبن والشوفان؛ لكن كانت الأيائل تأتي في غالب الأمر من أجل الرفقة — ومن أجل الشوفان — لأن الشتاء لم يكن قاسيًا في المكان الذي كان فيه لوث، ولم يكن الثلج يكسو شواطئ بحيرة الأحلام قَط.
وأحيانًا كان ما تتعلَّمه يُصيبها بالخوف، أو لعلَّ قدرتها على تعلُّم تلك الأشياء من مشعوذ هي التي أخافتها؛ وذات يوم سألته بشكلٍ لا إرادي: «لماذا تُخبرني … بهذا القدْر الكثير؟»
أخذ لوث يتأمَّلها. وأجابها: «أُخبرك … بما أنتِ في حاجةٍ إلى معرفته، وبما استحققتِ بجدارةٍ أن تعرفيه، وبما لن تضرَّك معرفته …» ثم سكت.
«وبعد؟»
رفع لوث يدَيه وحاجبَيه؛ وابتسم ابتسامةً باهتة. ولمع ضوء شمس الشتاء الضعيفة على شَعره الأصفر وتلألأ في عينَيه الزرقاوَين. لم يكن ثمَّة خطوط في وجهه، وكانت كتفاه المحدودتان مُستقيمتَين ومتوازنتَين؛ رغم ذلك ما زال يُخيَّل إليها أنه عجوزٌ، عجوزٌ بعمر الجبال، بل وأكبر عمرًا حتى من القاعة الرمادية الكبرى التي كان يقطنها، والتي بدت وكأنها موجودة منذ أول يومٍ سطعت فيه الشمس على البحيرة الفضية. أكمل لوث يقول: «أحيانًا أخبركِ فقط لأنني أرغب في أن أخبركِ.»
أصبحت دروس إيرين أطولَ وأطول؛ ذلك أنَّ قدراتها الذهنية ازدادت بازدياد قدراتها الجسدية؛ وبدأت تُحب التعلُّم لأجل التعلُّم في حد ذاته، وليس لمجرد حقيقةِ وجود كيلار في دمها، ولأن أسرة ملِك دامار ليست في حاجة لأن تتنصَّل منها؛ وحينها لم يكن ثمَّة ما يكفيها لتتعلَّمه.
قال لها لوث مُبتسمًا، ذات ظهيرةٍ باهتة، فيما كان الثلج يتساقط خفيفًا بالخارج: «سيتعيَّن عليَّ أن أمنحكِ علامةَ المُشعوذ عمَّا قريب.»
وقفت إيرين وأخذت تذرع الأرض بخطواتها في قلق، ضِعف طول القاعة نحو الباب المفتوح، ثم تعود إلى الموقد والطاولة التي كان يجلس إليها لوث. كانت القاعة مثالية لغرض المشي فيها؛ فقد كان المشي فيها يَستغرق بضعَ دقائق لينتقل المرء من أحد طرفَيها إلى الطرف الآخر ويعود ثانيةً حتى إلى الأكثر تَملمُلًا. وكان بابها يبقى مفتوحًا طَوال العام؛ ذلك أن البرد كان يظلُّ في الخارج بطريقةٍ ما، وكانت التيارات الهوائية الوحيدة في القاعة هي التيارات الدافئة المُنبعثة من الموقد. أخذت إيرين تُحدِّق في الباحة البيضاء المتلألئة بضع لحظات قبل أن تعود إلى لوث والطاولة أمام النار.
ثم قالت: «أتيت هنا أولًا طلبًا للشفاء وثانيًا للمعرفة، لكنِّي، بحق الآلهة، لا أدري إن كان باستطاعتي تحمُّل أيٍّ منهما. ومع ذلك لا أملِك أيَّ خيار. ومع ذلك لا أعرف حتى ما رغِبت في معرفته.»
وقف لوث، لكنه لم يتحرَّك سوى بضع خطواتٍ قليلة مُقتربًا من المدفأة. وقال لها: «سأُخبرك بكل ما يجوز لي أن أُخبركِ به.»
فردَّت إيرين في شراسة: «ما يجوز لك. ما الذي لا يجوز لك أن تُخبرني به؟ ماذا أكون الآن، بعدما لم أعُد لا بشرية — وأنا أفهم أني لم أكن قَط بشرية — ولا فانية، وقد كنتُ كذلك؟ لماذا شفيتني؟ لماذا استدعيتَني إلى هنا من الأساس؟ لماذا تُعلِّمني الكثير الآن حتى إنك تُهدِّدني بعلامة المُشعوذ، حتى يخاف منِّي كلُّ مَن ينظر إليَّ؟ سيكون ذلك مُمتعًا ومُسليًا للغاية في موطني كما تعلم، فأنا أتمتَّع بالشهرة هناك بالفعل. لماذا؟ لماذا لا تطلُب منِّي أن أرحل؟» ثم سكتت وأطرقت تنظر إلى قدمَيها. وأكملت: «لماذا لا أُغادر فحسب؟»
تنهَّد لوث. وقال: «أنا آسف. مُجددًا. ظننتُ أنه قد يكون من الأسهل أن يكون لديكِ أولًا فكرة عما تتمتَّعين به من قوة.»
كانت لا تزال تُحدِّق في حذائها، فخطا لوث خطوةً إلى جوارها ولمس إحدى كتِفَيها في تردُّد. حدَّبت كتِفَها وأشاحت بوجهِها عن لوث. كان شَعرها الآن يكاد طوله يصل إلى كتفِها، وقد سقط على وجهها كأنه حجاب. أراد لوث أن يُخبرها بأسبابِ حتميةِ بقائها، أسباب وجيهة وصادقة وتتعلق بدامار، أسباب ستتفهَّمها وستقرُّ بها؛ أسباب وُلِدَت معها باعتبارها ابنةَ الملك، بغضِّ النظر عن أنَّ قومَها جعلوها منبوذة؛ أسباب سيتعيَّن عليه أن يُخبرها بها عما قريب على أي حال. لكنه أراد … «أترغبين في الرحيل إلى هذا الحد؟» هكذا قال لها في حزن.
فجاءه صوتُها خفيضًا من خلف شعرها: «لا يُهمُّ ذلك كثيرًا. فلا أحد يفتقدني.»
فقال لوث عابسًا: «تور.»
قالت: «أوه، تور»، وفجأةً أصدرت ضحكةً مُختنقةً غير مُتوقَّعة، ثم رفعت يدها وأزاحت الحجاب، وهي تَفرُك خدَّيها على عجَل. وكانت عيناها لا تزالان تلمعان بشدة بعض الشيء. «أجل، تور وأرلبيث أيضًا، وأشعر حقًّا بالسوء حيال تيكا؛ لكني أُخمِّن أنهم يعيشون على أمل، ويظنون أنهم سيَرَونني ثانيةً. لا أُمانع أن أبقى هنا … وقتًا أطولَ قليلًا. فأنا لا أودُّ أن أرتحل في الشتاء على أي حال.»
ردَّ لوث بنبرة جافة: «شكرًا لكِ. سأكون مُستعدًّا بحلول الربيع … لأن أجعلك تمضين عائدةً في طريقكِ.»
سألته إيرين في رفق: «وأي طريقٍ سيكون ذلك؟»
أجابها لوث: «إلى أجسديد. ذلك الذي يتحكَّم في مستقبل دامار.»
سألته: «أجسديد. لا أعرف هذا الاسم.»
«إنه هو مَن يُرسِل الشرور عبْر حدودكم؛ وهو مَن حرَّض نيرلول على التمرُّد مدةً كافية لكي يُشتِّت أرلبيث ويُكدِّر صفوه، وهو مَن أيقظ ماور، وهو مَن يُناوش مدينتكم الآن بزبانيته، وسيتحرَّك جيشه صوب الجنوب في الربيع. اسمه أجسديد، وإن لم يكن هناك أحدٌ يعرف اسمه الآن، وجنرالات الشَّمال يعتقدون أنهم مُتَّحدون معًا ليس على شيء سوى كرههم المشترك فيما بينهم لدامار.»
«إن أجسديد ساحر — مشعوذ مُجيد، بل هو أعظمُهم. وعلامته مُشعَّة جدًّا حتى إنها يمكن أن تُصيب أيًّا ممن ينظرون إليها من البسطاء بالعمى، وإن كانوا لن يعرفوا إلامَ نظروا. لقد عرفتُ أجسديد منذ زمن بعيد؛ كان أحد تلاميذ جوريولو؛ كان أفضلنا جميعًا وكان يعرف ذلك؛ لكن حتى جوريولو نفسه لم يرَ عُمقَ ما لدى أجسديد من كِبْر … وكان لجوريولو تلميذة أخرى من أسرة أجسديد؛ كانت تلك التلميذة هي أخت أجسديد. كانت تلك الأخت تخشى أخاها، كانت دومًا تخافه؛ كان خوفها مما يُمكن لكِبْرِه أن يتسبَّب به وهو ما قادها معه إلى جوريولو، لكن قبول جوريولو بها كتلميذة له كان عن جدارةٍ منها واستحقاق.»
«أما أنا … فسيتحتم عليَّ أن أُرسلكِ إلى وكْر التنين ثانيةً، وأنا بالكاد شفيتكِ مما حلَّ بكِ من مواجهتكِ للتنين الأسود، ولشفائي لكِ هذا ثمنٌ فادح. إن مَثَل أجسديد لماور كمَثَلِ ماور للتنانين الصغيرة. إنَّني أُعَلِّمكِ ما يجوز لي أن أُعَلِّمكِ إياه لأن هذه هي الدرع الوحيدة التي يجوز لي — ويُمكنني — أن أعطيكِ إيَّاها. لا يُمكنني أن أواجه أجسديد بنفسي؛ لا يُمكنني ذلك.» ثم انفجر لوث يقول: «بحق الآلهة والجحيم التي لم تسمعي بها من قبل، أتحسبين أنه يروقُني إرسالُ طفلةٍ إلى مصيرٍ مشئوم كهذا؛ مصير أعرف أنني أنا نفسي لا أستطيع أن أواجهه؟ من دون شيء يَحميها سوى نصف عامٍ من فُتات الدراسة والتدريب على السِّحر؟»
«أعرف يقينًا مِن سلالتي أنني لا أقدِر على هزيمته؛ وإن كنتُ قد تمكَّنت من خلال سلالتي هذه أن أتصدَّى له طوال كل تلك السنوات، حتى يتسنَّى للبطل المختار — الذي هو من سلالته — أن ينموَ ويكبُر ليقوى على مواجهته؛ فلن يستطيع أن يَهزمه إلا واحدٌ من دمه.» ثم أغمض لوث عينَيه. وأردف: «صحيح أن أُمَّكِ أرادت ولدًا؛ فقد اعتقدت أنه إن كان مَن سيهزمه من دمِهِ فلا بد أن يكون من جنسه، وكانت تعزو فشلها هي نفسها إلى ذلك. شعرت أمكِ أنها لم تستطِع أن تقتُل أخاها لأنها امرأة.»
همست إيرين تتساءل: «أخاها؟»
هنا فتح لوث عينَيه. واستطرد وكأنه لم يسمعها: «لو كانت قد حاولت، لفشلت رغم ذلك، لكنها لم تُطِق أن تُحاول؛ حتى سعى أجسديد، الذي كان يَعرف بالنبوءة كما كانت تعرفها، وذلك قبل وقتٍ طويل من أن يكون ثمَّة حاجة لأن يعرف بها أحد، ليُجنِّدها طوعَ رغبته وإلا قضى عليها.»
«ولم يستطِع أجسديد أن يُجنِّدها طوعَ رغبته؛ لكنه كاد يُحقِّق مسعاه الآخر، وفي النهاية ماتت من السُّمِّ الذي قدَّمه إليها.» نظر إليها لوث، وتذكَّرت إيرين اليدَ التي لم تكن يدَها وكانت تُمسك بقدَح، والصوت الذي لم يكن صوتَ لوث وهو يقول: «اشربي.» أكمل لوث: «لكنها في تلك الأثناء كانت قد هربت صوبَ الجنوب، ووجدت رجلًا يتمتَّع بالكيلار في دمه، وحملت منه طفلًا. لم تكن تملِك من القوة سوى ما يُعينها على حمل الطفل قبل أن تموت.»
ثم التزم لوث الصمت، ولم تجِد إيرين شيئًا تقوله. كان عقلها يضجُّ بأجسديد؛ قبل لحظةٍ أخبرت لوث أنها لا تعرف هذا الاسم، لكنها الآن على استعدادٍ لأن تقسم أنه كان يسكن كلَّ ذرة حزن من قبلِ ولادتها؛ أن تقسم أن أُمَّها همست باسمه لها وهي في رحِمها؛ أن تقسم بأنها تشعر على لسانها بطعم اليأس الذي قتل والدتها. أجسديد، الذي هو مقارنةً بماور مثل ماور مقارنةً بأول تنين قتلتْه، وكان بإمكان أول تنينٍ قتلتْهُ أن يقتلها — وقد قتلها ماور بالفعل؛ ذلك أن الوقت الذي تعيشه الآن ليس بوقتها. أجسديد، الذي هو من دمها؛ فهو شقيق والدتها.
شَعرت إيرين بالخدَر يسري في جسدها؛ حتى المشاعر الجديدة التي كانت قد استيقظت فيها منذ أن غاصت في بحيرة الأحلام وتعمَّقت في تعاليم لوث لها، كانت كلها خدرة، وعَلِقَت إيرين في فراغ كبير، سجينة اسم أجسديد.
وبعد أن سكَت برهةً قال لوث، وكأنه يحدِّث نفسه: «لم أظنَّ أن قوة الكيلار التي بكِ ستَختبِئ منك هكذا. ربما كان السبب في ذلك ما أقدمتِ عليهِ من أذًى لنفسك ولِهِبَتكِ بأكل السوركا. وربما لم تكن والدتكِ قادرةً تمامًا على أن تَحميَ الطفل الذي حمَلت به من الموت القريب منها. اعتقدتُ أنكِ في حاجةٍ لأن تعرفي ولو شيئًا من الحقيقة على الأقل؛ اعتقدتُ ذلك حتى رأيتُكِ تُجابِهين ماور بشيءٍ يفوق قليلًا الشجاعةَ البشرية البسيطة، وإيمانٍ طائش بفاعلية مُستحضَر علاجي رديء كالكينيت في مواجهة التنين الأسود. وعرفت حينها أنَّني لم أكن مخطئًا بشأنكِ فحسب، بل إن أوان إنقاذي لكِ من الآلام التي قد تُسبِّبها لك سذاجتُكِ قد فات؛ وخشيتُ أنكِ قد لا تَنجين من ذلك اللقاء من دون الاعتماد على قوة الكيلار لديكِ. وكدتُ أن أكون مُحقًّا بشدة في ذلك.»
«كنتُ مشغولًا كثيرًا بينما كنتِ تكبَرين، وأنا لا أنتبِهُ للأعوام كما تفعلون؛ ولم أحرسكِ كما كان ينبغي لي أن أفعل. كما وعدتُ والدتكِ أنني سأفعل. أنا آسف، أقولها ثانيةً. لقد تأسَّفتُ على الكثير من الأشياء معكِ، ولا يُمكنني فِعل الكثير بشأن أيٍّ من ذلك.»
«اعتقدتُ أنكِ ستكبَرين وأنتِ تعرفين أن ثمَّة قدَرًا ما ينتظركِ؛ تصورتُ أن ما يجري في دمكِ لن يسَعَه سوى أن يُخبركِ بالكثير. تصورتُ أن الأحلام الصادقة التي أرسلتُها لكِ ستُخبركِ بذلك بالضبط. تصورتُ الكثير من الأشياء التي كانت خاطئة.»
قالت إيرين بتبلُّد: «ربما حاول الكيلار أن يُخبرني، لكن شُوِّشت الرسالة بطريقةٍ ما. مما لا شك فيه أنني تأكدتُ أن قدَري مُختلِف عما كان ينبغي لقدَرِ ابنة أرلبيث أن يكون، لكن ذلك كان استنباطًا يمكن لأي أحدٍ أن يفعله.»
نظر لوث إليها، ورأى اسم خالِها وكأنه مطبوع على وجهها. فقال مُمازحًا: «إذا أردتِ فسأذهب بنفسي إلى مدينتكِ وأضرب كلًّا من رأسَي بيرليث وجالوني بالآخر.»
حاولت إيرين أن تبتسِم. وقالت: «سأتذكر هذا العرض.»
«أرجوكِ. وتذكَّري أيضًا أنني لا أترك جبلِي هذا مُطلقًا، فانظري إذن كم أشعر بالأسف في المقام الأول.»
تلاشت ابتسامةُ إيرين. وسألَتْه كما سألت تيكا قبل زمنٍ طويل: «هل أُشبِهُ والدتي حقًّا؟»
نظر إليها لوث مجددًا، وتزاحمت في رأسه أشياء كثيرة يريد قولها. ثم قال أخيرًا: «أنتِ تُشبهينها كثيرًا. لكنكِ أفضلُ منها.»