الفصل التاسع عشر
التفَّت السلالم حلزونيًّا نحو الأعلى في دورانٍ طويل وبطيء، واستمرَّت إيرين في الصعود عليها، فكانت تلتفُّ وتلتفُّ حتى خُيِّل إليها أنها تتسلَّق صاعدةً إلى السماء، وأنها في نهاية الدَّرَج ستخطو على السطح البارد للقمر وستنظُر إلى الأسفل نحو الأرض الخضراء البعيدة. لبعض الوقت كانت تستطيع سماعَ صوتِ أصدقائها، الذين كانوا ينتظرونها في قلقٍ عند أسفل الدَّرَج؛ وسمِعت مرةً أنينًا ضعيفًا للغاية، لكن هذا كان كلَّ شيء. لم يُحاول أحدٌ أن يتبعها. بعد ذلك لم تستطِع سماعَ أي شيءٍ سوى وقْع أقدامها الخافت والتلعثم العرَضي البطيء للَّهب المُرتعش. آلَمَتْها ساقاها من تسلُّق الدَّرَج، وآلَمَها ظهرها من التوتر والإجهاد، وآلمَتْها رقبتُها لإبقائها رأسَها مرفوعًا لأعلى لتنظر إلى الدَّرج الذي لا ينتهي؛ وآلمَها ذهنها من أفكارٍ لم تجرؤ على التفكير فيها. حينها كان ضوء النهار قد اختفى منذ وقتٍ طويل، كان قد اختفى مع آخِرِ أصوات وُحوشِها؛ وكان الضوء في عينَيها أحمرَ. وعند طرفَي بصرها كانت تستطيع أن ترى أبوابًا سوداء تؤدِّي إلى غرفٍ ما كانت لتتخيَّلَها، فضلًا عن أن تلتفِت لتنظر إليها؛ وفي بعض الأحيان كان صدى وقْع خطواتها الخفيض يتردَّد بصورةٍ غريبة على دَرَجٍ يُفضي إلى تلك الغرف.
أثقل الصمتُ كاهلها؛ وصار الهواء أثقلَ مع كل خطوةٍ تخطوها نحو الأعلى. وأدركت إيرين حجمَ الثِّقَل الذي كانت تشعُر به، وإن لم تكن قد شعرت به من قبلُ هكذا: إنه الشر. كانت أنفاس ماور نتنةً من الشر، وخلَّفت كلماته في ذهنها آثارًا خبيثة؛ لكنها واجهت ماور على الأرض وتحت السماء، وليس في صرحٍ مُظلِم وخانق لا نهاية له. أخذت إيرين تُناضل. كانت تشعر مع كل درجةٍ تخطوها أنَّ كاحلَيها وعظمَ ساقَيها تصطدم بالأرض، وأن أوتارها تُحدِثُ صريرًا في رضفتَي رُكبتَيها، وأن عضلات فخذَيها الكبيرة تتفتَّل وتتجعَّد وأن وَرِكَيها تُسحَقان في تجويفَيْهما. وبدأ كاحلها الأيمن يؤلِمها.
كانت لا تزال تحمِل إكليل السوركا، وبينما كانت تفكِّر في ماور، تذكَّرت الحجر الأحمر الذي كانت قد أخذَتْه معها من بين رماده، وتذكَّرت أنها تحمِله الآن. تملَّكتها رهبةٌ باردةٌ للحظة، حين تساءلت في نفسها إن كانت تحمل بنفسها مصدرَ خيانتها وخداعها إلى عرين أجسديد؛ إلَّا أنها وضعت يدَها في صدر سُترتها وأخرجت الجراب الليِّن الصغير الذي وضعت فيه الحجر. كان ملمس الحجر ساخنًا حين سقط في راحة يدِها من الجراب، وبدا أنه يتمعَّج بين أصابعها؛ وكاد يسقط من يدها، لكنها فكَّرت في العناكب وأوراق السوركا وظلَّت مُتمسِّكةً به؛ ثم أعادته إلى الجراب وأحاطتْه بأصابعها.
واستمرَّت إيرين في تسلُّق الدَّرَج، لكنها ما عادت تشعُر بأنها وحيدة. كان الشر يُحيط بها؛ كان الشر الأحمر يلمع في عينَيها، ويمتطي كتفَيها، ويُنهِك كعبَيها؛ كان الشر ينتظِرها في المداخل المُظلمة التي لم تكن لتنظر إليها، وكان يتساقط كالرماد ويرتفع كدخان المشاعل. كان الشر يُحيط بها، ويُراقبها من دون عيون، ينتظر أول زلةٍ لها. ظلَّ الدَّرج يرتفع أمامها، وظلَّت ساقاها المُنهكتان تحمِلانها نحو الأعلى؛ وتساءلت كم يومًا مرَّ عليها وهي تتسلَّق الدَّرَج، وإن كان جيشها قد انفضَّ الآن، وقلِقت بشأن تالات الذي كان لا يزال يحمل سَرجَه وعُدَّته. كان حريًّا بها أن تتذكَّر أن تُجرِّده منهما قبل أن تدخل الصرح المُظلم.
كان الضوء الأحمر يخفِق بنفس إيقاع نبضها؛ وكانت تلهث بإيقاعٍ بدأت تقلُّباته؛ وكان العَرق الذي يجري ويدخل إلى عينَيها أحمرَ اللون وكان يؤلِمها. والآن كان لدَيها شيء آخر يُقلقها؛ ذلك أنها حين مسَّت جِلد حَلْقِها الرقيق بأصابعها الدبقة بعصارة السوركا حين جذبت الحبل الرقيق الذي يتعلَّق به جراب حجر التنين، أصبح ذلك الجلد يؤلِمها أيضًا. لكنَّ خفقان ألَمِه لم يكن له علاقة بالصرح الذي كانت فيه. كان الجِلد يخفق عمدًا وبعُنف، وكان ذهنها مُشتتًا بما يكفي لأن تُفكِّر في نفسها أنَّ هذا نمطيٌّ وتقليديٌّ تمامًا. فهي في طريقها إلى مصيرٍ لا يعلَمه إلا الآلهة، وتُصاب بطفح جلدي. لكن ذلك خفَّف من وطأة الشر عليها قليلًا؛ لم تلحظ هذا على هذا النحو، لكنها استمرَّت في كدِّها ونَصَبِها بروحٍ معنوية أفضل قليلًا. جذبت أحدَ طرفي ياقة سُترتها فحرَّرتها وضغطت بها على الطفح الذي تسبَّبت فيه السوركا، لكن ذلك لم يُجْدِ نفعًا على الإطلاق.
أخذت ترتقي الدَّرَج. وترتقي. وكان كل شيء يؤلِمها؛ فكان من المستحيل عليها أن تفرِّق بين ألَم تشنُّجات ساقها والصداع؛ كان الشيء الوحيد الذي لا يزال يحمِل ملمحًا من ملامح التفرُّد فيها هو الطفح الجلدي الذي تسبَّبت به السوركا على صدرها، وكان ذلك الطفح ينتشر ويتفشَّى. واستمرَّت ترتقي. كانت تصعد منذ الأزل؛ وستصعد إلى الأبد. ستكون إلهة جديدة: الإلهة الصاعدة. لم يكن ذلك بعيدَ الاحتمال بأكثر من الآلهة الأخرى: «الإله غير الموجود»، على سبيل المثال (ويشتهر أكثرَ باسم الإله التابع أو الإله السابق) وهو إلهُ الظلِّ في منتصف النهار. بدأ الطفح الجلدي يُثير حكةً، فتعيَّن عليها أن تقبِض أصابعها الملطَّخة بعصارة السوركا لتمنع نفسها من أن تحكَّ جلد رقبتِها وصدرها الشديد الحساسية والرقة. واستمرَّت ترتقي. كانت حرارة الحجر الأحمر تخفق الآن في يدِها حتى من خلال الجراب؛ وكانت أوراق السوركا النضرة تلسع أصابع يدها الأخرى.
وحين وصلت إلى أعلى الدَّرَج لم تُصدِّق نفسها. وقفت في بلاهة، تنظر إلى الرَّدهة المُظلِمة أمامها التي تنفتح من بابٍ مظلِم ككل الأبواب المُظلمة الأخرى التي مرَّت بها بارتباكٍ أثناء صعودها الحلزوني الطويل؛ لكنَّ الدَّرَج كان قد انتهى الآن، ولا بد أن تعبُر هذه العتبة أو أن تستدير وتعود أدراجها. لم يكن ثمة مشاعلُ تُضيء هذه الرَّدهة؛ كان آخرُ المشاعل يُلقي بضوئه عليها أدنى منها بستِّ درجات. وفجأةً كانت تلك الظلال تختلج، وإن لم يكن يُوجَد في المكان تيارٌ هوائي، فعرفت أن ثمة شيئًا على الدَّرَج خلفها، فتقدَّمت ودلفت إلى الظلام.
كانت ستقول إنها لم يبقَ بها من قوةٍ ما يُمَكِّنها من أن تجريَ، لكنها جرت، وكان جونتوران يطرُق كاحلَها بشدةٍ فآلَمَها ذلك، وإن كانت قدماها خدرتَين من صعود الدَّرَج. ثم وجدت أن الرَّدهة كانت قصيرة إلى حدٍّ كبير؛ لأن الظلمة التي كانت تكتنفها كانت من أبوابٍ مزدوجة حُفَّت أُطُرها بخطٍّ رفيع للغاية من الضوء الأحمر؛ وقفت إيرين فجأةً على بُعد بضع خطوات من الأبواب المزدوجة، وعضلاتها ترتعِش ورُكبتاها تُهدِّدانها بأن تطرحاها أرضًا حتى يجِدها الشيء الذي كان يصعد على الدَّرَج.
مالت إيرين على الحافة الخارجية لأحد الأبواب، وكان ظهرها مواجهًا للجدار الضئيل من مكان التقائه بجدار الرَّدهة؛ وكان لأنفاسها طنينٌ وأنينٌ في حلقِها. شكرت لوث على إتقانه في مداواتها، حين شعرت بالهواء الكثيف يندفِع إلى أعماق صدرها ويُلفَظ إلى خارجه وتلتقِط رئتاها قدرًا نقيًّا منه. وبلُهاثها أخذ الطفح الجلدي على صدرها يخفق بمزيدٍ من الاتِّقاد، وكان جلد المنطقة التي تقع فوق قفَصِها الصدري يرتفع ويهبِط أسرع. كانت مُداواتها متقنةً فيما يخصُّ الشيء الأهم، هكذا صحَّحت لنفسها.
لوث. لم تكن إيرين قد فكَّرت فيه ولا نطقت باسمِه حتى في أكثر خبايا ذهنها غموضًا وخصوصية، وذلك منذ تركتْه. كانت قد قالت إنها ستعود إليه. هدأت أنفاسُها؛ وبدا حتى أن الهواء الخبيث قد أصبح أقلَّ سوءًا وشناعة. لوث. نظرت إلى الرَّدهة، لكنها لم ترَ شيئًا آتيًا نحوَها. فكَّرت في نفسها أنه ربما ليس ثمَّة شيء. ربما هذا هو ما يتبعها. وأطرقت تنظر إلى يدَيها. لم يكن باستطاعتها فتحُ الأبواب خلفها — بافتراض أنها تُفتَح بالطريقة المُعتادة — وكلتا يدَيها مشغولة. فركعت بعد أن ركلت طرَف جونتوران جانبًا فانضغط السيف في زاوية ونكز إيرين في إبطها نكزةً حادة بمِقبضه، ثم وضعت الجراب وبه الحجر وإكليل السوركا على الأرض الحجرية. وببطءٍ فكَّت الجراب الجلدي فخرج منه الحجر الأحمر الساخن يستعِر بلونِه، وأخذت ألسنة طويلة حمراء تتسلَّل منه عبْر الرَّدهة وعلى الجدران. جعلها ذلك تشعر بدُوار. ثم نخست الإكليل وصنعت تجويفًا صغيرًا في السُّوق المجدولة والتقطت الحجر بسرعةٍ حيث كاد يحرق أصابعها وأسقطته في التجويف. أزَّ الحجر وهسَّ، لكن بدا أن نبتة السوركا تغلِبُه وتُطفئه، ثم خبا الضوء الأحمر فيه. جمعت إيرين الأوراق حوله ثانيةً، وهزَّت الإكليل لتتأكَّد من أنه لن يسقط، ووقفت.
بحقِّ أجنحةِ أُمِّ كل الجياد، كان ما بها من طفح جلدي سيُصيبها بالجنون قريبًا. فركَت إيرين مكان الطفح عاجزةً عن أن تمنع نفسها، فكان رُسغها يَحكُّه على الوجه الداخلي لسُترتها، واستجاب جلدها لذلك بابتهاج، ذلك أنها شعرت وكأن نارًا قد أحرقته؛ لكن وبينما أنزلت يدَها ثانيةً وحاولت أن تَحنِيَ كتفَيها حتى يسقط قميصها وسُترتها بعيدًا عن الجلد المُصاب، توقفت وفكَّرت فيما يُمكن أن يتسلَّل على الدَّرج من خلفها. ولم يجدِ نفعًا أيضًا أنها أحنَت كتفَيها. التفتت لتواجِهَ الباب وهي مُنزعجة، وقد ضغطت بيدِها الفارغة على صدرها وهي منبسطة وكان قميصها وسترتها بين جلدها ويدها؛ ثم ضغطت على الباب باليد التي تحمل بها السوركا. أحدثت الأوراق صريرًا على الحافة الداخلية للباب ثم …
انفجر الباب.
كان هناك هدير وكأن كلَّ آلهة الرعد قد نزلت عن جبلها لتعوي جميعًا في أُذنها في وقتٍ واحد؛ وعصفت الرياح من حولها وكأنها دَرَج حلزوني لا نهاية له تُصيبها حوافه بالرضوض. كان أمام عينَيها احمرار مُمزَّق يتقطَّعه سوادٌ ويخدشه بياض واصفرار؛ وشعرت إيرين أن عينيها ستُقتلَعان من محجريهما. ترنَّحت نحو الأمام، وكانت لا تزال تقبض على الإكليل باليد التي كانت تُمسكه ممدودة. لم تستطِع أن ترى الأرض ولا الجدران ولا السقف ولا أي شيء؛ مجرد شظايا ألوان، كخِرَقٍ قماشيةٍ مجنونة تندفع مارَّةً من أمامها. اتجهت يدها الأخرى نحو مقبض جونتوران، مع أنها كانت تعرف أنها لم تكن تملك فرصةَ سَحب السيف في هذه الدوَّامة العاصفة؛ لكن كان من المريح لها أن تمسك بالسيف.
رفعتها الريح عن الأرض تمامًا لحظةً ثم أسقطتها فترنَّحت وكادت تسقط أرضًا، ثم قبضت عليها الرياح ثانيةً وقذفت بها إلى أحد الجوانب، وكان من حُسن حظِّها أنها سقطت على قدمَيها في المرة الثانية. قالت في نفسها إن هذا لن يُجديَ نفعًا، فرسَّخَت نفسها بأفضلِ ما في وُسعها. وفكَّرت في نفسها أنها على الأرجح ستفقد سيفَها هكذا؛ ثم بسحبةٍ عنيفة أخرجت جونتوران من غمده.
اشتعلت نارٌ زرقاء وطافت من حولها، ثم تراجعت الرياح ودوِيُّ الرعد. شنَّت إيرين بجونتوران هجومًا تجريبيًّا، فصدَر عنه صوتٌ حادٌّ وصاخِب، فاختفت الشظايا الحمراء والسوداء والخدوش والصفراء والبيضاء إلى الظلام وأصبح المكان أرضيةً وخمسة جدران حمراء وسقفًا عليه رسومات، ثم تساقطت أشياءُ حمراء وسوداء، لها أنيابٌ ومخالبُ صفراء.
وفي الطرف القصي من الحجرة وقف رجل متَّشِح بالبياض، وفي جنبه طَوق سيف أحمر، فعرفته إيرين من فورها؛ لأنها كانت قد رأت وجهه في مرآتها كثيرًا.
فتحت إيرين فمَها لكن لم تخرج منه أيُّ كلمات. ضحِك الرجل، ضحِك ضحكتَها، لكنها كانت أعلى وأعمق ولها أصداءٌ مُريعة صنعت تناغماتٍ مُعقَّدة، ووجدت تلك التناغمات في ذهنها الأماكن التي لم تنظُر هي فيها قَط، تلك الأماكن التي ظلَّ وجودها يُخيفها طويلًا؛ أماكن تمنَّت إيرين دومًا أن تكون قادرةً على تجاهلها. اضطرب الهواء من فوقها في شكل موجاتٍ كثيفة، وخبَت نار جونتوران الزرقاء واضطربت بينما أخذت يدُها ترتعش.
قال الرجل: «مرحبًا يا ابنة أختي.» كان صوته خفيضًا وناعمًا ومُهذبًا؛ كان صوتًا رصينًا وعميقًا وحصيفًا ولطيفًا، كان صوتًا يمكن لأي أحدٍ أن يمنحه ثقتَه؛ كان صوتًا لا يُشبه صوتَ إيرين في أي شيء.
ردَّت إيرين أخيرًا قائلةً بصوتٍ مُختنِق: «لا مرحبًا بك»، وبدا وكأنَّ صوتها يُحدِث ثقوبًا شنيعةً في تيارات الهواء بينهما، وقد دمَّرت تلك الثقوب التناغُمات التي كانت لا تزال تُهمهِم في ذهنها؛ لكنها شعرت من وقْع صوتها أنها فقدت شيئًا عزيزًا وجميلًا ربما كان سيُصبح مِلكًا لها إلى الأبد. «لا مرحبًا بك. لقد قتلتَ أُمِّي وستقتُل شعبي وتُدمِّر وطني.»
رفع الرجل كتفَيه فتموَّج ثوبُه الأبيض وسقط مُتخذًا ثنايا طويلة ورشيقة تألَّقت في رقة، كأنها بتلات زهور ربيعية. رمشت لها برفقٍ عيناه الخضراوان؛ كانتا عينَيها هي، لكنهما كانتا أكبر حجمًا وفي موضعٍ أعمق تحت حاجبٍ أعلى. وقال: «ولماذا قد تُعيرين ذلك اهتمامًا يا عزيزتي؟ أنتِ لم تلتقِ بوالدتكِ قط؛ لذا لا يُمكنكِ أن تفتقديها. ربما أكون قد أسديتُكِ معروفًا؛ فالكثير من البنات يَشعرن بسرورٍ كبير أنهنَّ تخلَّصنَ من المساعدات الضعيفة لأُمَّهاتهن.»
«ثم متى أعطاكِ وطنكِ من قبلُ اهتمامًا؟» صار صوته أعمقَ وكأنه يُخرخر، وابتسم ابتسامةَ إيرين. ثم استطرد: «إنهم يُلقبونكِ ابنة الساحرة — وهكذا أنتِ فعلًا، وأكثر من ذلك، فأمُّكِ ربما كانت ستحصُل على علامة المشعوذين لو لم تهرُب قبل الأوان — وينبغي لقومكِ أن يُبجِّلوكِ لأجل ذلك. لكنهم اختاروا، بأساليبهم القاصرة الخبيثة، أن يحتقروكِ.»
«أبوكِ رجل عطوف — لِمَ لا يكون كذلك؟ أنتِ لم تتسبَّبي من قبلُ في أي مشكلة — فلم تُطالبي من قبل قَطُّ بحقكِ المشروع والمُنصِف في أن تكوني ابنتَه وطفلتَه الوحيدة؛ وقد أصبحتِ مؤخرًا ذات نفعٍ قليل، بقتلِك التنانين، ومن ثَمَّ لا يحتاج إلى أن يُرسِل رجاله ذوي الاعتبار في هذه المهمة غير المُشرِّفة. لقد بَقيتِ في الخفاء، وترككِ هو هكذا، ولم يفعل شيئًا يَستنكِر به أصوات قومه حين يتهامسون عنك، واصِفين إيَّاكِ بابنة الساحرة.»
«وتور؟» هنا ضحِك ضحكةً خافتة. «تور الأمين. إنه يُحبكِ. تعرفين هذا. الجميع يعرفون هذا. إنهم يقولون جميعًا إنكِ تُشبهين والدتكِ — أظنُّ أن أرلبيث النبيل نفسَه يتساءل قليلًا عن هذا في بعض الأحيان — وأُمُّكِ كانت ساحرة؛ لا تنسَي هذا أبدًا. تور نفسه، بالطبع، ليس في وضعٍ يؤهِّله لأن يُفكِّر في هذا الأمر كثيرًا. وحيث إنكِ تُشبهين والدتك بالفعل، حتى حين لا تتذكَّرين ذلك …» وهنا ابتسم لها ابتسامتها ثانيةً، لكن ابتسامته بدت واسعةً أكثر.
قالت إيرين: «كلَّا»؛ وكان قولها أقربَ إلى كونه صرخة. وتذبذب جونتوران في يدها.
«بل أجل. فكِّري فيمن رافقكِ إلى هذا اللقاء المحتوم. هل أتيتِ برفقة نخبة فرسان والدكِ؟ هل أتيتِ على الأقل برفقة مجموعة من الرجال السليمي الطَّوية وإن كانوا غير متمرِّسين؟ كلَّا، لقد أتيتِ دون حتى أدنى جندي مشاة من دامار، دون طفلٍ قروي أشعث حتى ليُنظِّف لكِ حذاءكِ. أتيتِ أصلًا لأنكِ هربتِ، كما يهرُب السجناء، من المدينة التي ينبغي أن تكون تحت سُلطتكِ وإمرتكِ. أتيتِ ذليلة، برفقة وحوش التلال، تمتطِين جوادًا عجوزًا أعرجَ كان من الأجدر أن يُقتل قتلًا رحيمًا قبل سنواتٍ طويلة.» وبدا أنه واجه صعوبةً ما في نطقه كلمة «رحيمًا»: بدا وكأن أسنانه اعترضت طريقَ الكلمة.
هزَّت إيرين رأسها في صمت. وأزَّت كلماته في أُذنَيها كحشراتٍ تنتظر أن تلدغها؛ وأخذت التناغمات الشنيعة لضحكته تؤلِمها في أعماق نفسها في كل مرةٍ كانت تتحرَّك فيها. ليتها لم تكن تُعاني تلك الحكَّة الشديدة في صدرها؛ كان من الصعب التركيزُ على أي شيءٍ وهذا الإحساس بالحكة موجود؛ كان هذا الإحساس أسوأ حتى من الشعور بالصداع. كان الرجل يتحدَّث عن تالات، تالات الصبور المسكين، الذي ينتظرها بينما سَرجه يُثير انزعاجه وعضبه؛ فالجياد الرمادية غالبًا ما يكون جلدُها مُفرطَ الحساسية. لو كانت وُلِدَت جوادًا لأصبحت بلا شكٍّ رمادية. شعرت إيرين وكأن صدرها لم يَعُد يُغطِّيه جِلد؛ ربما تقشَّر ولهذا فهو يؤلِمها كثيرًا. أو ربما كانت تلك المخلوقات الحمراء والسوداء ذات المخالب تُمزِّقه. وتَوَاصلَ الأزيزُ والغمغمةُ الخفيضة.
وجاء صوتُه يقول: «ولوث.» ثم توقَّف لحظة. واستطرد: «كنتُ أعرف لوث تمامَ المعرفة فيما مضى.» سمِعَت إيرين نبرةَ الخُبث حتى من خلال تلك النبرة الوديعة والرقيقة حين نطق باسم لوث؛ كانت إيرين قد أصبحت على درايةٍ شديدة بالخُبث؛ لأنه كان يُحدِث ثقبًا في عظام صدرها الآن. علاوة على ذلك، كان ما تسمعه هو صوتها، رغم كلِّ ما به من جمال، وكانت تعرف حين يُصبح أكثرَ فظاظة من أين تأتي تلك الفظاظة. «لوث، الذي لم يَعُد يجرؤ على مُغادرة جبله. لوث الصغير، لم يكن قَطُّ أحدَ تلاميذ جوريولو المُفضَّلين؛ لأنه دائمًا ما كان بطيئًا، وإن كان يتحتَّم عليَّ أن أُقِرَّ أنه استطاع أن يُخفِيَ هذا في بعض الأحيان بذكاءٍ ومهارة، بأسلوبه الفريد في العناد والمكابرة.»
«أتحسبين أنه يروقني إرسالُ طفلةٍ إلى مصيرٍ مشئوم كهذا، مصير أعرف أنني أنا نفسي لا أستطيع أن أواجهه؟» بدا لإيرين وكأنها تسمع الكلمات للمرة الأولى، فضجَّت أُذناها بها؛ لم يكن صوت لوث معسولًا كصوت خالِها ذي الشعر الأحمر؛ كان صوت لوث غاضبًا وفجًّا، كالبقعة على صدرها.
«يا للوث وألعابه مع الصغار؛ لأن ألعاب الصغار هي كل ما يقدِر عليه …»
فقالت إيرين بصوتٍ واضح وهادئ: «هذا محض هراء. لو أن كلَّ ما تستطيع فِعله هو توجيه الإهانات الرخيصة، فالنبوءة تُبالِغ في تقديرك. سأُخبر لوث أنه كان باستطاعته أن يُواجِهَك بنفسه.»
قال أجسديد بصوتٍ هادر: «النبوءة!» وبدا أنه يتنامى ويكبُر حتى صار أطولَ منها بكثيرٍ وكان ثوبه يتلاطم كالموج وشعره أحمر كالنار؛ وفكَّرت إيرين في نفسها في كَلالةٍ أن لون شَعره يبدو كلون شَعرها قبل أن يُحرِق ماور مُعظمه. لم يَعُد شَعرها بهذا اللون.
امتدَّت يد أجسديد إلى سيفه، فرفعت إيرين جونتوران مرةً أخرى وهزَّته، فسرَت نارٌ زرقاء من طرَفه إلى يد إيرين ومعصمها وإلى الأرض؛ وحيثما لامست النار الأرض، ظهرت تصدُّعات، وامتدت في هيئةِ أشعةٍ صغيرة في كل الاتجاهات. وأكملت إيرين تقول: «قد تكون مُحقًّا بشأن تور ووالدي. قد تكون مُحقًّا حتى بشأني. لكنك مُخطئ بشأن لوث.»
انسلَّ السيف الأحمر من غمده بسرعةٍ وطار نحوَها، لكنَّ جونتوران تصدَّى له بسرعة البرق، وتناثر المزيدُ من النار الزرقاء حيثما تلاقى السيفان، وبدت على الأرض سلسلةٌ أخرى من تصدُّعات صغيرة على شكل نجوم.
دوَّى صوت أجسديد، ولم يَعُد ناعمًا وهو يقول: «حمقاء. حمقاء. قالت النبوءة إن واحدًا مِن دمي هو مَن يستطيع مُواجهتي، ولهذا قطعتِ كلَّ هذا الشوط؛ لكن جذور دامار في دمكِ لا تستطيع أن تقِف في وجه مَن يضع «تاج البطل».»
رفعت إيرين عينَيها إلى جبهته، فوجدت الحلْقة الرمادية الباهتة، التي هي أقيَمُ ما تملك دامار، تُحيط بحاجبَيه، ولم تكن قد رأتها على رأسه من قبل. لم تستطِع إيرين أن تمنع الرعشة التي سرَت في جسدها؛ لأن ما قاله كان حقيقيًّا. وقالت في نفسها: «كان ينبغي أن تأتيَ معي يا لوث؛ كان يمكن أن تُصبح النصف الآخر الذي لا يمتُّ لدامار بصلة.»
هجم السيف الأحمر عليها مُجددًا، ومُجددًا سَحب جونتوران ذراعها في المكان والزمان المناسِبَين ليصدَّه. ومع أن الموت كان يترقَّبها على مقربةٍ شديدة منها حتى كادت تراه يفغر فكَّيْه الأحمرين، كان أصفى ما راودها من أفكار هو رغبة مُلحَّة في أن تجدَ وسيلة توقِف بها شعور الحكة في صدرها. وتساءلت في نفسها إن كان المرء سيشعر بالحِكة حتى بعد أن يموت؛ وانتفضت ذراعُها مرةً أخرى بينما كان جونتوران يتصدَّى لضربةٍ طولية أخرى. لكن هذه المرة كاد السيف الأحمر يخترق دفاعها، وبدت ذراعُها ضعيفةً فجأة؛ ولم تعرف إن كان سبب ذلك أن خَصمها يضع التاج، أم لأنها عرفت بذلك وحسب؛ وتوجَّهت عيناها ثانيةً إلى جبهته. لكنها لم تحتمِل أن تُطيل النظر إلى ذلك الوجه، إلى وجهها ذي العينَين الواسعتَين الخضراوين المسعورتَين والشَّعر الأحمر كالنار. قالت في نفسها: «لم يَعُد شعري بذلك اللون، وعيناي ليستا هاتَين العينَين، وأنا لستُ الرجل الذي يقف أمامي. أنا لستُ هو؛ فرَّت منه أُمي كما أواجهه أنا الآن، لِما هو عليه ولا نتشابَهُ معه فيه.» ومع ذلك شَعَرَت بالامتنان لأنها لم تستطِع النظر كثيرًا إلى ذلك الوجه الذي ليس بوجهها؛ لأنه كان يتعيَّن عليها أن تراقب اهتزاز السيف الأحمر واضطرابه.
هدر صوتُ أجسديد كالرعد وهو يقول: «مَن علَّمك المبارزة؟ لا يمكن لفانٍ أن يتفوَّق عليَّ فيها.» وبدا السيف الأحمر كسبعةِ سيوفٍ بينما انسلَّ باتجاهها مُجددًا؛ ومع ذلك كان جونتوران بدورِه سبعة سيوف، صدَّت السيوف الحمراء كلَّها.
«يؤسِفني أن أقول إنكِ لم تعودي فانية.» قالت إيرين في نفسها: «فانية.» وضحِكت وترنَّح السيف الأحمر لضحكتها؛ ربما تردَّدت ضحكة ابنة أختِ أجسديد في ذهنه بنفس فظاعة تردُّد ضحكته في ذهن إيرين. وبينما كان النصل الأحمر مُتوانيًا، ضرب جونتوران أجسديد في كتفِه. فتعالت صرخةٌ غير بشرية، ولم تستطِع إيرين أن تُحدِّد إن كان مصدرها المشعوِذ الأحمر أم السيف الأزرق؛ ثم توجَّه سيف أجسديد نحوَها مُجددًا، أسرعَ من ذي قبل، ولم تستطِع إيرين حتى أن تُتابع بعينها بينما التحم السيفان، فتطاعنا وتلاطما وطاحا متباعِدَين. وقالت إيرين وهي تلهث: «دمي الداماري، يا خالي، ليس ملعونًا كما تظنُّ؛ لأنني سبَحْتُ في بحيرة الأحلام، ولم … أعد … فانية.»
صاح قائلًا: «هذا لن ينفعكِ»، ووثب مُتراجعًا وقذف يدَيه في الهواء؛ فشبَّت النار من حوله. نارٌ مستعِرة. نار حقيقية؛ حمراء وبرتقالية، لها دخان حارق وكثيف، وألسنة فظيعة مُتوهِّجة امتدَّت نحوَها. ذوَت إيرين وارتعدت، ولم يكن هناك قطة سوداء ولا جواد أبيضُ لمُعاونتها. لم تكن هذه النار خداعَ مشعوِذ؛ كان بإمكانها أن تشمَّ رائحتها، وكانت حرارتها تلفح وجهها؛ ومُجددًا اضطربت نار جونتوران الزرقاء وخبَت في يدِها.
ضحِك أجسديد؛ وبينما هو في داخل حلقة النار أعاد سيفَه إلى غمده وعقد ذراعَيه. وقال: «ما قولكِ الآن؟ لا يزال بإمكان النار أن تحرق مَن … لم … يعودوا … فانين.» ضحك مجددًا، وأجفلت إيرين من صوته كما أجفلت من ألسنة اللهب اللافحة؛ وأضحى التاج الرمادي أحمرَ تحت ضوء النار.
قالت إيرين في نفسها مُنهكةً: حريٌّ بي أن أتعلَّم ذات يومٍ أن أمضيَ قُدمًا بإرادتي الحرة. ليت صدري الكريه هذا يدَعُني أُفكِّر بذهنٍ صافٍ. ورفعت جونتوران، فانهمرت عليها النار الزرقاء وتوالت؛ كانت النار الزرقاء بردًا على وجهها. أغمضت إيرين عينَيها — وقالت في نفسها: «من الغباء أن أغمض عينيَّ» — ثم قَفَزَت إلى النار.
هسهست النار وارتَجَزت من حولها، لكنها تقدَّمت جريًا وفتحت عينَيها، وكان خالها متأخرًا بعض الشيءِ في معاودة استلال سيفِه من حزامه، وارتفع جونتوران ووجَّه ضربةً نحو عُنقه، ضربة كالتي أخفق في توجيهها في المرة السابقة. أصاب النَّصل غايته هذه المرة، وكانت إصابةً مباشرة.
ارتدَّ النصل مُحدِثًا صوتًا غليظًا وشنيعًا، وكان به موضعٌ مكسور في حافته؛ وكان الارتداد شديدًا حتى إن جونتوران الْتوى مُنفصلًا عن قبضة إيرين وسقط على الأرض المُستعرة بالنار، وسقطت إيرين معه.
قال أجسديد: «أنا أيضًا لستُ بالضبط فانيًا»، وضحِك ضحكتَه مُجددًا؛ وحيث رفعت إيرين عينَيها إلى السيف الأحمر الذي كان على وشْك أن يُغمَد فيها، قالت في نفسها: «يُخَيَّل إليَّ أنني سأكون فانيةً بما يكفي عندما يخترق السيف قلبي؛ أتساءل أيُّ كيدِ ساحرٍ هذا الذي يَستخدِمه، أو ربما يرجع هذا إلى أنه يضع التاج.» ولأنها لم يكن بيدِها شيءٌ آخر تفعله، ولأنها كانت لا تزال تُمسك بالإكليل في يدها الأخرى، ألقت به عليه.
صرخ أجسديد. كانت صرختُه صرخةً شديدةَ الوطأة على كل الحواس، على الرؤية واللمس والتذوُّق والشم وكذلك السمع؛ كانت صرخةً أحدَّ من أي سيفٍ، ومُرَّةً كالبُغض والضغينة، وضاريةً كقطط الفولستزا وعديمة الرحمة كالشتاء. وعبْر تلك الصرخة، لم تستطِع إيرين أن تتذكَّر إلَّا شذرًا إكليل السوركا وهو يلمس وجهه، ويسقط على رأسه فيُحيط بكتفَيه؛ وحجر التنين وهو يتوهَّج بلونٍ أحمرَ برَّاق كما كان سيف أجسديد، لكن لون السيف كان قد صار الآن باهتًا كلون الدم المُتخثِّر؛ كما تذكَّرت دائرة نارٍ أصغر، داخل دائرة النار، تتصاعد حول أجسديد وتتعالى حتى اختفى من أمام عينَيها، بينما خبَت النار التي ضربها بينه وبينها وخمَدت وانطفأت؛ ورغم ذلك ظلَّت الصرخة مُستمرة. نهضت إيرين مُترنِّحةً، ووجدت أنها كانت تقبِض على جونتوران بكلتا يدَيها؛ وأن راحة إحداهما كانت مُبتلةً بدمائها حيث أمسكت غافلةً بنصل جونتوران؛ ووجدت أن ذراعَيها ويدَيها كانتا تتوهَّجان باللون الأزرق، وحيث أحنت رأسها كان الشَّعر الذي سقط للأمام حول وجهها باللون الأزرق، وحين أطرقت بنظرها كان حذاؤها أزرقَ، وكانت هناك بِركة من اللون الأزرق تنتشر من حولهما، وباتساع رقعة اللون الأزرق تزايدت الصدوع الدقيقة في الأرض، وأخذت تنتشِر وتطقطق وتفرقع وهي تنظر، وصرخة أجسديد لا يزال يتردَّد دَويُّها في أُذنَيها. ثم ارتفعت الصرخةُ مع الأصوات الحادة القصيرة التي كانت تُحدِثها الأرض في هديرٍ صاخب، وانهارت الصخور التي كانت تقف عليها إيرين فسقطت ورأت الجدران تتهاوى عليها. قالت في نفسها: «سيكون لطيفًا أن أفقد وعيي عند هذه اللحظة»، لكن لم تفقد وعيَها، وظلَّت مُتمسِّكة بجونتوران، لكنها نقلت يدَها الدامية لتنضمَّ إلى الأخرى المُمسكة بالمقبض. إذ حدَّثت نفسَها قائلةً: «عندما أسقط، سأنطرح أرضًا وأشقُّ نفسي بسيفي؛ لكن ربما تقتُلني السقطة قبلئذٍ». كان صوت الصرح الضخم وهو يتداعى مُرتفعًا جدًّا حتى إنها لم تستطِع أن تجدَ في ذهنها مكانًا للأفكار، ومن ثَمَّ توقَّفت عن التفكير؛ واندفعت حجارةٌ سوداء من حولها بعُنف، وكانت قِطَعٌ ثقيلة من تلك الحجارة السوداء تسقط معها لكنها لم تمسَسْها، وتساءلت إيرين إن كانت ستظلُّ تسقط إلى الأبد كما كانت تصعد الدَّرج، وربما بذلك ستُصبح الإلهة الساقطة، أو ربما الإلهة التي تصعد وتسقط.
ثم أحسَّت بصدمة، لم تعرف إن كانت في قدمَيها أم في جُمجمتها أم في عقلها فحسب؛ وأيًّا كان الجزء الذي تلقَّى الصدمة من جسدها فقد ترنَّح، وهزَّت جسدَها، واكتشفت أن رأسها هو الذي كان يختلج، ثم رمشت بعينَيها ورفعتهما، فأدركت أنها ترى ضوء الشمس يتسرَّب عبْر الصدوع وكأنه يتسرَّب من خلال جدرانٍ مُدمَّرة لبناء عتيق. وفي الوقت نفسه الذي استوعبت فيه عيناها المُشوَّشتان وذهنها الذاهل ضوءَ الشمس أدركت إيرين أيضًا أن قدمَيها كانتا تقفان على شيءٍ ما، وأنها لم تنشقَّ نصفَين بالسقوط على جونتوران، وأنها توقَّفت عن السقوط.
خطَت إيرين خطوةً مُترددة؛ إذ لم يكن باستطاعتها أن ترى جيدًا، وانسحقت قطعٌ صغيرة من الحطام تحت قدمَيها وتناثرت. وتمايلت كومة الرُّكام منذرةً بأنها ستسقط بها ثانيةً في ظلامٍ سحيق. حدَّثت إيرين نفسها بصرامةٍ أن لا مغزَى من التعامُل مع حُسن حظِّها باعتباره أمرًا مُسلَّمًا به، وأعادت جونتوران إلى غمده، وفركَت صدرها دون تفكير، ثم وقفت ساكنةً، ترمش حتى بدأت عيناها تعتاد أشياءَ بسيطة كضوء النهار والجدران الحجرية المتصدِّعة.